الفلسفة وقضايا التخلف والنهوض في الوطن العربي


غازي الصوراني
2020 / 9 / 12 - 21:45     

الفلسفة ليست حب الحكمة فحسب، بل هي بالدرجة الأولى حب المعرفة والارتقاء بها، وهي قبل كل شئ إبداع فردي مرتبط بالظروف الموضوعية المحيطة بهذا الفيلسوف أو ذاك، يُعبر عن رؤيته التي تؤسس لمعرفة جديده تحمل في طياتها موقفه تجاه الظواهر الطبيعية والأحداث السياسية والاجتماعية من حوله، ذلك هو معنى البحث عن الحكمة والمعرفة وجوهره، الذي كان –وما زال- صيرورة مستمرة منذ ظهور الفلسفة لدى الاغريق في القرن السادس قبل الميلاد إلى يومنا هذا.
" لكن ما هي الحكمة ؟ وهل هي المعرفة ؟ إنهما جوهر واحد، إذ لا يمكن فصل الحكمة عن المعرفة أو عن نوع معين من أنواع المعرفة، هذا ما أكد عليه سقراط وأفلاطون وفلاسفة اليونان، كما أكد عليه ديكارت وسبينوزا وكانط وغيرهم من الفلاسفه، لكن الفلسفه معرفة خاصة جداً، لا يقدمها أي علم من العلوم، وذلك لأنها ليست تجريدية أو نظرية وإنما ناتجة عن اندماج الرؤية المعرفيه الكليه مع الخبرة العملية.
وبالتالي "فلكل منا حكمته الناتجة عن تجاربه الشخصية ومعاناته في الحياة، والفلسفة تساعدناعلى أن نفكر ونسأل بشكل أفضل لكي نعيش بشكل أفضل، وهذه هي الحكمة"([1]).
وإذا كان عصرنا المعولم، اليوم يتميز بشيء، فلربما بكثرة الأسئلة وتنوع ميادينها، وهي أسئلة تتداخل فيها الرؤى والمضامين الفلسفية مع النظريات والاكتشافات العلمية الهائلة التي تميز عصرنا الراهن، على الرغم من الاختلاف بين الفلسفة والعلوم التي تحتكم في منهجها –كما يقول المفكر هشام غصيب- إلى منطق برهاني اشتقاقي صارم كما الرياضيات مثلاً، وتحتكم أيضاً إلى منطق اختباري صارم كما الفيزياء مثلاً، على عكس الفلسفة التي ترتكز إلى فضاء لا نهائي من التسلسلات الفكرية اللانهائية الأفق.
نعم إن الفلسفة تبحث عن الحقيقة الكلية أو النهائية، وذلك على عكس العلوم الاختصاصية التي تبحث عن الحقائق الجزئية في مجال ما (كعلم الفيزياء، أو الكيمياء، أو الاجتماع، أو النفس، .. إلخ).
في ضوء ذلك فإن إدراكنا للمضمون الجوهري لمعنى وغايات الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة على وجه الخصوص، وتطبيقها على مجتمعاتنا العربية، هو إدراك منحاز لمفاهيم العقل الحداثي، والتطور والنهوض وفق قواعد وأسس المجتمع التقدمي الديمقراطي في كل قطر عربي، وذلك عبر  ممارسة النقد الجذري لكل ما هو قائم، وهو نقد بمعنيين، الأول: لا يهاب استنتاجاته، والثانى لا يتراجع أمام الاصطدام بالإيديولوجيات اليمينيه والغيبية الرجعية، أو تلك التي تعبر عن المصالح الطبقية الرأسمالية للأنظمة الحاكمة، وهو أيضاً نقد لا يتراجع أمام الاصطدام بسلطات الاستبداد([2]) والقهر القائمة، لكن هذه العملية النقدية التغييرية لابد أن تبدأ من المجابهة العقلانية الديمقراطية للحالة الراهنة للفكر الفلسفي في الوطن العربي، التي تتميز بسيطرة الأفكار اليمينية بمختلف أطيافها عموماً، وخاصة الأفكار الغيبية المتخلفة التي تحرص على ترويجها الشرائح والطبقات الحاكمة والمتنفذة في إطار التحالف الكومبرادوري البيروقراطي المهيمن على الانظمة العربية، وذلك بما يتوافق مع مصالحها الطبقية من ناحية، ولتبرير تبعيتها وخضوعها للنظام الامبريالي إلى جانب تبرير مظاهر الاستبداد والاستغلال الطبقي فيها ورفضها لكافة مفاهيم وآليات التطور الديمقراطي والحريات الفردية من ناحية ثانية.
