الفلسفة والمذاهب الدينية في المجتمعات الآسيوية


غازي الصوراني
2020 / 9 / 15 - 20:29     


نظرة عامة:
مع إطلالة القرن الخامس الميلادي تحطمت وحدة حضارة البحر الأبيض المتوسط، وتمزقت معها أشلاء الوحدة السياسية، فبدمار المدن في أعقاب اجتياح البرابرة للغرب كله، زالت من الوجود المراكز التقليدية للثقافة؛ وبانهيار الحضارة المدينية انهارت ركائز ذلك التعليم السفسطائي الذي كان وَسَمَ بميسم وحدته الحقبة الأخيرة من العصور القديمة.
ففي آسيا (الصين والهند واليابان وفارس) حيث تعرضت بلدانها آنذاك لأزمات عمقية، اجتماعية واقتصادية وسياسية، أدت إلى تراجع المعتقدات القديمة، وتزايد انتشار الديانات البوذية والكنفوشيسة والهندوسية والبراهمانية والمانوية، وهي ديانات تكرست في خدمة الأنظمة الحاكمة، الإمبراطورية أو الملكية ذات الطابع الفردي المستبد المهيمن، والذي أطلق عليه كارل ماركس "نظام الاقطاع الآسيوي" أو "نمط الانتاج الآسيوي"، وهو النمط الذي كان شائعاً في البلدان الآسيوية، خاصة الصين والهند واليابان وفارس، وكذلك في البلدان والمجتمعات الشرقية (مصر وبلاد الشام والعراق) منذ ما قبل الميلاد، حيث تميز هذا النمط بخصائص تختلف كلياً عن كل من النظام أو النمط العبودي والاقطاعي اللذان عرفتهما البلدان الأوروبية في تلك الحقبة، حيث أن البلدان الآسيوية عموماً، وكذلك بلدان المشرق العربي والإسلامي خصوصاً، لم تعرف في تاريخها القديم تطبيقاً للتشكيلتين العبودية والاقطاعية اللتان عرفتهما أوروبا، وذلك بسبب تمركز ملكية الأرض والمياه في يد الحاكم (الإمبراطور أو الفرعون أو الملك) بصورة مطلقة عبر نظام مركزي جعل من ملكية الأرض ووسائل الانتاج ونظام الري ضمن الصلاحيات المطلقة للحاكم الفرد الذي كان المالك الوحيد للأرض والموارد، وقد شجع على ذلك التفرد، العوامل المناخية السائدة في هذه البلدان شبه الصحراوية عموماً التي اعتمدت على الأنهار الكبرى في زراعاتها ومواردها، فيما عُرف بنظام مركزية الري، وبالتالي وفرت تلك العوامل، الظروف المواتية لتكريس هيمنة السلطة الفردية الحاكمة (إمبراطورية أو فروعونية أو ملكيه) في تلك الحقبه، ضمن النمط الذي اطلق عليه كارل ماركس وفردريك انجلز "أسلوب الإنتاج الآسيوي"، وذلك تأكيداً "للخصوصية الشرقيه، أو الآسيوية" التي ضمت هذا الأسلوب الانتاجي، "إذ أن هذه "الخصوصية" تُخْرِج تطور المجتمعات الآسيوية عن خط التطور النموذجي الذي أشار إليه ماركس في "المادية التاريخية" وتشكيلاتها الاقتصادية الاجتماعية المطبقة في أوروبا"([1]).
في هذا السياق، فإن "نمط الإنتاج الآسيوي" هو منظور فلسفي اقتصادي كان مُؤسِّسا "النظرية المادية التاريخية"، كارل ماركس وفريدريك انجلز قد تخيلاه بصيغته الجنينية، وأطلقاه بحذر شديد، قبل أكثر من قرن ونصف، تحت تأثيرات مباشرة لأفكار الفيلسوف الألماني جورج وليهلم فريديريك هيغل، والاقتصاديين البريطانيين آدم سميث (1723 - 1790) وجون ستيوارت مل (1806 – 1873) في ذات الوقت، وكذلك الملاحظات الاجتماعية والسياسية لبعض الدبلوماسيين والرحالة الأوروبيين الذين كتبوا عن أحوال المجتمعات الآسيوية لا سيما الفرنسي فرانسوا بيرنيه (1620 - 1688)"([2]).
"وخلاصة هذا المنظور، هو ان الدولة في المجتمعات الآسيوية النهرية اجمالا، تتولى تنفيذ جملة من الوظائف الخدمية والإدارية في الحياة الاقتصادية، وفي ميدان الزراعة خصوصاً، تغدو معها كما لو انها المحرك الوحيد للمشاريع الحيوية التاريخية، ما يفضي بالضرورة، الى ظهور تنظيمات اقتصادية كبرى، تجعل الدولة في اغلب الأحوال المالك الوحيد للأرض ولوسائل وأدوات الإنتاج الرئيسية الأخرى فيها، فيما يفضي بالضرورة ايضا الى نشوء تدريجي لأنظمة حكم استبدادية، بفضل بيروقراطية ومركزية الدولة ذاتها، والهرمية الميكانيكية لأجهزتها، التي تفرض على تلك المجتمعات آلياتها هي كلازمة لتنفيذ وظائفها في مرحلة تخطيها لحالتها الأولى القروية المشاعية وانتقالها الى حالة أعلى.
