الفكر الإسلامي وعلم الكلام


غازي الصوراني
2020 / 9 / 17 - 14:54     


تمهيد :
"ارتبط ظهور الاسلام في الجزيرة العربية في اوائل القرن السابع للميلاد بالتحولات العميقة، التي طرأت على الحياة الاجتماعية، بعد تفكك النظام المشاعي– القبلي، ونمو العلاقات شبه الاقطاعية وتطورها، ضمن نظام الخلافة المركزي، كما وَحَّد الاسلام القبائل العربية المتناحرة، من خلال الفتوحات العربية، التي أسفرت عن قيام دولة ثيوقراطية متعددة القوميات (الخلافة)، كان للعرب فيها وضع خاص، وكان الاسلام دينها الرسمي، في ذلك العصر عموماً، وفي العصر العباسي خصوصاً، تم نقل واستيعاب الفلسفة اليونانية القديمة وفلسفات الشرق القديم، ثم ظهرت وتطورت الفلسفة العربية – الاسلامية، التي أسهم فيها بدور بارز –إلى جانب الفلاسفة العرب- عدد من فلاسفة الفرس، وقد تبلورت هذه الفلسفة، ما بين القرنين العاشر والثالث عشر، في تيارات أربعة رئيسية هي: 1) المشائية (الارسطوطالية) الشرقية، 2) تعاليم "اخوان الصفا"، 3) الصوفية، 4) الفلسفة الاسلامية النصية المحافظة"([1]).

في هذا الجانب، من المهم الاشارة إلى أنه في قراءتنا للتاريخ البشري عموماً، والتاريخ الاسلامي خصوصاً، لا يجوز، ولا يمكن تفسير الأحداث التاريخية من منطلق المصادفات أو الرؤى الغيبية، بل يتوجب البحث عن المصالح السياسية والاجتماعية أو الطبقية التي كان لها –وما زال- دور أساسي في تفجير الصراعات الطائفية والدينية المذهبية في تاريخنا العربي الاسلامي من ناحية وفي تكريس مظاهر الاستبداد([2]) في التجربة العربية الاسلامية من ناحية ثانية، آخذين بعين الاعتبار، أهمية النصوص الدينية والأحاديث، التي قام العديد من الفقهاء وأصحاب المذاهب الدينية بإعادة تفسير وتأويل بعض تلك النصوص وفق متطلبات هذه المرحلة أو تلك من مراحل التاريخ الإسلامي، منذ مقتل عثمان بن عفان وبداية الصراع الدموي في موقعة الجمل عام 36هـ، ثم موقعة صفين عام 37 هـ بين علي ومعاوية، وتكريس الدولة الاموية والتوريث في الخلافة([3])، وصولاً إلى موقعة كربلاء عام 61 هـ، ومقتل الحسين بن علي، واشتداد الصراعات الدينية الشكلية الطائفية (سنة وشيعة)، ذات البعد السياسي والطبقي الصريح في الدولتين الأموية والعباسية، دون أن نتجاوز دور بعض المفكرين والفلاسفة والشعراء الذين ابتكروا أفكاراً أقرب إلى العقلانية والنظره الموضوعية للعقل والاستنارة، إلى جانب الفقهاء الإسلاميين الذي مارسوا نوعاً من الاجتهاد على نطاق واسع خلال القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية، وكان من نتيجة ذلك الاجتهاد، بروز المذاهب التي يتوزع المسلمون بينها إلى يومنا هذا، لكن ذلك الاجتهاد الفكري عموماً، والعقلاني التنويري خصوصاً، توقف منذ بداية القرن الرابع عشر الميلادي تقريباً، وبدأت المجتمعات العربية تعيش حالة من الانقطاع الفكري، حيث تجمد الفكر في مدارس المذاهب الفقهية، وضاق هامش التفسير الحر للشريعة، فلم يعد من الممكن الخروج عن حدود المذاهب المعترف بها.