وفي مثل هذه الأوضاع، كان من الطبيعي منع تدريس الفلسفة ومنع الحريات الديمقراطية في معظم بلداننا العربية، لان التفكير الحر يخيف الطبقات الحاكمه فيها، ولذلك نلاحظ أن الفلسفة وكافة مفاهيم الحداثة ما زالت في بلداننا العربية تعاني من تخلف شديد على عدة صعد اجتماعية ومعرفية وثقافية عموماً، وتعليمية خصوصاً، كما هو مطبق في المدارس والجامعات العربية عبر برامج ومناهج شديدة التخلف مستمرة منذ عقود طويلة في تاريخنا الحديث والمعاصر، ساهمت فيما نسميه اعادة إنتاج وتجديد التخلف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي في مجتمعاتنا، بمثل ما خلقت كل المعوقات في وجه الابداع والبحث المعرفي عموماً والفلسفي بوجه خاص.
وفي هذا الجانب أشير إلى أن تلك المناهج التي كرست التخلف في مجتمعاتنا عموماً، وفي مدارسنا وجامعاتنا خصوصاً استطاعت أن تفرض على الأجيال قوالب فكرية متخلفه وجامدة بلغت ذروتها في: الحفظ دون النقد، النقل دون التجديد، الانحناء أمام ما هو مكتوب بدلاً من التفكير وامتلاك منهجية البحث العلمي.
وبالتالي فإن الحديث عن أهم عوامل التخلف الفكري في الثقافة العربية، مرتبط بصور مباشرة وغير مباشرة بالمناهج والكتب التربوية في المدارس والجامعات العربية، التي تكرس المفاهيم السلفية الشكلية من منطلق التناقض مع المفاهيم والقيم الحضارية الحديثة، خاصة قيم الاختلاف والرأي والرأي الآخر والديمقراطية والمواطنة وتعلن رفضها لمفاهيم الوطنية والقومية، علاوة على انها لا تتناول أي إشارة إلى التنوع الديني في بلادنا من منطلق المساواة أمام القانون، بل إن معظم الكتب المقررة للتعلم في المدارس العربية تنطلق من المذهب الديني المعتمد في هذا البلد أو ذاك، سنياً أو شيعياً أو غير ذلك من المذاهب، وفق رؤى وأفكار ومناهج تراثيه ماضويه يتم فرضها باعتبارها حقائق مطلقه ووحيده طالما أنها لا تتناقض مع المصالح الطبقيه للفئة الحاكمة في هذا البلد أو ذاك، الأمر الذي كرس مظاهر التخلف والتبعية، ومن ثم خلق المناخات التي تشجع على التطرف والعنصرية تجاه الآخر، الأمر الذي يدرج أصحاب العقائد الأخرى ضمن مفاهيم الضلال والكفر، ويسهم في تربية جيل ناقل وحافظ للمعلومة، غير قادر على الخلق والتفكير الموضوعي السليم، وكل ذلك يعود إلى أن النظام التربوي في الوطن العربي يحد من القدرة لدى الطالب على طرح الأسئلة وعلى فهم المعلومة المقدمة له، وإعادة صياغتها في عقله، بشكل نقدي بل يؤسس ويكرس لفعل قمع العقل عن التساؤل وتهيئته فقط للتلقي، ما يضعف قدرة الطلاب على التفكير والفهم العقلاني ويخلق منهم جيلاً ناقلاً لا فاهماً أو مساهماً في صنع الفكرة، بحيث بات الأسلوب والمنهج التربوي الديني في ثقافة مجتمعاتنا عموماً، والأطفال وطلاب المدارس خصوصاً، نقيضاً للاستنارة العقلانيه الدينية الموضوعيه التي عبَّر عنها ابن رشد والكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم من فلاسفة المسلمين، وصولاً إلى الشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي والشيخ علي عبد الرازق في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وحسن حنفي وجمال البنا ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم من المفكرين الاسلاميين العقلانيين في القرن الحادي والعشرين .
