هل تستند اللجنة التحقيقية في ملفات الفساد.. إلى قاعدة قانونية؟


كاظم حبيب
2020 / 9 / 7 - 12:14     

بعد نشر مقالي الموسوم "مكافحة الفساد: الثقة جيدة، لكن رقابة الشعب أجود!" وصلتني رسالة الكترونية من صديق عزيز وكاتب حصيف ومميز تضمنت ملاحظتين أساسيتين تستوجبان التفكير والمناقشة والعثور على جواب سليم للمسألة لصالح عملية التغيير المنشودة، وهما:
أولاً: تؤكد الرسالة عدم استناد اللجنة التحقيقية الجديدة التي شكلها رئيس مجلس الوزراء السيد مصطفى الكاظمي أخيراً المسؤولة عن ملفات الفساد والقضايا الكبرى لا تستند إلى قاعدة قانونية سليمة، وبالتالي فأن ما تقوم به لا قيمة قانونية لها، بل لجنة منعدمة القيمة. وهي لا تختلف عن اللجنة التي شكلها العبادي حول تزوير الانتخابات ولم تكن ذات قيمة قانونية، بل لتخدير الناس.
ثانياً: إن شخصية مصطفى الكاظمي لا توحي باستعداده على معالجة المشكلات القائمة بروح ثورية تستدعي تجاوز القواعد القانونية لدك معاقل الفاسدين، بل إن الرجل مستغرق في محاولاته البراغماتية الفاشلة لإرضاء كل الأطراف، ولذلك فهذه اللجنة ليست أكثر من إسقاط لفرض، وستنتهي كما انتهت لجان سابقة، وهدفها امتصاص المطالبة والنقمة الجماهيرية ضد الفساد والفاسدين.
شكراً للزميل الفاضل على إثارة الموضوع، وأتمنى أن يشارك القانونيون في مناقشة هذه المسألة. لم تغب عني، حين كتبت مقالتي المشار إليها في أعلاه، هذه النقطة القانونية المهمة التي أشار إليها الزميل، بل فكرت فيها وتجاوزتها، رغم علمي بما حصل مع حيدر العبادي حين قرر بمفرده إلغاء منصبي نائبي رئيس الجمهورية دون العودة إلى البرلمان لاستحصال موافقة قانونية بإلغاء هذين المنصبين. وبالتالي أصبح القرار لا قيمة له دستورياً.
يقف الزميل المعترض من حيث المبدأ على قاعدة قانونية سليمة تستوجب تكليف القضاء بهذه المهمة الكبيرة والأساسية التي يطالب بها الشعب منذ سنوات دون ان تكون هناك أذاناً صاغية من جانب الحكام، لأن الحكمة الشعبية تقول "حاميها حراميها"، فلا يمكن أن يقدم الحرامي على تشكيل لجنة جادة ومسؤولة للتحقيق في فساده الذي زكم أنوف العالم كله. يكون اعتراض الزميل صائب لو كان في العراق قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية، وبتعبير أدق، قضاء مستقل عن الأحزاب الإسلامية الشيعية التي تقود الحكم منذ 17 عاماً وغير خاضع لقرارات الدولة العميقة التي تهيمن على المفاتيح الأساسية للحكم في العراق. القضاء العراقي وغالبية القضاة، اعترفوا بذلك أم أبوا، مهددون في كل لحظة من قبل الميليشيات الطائفية المسلحة التابعة لتلك الأحزاب والتي خيوطها بيد الخامنئي ورهطه في طهران. وعلينا أن نعي هذه المسألة وأن لا نهملها.
كتبت أكثر من مقال عن التردد المرافق لنهج الكاظمي خلال الأشهر الأربعة المنصرمة في ثلاث مسائل جوهرية هي: ** فتح ملفات الفساد والجرائم الكبرى، السلاح المنفلت بيد العشائر العراقية فحسب، بل بيد المليشيات الطائفية المسلحة والقوى المهيمنة على الحشد الشعبي وعمليات إطلاق الصواريخ صوب المنطقة الخضراء والمعسكرات العراقية ومطار بغداد التي تستفز يومياً الشعب والحكومة والقوات المشتركة، ومنها القوات الأمريكية، ** ورفض صريح لتنفيذ قرار مجلس النواب في إنهاء وجود القوات الأجنبية في العراق بالشكل الذي تريده إيران وأحزابها وميليشياتها، مع واقع وجود عصابات داعش الإجرامية والميليشيات الطائفية المسلحة الشيعية منها والسنية، ** وقلقه الظاهر من اتخاذ خطوات جريئة وضرورية في مواجهة الدولة العميقة وأخطبوطها الممتد في كل مفاصل الدولة الهشة والهامشية والرثة الرسمية، ثم يعجز عن الدفاع عنها، لاسيما وأنه غير واثق من القوى التي يمكن أن يستند إليها في المواجهة اللازمة.
إلا أن زيارته الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية ومباحثاته مع المسؤولين فيها، وكذلك مع ممثلين عن حلف الأطلسي ومباحثاته العربية، قد منحته دفعاً جديداً وخففت من تردده وقلقه نسبياً في خوض مواجهة هادئة، وليس ثورية، ولكنها واضحة نسبياً، مع القوى التي ترفض أي شكل من أشكال الإصلاح والتغيير، وترفض التخلي عن الخضوع الكامل لسياسات ومواقف وقرارات إيران بالشأن العراقي، أو إقامة علاقات سوية مع الدول العربية. ورغم قناعتي بخطأ جلوس الكاظمي مع قوى البيت الشيعي لتقديم تقرير عن زيارته للولايات المتحدة، إلا أنه قد صارح هذه القوى بنتائج الزيارة التي لم ترضِ قوى البيت الشيعي، وهي تعمل اليوم قدر الإمكان على إزاحته إن أمكنها تشكيل أكثرية برلمانية لهذا الغرض.
