أفلاطون بين النظرة المثالية والنقد (2/2)


غازي الصوراني
2020 / 9 / 4 - 16:47     



لقد جسدت فلسفة أفلاطون المثالية موقفاً طبقياً عبّر عن مصالح النخب الحاكمة، وهو في اعتقادي أول موقف فلسفي طبقي في تاريخ الفلسفة، يؤكد على ذلك، المفكر الراحل صادق العظم بقوله: "ان قليلاً من التدقيق في حياة أثينا سوف يقنعنا بأن دفاع أفلاطون عن مفهومه النخبوي للعدالة، بجعلها انعكاساً لتوازن أزلي قائم في عالم المُثُلْ، لم يكن بالفعل إلا دفاعاً عن توازن اجتماعي وسياسي معين في محاولة لتثبيته وتأبيده بإضفا شرعية الأزل والسماء عليه، والطريف في الموضوع أن أفلاطون كان واضحاً في ذلك كله ولم يعمل على إخفاء مقاصده"([1]).

وفي هذا السياق، يقول د. حامد خليل "لقد أصبح معروفاً أن "أفلاطون" افترض مسبقاً، وباستخدام المنهج الميتافيزيقي، وجود مراتبية فطرية في الطبائع البشرية (العلة)، فسر بها النظام الاجتماعي الطبقي الذي كان سائداً (المعلول)، وهذا خطأ، والصحيح هو أن النظام المذكور (العلة) هو الذي أنشأ المراتبية الاجتماعية للناس (المعلول)، وينطبق الامر نفسه على أرسطو وفلاسفة العصور الوسطى"([2]).

فعلى يد أفلاطون "ارتفعت المثالية، للمرة الأولى، إلى مستوى المذهب الفلسفي الشامل، وطرحت نفسها اتجاها معارضا للفلسفة المادية، وهكذا شهدت اليونان القديمة ظهور المادية والمثالية ("خط ديمقريطس"و"خط أفلاطون" كما يسميها لينين) – الاتجاهين الرئيسيين المتضادين في تطور الفلسفة اليونانية، والفلسفة اللاحقة كلها"([3]).

من الصعب تحديد موضع أفلاطون بالنسبة إلى أيديولوجيات زماننا السياسية، أو مناقشته مع الشيوعية أو الفاشية، إذ إن الكلام عن أن الدولة المثلى عنده هي اشتراكية باكثر تفسيرات المصطلح معقولية، كلام متكلف، خاصةً وأنه كان صريحاً في رفضه وكراهيته للديمقراطية، ملتزماً بالدفاع عن مصالح الطبقة الأرستقراطية.

وفي هذا الجانب يقول المفكر الراحل د.حامد خليل "حقاً إن المرء لتتملكه الدهشة حين يكتشف ان "مؤسس الفلسفة" كان يَكِنُّ للإنسان العام من الاحتقار والازدراء ما لم يفعله أي فيلسوف آخر، لا من قبل ولا بَعْد، وكذلك يدهش حين يرى أن "معلم الأجيال" يشيد ذلك البناء الفلسفي الضخم لخدمة حفنة من كبار ملاك الأراضي وبعض التجار من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة. صحيح –كما يضيف د. حامد خليل- "أنه ليس من السهل على العقول، التي أَلِفَتْ على مدى قرون طويلة الأُكذوبة القائلة إن "أفلاطون" كان يعشق العدالة إلى درجة العبادة، أن تقبل بيسر الرأي الآخر القائل إن موقعه الحقيقي هو في الطرف الآخر تماماً في هذه المسألة، ففي تلك الأثناء لم يكن أفلاطون يُخْفي سخطه الشديد على الحكومة الديمقراطية الجديدة، فقد كان يعتبرها حكومة الرعاع الغوغائية الهوجاء، لا سيما بعد ادانتها لاستاذه سقراط الذي كان على صلة وثيقة بحكومة الطغاة المذكورة، واضطراره هو إلى الهرب من أثينا حتى لا يقع في قبضة الحكام الجدد، ويحاكم هو الآخر بوصفه عضواً في الحزب الأوليجاركي المعادي لهم، "أما عن النقطة الثانية (المسألة السياسية)، فإن قراءة أية فكرة من أفكاره تُفِصحُ بوضوح تام عن أنها صيغت انطلاقاً من تصوره الخاص لنظام الحكم الذي يجب أن يسود في أثينا، والذي هو الحكم الاوليجاركي"([4]).