ذلك ان التنشئه الدينية العقلانيه المستنيرة، ستوفر مجالا رحباً للعقل وحرية التفكير والاختلاف، بمثل ما تضمن تحفيز ونشر أفكار التسامح والتقدم والتطور والنهوض المنشود انطلاقاً من قواعد التفكير الحر الديمقراطي في إطار فصل الدين عن الدولة كضمانه رئيسية على طريق الخلاص من التخلف والتبعية صوب النهوض الوطني والقومي المنشود.
وفي هذا السياق، فإننا "نخطئ خطأً جسيماً لو ظننا أن تجديد الفكر الدينى يتمثل أساسا فى مراجعة ونقد بعض الأفكار المتطرفة المبثوثة فى الخطاب الدينى، وذلك لأن المطلوب قبل إحداث ثورة دينية  هو القيام "بثورة معرفية" تركز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء فى المعاهد الأزهرية التى تخصصت فى تعليم الفكر الدينى، أو فى مؤسسات التعليم المدنى الزاخرة بقشور العلم، والتى لا محل فيها لفكر دينى مستنير"([3]).
"وهذه الثورة المعرفية المقترحة لها أركان أساسية، أهمها على الإطلاق تأسيس العقل النقدى الذى يطرح كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والطبيعية للمساءلة وفق قواعد التفكير النقدى المسلم بها فى علوم الفلسفة والمنطق. والركن الثانى تجسير الفجوة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية على أساس مبدأ وحدة العلوم.والركن الثالث هو الدراسة العلمية للسلوك الدينى لمعرفة صوره وأنماطه السوية والمنحرفة على السواء. والركن الرابع والأخير استخدام الاكتشافات الجديدة فى علم اللغة والمنهجيات المستحدثة فى تحليل الخطاب لتأويل الآيات القرآنية حتى تتناسب أحكامها مع روح العصر"([4]).
والنتيجة أن مجتمعاتنا العربية، أصبحت تعاني من " ازدواجية واضحة على مختلف المستويات العمرانية، والاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، والإدارية، والثقافية. ازدواجية تتمثل في وجود قطاعين أو نمطين من الحياة الفكرية والمادية، منفصلين ولكنهما متعايشان معاً داخل المجتمع الواحد: أولهما عصري مستنسخ عن النموذج الغربي، ومرتبط به ارتباطاً تبعياً، والثاني تقليدي أو أصيل، وهو استمرار لما كان قائماً من قبل التغلغل الإمبريالي، ويتم الدفاع عنه بدعوى الأصالة والحفاظ على تراث الأسلاف"([5])!!.
والسؤال الآن: كيف وصل العرب في المرحلة الراهنة إلى هذه الحال الشديدة الانحطاط التي أدت إلى اعادة انتاج وتجديد التخلف بكل مضامينه الاجتماعية والثقافية، وأين يكمن الخلل؟، وجوابنا انه يكمن في طبيعة التطور الاجتماعي الاقتصادي التاريخي المشوه والمتخلف، وخصوصاً في مرحلة الانفتاح والبترودولار، التي وفرت المناخ الملائم لإعادة تجديد وانتاج الأفكار والحركات السلفية الغيبية المتزمتة، تمهيدا لهيمنتها على صعيد الفكر والمجتمع العربي، انسجاما مع تزايد تبعية وتخلف وارتهان المجتمعات العربية للنظام الإمبريالي، بما أدى إلى ازاحة المعرفة العقلانية والسلوك الديمقراطي لحساب التخلف والأفكار الرجعية السلفية، التي كانت - وما زالت - تشكل عقبةً في وجه تفتح الرؤية العقلانية التنويرية العربية، وأبقت الأوضاع العربية أسيرة لمناخ التخلف ومظاهره، التي تتبدى في أن " العقل السياسي العربي محكوم في ماضيه وحاضره – كما يقول المفكر الراحل محمد الجابري – " بمحددات ثلاثة هي : القبيلة والغنيمة والعقيدة، أي بعلاقات سياسية معينة تتمثل في القبيلة، وفي نمط إنتاجي معين هو النمط الربوي، الذي يرمز إليه بالغنيمة (الدخل غير الإنتاجي)، وسيادة العقيدة الدينية، ويرى أنه لا سبيل إلى تحقيق متطلبات النهضة والتقدم بغير نفي هذه المحددات الثلاثة نفياً تاريخياً وإحلال بدائل أخرى معاصرة لها.