في هذا السياق يقول المفكر د. صادق العظم "ان معظم تواريخ الفلسفة الاسلامية تُعرِض لنا الصراع بين الجبرية والقدرية في العصر الأموي، على أنه نزاع حول مشكلة نصوصية ولاهوتية مجردة، حيث يقدم كل واحد من الطرفين آياته القرآنية وحججه العقلية والنقلية وتأويلاته النصية المؤيدة لوجهة نظره، في حين أن شيئاً من التدقيق في تاريخ ذلك العصر يبين أن الجبرية كانت تستنجد بالآيات القرآنية الملائمة والتأويلات والحجج العقلية والنقلية المناسبة للدفاع عن واقع سياسي واجتماعي قائم وسائد، بينما كانت القدرية تستنجد بالمادة ذاتها تقريباً لتسوغ العمل على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي ذاته"([4]).

تكوين الفكر الإسلامي:
انطوى الاسلام –في بدايته- "على "إيديولوجيا" ثورية حياتية شاملة في نظرته المتكاملة للحياتين الدنيوية والأخروية، ولسنا بحاجة لتبيان الثورة العقيدية بما تتضمنه من دعوة قاطعة للتوحيد، وإجلال للديانات السماوية السابقة، بل واحترام بعض جوانب التراث العقيدي الوثني كالمجوسية وعقيدة الصابئة، حيث تتجلى عبقرية "التوحيد" الإسلامي في الاعتراف بمسيرة التطور "الروحاني" للبشرية"([5]).

بواكير التيارات الفكرية:

"بعد وفاة الرسول واتساع "دار الاسلام"، كان من الطبيعي أن يقوم حكام الدولة الإسلامية، بنشر هذه "المعارف" في بيئة انطوت على تراث كان انعكاسا لأوضاع هذه المجتمعات قبل الاسلام، وبديهي أيضا أن يكون جوهر تلك المعارف مستمدا من القرآن والسنة، وحسبنا أن الفقهاء يعتبرون "الحكمة" هي "المعرفة بالدين والفقه فيه والاتباع له"، ونظرا لظهور التيارات السياسية المنبثقة أصلا من الواقع الاقتصادي الاجتماعي الجديد؛ سنلاحظ أن حصاد "المعارف الاسلامية" – برغم وحدة مصادرها – ستتنوع اتجاهاتها بما يعبر عن تباين مواقف القوى الاجتماعية الجديدة، فقد أوَّل كل تيار أصول المعرفة الإسلامية تأويلا يخدم مصالحه وأهدافه، مصداق ذلك تباين اتجاهات "حَمَلَة العلم" الأُوَلْ من الصحابة والتابعين، ولم يكن هذا التباين من حسنات "الاجتهاد" بقدر ما كان انعكاسا لتناقضات اجتماعية"([6]).

فعلى سبيل المثال "اعتبرت الأرستقراطية نفسها وارثة لتراث الرسول حتى قيل "العِلْمُ في قريش"، بينما أفسح "التيار الإسلامي الحقيقي" مجالا للصحابة من غير قريش، فقيل إن علياً بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود إلى جانب صهيب الرومي وسلمان الفارسي يمثلون الطبقة الأولى الحاملة لهذا التراث.