"أفلاطون" إذن كان ينطلق من احتقار شديد للعمل البدني، سببه الوحيد هو احتقاره لكل الناس الذين يعتمدون عليه وحده لضمان استمرار حياتهم، والذين كانوا يشكلون قاعدة الحزب الديمقراطي في ذلك الوقت، والحق ان تفسيره لعلاقة الإنسان بالمجتمع، جاء محكوماً بذلك المنهج الميتافيزيقي العقيم، ونتيجة طبيعية لاستخدامه، كما جاء أيضاً ليعيد حالة الناس في أثينا إلى سابق عهدها أيام حكم الطغاة، ولْيُخرِس أي صوت للديمقراطية، وليكرس حالة التبعية والاستعباد والاستغلال التي كانت سائدة في الفترة المذكورة (فترة حكم الطغاة)"([5]).

إن المنهج الذي استخدمه أفلاطون، اقتضته أفكاره السياسية المُعَدَّة لديه بشكل مسبق بحكم انتمائه الطبقي الارستقراطي الصارخ الذي اختاره اختياراً واعياً، وعن سابق تصميم، فالمجتمع عنده، ليس الرحم الذي ينمو فيه الإنسان وتتحقق فيه إنسانيته، وإنما هو مجرد سوق لتبادل السلع والخدمات.

وحين تسأل أفلاطون عما إذا كانت العلاقة بين الفرد والمجتمع تقتصر على تبادل تلك المنافع المرتبطة بتلبية الحاجات الأولية، أم انها تتجاوز ذلك لتشمل التكوين الثقافي والروحي، فانه يجيب بأن الفرد لا يتشكل أبداً بثقافة المجتمع، ولا يُنَمِّي قواه الروحية فيه، فالأفراد من حيث التكوين الروحي هم وحدات مغلقة، والعلاقة الوحيدة التي تحكمهم تصبح العلاقة الحسابية، أي تبادل السلع والخدمات المكرسة خصيصاً لتلبية حاجاتهم الطبيعية.

الواقع أن "أفلاطون" حين كان يتحدث عن علاقة الفرد بالمجتمع على النحو المذكور، إنما كان يقصد مجتمع المنتجين. وهو المجتمع الذي لم يَكُن يَكِنّ له إلا الاحتقار، ولم ير أن له من وظيفة سوى انتاج السلع والخدمات والتناسل، وضمن هذا الإطار، فليس لدى أفلاطون ما يمنع من أن يكون الأفراد أحراراً ومستقلين. أما حين يتحدث عن الدولة، فإن الوضع يصبح مختلفاً بالكامل"([6]).

فالدولة في نظره هي المجتمع الإنساني الحقيقي، لانها هي وحدها مجتمع القادة، ومن الوجهة الميتافيزيقية مجتمع المفكرين الذين هم وحدهم ما يندرجون تحت اسم انسان.

وهنا تكون نظرة أفلاطون إلى الفرد بوصفه مواطناً للدولة، تختلف تماماً عن نظرته اليه حين يكون عضواً في مجتمع المنتجين، "فهو لا يرى أن الهدف من وجود الدولة هو أن تُعِيْن مواطنيها على تنمية أنفسهم انسانياً، وضمان تمتعهم بارادة حرة كشرط أساسي لتحقيق انسانيتهم، وإنما تمكينهم من أداء الخدمات المطلوبة منهم فحسب، ويعود السبب في ذلك إلى أنه لم يكن يرى في المواطنين سوى انهم وسائل لانتاج السلع الضرورية لحياتهم، وأيضاً انتاج فائض يوضع تحت تصرف الدولة، أي تحت تصرف طبقتي الحكام والحراس، علماً بأن الإنتاج المذكور في الحالتين هو ما تُعَيِّنه الدولة، وليس المواطنون"([7]).

نستنتج مما سبق، ان الفرد لا معنى له عند أفلاطون سوى أنه مجرد أداة انتاجية، ومما يؤكد ذلك دعوته الصريحة إلى ترك الضعفاء والمرضى يموتون، لا بل إلى قتلهم إذا اقتضى الامر. فهو يقول: "إن من الواجب أن يعني الاطباء والقضاة بالمواطنين من ذوي الطبائع الجسمية أو النفسية السليمة (طبعاً لان هؤلاء هم القادرون على الإنتاج). أما من عداهم، فسندع منهم أولئك الذين اعتل جسمهم يموتون. وسيقضي المواطنون ذاتهم على أولئك الذين اعوجت نفوسهم، وانحرفت طبائعهم (أي الذين يحاولون التحرر من قيودهم الطبقية).