ولهذا يقول المفكر الراحل محمود العالم " إن قضية تجديد العقل السياسي العربي اليوم مطالبة بأن، تحول "القبيلة" في مجتمعنا إلى تنظيم مدني سياسي اجتماعي، وتحول " الغنيمة "أو الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي، يمهد لقيام وحدة اقتصادية بين الأقطار العربية، كفيلة بإرساء الأساس الضروري لتنمية عربية مستقلة، وتحويل العقيدة إلى مجرد رأي، أي التحرر من سلطة عقل الطائفة والعقل الدوجمائي، دينياً كان أو علمانياً، وبالتالي التعامل بعقل اجتهادي نقدي"، ما يستدعي من المثقف العربي في مجابهة هذا التمدد الرجعي السلفي غير المسبوق، التأمل والتفكير والنضال الديمقراطي ضد الاستبداد والاستغلال ومتابعة المستجدات النوعية التي ستدفع إلى بلورة مفهوم جديد للمعرفة، صاعداً وثوريا وديمقراطيا بلا حدود أو ضوابط، بعد أن أصبحت صناعة الثقافة والمعلومات من أهم صناعات هذا العصر بلا منازع .
وهنا بالضبط تتجلى أهمية الفلسفة ونشرها عبر الجامعات والمدارس في بلادنا لمجابهة تحديات الانحطاط الاجتماعي الثقافي الراهن، عبر إعادة الاعتبار للفكر الفلسفي الديمقراطي والتقدمي، من خلال إعادة بلورة وصياغة أسس ومفاهيم الحداثة والعقل والعقلانية والحرية بما يسهم في استنهاض الفكر العربي المعاصر ونقله بصورة نوعية قادرة على إحداث التغيير النهضوي الديمقراطي المطلوب، ذلك هو هدف الفلسفة العقلانية الحداثية الديمقراطية التقدمية القادرة على مجابهة وهزيمة القوى اليمينية بمختلف منطلقاتها وأطيافها والوانها ومسمياتها.
في هذا الجانب، أشير إلى العلاقة التبادلية، والترابط الجدلي بين حالة التخلف المعرفي، وبين أوضاع التخلف الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعاتنا العربية، التي تعيش حالة من الانحطاط والانقطاع المعرفي منذ القرن الثالث عشر الميلادي حتى اليوم، بحيث باتت دول الوطن العربي مجرد حلقات طرفية تابعة ومرتهنة للنظام الامبريالي الأوروبي والأمريكي، وأصبحنا –كعرب- نعيش على هامش الحضارة الغربية.
صحيح ان هناك عوامل خارجية وظروف موضوعية، أدت إلى مراكمة وتكريس أوضاع التخلف والاستتباع، إلا أننا لا يمكن أن نتجاوز العوامل الذاتية العربية من حيث غيابها وقصورها وعجزها، ارتباطاً بالمصالح الطبقية الانتهازية، ودورها الرئيسي في وصول مجتمعاتنا وبلداننا إلى هذه الدرجة من الخضوع والتخلف المعرفي والمجتمعي، الذي حال دون ظهور أي فيلسوف عربي بعد ابن رشد، في مقابل نهوض أوروبا المعرفي والمجتمعي، رغم تخلف وظلام القرون الوسطى، عبر مئات الفلاسفة والمفكرين والعلماء الذين صنعوا معالم نهضتها .
