ارسطو طاليس (384 – 322 ق.م) (1/3)


غازي الصوراني
2020 / 9 / 6 - 19:02     



ولد ارسطو في أسطاغيرا وهي مدينة مقدونية تقع على بعد نحو مئتي ميل من شمالي أثينا، وكان والده صديقاً وطبيباً للملك مينتاس ملك مقدونيا وجد الاسكندر الكبير.
جاء أرسطو، وهو في سن السابعة عشرة أو الثامنة عشرة، إلى أثينا، وصار تلميذاً لأفلاطون في الأكاديمية؛ بقي هناك حوالي عشرين سنة إلى أن توفي أفلاطون في عام 347 ق.م.
يقول رينان، "ان سقراط أعطى العالم الفلسفة، وان ارسطو اعطاه العلم، لقد كانت الفلسفة موجودة قبل سقراط، وكان العلم موجوداً قبل أرسطو، وتقدمت الفلسفة والعلم تقدماً كبيراً بعد سقراط وارسطو، ولكن هذا التقدم جميعه كان مبنياً على الأسس التي وضعها هذان الفيلسوفان. لقد كان العلم قبل أرسطو جنيناً، وولد بمجيئه"([1]).
في بداية شبابه، ونظراً لإعجابه الشديد بالفيلسوف أفلاطون، أصبح أرسطو من أقرب تلاميذ أفلاطون، وسرعان ما أصبح بعد سنوات قليلة فيلسوفاً متميزاً، لكنه حرص على البقاء تلميذاً وصديقاً وفياً لاستاذه ومعلمه، مع الفارق النوعي بينهما، فأفلاطون كان يرى أن المعرفة الحقة هي الناتجة عن التفكير، أما أرسطو فرأى أن المعرفة هي انعكاس للتجربة، وفي كل الأحوال فقد شَكَّل كل من أفلاطون وأرسطو أساس الفلسفة منذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا، واجتمعت باجتماع الفيلسوفين نزعتان متعارضتان في تاريخ الفكر – النزعة الصوفية والنزعة الطبيعية – وأخذتا تحتربان. ولو أن أرسطوطاليس لم يستمع إلى أفلاطون تلك المدة، الطويلة (التي يقدرها بعضهم بعشرين عاماً) لجاز أن يكون له عقل علمى محض؛ أما وقد استمع له تلك المدة، فإن ابن الطبيب أخذ ينازع فيه تلميذ المُعَلِّم المتزمت، ولم تتغلب إحدى النزعتين على الأخرى، لهذا لم يقرر أرسطو طول حياته أي النزعتين يطيع، ولما مات أفلاطون شيد أرسطوطاليس مذبحا له وكَرَّمَه تكريما يكاد يبلغ حد التأليه، ذلك لأنه كان يعجب بأفلاطون وإن لم يكن يميل إليه"([2]).
"فمن مآثر ارسطو انه امسك بحبل التطور العلمي الذي اتخذ طريقه في اليونان في الفترة السابقة لأيام سقراط، وواصل اعماله بتفصيل أكثر حزماً، وملاحظات واستقصاء أكثر تعدداً، وجمع كل النتائج المتراكمة في مجموعة هامة من العلم المنظم"([3])، بحيث يمكن القول عن أرسطو "إنه كان أعظم نوابغ النظر العقلي في تاريخ الفكر اليوناني، وهذه الزعامة لا يمكن أن تنكر عليه إلا لصالح معلمه أفلاطون.
وفي الواقع – يقول جورج طرابيشي- "إن تاريخ الفلسفة بأسره يهيمن عليه هذان الوجهان الكبيران، وقد قيل بحق إن كل فيلسوف، حتى لو كان من المحدثين، هو إما أفلاطوني وإما أرسطوطاليسي، بمعنى أنه بالضرورة أقرب إلى أفلاطون أو أقرب إلى أرسطو، لأن كل نظر عقلي جدير بهذا الاسم يصدر في آن معاً عن هذين الفيلسوفين، لكن لئن بقي أفلاطون "الإلهي"  مثالاً لا يضاهي على العبقرية الفلسفية لأنه كان أول من أعطى الفلسفة عالمها الحقيقي، عالم الفكر (المُثُلْ) وعَبَّر عنه بحماسة مكبوتة ترقى به إلى منزلة الشعراء العظام، فإنه لمما لا ريب فيه بالمقابل أن أرسطو كان وسيبقى دوماً أستاذ ذلك الفكر النقدي والنظامي الذي هو أساس العلم بالذات"([4]).