وكذلك "قوله عن عامة الناس بانهم قطيع، ويفتقرون إلى الذكاء والتجربة، ولذلك يجب توجيههم، وليس فقط تعيين نوع العمل الذي يجب أن يقوموا بإنجازه فحسب، وانما أيضاً تعيين مصلحتهم لهم، وإرغامهم على قبول ذلك، أما عن حرية الفرد، فقد كان أفلاطون عدوها اللدود، فالحرية في نظره شر مؤكد، ستؤدي، إذا ما أُطْلِقَتْ من عقالها، إلى أن يتساوى العبيد بأسيادهم، وتهيم الحيوانات ذاتها على وجوهها في الطرقات دون ضابط على حد تعبيره، لقد كان افلاطون فيلسوف الفردية الارستقراطيه، فقد كان يعتبر "ان الحركة الديمقراطيه حين تسود المدينة في جوهرها، لم يبق سوى أمر واحد، إلا وهو ايقاف هذه الحركة، وعند أفلاطون أن التغيير معناه الاضمحلال وان الكمال معناه إنعدام التطور"([8]).

ومن هنا أصبح الهدف الأول لتفكيره السياسي أن يُخْرِجَ نموذجاً لمجتمع ثابت تكون قد اقْتُلِعَتْ منه تلك القوى التي تعمل من اجل التغيير، وأعيدت إليه صفتا الوحدة والتناسق الجامدة التي كانت تتصف بهما المجتمعات الأكثر بدائية، مثل "اسبرطه"، لذلك لا يصح اعتبار أفلاطون كمثالي من عالم آخر ينسج مدنه الخيالية من الأحلام، بل يجب النظر إليه بوصفه المدافع الصريح الحازم عن الامتيازات الطبقية "([9]).

وعن احتقاره للمرأة كفرد أو كانسان، فإن " أفلاطون بالَغَ في ذلك كثيراً حتى أنه امتهن مشاعرها الطبيعية وكرامتها. فهو لم يفهم من وجودها سوى أنها وسيلة لإرضاء رغبات المحاربين والحكام الجنسية على الطريقة الحيوانية، أي الرغبات التي لا تمتزج فيها الدوافع الطبيعية بالمشاعر الإنسانية التي تتجسد في الحب والتعاطف والانصهار الروحيين، فتكون بذلك رغبات إنسانية، كذلك فَهِمَ أيضاً أنها مجرد وسيلة لتحسين النسل، فها هو يقول في الجمهورية: "ان المحارب الشجاع ينبغي أن يُكافَأ على بسالته بمزيد من النساء"، أما عن تحسين النسل، فانه يقول: إن أي طفل تنجبه المرأة في غير المواسم التي تحددها الدولة، والتي تختار فيها رجلاً معيناً لكل امرأة، ينبغي أن يعد لقيطاً، أما حين يتحدث أفلاطون عن الحب الحقيقي في محاورة "المأدبة" فانه يعني حب الصبيان، وليس الحب بين الرجل والمرأة.

أما عن التربية والتعليم، فإن منهاج أفلاطون التعليمي ينقسم إلى قسمين: التعليم الأول، ويشمل تدريب النشء حتى سن العشرين. والتعليم الأعلى، ويقتصر على فئة مختارة من أبناء الطبقتين الحاكمتين (الحراس والقادة) ويمتد هذا التعليم حتى سن الخامسة والثلاثين، وتنحصر مهمته في اعداد تلك النخبة لتولي المناصب القيادية في الدولة"([10]) .