ففي كل عصر من عصور أوروبا في سياق تطورها التاريخي الاجتماعي والاقتصادي، ظهر فلاسفتها الذين قدموا لأوروبا والبشريه رؤى فلسفية وأفكاراً لم تجسد فحسب حالة من التنوع والترابط المعرفي مع فلسفات طاليس وفيثاغورث وهيراقليطس وسقراط وأرسطو قبل الميلاد، بل أيضاً جسدت إبداعاً فلسفياً نجح بصورة مذهلة في تشخيص الواقع الاجتماعي الثقافي الذي عاشوه، وكأن الروح المطلقة –كما يقول هيجل- تجسدت في تاريخ الفلسفة في أوروبا منذ فلاسفة الاغريق مروراً بفلاسفة العصور الوسطى، وصولاً إلى الإشراقات الأولى لعصر النهضة وما تلاها من فلسفات عظيمة قدمها بيكون وديكارت وكانط وسبينوزا وهيجل وجون لوك واوجست كونت ومونتسكيو وروسو وفولتير وديدرو وسنتيانا ووليم جيمس وماركس ودوركايم وماكس فيبر وشوبنهاور ونيتشه وداروين واينتشتينولوكاتش ودريدا وفوكو وماركيوزه وهابرماس وغيرهم، علاوة على صياغتهم للرؤى المستقبلية التي حددت طريق النهوض الأوروبي الحديث والمعاصر الممتد حتى اللحظة.
فقد عرفت أوروبا في كل عصر "ظهور فيلسوف كبير يجسّد العقلانية الفلسفية في شخصه، وفي كل مرة –كما يقول هاشم صالح-" كانت العقلانية تصعد درجة إضافية وتنضج أكثر فأكثر حتى وصل النضج إلى ذروته في فلسفة هيغل نفسه. وبالطبع فقد كان يعتقد بأن الروح المطلقة تجسدت في شخصه على أفضل صيغة. أما ديكارت، فهو مدشن الحداثة الفلسفية أو الفلسفة الحديثة في القرن السابع عشر، التي أسدلت الستار على فلسفة العصور الوسطى الرجعيه، وقدمت للبشرية عموماً وأوروبا خصوصاً، الأفكار والمفاهيم الابداعية التي وفرت كافة الأسس المعرفية لعصر النهضة"([6]).
وهنا أشير إلى أن قيم التنوير لا يمكن استيرادها من التجربة الأوروبيّة –كما تقول المفكرة الجزائريه د.خديجة زنتيلي-، " فبالإمكان الاستفادة بشكل كبير من مشروع التنوير الأوروبي، ولكن في المقابل لا يمكن تطبيق هذه التجربة جملة وتفصيلا على المجتمع العربي، لأنّه "ينبغي أن نعاني التنوير من الداخل" على حدّ تعبير هاشم صالح في كتابه "الانسداد التاريخي"، ينبغي أن ينبع من أعماقنا ومن قناعاتنا.
فقد فشل مشروع التنوير العربي وانقلب على أعقابه، لأنه أخفق في بناء خطاب عقلاني يواصل البدء، ولأنه انكفأ على الذات الماضويّة مرّة، وارتمى في أحضان الآخر مرة أخرى، إنّه مُني بالإخفاق لأن قيم التنوير لم تنتصر في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وبقيت اليقينيّات المطلقة هي السائدة مما فاقـم الأزمة"([7])، وكل هذه اليقينيات تُعَبرِّ عن المصالح الطبقية الرأسمالية سواء كانت في إطار الأنظمة الحاكمة أو في حركات الإسلام السياسي، باعتبارها أحد أهم الأسباب الرئيسه في إجهاض مشروع النهضة والتنوير العربي.
وهذا يقودنا إلى الوقوف أمام رفض معظم الأنظمة العربية راهناً لتدريس الفلسفة عموماً والفلسفة الحديثة خصوصاً، وهو رفض يستجيب للمصالح الطبقية في تلك الأنظمة، علاوة على أنه رفض لا يتقاطع ويتفق مع رفض الغزالي لفلسفة ابن رشد فحسب، بل أيضاً رفض يلتقي ويتطابق مع التيارات السلفية([8]) الرجعية بدءاً من الحركة الوهابية([9]) إلى الإخوان المسلمين وصولاً إلى مختلف الحركات السلفية المنغلقة والمعادية لمجمل الفلسفات العقلانية والعلمية الحديثة والمعاصرة.