أرسطو والاسكندر :
قام الملك فيليب ملك مقدونيا بدعوة أرسطو إلى بلاط بيلا، وعهد اليه بتثقيف الاسكندر، وقد دلت هذه الدعوة على ذيوع شهرة فيلسوفنا، فقد "أحب الإسكندر لفترة من الوقت ارسطو العزيز محبة لا تقل عن محبته لأبيه، قائلاً انه على الرغم ان والده انجبه إلى هذه الدنيا فقد عَلَّمَه ارسطو فن الحياة فيها. وترك الاسكندر الفلسفة بعد سنتين ليرتقي العرش ويفتح العالم"([5]).
لكن "الاسكندر بقي متوحشاً على الرغم من جهود ارسطو في محاولة تثقيفه، ولكن على الرغم من وحشيته هذه، فقد تعلم توقير الثقافة اليونانية واحترامها، وكان يحلم بنشرها في الشرق إبان انتصارات جيوشه، كما أوجد تطور التجارة اليونانية، وزيادة المراكز التجارية اليونانية، في جميع أنحاء آسيا الصغرى، قاعدة اقتصادية لتوحيد هذه المنطقة كجزء من الإمبراطورية الهيلينية.
واعتقد الاسكندر بأن الفكر سيسطع من هذه المراكز اليونانية التي تخرج منها البضائع اليونانية ايضاً، ولكنه في اعتقاده هذا قلل من أهمية قوة الاستمرار والمقاومة في العقل الشرقي، وأغفل جوهر وعمق الحضارة الشرقية، كما تغلبت روح الشرق على الاسكندر نفسه في ساعات أوج انتصارته وتزوج (بالإضافة إلى عدة زوجات) ابنة داريوس ملك الفرس، وتبني التاج والكساء الرسمي الفارسي في الدولة، واستقدم إلى أوروبا الفكرة الشرقية عن حق الملوك المقدس"([6]).
"وأخيراً فاجأ الاسكندر، اليونان بإعلان نفسه الها بطريقة شرقية جليلة، وسخرت اليونان منه، ولاقى بعد ذلك حتفه، وقد تبع اشراب الجسم اليوناني المضنى بهذه الروح الشرقية، انصباب الطقوس الدينية، والديانات الشرقية إلى اليونان عبر نفس خطوط المواصلات والطرق التي شقها الفاتح الشاب، وتداعت السدود المنهارة امام سيل الأفكار الشرقية، التي تدفقت على الأراضي الأوروبية التي لا زال العقل فيها فتيا، وزاد انتشار الديانات الخرافية الغامضة التي كانت قد تأصلت في نفوس الهيليينين الأكثر فقراً، وانتشرت في كل جانب، ووجدت روح الاستسلام والجمود الشرقية تربة خصبة صالحة في اليونان المضمحلة اليائسة"([7]).