ويظهر "التباين بين التيارين واضحا في منهج كل منهما، فعبد الله بن عمر مثلا كان يُعَوِّلُ على النقل والإتباع، بينما عُرِفَ ابن عباس – وهو من أنصار علي- بالتبحر في التأويل والقياس، حتى أن ابن عمر اتهمه بالإسراف وأخذ عليه جرأته، من ناحية ثانية، وبرغم فقه علي بن أبي طالب وطول باعه – حتى اعتبره أصحابه "مستودع العلم" – فإن خصومه شككوا في احاديثه، ففي المدينة – التي فقدت مركزها السياسي بانتقال الخلافة إلى دمشق – "حيث استقرت فلول "الأرستقراطية الثيوقراطية" – ساد تياران يتمشيان مع الواقع الجديد، أولهما ديني قح، ويتمثل في دراسة الفقه والحديث، ويُعَوِّلُ على النص أكثر من التأويل، ومذهب مالك يقدم في هذا الصدد أقوى دليل، والثاني دنيوي ترفي مرح يتمثل في الشعر والغناء والطرب والنوادر، ويعكس حالة الثراء لتلك الأرستقراطية المؤثرة للدعة المجترة أصداء زمن الجاهلة، ولما كان الحديث النبوي يمثل المورد الثاني للتشريع، فإن أهميته الأساسية، لا تكمن في كونه عِلماً من علوم الدين، بقدر تأثيره على طبيعة النظم التي تمس الواقع المعيش، ومن هنا –يقول د. محمود اسماعيل- "تكشف ظاهرة الانتحال وإضافة الأحاديث عن مصالح القوى الاجتماعية المتصارعة، بل لا تخلو من دلالة على أن الواقع سابق للفكر وخالق له حتى لو كان مرتبطا بمقدسات دينية"([7]).

لقد جرى تكريس السنة النبوية وتوظيفها في الصراع الاجتماعي، "لأن الأيديولوجيا المتاحة آنئذ كانت دينية، ولم يكن ثَمَّ بدٌ عن الوضع والانتحال لخدمة أغراض سياسية، الأنصار أو العكس، وثالثة تُعْلي من قدر قريش وتختصها بالإمامة، ورابعة في المفاضلة بين القبائل والشعوب .. إلخ، وكلها تعكس الصراع الحقيقي حول مشكلة "الإمامة" التي تفجرت من خلالها التناقضات الاقتصادية الاجتماعية آنذاك.

وبالمِثْل لم يَجرِ "الاجتهاد" خالصا لوجه الله في كل الأحوال، وإن جرى أحيانا لصالح الجماعة، وفي الحالين كان انعكاسا للاحوال الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية السائدة، فاجتهاد أبي بكر حول العطاء، وإقرار قسمته بالتساوي، يعكس الحاجة لتوحيد القوى الإسلامية كافة للقضاء على المرتدين، واجتهاد عمر في توزيعه على أساس السابقة، إجراء قَصَدَ منه إضعاف "الأرستقراطية القديمة"، وسياسته إزاء الأرض المفتوحة عنوة اجتهاد استهدف دعم الحكومة وصالح الجماعة، أما "علي بن أبي طالب فقد كان اشتراطه لقبول الخلافه باتباع سياسة قوامها "اجتهاده الخاص"، يعني عزماً مؤكداً على ضرب الأرستقراطية القديمة والمستحدثة، وإلغاء موقف عثمان في أن "المال مال الله" باعتبار ذلك الموقف، كلمة حق أريد بها باطل"([8]).

لقد استُخدِمَ "الاجتهاد" آنئذ في خدمة السياسة، وانبرى الفقهاء يكرسونه في دعم الاديولوجيات المتباينة المعبرة عن مواقف قوى اجتماعية متصارعة، فتباين المعتقدات في هذا الصدد يعكس تناقضات الأساس الاقتصادي، ولم يكن قط نتيجة العصبية القبلية أو النزاع الشعوبي.

إن مسحاً سريعاً للقوى الاجتماعية التي انخرطت في "الاحزاب" السياسية، كفيل بالكشف عن أصول هذه التناقضات، "فمعظم زعماء الخوارج الأول –كما يقول د. محمود اسماعيل- "كانوا من بدو تميم الذين رغم بلائهم في الفتوحات لم يفوزوا إلا بسقط المتاع، بينما استأثرت الارستقراطية بزبد الغنائم، لذا اتخذ فكرهم السياسي الاجتماعي طابعا ثوريا ديمقراطيا اشتراكيا، حتى وصفوا "ببولشفيك الاسلام" "وجمهوريي الاسلام" "وكلافنة الاسلام" (نسبة إلى المصلح المسيحي كالفن)، وإقبال جماهير الموالي على مذهب الخوارج أثرى الفكر الخارجي وخرج به من سمته البدوية الجافة إلى دائرة الفكر البورجوازي الحضري، وانتشر التشيع كون قيادته من آل البيت العلوي، وكون أعلامه الأُوَلْ من طبقة سلمان الفارسي وعمار بن ياسر، وحين صار حزبا سياسيا تصدى للمعارضة، اتخذ دعاته من "بورجوازية" المدن، وانخرط في قاعدته الفلاحون والأقنان وأهل الحرف"([9]).