أما جوهر هذا المنظور، هو ان ظهور الدولة الاستبدادية يكون حتميا عند اجتماع جملة من الركائز المرتبط وجودها موضوعيا بـ "نمط الإنتاج الآسيوي" وهي التالية، بغض النظر عن مستوى أشكالها وتبلوراتها المختلفة"([3]):
-                                          وجود مجتمعات زراعية رعوية كبيرة بملامح قبلية في أقطار واسعة تخترقها انهار كبيرة وذات مناخ جاف عموما.
-                                          نشوء مشاريع ري كبرى يترتب عنها تحميل الدولة أعمال إصلاح وإدامة الأنهار وقنوات الري والأراضي الزراعية.
-                                          غياب الملكية الخاصة للأرض لصالح تملك الدولة للأرض كلياً، وغياب طبقة نبلاء وراثية نظراً لعدم وجود ضمان للملكية يمكن ان يؤسسها، وعدم انفصال الزراعة عن سبل الإنتاج الاخرى.
في هذا السياق، نشير إلى أن "أسلوب الانتاج الآسيوي" يعتمد "على المشاعات القروية، فطبيعة العمل تستدعي إنشاء هذه المشاعات، التي تعتمد على حيازة الفلاحين المتساوين، على أساس العمل من دون ملكية خاصة، كما تقتضي قيام فاعلية زراعية وحرفية تنشد الاكتفاء الذاتي وإفراز الفائض، مما يحد من التجارة الداخلية ويجعل التجارة الخارجية بيد الفئة الحاكمة، ومن هنا كان لا بد من ملاحظة "المظهر الطبقي" الذي يتجلى عبر استغلال الفلاحين الأُجراء الذين يعيشون حياة أقرب إلى العبودية، وبالتالي يغلب الركود على هذا الأسلوب لأن خضوع القوى المنتجة للعوامل المناخية والطبيعية، وما يؤدي إليه من مستلزمات يُحَتِّم انصهار الفرد (الفلاح) في الجماعة، ويمنعه من التحول إلى كائن مستقل عنها، أي إنه يمنع قيام الصراع الطبقي للاستيلاء على فائض الإنتاج، لهذا تتم إعادة إنتاج «علاقات الإنتاج» نفسها، وهنا يكمن سر "ركود" المجتمعات الآسيوية.
فبالنظر للتركيبة الطبقية في الأسلوب الآسيوي نفسه، فإن الأقوياء (في الطبقة العليا) ينزعون في مراحل التطور اللاحقة إلى وضع اليد مباشرة على الأرض ووسائل الإنتاج الأخرى، وإلى تقاسمها فيما بينهم، جاعلين الفلاحين أقناناً، ومن هنا جاء اختلاط هذا الأسلوب بغيره من أساليب الإنتاج (الإقطاعي خاصة) ولعل الهند هي التي عرفت «ديمومة» أسلوب الإنتاج الآسيوي حتى سيطر عليها الاستعمار (كما يرى ماركس وإنغلز)" ([4]).
"إن نمط الإنتاج الآسيوي في فكر ماركس –كما يقول نايف سلوم- مفهوم متلاحم ومتكامل الإنشاء، وقد عرضه بوجه خاص في عام 1859 في دراسته المعروفة: "الأَشكال التي تسبق الإنتاج الرأسمالي" ويميز ماركس تمييزاً واضحاً شكل الملكية "الآسيوية" من الملكية "القديمة" من جهة أولى، ومن الملكية "الجرمانية " من الجهة الثانية . وهو يرى أن هناك ثلاثة أشكال من الملكية، ولدت جميعها من انحلال المجتمع البدائي، وكانت نقطة انطلاق لثلاثة أنماط مختلفة من المجتمعات الطبقية. ففي حين أن الفرد في النمط الجرماني لا يندمج في المشاعة إلا بوصفه سيداً فرداً على قطعة من الأرض، يتميز النمط الآسيوي بصرامة رقابة المشاعة على الأفراد الذين لا يتسلمون الأرض إلا على أساس انتمائهم لهذه المشاعة. وتنضاف (في النمط الآسيوي ) إلى هذه الوحدات (القرى) المشاعية الأساسية الدولة الآسيوية، تلك الوحدة العليا (التعبير لماركس) التي تُبقي على مجمل المشاعات القروية وأعضائها في حالة من التبعية الإجمالية ("العبودية المعممة")، والتي تؤدي في الوقت نفسه وظائف حقيقية ذات طابع سياسي، وبوجه خاص اقتصادي (ورشات الأشغال الكبرى والريّ)" ([5]).