عندما بلغ أرسطو الثالثة والخمسين من عمره، "أنشأ مدرسته (اللوقيوم) الميدان الرياضي. لم تكن المدرسة صورة طبق الأصل من المدرسة التي تركها أفلاطون وراءه، حيث اختصت اكاديمية افلاطون فوق كل شيء بالرياضات والفلسفة السياسية التأملية، أما مدرسة أرسطو فقد مالت أكثر إلى تدريس علم الاحياء والعلوم الطبيعية، وقد أمر الاسكندر رجال صيده وبساتنته وصيادي اسماكه بأن يمدوا أرسطو بكل المواد الحيوانية والنباتية التي يرغب بها، ويخبرنا كُتَّاب قدامى آخرون أنه كان تحت تصرفه في وقت واحد ألف رجل انتشروا في انحاء آسيا واليونان، يجمعون له النماذج والعينات الحيوانية والنباتية من كل أرض، وقد تمكن بهذه الثروة المادية من انشاء أول حديقة حيوانية عظيمة شاهدها العالم، على الرغم من عدم توفر الأدوات والأجهزة والآلات اللازمة للتجارب والاختبارات العلمية، إلا ان أرسطو استطاع بالاعتماد على بعض التجارب البسيطة عموماً، والملاحظة الكونية خصوصاً ان تجمع قدراً كبيراً من المعلومات أصبحت أساساً لتقدم العلم، ونصوصاً للمعرفة لمدة الفي سنة، عبر العديد من الكتب والأعمال التي قام بتجميعها وتحريرها، لقد جمع هذه الأعمال وحررها الرواقيون عبر عدد من الكتب حملت السمات التالية: أولاً وسائل التفكير الصحيح، وثانياً الأعمال العلمية، "الطبيعيات" "وفي السماء" "التطور والانحلال" "علم الظواهر الجوية" "التاريخ الطبيعي" "عن النفس" "أجزاء الحيوان"، وثالثاً أعمال في فن الذوق والبلاغة، ورابعاً تأتي الاعمال الفلسفية "الاخلاق" "السياسة" "الميتافيزيقا" و"العلم الإلهي"، ثم "قام بيوثيوس بترجمة منطق ارسطو (470-525 ميلادية) الذي أصبح نموذجاً للفكر في العصور المتوسطة، وأُمَّاً للفلسفة في القرون الوسطى التي على الرغم من انها كانت مجدبة وعقيمة بسبب العقائد المحيطة بها، فقد تمكنت من تدريب الفكر والعقل الأوروبي اليافع على التفكير والتعقل والتأمل والذكاء ووضعت الاصطلاحات الفنية للعلم الحديث"([8]).
"لقد كانت فلسفة ارسطو –كما يقول ديورانت- "غزواً للعالم أفضل من غزو الاسكندر للعالم وانتصاره الهمجي. وطبيعي ان لا نجد في عقل أرسطو العلمي الأسلوب الشعري الجميل الذي يتسم به أسلوب افلاطون. فهو بدلاً من الانصراف إلى الأسلوب والعبارة الأدبية كما فعل افلاطون، قام ببناء الاصطلاحات الفنية للعلم والفلسفة، ومن العسير أن نتحدث اليوم عن أي علم بغير استخدام عبارات ابتدعها أرسطو" ([9]).
آلة المنطق([10]): "المواضيع":
كان أرسطو أول فيلسوف يوناني وصلتنا منه مؤلفات تعالج قضايا المنطق بشكل منهجي منظم، فالمنطق، عنده، نظرية البرهان وعلم دراسة أشكال التفكير، الضرورية للمعرفة.
يرى أرسطو أن العلاقات القائمة بين الأفكار تعكس الروابط الموجودة وجوداً موضوعياً، فالعلاقة بين الذات المنطقية وخبرها (محمولها) في الحكم، يمكن أن تقابل، أو لا تقابل، علاقات قائمة في الواقع ذاته، أما العلاقة بين مفاهيم القياس فإن لها قيمة موضوعية: إذ أن الاساس المنطقي في القياس، القائم على معرفة السبب، يتطابق مع السبب الواقعي، ومن هنا تنبع ضرورة التسلسل المنطقي في القياس. وبما أن احدى القضايا الرئيسية في فلسفة أرسطو عن الوجود هي مسألة علاقة العام بالخاص، التي هي احدى مسائل الديالكتيك، فإن منطق أرسطو، الذي يُعْتَبِر العلاقة القائمة بين الأفكار علاقات أو تحديدات الوجود، يطرح أيضا قضايا الديالكتيك، غير أنه، نظراً للعلاقة الوثيقة بين منطق أرسطو وبين مذهبه في الوجود، المعروف في "ما وراء الطبيعة"، فقد انعكست أخطاء فهمه لديالكتيك العام والخاص على المنطق أيضاً "([11]).
أرسطو –كما يقول إميل برهييه- "هو واضع المنطق الصوري، أي ذلك القسم من المنطق الذي يحدد قواعد للتفكير مستقلة عن مضمون الأفكار التي هي موضوع التفكير، لكن الكتابات المنطقية التي جُمِعَتْ تحت اسم واحد، هو الأورغانون (الآلة) لا تشتمل اطلاقاً، رغماً عن الظاهر، على عرض منهجي لهذا المنطق، ففي الظاهر تتوزع هذه الكتابات بحسب عناوين فصول الموجزات المتداولة في المنطق([12]):
1- المقولات، وتتضمن نظرية الحدود؛
2- في التأويل، أو نظرية القضايا.