إن انحيازي المعرفي لإبن رشد أو لغيره من فلاسفتنا القدماء أمثال الكندي والخوارزمي والفارابي والرازي وابن سينا الذين تميزوا باستنارتهم العقلانية والدينية، وهم بلا شك أحد العلامات المضيئة في تراثنا التاريخي، هو انحياز للتفكير العقلاني الحر القائم على احترام الرأي والرأي الآخر.
لكن، لابد من الاقرار بأن الجوانب الايجابيه لفلسفتهم ارتبطت بالمرحلة التي عاشوها، ما يعني التنبيه إلى ضرورة استشعار القطيعة التي تفصل بيننا وبين فلاسفتنا القدماء، فظروفهم –كما يقول بحق هاشم صالح- غير ظروفنا، ومرجعياتهم غير مرجعياتنا، وهمومهم غير همومنا، ومصطلحاتهم غير مصطلحاتنا، "والواقع أننا إذا لم نعِ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية (المعرفيه) في التاريخ، فلا يمكننا أن نتقدم إلى الأمام خطوة واحدة، ولا ان نحل مشاكل الحاضر، وسوف نظل أسرى الماضي ومسجونين فيه أو منغلقين داخله.
هذا لا يعني بالطبع أنه لا شيء يربطنا بمفكري الماضي أو أن دراستهم باطلة وغير مفيدة، على العكس، وإنما ينبغي أن نفهم المسافة الزمنية والإبيستمولوجية التي تفصلنا عنهم من خلال دراستنا العلمية الدقيقة لهم، لذا ينبغي أن نعرف كيفية الانفصال والاتصال في آن معاً "([10]).
بناء على ذلك أقول بوضوح: لاشيء يمنعنا أن نربط ممارستنا بالأفكار الفلسفية العقلانية التنويرية التقدمية عموماً، والماركسية ومنهجها العلمي خصوصاً، سواء في صراعنا وتناقضنا الرئيسي التناحري مع العدو الصهيوني الامبريالي من جهة، وفي صراعنا وتناقضنا الرئيسي السياسي مع العدو الطبقي المتمثل في أنظمة الاستغلال والتبعية([11]) والاستبداد والتخلف الحاكمة في بلادنا، ومراكمة عوامل النضال الشعبي المعبر عن مصالح ومستقبل جماهير العمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين، على طريق تحقيق أهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بآفاقها الاشتراكية، التي تكفل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، في إطار التطبيق الخلاق لمفاهيم الحرية والمواطنة والمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، بحيث تشكل هذه الرؤية نقيضاً ثورياً للحالة الراهنة السائدة في مجتمعاتنا العربية التي تعيش اليوم رهينة لطغيانين، الطغيان السياسي، والطغيان الفكري أو الثقافي بشقيه في الانظمة المستبدة الحاكمة أو في إطار الحركات الاسلاموية السلفية المنغلقه، إذ ان هذا الطغيان يقتل حرية الفرد من خلال ربط الحقيقة الموضوعية بالسلطة الحاكمة أو بالعقيده لدى الحركات الاسلاموية، ومن ثم تشويه الحقيقة واحتكارها وتسخيرها لحساب مصالح الانظمة الحاكمة أو الحركات الاسلاموية، لترويج أفكارها النقيضة للحرية الفردية وللعقل والمعارف الديمقراطية الانسانية.
"فالتخلف الفلسفي في الوطن العربي اليوم، ليس مجرد انعكاس ميكانيكي لسمة التخلف في المجتمع العربي المعاصر، وانما له اسبابه النابعة من خصوصية تركيبته الاجتماعية وخصوصية تبعيته للغرب الرأسمالي، وتحديداً فان هذا التخلف يتعلق بنيوياً بطبيعة كل من الدولة والبناء الطبقي في الوطن العربي، بالاضافة إلى كثافة الأنشطة الامبريالية الثقافية والاعلامية الموجهة صوبه، فهذه العوامل تعمد إلى تحويل الانتلجنسيا العربية إلى مجرد كمبرادور فكري وظيفته نقل انساق فكرية مصطنعة من الغرب إلى الوطن العربي، من أجل تعميق التبعية وادامتها، وتعمد إلى الحيلولة دون ظهور انتلجنسيا خلاقة، منتجة للفكر وقادرة على قيادة الأمة على درب النهوض الحضاري"([12]).