وفيما يتعلق بالشيوعية (شيوعية الملكية والمرأة) فان "أفلاطون" قَصَرَ نطاق تطبيقها على طبقة الحكام وحدهم، مما يدل على أن الهدف من تطبيقها لم يكن انسانياً، وانما كل ما عناه هو أن يقضي على أي سبب يحول دون تحقيق التضامن بين الحكام، خوفاً من أن يؤدي أي انقسام فيما بينهم، بسبب التنافس على الثراء – إلى حدوث ثغرات قد يَنْفَذ منها أنصار الديمقراطية، فينتزعون السلطة من أيدي أولئك، ولذلك لم يجانب أحد المفكرين الصواب حين وصف جمهورية أفلاطون بانها تتألف من موظفين ومحاربين وصناع وحرفيين وعبيد وإناث. لكنها لا تتألف أبداً من بشر، فكل فرد مسمار أو عجلة ذات شكل معين في آلة الدولة، وفيما عدا هذه الوظيفة الرسمية، فليس له أية أهمية في أي شيء آخر، فهو ليس ابنا ولا أخاً ولا زوجاً ولا أباً ولا صديقاً ولا حبيباً، وهو يؤخذ من صدر أمه عند مولده، ويوضع في دار للطفولة، ويُرَبَّى بنفس الطريقة التي يربى بها الاطفال الآخرون في مثل سنه، وما ان يصبح لديه وعي، حتى يشعر بأنه مِلْك للدولة، لا يرتبط بشيء أو بأحد في هذا العالم، وعندما يكبر تعطى له وظيفة محددة، وكذلك يَفْحَص رجولته خبير خاص، ويقدم عنه تقريراً، فيؤتى له عند ذلك بفتاة يعتقد بأنها ملائمة له من الوجهة البدنية، ثم تنشأ الذرية على النحو الذي يفيد الدولة، فتعامل بالطريقة نفسها التي عومل بها الابوان، وهكذا دواليك"([11]).

يقول افلاطون: "ان السلوك الإنساني يجري من منابع ثلاثة رئيسية وهي الرغبة والعاطفة، والمعرفة، كما ان الرغبة والشهوة والباعث أمر واحد، والعاطفة والروح والطموح والشجاعة أمر واحد، والمعرفة والفكر والذكاء والعقل امر واحد، هذه الصفات والقوى موجودة كلها في كل الرجال، ولكن في درجات مختلفة، فإن بعض الرجال ليسوا سوى صورة مجسدة للرغبة، بأرواح متململة محبة للكسب، منهمكة في المنافسة والنزاع المادي، تحرقها شهوة الترف والبذخ والمظهر، وتعتبر أرباحها ضئيلة بالمقارنة مع أهدافها المستمرة، هؤلاء هم الرجال الذين يسودون ويحتكرون الصناعة، ولكن هناك آخرون يملؤهم الشعور والشجاعة، ولا يبالون كثيراً بمن يحاربون، وكل همهم هو الحصول على النصر لذاته، انهم يحبون المشاكسة لا الكسب، ويفخرون في احراز السلطة لا في احراز المال والاملاك، وفرحهم في ميدان المعركة وليس في السوق، هؤلاء هم الرجال الذين يصنعون الجيوش والاساطيل الحربية في العالم.

وأخيراً القلة من الرجال الذين يجدون بهجتهم في التفكير والتأمل والفهم، والذين لا يتوقون إلى المال ولا إلى النصر، ولكن إلى المعرفة، لينصرفوا في هدوء وصفاء إلى الفكر والتأمل، والذين تكون ارادتهم من نور وليس من نار، هؤلاء هم رجال الحكمة، الذين يقفون جانباً لا يعرف العالم كيف يستفيد منهم، ولا يعرف قدرهم وقيمتهم"([12]).

وفي كل الاحوال، ومهما كان موقفنا من فلسفة أفلاطون، فإن المحاورات الأفلاطونية –كما يقول ديورانت- "ستبقى إحدى الكنوز الثمينة في العالم وافضلها، كتاب الجمهورية، وهو كتاب تام في حد ذاته، حيث نجد في هذا الكتاب المجاز الأفلاطوني وعلمه اللاهوتي، وفلسفته الأخلاقية الأدبية والنفسانية، وفنه التعليمي وسياسته، ونظريته في الفن.

هنا في كتاب الجمهورية نجد المشاكل التي تواجه العالم اليوم، من الشيوعية إلى الاشتراكية ومبدأ مساواة المرأة بالرجل في الحقوق، وتقييد النسل، وعلم تحسين النسل والمشاكل التي أثارها نيتشه الفيلسوف الألماني حول علم الاخلاق والحكومة الارستقراطية. والمشاكل التي بحثها روسو الفيلسوف الفرنسي حول العودة في حياتنا إلى الطبيعة وحرية التعليم.