3- التحليلات الأولى، أو نظرية القياس بوجه عام؛
4- التحليلات الثانية، أو نظرية البرهان، أي القياس ذي المقدمات الضرورية؛
5- المواضع، أو نظرية الاستدلال الجدلي والاحتمالي الذي لا تعدو مقدماته ان تكون ظنوناً مقبولة بالاجمال؛
6- الخطابة أو نظرية الاستدلال الخطابي أو الإضماري الذي يتم اختيار مقدماته بحيث تقنع السامع. والقياس المنطقي، الذي أبان الكتابان الأولان عن عناصره، هو الآلة المشتركة التي يدرسها الكتاب الثالث والتي يستخدمها أهل العلم والجدل والخطابة على السواء، وان اعتمد كل فريق منهم مقدمات متباينة.
أرسطو مؤسس علم المنطق:
يرى ديورانت "أن أول تمييز عظيم يمتاز به ارسطو عن سلفه افلاطون، وَضْعَهُ لعمل جديد وهو المنطق، والواقع أن العقل اليوناني نفسه كان في حالة من الفوضى وعدم النظام إلى أن قَدَّم ارسطو وسيلة لفحص وتصحيح الفكر، ذلك إن افلاطون –كما يقول ديورانت- كان روحاً منطلقة غير محكمة، تتخلله سحابة الخرافة دائماً".
ان المنطق يعني ببساطة، "الفن والأسلوب الذي يساعدنا على تصحيح تفكيرنا، انه نظام وأسلوب كل علم، وكل نظام، وكل فن، وحتى الموسيقى تلجأ إليه، انه علم، لان وسائل التفكير الصحيح يمكن اختصارها إلى مدى كبير وتحويلها إلى قواعد كالطبيعيات والهندسة، وتدريسها لكل عقل عادي، انه فن لانه بالممارسة يقدم للفكر اخيراً ذلك الاتقان والدقة والضبط اللاشعوري السريع الذي يرشد ويوجه أصابع عازف البيانو بانسجام سهل في العزف على آلته، لا شيء اثقل على الفهم من المنطق ولا شيء أكثر منه أهمية.
لقد قال فولتير إذا كنت ترغب في التحدث معي عَرِّفْ ما تقول وَحَدِّد قولك. كم من نقاش قد ينكمش ويتحول إلى مقطع لو تجرأ المتناقشون على تحديد عباراتهم وجُمَلِهِم، هذا هو الأول والآخر في المنطق، وقلبه وروحه، بأن تخضع كل عبارة هامة في حديث جَدِّي إلى أشد أنواع التعريف والتحديد والفحص. انها طريقة صعبه، وامتحان لا رحمة فيه للعقل" ([13]).
كيف يمكننا إذن تحديد الموضوع أو العبارة؟ ويجيب أرسطو على ذلك بقوله، ان كل تعريف جيد يتألف من جزئين، ويقف على قدمين ثابتين. فهو أولاً، يعين الموضوع الذي يتناوله السؤال إلى طبقة أو جماعة تشترك معه في مميزاتها العامة، لذلك يكون الإنسان أولاً وقبل كل شيء حيواناً، وثانياً فهو يشير إلى أي شيء يختلف فيه جميع الاعضاء الآخرين في طبقته، وهكذا فإن الإنسان في طريقة أرسطو حيوان عاقل.
إن من "أهم ما ادخله أرسطو على الفلسفة هو مذهبه في القياس، والقياس تدليل مؤلف من ثلاثة اجزاء، وهذه الاجزاء الثلاثة هي. مقدمة كبرى، ومقدمة صغرى ونتيجة، وهذه النتيجة تنتج عن الحقيقة المسلم بها في المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى: مثال على ذلك الإنسان حيوان عاقل، ولكن سقراط انسان، لذلك فان سقراط حيوان عاقل، ولكن القياس على ما يلوح ليس نظاماً آلياً لكشف الحقيقة بقدر ما هو توضيح للعرض والفكرة"([14]).
أفلاطون وأرسطو: الاستاذ والتلميذ:
يوجد رسم مشهور للفنان روفائيل "حيث يقف افلاطون مشيراً بيده إلى السماء، بينما يقف ارسطو مشيراً بيده إلى الأدنى، إلى الارض، إنه الإتجاه الارسطي الذي يبقى على صله بالواقع والتجارب العمليه والتفاصيل في مقابل الاتجاه الافلاطوني في التفكير الذي يبتعد عن العيني الملموس ويركز على المُثُلْ.