وبالتالي فإن الحفر في العقل العربي وفي واقعه المعاصر المرير، الذي طال أمده، -كما تضيف د. خديجة زنتيلي-"هو أكثر من ملّح وضروري، أملا في خلخلة المفاهيم السائدة عنه، وبغية المشاركة في الحضارة العالميّة بوصفنا شركاء فعليين في صنع القرار لا تابعين فقط، فعلى الرغم من الإقرار بأن الواقع العربي اليوم يعيش أسوأ أيامه بسبب خيباته المتكرّرة على مختلف الأصعدة، إلاّ أنّه بالإمكان التخفيف من غلواء التشاؤم إذا تمّ ركوب موجة الإطاحة باليقينيّات الباليّة، وتمّ الاسترشاد بنور العقل والتفكير"([13]).
ذلك إن تعميم الفلسفة في بلادنا العربية، وفق تصور يقوم على وضوح الكفايات المستهدفة وجودة النتائج المتحققة يُعتبر رهاناً جوهرياً من رهانات الدّيمقراطية والحداثة، إذ أنَّ"الفلسفة أداة فعاّلة للتثقيف الشعبي (وقبل ذلك في المدارس والجامعات)، وهي تفرز لدى الشعوب نخبَ التنوير وتمثل إحدى الدّعامات الأساسية للعقل التواصلي، وتساعد على إنتاج القيادات الفكرية والميدانية الحكيمة، وهي فضلا عن ذلك، تنمّي قدرة المواطنين على الحوار التفاعلي والتفكير التشاركي، على نحو ما كان يفعل أبو الفلسفة سقراط"([14]).
إن دعوتنا إلى دراسة الفلسفة وتدريسها في مدارسنا وجامعاتنا، هي دعوة تستهدف التمهيد لولادة الخطوة الأولى على طريق بلورة الوعي الذاتي الموضوعي العقلاني الديمقراطي والثوري المطلوب لحماية الذات العربية وتميكنها من توفر سبل النضال من أجل تجسيد عناصر ومفاهيم ومقومات الحداثة من أجل تحقيق مفاهيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمواصلة في إطار عملية النهوض الثوري التحرري والديمقراطي وفق منظور طبقي تقدمي كشرط يوفر عوامل انتصار الثورات الشعبية في بلادنا وديمومتها.
فالثورة في الفلسفة العقلانية التقدمية، هي "أساس ومنطلق رئيسي من أسس التفكير الفلسفي، فلا تطور في الفلسفة دون ثورة، ولا تغيير دونها، ولا حرية إلا معها، ولا إنسانية عميقه إلا في حضورها، وبالتالي فإن الثورة التي تقصدها الفلسفة التي ندعو إليها هي ثورة فكرية عميقه تضع القيم الإنسانية ومبادئها موضع مساءلة وتفكير، وتُشَرِّح الواقع بكل ما يرزح تحته"([15]) من استعمار واحتلال واستغلال واستبداد وصراع طائفي أو مذهبي عنيف ودموي إلى جانب ازاحة كل مظاهر التخلف والتبعية، فالثورة تستهدف تغيير وإزالة هذه الأوضاع لكي تؤسس للجديد الذي يولد من احشائها بلباس فلسفي يحمل في ثناياه أو جوهره رؤية ورسالة معرفيه تقدمية وديمقراطية نستنبط منها برامج التغيير السياسي والاقتصادي التنموي الذي يكفل تحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية بآفاقها الاشتراكية.
وعلى هذا الطريق أقدم هذا الكتاب كإسهام متواضع، يستهدف توضيح وتعميق بعض المفاهيم الفلسفية التي عبَّرعنها الفلاسفة طوال التاريخ البشري، القديم والحديث والمعاصر، آملاً ان تتحقق بعض الفائدة للباحثين وطلاب المعرفه الفلسفية ولكل من يتطلّع ويعمل على تغيير الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي من حالة التبعية والتخلف والاستبداد الراهنة إلى حالة النهوض السياسي الديمقراطي التقدمي.