هنا نجد فلسفة برجسون وفرويد –كما يقول ديورانت- "كل شيء موجود في هذا الكتاب (الجمهورية)، انه وليمة للصفوة والقلة يقدمه مضيف كريم سخي. قال (امرسون) ان أفلاطون هو الفلسفة والفلسفة أفلاطون.

نقد فلسفة أفلاطون:
افلاطون أول من وضع الفلسفة السياسية على طريقها المعروف والمستمر حتى اليوم، فالسلطة عنده يجب أن تدار بواسطة العقل، والعدالة هي محور السلطة كشرط لاستقامة المجتمعات والدول.. فالعدل اساس الحكم عنده، وقد طرح آراؤه هذه في كتابه الشهير "الجمهورية"، الذي يقول فيه: "إذا اردنا دولة جيده فلا بد من اعداد مواطنين جيدين".

دستور الدولة عند أفلاطون: يقوم الدستور على مبادئ الارستقراطية حيث يكون التميز في قمة نظام الحكم للفرد المتفوق الذكي (خريج طبقة الحكماء)، غير أن قليل من التدقيق في حياة آثينا سوف يقنعنا -كما يقول د. صادق جلال العظم- "بان دفاع أفلاطون عن مفهومه النخبوي للعدالة، يجعلها انعكاساً لتوازن أزلي قائم في عالم المُثُلْ، لم يكن بالفعل إلا دفاعاً عن توازن اجتماعي وسياسي معين في محاولة لتثبيته وتأبيده بإضفاء شرعية الأزل والسماء عليه"، ما يعني بوضوح أن موقف أفلاطون هذا هو موقف طبقي صريح دفاعاً عن مصالح النخب الأرستقراطية في زمانه"([13]).

والآن ما الذي ينبغي أن نقوله في هذه الدولة المثالية؟ وهل تحققت هذه الدولة المثالية في أي مكان من الأمكنة؟ الجواب في صالح أفلاطون –كما يقول ول ديورانت- " فقد حكم أوروبا لمدة ألف سنة تقريباً نظام من الحراس والحكام شبيه بالنظام الذي وضعه فيلسوفنا، فقد جرت العادة في القرون الوسطى على تنظيم السكان في البلاد المسيحية إلى طبقة من العمال، وطبقة من الجنود وأخرى من رجال الدين. وقد احتكرت الطبقة الأخيرة على الرغم من قلة عددها وسائل التعليم، وحكمت حكماً مطلقاً أعظم قارة في قوتها في العالم، فقد كانت الفردية والعزوف عن الزواج جزءاً من البناء النفساني لسلطة رجال الدين. البرنامج والتعليم (الحساب والهندسة والفلك والموسيقى) صيغ على نمط منهاج أفلاطون التعليمي، وبهذا المبدأ تمكن رجال الدين من حكم أوروبا بسهولة وبدون اللجوء للقوة، وقبلت شعوب أوروبا هذا الحكم طوعاً حتى انها قامت بتقديم المساعدات المادية الكبيرة لحكامها لمدة الف سنة تقريباً،وركع التجار والجنود وامراء الاقطاع على ركبهم امام روما التي بنت اعظم منظمة شاهدها العالم"([14]).

وعلى الرغم من ذلك، يقول ديورانت، فإن نظام افلاطون مفرط في المثالية، وفوق مستوى طاقة الناس، وحكومته المثالية التي وصفها في كتابه الجمهورية حكومة غير عملية ومفرطة في المثالية، وفوق كل شيء فقد نسي افلاطون في الغائه لنظام الأسرة أنه يقضى على أعظم مصدر للتربية الخلقية"([15]).

إن افلاطون يستثني بصراحة أكثرية الشعب من خطته الشيوعية، ويدرك بوضوح كاف ان القلة من الرجال فقط يقدرون على التضحية بالأمور المادية والمنافع الذاتية، وهذه القلة هي التي يقترح افلاطون تأليف الحكومة منها، حيث تكون الأُخُوَّة خاصة بهذه الطبقة فقط، وحيث يعتبر كل رجل الآخر أخاً، وكل بنت أختاً، ويُحَرَّم الذهب والمتاع على هذه الفئة فقط، اعني فئة الحكام والحراس للدولة، أو بعبارة أوضح الطبقة الحاكمة، أما أكثرية الشعب فستحتفظ بجميع النظم والحقوق من العقار والمال والترف، والمنافسة وكل حرية خاصة ترغب بها، وستكون زوجاتهم خاصة بهم لا يشاركهم بها احد، وسيحتفظ الآباء بزوجاتهم، والامهات بأطفالهن.