وليس جزافا تبني الفكر الشيعي مفهوم العدل الاجتماعي، وارتكازه على العقلانية، فالسمة الأولى انبثقت من فهم صحيح للروح الاسلامية اختص بها آل البيت العلوي، حيث توارثوها عن علي بن أبي طالب المعلم الأول، أما الثانية فترتبط تاريخيا بظهور إرهاصات "البورجوازية"([10])، أما الاعتزال فكل أعلامه – من أمثال مؤسسه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وغيرهما – كانوا من بورجوازية الموالي، كما كان دعاة المذهب وحفظته في الغالب تجارا.

في مثل هذا الوضع، كان من البديهي " أن يفرز النمط "الاقطاعي" بنيته الإديولوجية، تلك التي تمثلت في مذهب الإرجاء، وهؤلاء كانوا "عثمانية"، وبمعنى آخر كانوا حشوية "أي اتباع الملوك وأعوان من غَلَبْ"، حيث يُعَبِّر الفكر الإرجائي – إن صح اعتباره فكرا- عن هزال المعطيات الثقافية للاقطاعية، فمن سماته القهر والتبرير والغيبية "والهروبية"، ولا غرو فقد تبنى المرجئة القول بالجبر في مقابل مبدأ الاختيرا الذي يعلى من قدر الإنسان وإرادته في صنع مصيره، كما برروا إستغلال "الاقطاعية" بإرجاء "محاكمتها" "إلى الله سبحاته وتعالى"، وفصلوا بين الايمان والعمل، فالعبد يموت على توحيده برغم ما اقترف في دنياه من آثام .. إلى غير ذلك من الاعتقادات التي تنهض دليلا على الإفلاس والتبرير الفكري"([11]).

في هذا الجانب، لخص المفكر "أدونيس" في إيجاز رائع "تجربة الفكر" في تلك الحقبة بقوله ".. شهد هذا العصر انقساماً في الطبقات الاجتماعية واكَبَهْ انقسام في المعاني، أما الطبقة الحاكمة فَتَرِثْ، وهي إذن ستفكر وتعمل من موقع الوارث المسيطر، أي أنها ستتمسك بالمعاني المستقرة الشائعة، وبالتقاليد والنصوص الظاهرة التي تدعمها، أما الطبقات المتململة أو المسحوقة فإنها ستشدد على ما يعطي للدين معناه الحقيقي كما تراه، وستفسر النصوص بما يلائم هذا المعنى.. وهكذا كان العهد الأموي بداية الصراع في المجتمع الإسلامي بين المعاني على مختلف المستويات.. ومن هنا اختلفت مهمة الشاعر والمفكر بعامة بحسب موقعه، فالمنخرط في النظام السائد كان ينتج ثقافة تُعَبِّر عن القيم الموروثة أو السلفية السائدة، أما المنخرط في رفض النظام أو الثورة، عليه فقد كان ينتج ثقافة تعبر عن التحول وامكاناته وآفاقه.."([12]).

"أما عن الفكر الفلسفي فيمكن تعقبه فيما قدمه علماء الكلام من آراء في الميتافيزيقا والقيم والأخلاق، مهدت للفلسفة الإسلامية التي مثلها في عصر الصحوة "الكندي"، الفيلسوف العربي الأول.