 


([1]) هاشم صالح – من الحداثة إلى العولمة .. رحلة في الفكر الغربي – المجلة العربية - الطبعة الأولى – 2010م - ص401
([2]) الاستبداد كما تشير معاجم اللغة هو الانفراد. استبد به: انفرد به. واستبد الأمر بفلان: غلبه فلم يقدر على ضبطه. ، "واستبد الأميرأو النظام الحاكم بالسلطة أخذها لنفسه ولم يشارك فيها أحداً، ولم يستشر، فهو مستبد"، فالسمة الجوهرية في الاستبداد هي "الانفراد دون وجه حق".
أما "كلمة المستبد (Despot) فهي مشتقة من الكلمة اليونانية ديسبوس (Despots) التي تعني رب الأسرة، أو سيد المنزل أو السيد على عبيده، ثم خرجت من هذا النطاق الأسري إلى عالم السياسة لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم الملكي المطلق الذي تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة أو السيد على عبيده" (أ.د. عبد الجليل كاظم الوالي – الاستبداد في الفكر الكلامي والفلسفي).
 
([3]) سيد ياسين - تأسيس العقل النقدى بداية تجديد الفكر الدينى -23 آب / يوليو 2015 - الانترنت
([4]) المرجع نفسه.
([5]) د. عبدالله شلبي - الدين والصراع الاجتماعي في مصر (1970 – 1985) - دار النشر: كتاب الأهالي – القاهرة – 2000 .
([6]) هاشم صالح – مرجع سبق ذكره - من الحداثة إلى العولمة - ص 189
([7]) د. خديجة زنتيلي – حوار مع فاطمة الفلاحي (بؤرة ضوء) – الحوار المتمدن – 20/5/2017
([8]) كلمة سلفية معناها العام يطلق على كل دعوة إلى الاقتداء بالسلف الماضي والتمثل به في العبادات والمعاملات ، والسلفية بهذا المعنى هي هذه الايديولوجيا الأصولية الاسلامية التي تقوم بإعادة تنشيط ماضي السلف، قصد الإجابة على حاجيات وطموحات الحاضر. (سالم حميش- السلفية- الموسوعة الفلسفية العربية- المجلد الثاني- معهد الانماء العربي– الطبعة الأولى1988 –ص 733).
([9]) مؤسس هذه الحركة هو محمد بن عبد الوهاب (1703م – 1792م)، الذي قال "إن الفكر والكفر سيان لأنهما نفس الحروف"، وبالتالي ليس من المنطق عنده الجمع أو التوفيق بين العقل والنقل.
([10]) هاشم صالح – مرجع سبق ذكره - من الحداثة إلى العولمة –ص 346
([11]) أن التبعية للامبريالية قائمة في وجود هذه البنية المتميزة من علاقات الإنتاج الكولونيالية التي تكونت كبورجوازية تجارية، زراعية، وقانون التفاوت في تطور الرأسمالية هو الذي يتحكم بتكون هذه الطبقة من كبار الملاكين الزراعيين وبتطورها يخضعها له في توحيده للسوق العالمية كسوق رأسمالية وقد يجتمع التاجر، الصناعي، الملاك الكبير والبنكي في شخص واحد وهو البورجوازي الكولونيالي. مهدي عامل ( نمط الإنتاج الكولونيالي ص 269)
([12]) هشام غصيب – أهمية الفلسفة في انتاج المعرفة، مقتطفات من كتاب جدل الوعي العلمي – الحوار المتمدن – 11/5/2015.
([13]) د. خديجة زنتيلي – مرجع سبق ذكره - حوار مع فاطمة الفلاحي.
([14])  حوار مع المفكر سعيد ناشيد مع صحيفة "الوقت " البحرانية - نادر المتروك – 8 ديسمبر 2013
([15]) عبد المنعم شيحة – الثورة في الفلسفة – مؤمنون بلا حدود – 3 نوفمبر 2014 -  ص1