وبينما حاول أفلاطون أن ينشئ نظرية دولة مثالية كاملة وخالدة، بدأ أرسطو بدرس أشكال الدولة القائمة، وحاول بلورة أفضلها الذي يمكن تحقيقه، لكن علينا أن لا نؤكد بقوة تلك الفروقات بين أفلاطون وأرسطو إلى الدرجة التي نغفل عندها وجوه الشبه بينهما.
كان لاتصال أرسطو بأفلاطون وقع عظيم على أرسطو بوصفه فيلسوفاً، على الرغم من أنه ابتعد في النهاية عن فلسفة أفلاطون، وأنشأ فلسفة يمكن وصفها، في نقاط كثيرة، بأنها تتعارض مع تعاليم أفلاطون، وهذا ينطبق على نظرية المُثُل، وأيضاً على نظرية أفلاطون السياسية، ففي حين نظر أفلاطون إلى الأعلى نحو المُثُل، نظر أرسطو إلى الظواهر الجزئية الكثيرة المرتبطة بالتجربه.
"لقد ادرك افلاطون عظمة هذا التلميذ الجديد، الغريب، القادم من الشمال من بلاد كانت أثينا لا تزال تعتبرها بلاداً همجية، ووصفه مرة بأنه الذكاء المجسم في الأكاديمية، فقد جمع أرسطو مكتبة كبيرة ووضع الأساس لتصنيف وتبويب الكتب وهذا من جملة ما ساهم به للعلم، مما دفع افلاطون إلى تسمية بيت ارسطو بيت القارئ.
"وبعد وفاة أفلاطون قام أرسطو برحلات دراسية متنوعة، ودرس بشكل خاص الكائنات المائية وباعتباره بيولوجياً وصفياً، عرف الملاحظة والتصنيف (وليس الاختبار- فإجراء الاختبارات بدأ بداية جدية خلال عصر النهضة)، كما عمل أرسطو بضع سنوات معلماً للأمير الملكي الشاب في مقدونيا، وهو الإسكندر الكبير في المستقبل، غير أننا لا نعرف أي تأثير لأحدهما على الآخر، فقد كان  أرسطو مهمتاً بشكل رئيسي بالدولة المدينية، وليس بفكرة إمبراطورية واسعة تشمل اليونانيين والفرس"([15]).
" وبعد تسلم الإسكندر مقاليد الحكم انتقل أرسطو إلى أثينا، وأنشأ مدرسته الخاصة اللوقيوم (The Lyceum) (335 ق.م.)، واستمرت المدرسة ما يزيد على 860 سنة، وهي مدة أطول من اعمار جميع الجامعات الأوروبية الحالية تقريباً، وأسس أرسطو مكتبة في اللوقيوم، وأول متحف خاص بالتاريخ الطبيعي، وكانت المواد في معهد اللوقيوم تشمل الفلسفة والتاريخ والتربية المدنية والعلوم الطبيعية (البيولوجيا) والخطابة والأدب وفن الشعر، وقد جمع في هذا البناء مكتبة كبيرة، وأنشأ فيه حديقة للحيوان ومتحفا للتاريخ الطبيعي، وفي ذلك المعهد سُمِّى الطلاب بالمشائين، وسميت فلسفتهم بالمشائية، نسبة إلى المماشى المسقوفة التي كان أرسطوطاليس يحب أن يسير فيها مع طلابه وهو يحاضرهم.
كان أرسطو "يطلب إلى تلاميذه أن يجمعوا المعلومات في الميادين العلمية المختلفة وينسقوها: كعادات البرابرة، ودساتير المدن اليونانية، وأعضاء الحيوانات، وعاداتها، وأوصاف النباتات وتوزيعها، وتاريخ العلوم والفلسفة، وأضحت هذه البحوث ذخيرة طيبة من المعلومات يستمد منها رسائله المختلفة"([16])،
كما كان أرسطو عملياً، اقام العديد من التجارب (وهو يعتبر أبو المعاهد التطبيقية او العملية – مؤسس معهد اللوقيوم) بعكس استاذه افلاطون الذي اهتم باللاهوت والرياضيات والتأمل في اكاديميته (ولذلك قيل عنه انه الأب الروحي للجامعات).