في هذا الجانب، نشير إلى أن " شارل مونتسكيو وآدم سميث وفردريك هيغل وحتى كارل ماركس قاموا ببناء فكرة آسيا بالتعارض مع فكرة أوروبا ودمجوها في رؤية غائية للتاريخ. وهي فكرة تناولها الكاتب الصيني وانغ هوي WANG Hui رئيس تحرير مجلة "دوشو" التي تصدر في بكين في بحث عنوانه "الآسيويون يعيدون اختراع آسيا"، ولخّصها على الشكل الآتي: هناك تعارض ما بين الإمبراطوريات الآسيوية المتعددة الإثنيات وبين الدولة الملكية ذات السيادة في أوروبا، وبالتالي هناك تعارض ما بين الاستبداد السياسي الآسيوي وبين الأنظمة السياسية والقانونية الأوروبية، وما بين نمط الإنتاج الآسيوي البدوي والزراعي وبين المدنية والتجارة الأوروبيتين، إلى درجة شكلت معها هذه الفكرة إطارا لتصوّر المجتمعات الآسيوية ووسيلة لتفسير الماضي والمستقبل الآسيويين بالنسبة إلى المثقفين الأوروبيين.
كما نجد أيضاً في كتابات الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث، لا سيما مؤلفه الأهم: "بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم" إشارة عن العلاقة بين الزراعة والريّ في الصين وأقطار آسيوية أخرى، وعن مهمات نَسَبَها إلى الدولة، أبرزها تنظيم الأشغال الكبرى والإشراف التام على نظام الري جاعلا منها القوة المنتجة الرئيسية، مشددا على التناقض (الآسيوي) مع الدول الأوروبية الغربية المتميزة بالإنتاج الصناعي والتجاري خاصة"([6]).
إلا أن المفكر الراحل سمير أمين "ينتقد مصطلح نمط الإنتاج الآسيوي ويرى أن التنوع الذي لا نهاية له لهذه التشكيلات الآسيوية والإفريقية (نمط إنتاج بدائي، نمط إنتاج عبودي ، نمط الإنتاج الإقطاعي، نمط إنتاج سلعي) قد رد بأسره وبشكل قسري مفتعل إلي نمط الإنتاج الآسيوي، ويفضل الحديث عن تشكيلات شرقية وإفريقية تتصف بالآتي ([7]):
1.   هيمنة إنتاج جماعي أو أتاوي ( متفاوت في تطوره نحو نمط الإنتاج الإقطاعي).
2.   وجود علاقات سلعية في مناطق محدودة.
3.   وجود علاقات تجارية بعيدة عندما يكون نمط الإنتاج الإقطاعي مفقوداً جنينياً جداً، وعندما تكون العلاقات السلعية الداخلية البسيطة مفقودة كذلك، فإن التشكيلة المقتصرة علي مجرد اندماج نمط إنتاج جماعي أو أتاوي قليل التطور بعلاقات تجارة بعيدة تكون من الطراز الإفريقي.
هذا الرأي الجريء –كما تقول هيفاء الجندي- "أغضب بعض الذين كانوا وما زالوا يتعاملون مع النظرية بصنمية وقدسية على العكس من تماسك سمير أمين الفكري ونقديَّته المستمدة من وفائه للمنهج المادي – الجدلي ، جعلاه يطلق على جميع أشكال الإنتاج في المجتمعات الطبقية السابقة على الرأسمالية ما سًمِّي (بنمط الإنتاج الخراجي)، حيث المستوى الأيديولوجي هو المهيمن في هذه المجتمعات واستخراج الفائض خاضع لهيمنة البنية الفوقية، حيث السلطة هي التي تتحكَّم بالثروة على عكس المجتمعات الراسمالية حيث الثروة هي التي تتحكم بالسلطة"([8]).
"فالأيديولوجيا المهيمنة في هذه المجتعمات هي الميتافيزيقيا التي تعطي شرعية لهذا الوضع من خلال اعتمادها على احترام المقدس، وهذا ما يفسِّر الشفافية في مجالات عدم التكافؤ في توزيع الثروة والسلطة"، وهذا ما نلحظه بوضوح في قراءتنا لفلسفة ذلك العصر في الصين والهند واليابان وبيزنطه وفارس.
 


([1]) اسماعيل سفر – أسلوب الإنتاج الآسيوي – الحوار المتمدن – 17/1/2009.
([2]) جريدة المدى – مشكلة مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي(1) – 18/1/2015
([3]) المرجع نفسه.
([4]) اسماعيل سفر – مرجع سبق ذكره - أسلوب الإنتاج الآسيوي.
([5]) نايف سلوم – أوامر نمط الاناتج الآسيوي – الحوار المتمدن – 26/5/2017
([6]) جريدة المدى - مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي قبل ماركس (2) – 21/1/2015
([7]) عبد الحسين سلمان – الاستبداد ونمط الانتاج الآسيوي – الحوار المتمدن – 2/2/2012.
([8]) هيفاء أحمد الجندي - سمير أمين.. المنتج للتمرد  - الحوار المتمدن – 13/8/2018.