أما "المعتزلة والفلاسفة الذين عبَرَّوا عن الفكر "البورجوازي"، فإنهم لم يتحرروا تماماً من "الأرضية" الدينية في منطلقاتهم الفلسفية، بل ظلت تلك الأرضية تمارس فعاليات – بصورة أو باخرى- لتحول دون تقديم منظومات فلسفية متسقة، إلا أن حصاد إنجازاتهم في النهاية هي التي أقامت ما يسمى بالفلسفة الإسلامية.

وسنلاحظ أن "بصمات اللاهوت على الفكر الفلسفي الإسلامي نتيجة منطقية لعدم قيام الثورة "البورجوازية" الكاملة، وسيكون لذلك تأثيره في تباين مواقف المتكلمة والفلاسفة، بحيث شكل الموقف من الدين مظهرا من مظاهر الصراع وأرضيته، وحيث عجزت الاقطاعية – في مرحلة الصحوة- عن تقديم بدائل كلامية تقابل الاعتزال- اللهم إلا المصادرة والرفض لمجرد الخوض في "الكلام"، باعتباره بدعا – فإن سطوة الاقطاع في الحقبة التالية أفرزت محاولة "مائعة" قام بها الاشعري لتنظير السنة، وتبرير الواقع الاقطاعي السائد"([13]).




([1]) جماعة من الأساتذة السوفيات – موجز تاريخ الفلسفة - تعريب: توفيق ابراهيم سلوم - دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص 145/146

([2]) في تناولنا للتجربة العربية الإسلامية مع الاستبداد، نلتقي بأول حكام بني أمية معاوية بن أبي سفيان، فعلى الرغم من استيلائه على السلطة بالقوة، أو بحسب عبارته ".. فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة.. "، إلا أنه وجد أن السيف وحده لا يكفي لضمان استمرار الطاعة، بل لابد له من غطاء يضفي شرعية على النظام، ويوفر له القوة والسند، ذلك أن الاعتماد على محض السيف لا يجدي في صراع ليس من أدواته السيف بل يشهر سلاح "الفكر"؛ عندما تكون قوى المعارضة لا ترفع السيف، وإنما تحارب بواسطة "الكلام"؛ لهذا عندما أصبح إيمان بني أمية موضع سؤال، كان جوابهم -بني أمية- من نفس الجنس، وأول جواب قدموه هو "الجبر". فلقد لجأت الدولة الأموية إلى "سيف الكلام" إلى "أيديولوجيا الجبر" تسوغ بها استبدادها بالسلطة، وقد أفصح أبو جعفر المنصور عن هذه الدعوة بعبارات صريحة في خطبة له يوم عرفات قال فيها: أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده، وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسمه بإرادته وأعطيه بإذنه. وقد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء أن يفتحني لأعطياتكم وقسم فيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني (محمد هلال الخليفي – جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة).