اما بالنسبة إلى الحكام، فهم لا يحتاجون إلى نزعة شيوعية بمثل ما يحتاجون إلى معنى الشرف ومحبته والتعلق به، والفخر وليس اللطف هو الرابطة التي ستربطهم وتجمعهم، لكن أفكار افلاطون أودت به إلى حالة من النزاع المرير مع ملك أثينا أدت إلى تشرد افلاطون ومعاناته"([16]).

والآن بعد توجيه هذا النقد اللازم الصريح، يقول ديورانت: "يتبقى علينا ان نعرب عن ولائنا وتبجيلنا إلى القوة والعمق في تفكير افلاطون، لكن من ناحية ثانية، يجب ان نأخذ اليوم الديمقراطية كقضية مسلم بها، اذ لا نستطيع تقييد وتحديد حق التصويت كما يقترح افلاطون"([17])، لأن التغير عند افلاطون معناه الاضمحلال، بينما الكمال معناه انعدام التطور " لقد اراد مجتمعاً ثابتا (اسبرطيا لا يتحرك بالديمقراطيه كما في اثينا ) يتولى ادارته نخبه مختارة من الارستقراط الذين يمتلكون القدره على التفكير والتأمل للاشراف على ضبط "المجتمع الثابت " الذي يجب ان تُقْتَلَع منه تلك القوى التى تعمل من اجل التغيير، هذه الأفكار طبقتها الارستقراطيه الاوروبية فيما بعد طوال اكثر من الف عام تحت راية الكنيسة او النخبة اللاهوتيه.

وهذه الأفكار موجودة نسبيا في تراثنا العربي حيث نلاحظ تعايش الوعي العفوي مع مفهوم "حالة الثبات" عبر امثلة كثيرة منها "الذي ينظر إلى اعلى تقطع رقبته" و"العين لا تعلو على الحاجب" والعديد من الامثال التي تدعو إلى تكريس حالة الثبات ضد التغير.

"توفي افلاطون سنة 347 ق.م، في غمرة الحرب التي كان شنها فيليبوس على الاثينيين، والتي كانت عاقبتها الانحطاط السياسي النهائي للحضارة الاغريقية، ونشر عبر حياته المديدة ونشاطه المتعدد الوجوه، عدداً كبيراً جداً من المحاورات، بقيت كلها محفوظة، وقد أمضى حياته وعمره باحثاً عن وسيلة تهديه إلى اكتشاف أعقل الرجال وأفضلهم واقتناعهم وتمكينهم من الحكم"([18]).

أخيراً، منذ وفاة أفلاطون إلى يومنا، ثار الخلاف حول مدلول فلسفته ومحاوراته، حيث " تنسب مذاهب متباينة نفسها اليه؛ ففي زمن شيشرون، مثلاً، ربط بعضهم باسم افلاطون نزعة وثوقية (دوغمائية) مشابهة لنزعة الرواقيين، ورأى بعضهم الآخر فيه نصيراً للشك ولتعليق الحكم، وبعد ذلك بزمن غير طويل، وابتداء من القرن الأول، استحوذ المتصوفة ومجددو الفيثاغورثية على اسم افلاطون وكتاباته، فصارت الافلاطونية مرادفة لمذهب يرقى بالنفس فوق العقل والوجود، ويوحد بينها وبين خير مطلق يحب أكثر مما يعرف"([19]).

قالوا عنه([20]):

· "أفلاطون، ذلك الإله الذي هو إلهنا.. عدو البلاغة، ومع ذلك أفصح الكتاب قاطبة". (شيشرون).

· "لأرسطو الكم، ولأفلاطون الكيف" (بترارك).

· "إن امرءاً يعرف أفلاطون كله ولا يعرف غير أفلاطون، لن تكون معرفته إلا قليلة ورديئة.. والشهرة التي أصابها أفلاطون لا تدهشني؛ فجميع الفلاسفة كانوا مفهومين، وكان هو مفهوماً بقدر غيره، وإنما مع قدر أكبر من الفصاحة" (فولتير).

· "إن صاحب الذهن المتفوق يمكنه أن يفيد من صفحة من هذا الكاتب ما لا يفيده من ألف مجلد نقدي.. ولو تكلم عن التساوق العام للكون، لاستعار من خلق هذا الكون لسانه وأفكاره". (ديدرو).