إن اللجنة التحقيقية التي شكلها الكاظمي تتسم بسمتين: قانونية أولاً وسياسية-اجتماعية ثانياً. من حيث المبدأ يمتلك رئيس مجلس الوزراء، أو عموم مجلس الوزراء، حق القيام بهذه المهمة القانونية، بعد أن تخلى مجلس القضاء الأعلى عن مهمته بعدم مبادرته، رغم إلحاح الشعب، بتقديم ملفات الفساد والجرائم الكبرى الموجودة لديه أو الموجودة لدى لجنة النزاهة ولجنة النزاهة البرلمانية أو لدى الحكومة، إلى استكمال التحقيق بها وتقديم المشتبه بهم إلى المحاكمة. فتشكيل مثل هذه اللجنة لتقصي الحقائق وجمع المعلومات والوثائق الخاصة بالفساد عموماً وبكبار الفاسدين والذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي ووحدة الشعب وقوى الانتفاضة خلال الأعوام المنصرمة وإعداد الملفات وتقديمها إلى القضاء ليشكل محكمة خاصة بهذه القضايا، مسألة ليست مخالفة للقانون العراقي، بل هي، كما أرى من صلب مهمات السلطة التنفيذية. ومن حق هذه اللجنة، التي يقف على رأسها شخصية قانونية وفيها بعض القانونيين وممثل عن القضاء ومستشارون أن تمارس هذه المهمة وأن تقوم بأخذ موافقة القضاء، بعد اطلاع رئيس مجلس الوزراء على حصيلة عملها التحقيقي، باعتقال المشتبه بهم لمحاكمتهم أمام محكمة تستند في تشكيلها وقوامها وأسس عملها على وفق الدستور العراقي والقوانين المعمول بها.
إن تعقيدات الوضع في العراق ومشكلاته المتفاقمة والدور الكبير جداً للدولة العميقة سيحرم شعب العراق من ملاحقة كبار الفاسدين في الدولة العراقية واستعادة الأموال المنهوبة من خزينة الدولة ولقمة عيش الشعب، لاسيما وأن القضاء العراقي والقضاة محاطون بقوى الدولة العميقة التي يمكنها أن تخنق الأصوات وتغتال أي قاضٍ يجرأ على التعامل مع ملفات الفساد. من حيث المبدأ يمتلك الكاظمي، بحكم وجوده على رأس ثلاث مؤسسات تابعة للسلطة التنفيذية: أي رئاسة الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس جهاز المخابرات، والمالك للشرعية الحكومية بتصويت مجلس النواب على مجلس وزراءه، إمكانية فعلية في توفير ضمانات أمنية خاصة وجادة له وللعاملين في هذه اللجنة التحقيقية. ولديّ القناعة بأن ليس من الضروري أن يكون الإنسان ثورياً لكي يحقق منجزات كبيرة، بل يمكن لشخصية إصلاحية تمتلك عقلاً شغالاً وفكراً مفتوحاً وضميراً حياً ورؤية واقعية لما جرى ويجري في العراق، أن يمارس نهجاً يخدم عملية الإصلاح والتغيير المنشود. إن هذا لا يعني بأني اراهن على دور وإمكانيات وجدية الكاظمي في تحقيق المنشود، فقد أبديت رأيي في مقالات كثيرة خلال الأشهر الأربعة المنصرمة، إلا أني أنطلق من واقع الأمور الجارية وليس من أحكام مسبقة، وأرى في رسالة المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي التي نشرها قبل يومين وما تضمنته من ملحق تشير إلى إمكانية ولوج طريق الإصلاح والتغيير، وقدمت ما يعين الكاظمي على سلوك الدرب السليم، إن أراد ذلك، رغم إدراك الرسالة المصاعب والتعقيدات والتضحيات المحتملة التي ترافق هذه الطريق. إن الكاظمي ليس تحت ضغط قوى الدولة العميقة وحدها، بل هو تحت ضغط قوى الانتفاضة الشعبية وعموم الشعب والواقع المزري، الذي جاء به عمليا إلى الحكم، الذي يمكن أن يتفجر دفعة واحدة حين يدرك المنتفضون أن الكاظمي يراوح في مكانه ولا يريد الدفع باتجاه الإصلاح والتغيير، كما أنه تحت ضغط المجتمع الدولي والراي العام العالمي حيث يقفان إلى جانب التغيير المنشود في العراق.
لست قانونياً، ولكن أدرك بأن السياسية علم وفن ووعي بالواقع القائم وإمكانيات التحرك والعوامل الفاعلة، الإيجابية منها والسلبية، الدافعة والمحفزة وتلك المعرقلة والمجهضة لوجهة النضال الشعبي. والشعب يخوض اليوم هذا الصراع، ويمكن لمثل هذه الإجراءات أن تساهم في توفير أو تجاوز القاعدة القانونية للجنة التي شكلها الكاظمي أخيراً للتحقيق في حيتان الفساد والجرائم الكبرى التي ارتكبت خلال الأعوام المنصرمة بحق الشعب العراقي وحريته واستقلال وسيادة العراق، بفعل ودور ومطالبات الانتفاضة الثورية الشعبية السلمية الملحة منذ الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2019 حتى الآن.