([3]) يقول المفكر الإسلامي محمد العشماوي: إن الخلافة نظام سياسي وليست نظاما دينيا، وأنها تحتوي كل ألاعيب السياسة، وكل دناياها، وكل أخطائها، وكل مساوئها؛ وأن وصفها بأنها "إسلامية" لم يكن وصفا حقيقيا يفيد أنها انبنت على قيم الاسلام وأخلاقياته؛ لكنه كان وصفا واقعيا يزعم أنها صدرت عن الإسلام، ويستخدم الدين لخدمة أهدافه لاغير، كما يستعمل الشريعة للإساءة إلى الشريعة ، ويحكم المسلمين على خلاف ما يقضي الإسلام أو يرجو المسلمون. ولئن قيل وكيف تؤخذ الخلافة الإسلامية التي نشأت واستقرت خلال العصور الوسطى بالمعايير الدستورية الحديثة التي تنظم حقوق الحكام وحقوق المحكومين، وتحدد التزام هؤلاء وهؤلاء، وتجعل للشعوب اهمية في صنع القرار وإصدار الأحكام ؛ فإنه يرد على ذلك بان الإسلام ذاته قدم أفكاراً وآراء، ومبادئ تتعدى عصره بمراحل وتشرف على العصر الحالي وعلى عصور مقبلة، مثل ذلك مبدأ حرية الاعتقاد "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" "سورة الكهف 18: 29)، ومبدأ شخصية المسلمة "ولا تزر وزرة وزر أخرى" (سورة الأنعام 6: 164) "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" (سورة الإسراء 17: 13)، ومبدأ عدم رجعية القانون أي عدم سريانه على الواقعات التي سبقت صدوره "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" (سورة الإسراء 17: 15). فإن كانت الخلافة قد أخفقت في إدراك هذا المعنى وفشلت في تحقيقه فلماذا إذن تحسب على الإسلام ولا تفصل عنه؟ وما فائدة نشوء نظام معين، وسريانه فترة، والمطالبة به في العصر الحالي، إذا كان هذا النظام قد جانب مبادئ الإسلام وخالف أصول الشريعة؟ ولم التمسك بنظام يمنع عنه أي نقد ولو كان هينا ويتحصن من كل مطعن وإن كان صحيحا، إذا كان هذا النظام ابن العصور الوسطى ونتاج ظلمات الجاهلية، وليس نبت الإسلام وزرع الشريعة، ولا هو خلاصة روح الدين ونور الايمان!؟ وهذا الكتاب ينتهي بالواقعات المحددة والأسانيد الثابتة، إلى أن نظام الخلافة – في مجموعه وعدا فترات قليلة – نظام جاهلي غشوم، مناف لروح الدين مجاف لمعنى الشريعة. (المستشار محمد سعيد العشماوي – الخلافة الاسلامية – سينا للنشر – 1992 – ص12/13)

([4]) د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص20-21

([5]) د. محمود إسماعيل – سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور التكوين – سينا للنشر – الطبعة الرابعة 2000 – ص 108

([6]) المرجع نفسه – ص 115

([7]) المرجع نفسه –ص 116-117

([8]) المرجع نفسه – ص121

([9]) المرجع نفسه – ص 123

([10]) مع تقديري للدكتور محمود اسماعيل، إلا أنني لا أوافقه –موضوعياً- على تعريفه لطبقة التجار والفئات المتوسطة في الدولة الاسلامية (الأموية والعباسية) انها طبقة بورجوازية، وذلك لافتقار هذه الشريحة لأية مضامين تنويريه عقلانية نهضويه نقيضه للنظام القائم، علاوة على أن التطور الاجتماعي آنذاك لم يخلق طبقة "بورجوازية" مدنية يتوفر لديها الوعي بتمايزها أو شعورها بمصالحها من الناحيتين المادية والفكرية، حيث بقيت مشدوده للفكر السائد من حيث التزامها بشرعية نظام الخلافة.. إلخ، كذلك لا أوافقه أيضاً على توصيف كبار الملاك بالاقطاعين، إذ لا وجود تاريخي للنظام الاقطاعي في بلداننا طوال عهود الدولة الاسلامية ولغاية صدور قانون الطابو العثماني 1857 الخاص بملكية الأراضي، في هذا السياق، أشير إلى أن كبار الملاك في مصر وبلاد الشام والعراق رغم المساحات الواسعة التي امتلكوها ، ورغم ظلمهم واستغلالهم للفلاحين، إلا أن وصفهم بـ"الاقطاع" كما عُرف في أوروبا غير موضوعي، لأنهم افتقروا لكافة السمات التي ميزت الاقطاع الأوروبي، وبالتالي فإن الصفة الأقرب لواقعهم هي "أشباه الاقطاعيين" أو "كبار الملاك".

([11]) د. محمود إسماعيل – مرجع سبق ذكره - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي .. طور التكوين – ص 124

([12]) المرجع نفسه – ص 124

([13]) المرجع نفسه– ص 166