· "إن أفلاطون، بدلاً من ان يخضع النشاط الخلقي لذاتية العقل وحدها، نظير ما صنع أرسطو، أدرج فيه الوجود بأسره، ولأول مرة اتخذت الفلسفة صورة علم نظري تأملي.. ففي مبدأ كل شيء هناك الكلي أو المثال.. لكن أفلاطون لا يتصور هذه المشاركة في الكلي إلا عبر دمار الفردي، وذلك هو عيب الجدل الأفلاطوني، وكذلك عيب الفلسفة العملية، وسيكون واجباً انتظار المسيحية كيما يسترد الفرد حقوقه". (هيغل).

· "إن ريبتي حيال أفلاطون تمضي دوماً إلى القرار الأعمق: فأنا أرى أنه حادَ عن جميع غرائز الاغريق الاساسية، وأجده مُشَبَّعاً كل الإشباع بالأخلاق، ومسيحياً مغرقاً في مسيحيته قبل ظهور المسيحية – فهو الذي اعطى فكرة "الخير" باعتبارها فكرة عليا – إلى حد أراني معه أميل إلى استخدام حيال كل ظاهرة أفلاطون نعتاً واحداً دون غيره من النعوت، فأتكلم عن مهزلة رفيعة، أو إذا شئتم عن مثالية". (نيتشه).






([1]) د. صادق جلال العظم – دفاعاً عن المادية والتاريخ – دار الفكر الجديد – بيروت – الطبعة الأولى 1990 –ص20

([2]) د. حامد خليل – مرجع سبق ذكره – مشكلات فلسفية - ص203.

([3]) موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم – دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – ص95

([4]) د. حامد خليل – مرجع سبق ذكره – مشكلات فلسفية - ص 32

([5]) المرجع نفسه - ص 38

([6]) المرجع نفسه - ص 39

([7]) المرجع نفسه - ص 40

([8]) المرجع نفسه - ص 44

([9]) جون لويس – ترجمة: انور عبد الملك - مدخل إلى الفلسفة – دار الحقيقة – بيروت - الطبعة الثانية – 1973 – ص 23

([10]) د. حامد خليل – مرجع سبق ذكره – مشكلات فلسفية - ص 45

([11]) المرجع نفسه - ص 46

([12]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص32

([13]) صادق جلال العظم - مرجع سبق ذكره – دفاعاً عن المادية والتاريخ – ص20/21

([14]) ول ديورانت – مرجع سبق ذكره - قصة الفلسفة – ص57

([15]) المرجع نفسه – ص59

([16]) عندما وجد ديونيسيوس (ملك أثينا) ان الخطة تستدعي بان يصبح فيلسوفاً أو يتوقف عن كونه ملكاً، بدأ بينهما نزاع مرير، والقصة تقول ان افلاطون بعد هذا النزاع بيع في سوق العبيد، حيث قام بعد ذلك بشرائه وتحريرة من العبودية تلميذه وصديقه الاثيني انيسيرس. وفي السنوات الأخيرة عاش في سلام في داخل الاكاديمية، يتنقل من جماعة لاخرى من تلاميذه ويرشد الشباب ويحظى بحبهم ، فقد احبه تلاميذه كما احبهم، وكان صديقاً كما كان فيلسوفاً ومرشداً لهم. وقام احد تلاميذه بدعوته لحضور عقد قرانه، وحضر افلاطون ناعماً بأعوامه الثمانين وشارك الموجودين سعادتهم، وبعد انتهاء ساعات السعادة والفرح، جلس الفيلسوف الأعظم المسن على كرسي في احدى الزوايا الهادئة ليصيب غفوة صغيرة من النوم، وفي الصباح بعد انتهاء الحفلة أتوا لايقاظه فوجدوه قد انتقل من غفوته الصغيرة إلى غفوة ابدية، وسارت كل أثينا وراءه إلى مثواه الأخير.

([17]) ول ديروانت – مرجع سبق ذكره – قصة الفلسفة – ص62

([18]) اميل برهييه – مرجع سبق ذكره - تاريخ الفلسفة – ص 130

([19]) المرجع نفسه - ص 134

([20]) جورج طرابيشي – مرجع سبق ذكره –معجم الفلاسفة – ص 71-75