هناك كتابات كثيرة لأرسطو، إلا أن كتابات كثيرة أخرى فُقِدَت، وكان تلاميذه هم الذين يحررون كتاباته، بمقدار كبير. وقد رُتِّبت ونُظِّمت كتابات أرسطو، حوالي نهاية القرون الوسطى، كمواد مطلوبة للقراءة في المراكز التعليمية المختلفة في أوروبا، نقلاً عن تراجم فلاسفة المسلمين.
وفي هذا الجانب يقول د. مراد وهبه: "كل من رام الدخول إلى دار الفلسفة، وجَبَ عليه الابتداء بالفيلسوف اليوناني العظيم أرسطو وتلامذته، لأن فلسفته كانت أساس الفلسفة في العالم، ومعلوم أن أقرب تلامذته إلينا هم ابن رشد وابن باجه وابن سينا وابن طفيل وأبو نصر الفارابي"([17]).
 
 


([1]) ول ديورانت – ترجمة: محمد بدران - قصة الحضارة "حياة اليونان" – المجلد الرابع (7/8) – الكتاب الثالث "العصر الذهبي" - ص  493
([2]) المرجع نفسه - ص  493
([3]) ول ديورانت– ترجمة: د.فتح الله محمد المشعشع - قصة الفلسفة – مكتبة المعارف – بيروت – الطبعة الخامسة 1985م – ص85
([4])  جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره – معجم الفلاسفة – ص 52
([5]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة –  ص70
([6]) المرجع نفسه – ص126
([7]) المرجع نفسه – ص127
([8])المرجع نفسه –ص78
([9])المرجع نفسه –ص76
([10]) إن المنطق حسب التعريف الأرسطي له هو العلم الذي يدرس قواعد التفكير السليم. وقد ظهر باعتباره علماً على يد أرسطو، إذ يعد هو واضع أسس وتفاصيل هذا العلم بأصوله وفروعه. ولم يخترع أرسطو طريقة في التفكير السليم أطلق عليها المنطق، بل كان يبحث عن القواعد العامة والكلية التي تحكم الفكر، أي فكر بصرف النظر عن مضمونه، ولهذا السبب سُمي المنطق الأرسطي بالمنطق الصوري. ويتضمن التفكير السليم الحكم الصحيح على الأشياء وتسميتها أو تعريفها ووصفها الوصف المناسب؛ وكذلك يتضمن طرقاً توصلنا من مقدمات إلى نتائج تلزم عنها، أي من أحكام أولى إلى أحكام تالية تتصف بالصدق. وعن تسمية الأشياء وتعريفها التعريف المناسب وضع أرسطو مبحث التعريفات الذي يتضمن ترتيب وتصنيف الأشياء حسب الأنماط الكلية التي تنتمي إليها وهى الكليات الخمس: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام. وعن الحكم وضع أرسطو مبحث القضية أو العبارة وما تتفرع عنه من أنواع، مثل القضية التي تثبت شيئاً عن موضوعها كله وهي الكلية الموجبة، والتي تنفي شيئاً عن موضوعها كله وهي الكلية السالبة، والتي تثبت شيئاً عن جزء من موضوعها وهي الجزئية الموجبة، والتي تنفي شيئاً عن جزء من موضوعها وهي الجزئية السالبة. وعن طرق تَوَصُّلنا من قضايا إلى قضايا أخرى تلزم عنها في صورة نتائج و ضع أرسطو مبحث القياس. (أشرف حسن منصور – نظرية المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق – الحوار المتمدن – 17/12/2010)
([11])  جماعة من الأساتذة السوفيات– مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة –ص106-107
([12])  اميل برهييه – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفلسفة –  ص  226
([13]) ول ديورانت– مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص79
([14]) المرجع نفسه - ص80-81
([15]) غنارسكيربك و نلز غيلجي – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفكر الغربي - ص  153
([16]) ول ديورانت – ترجمة: محمد بدران – قصة الحضارة "حياة اليونان" – المجلد الرابع (7/8) – الكتاب الثالث "العصر الذهبي" -  ص  494
([17]) فرح أنطون – ابن رشد وفلسفته – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 2012 – ص25.