سوسيولوجيا ماكس فيبر


مالك ابوعليا
2020 / 9 / 4 - 14:28     

كاتبة المقالة، الماركسية السوفييتية بياما بافلوفنا جايدينكو*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

1- ماكس فيبر وعصره
كان تشَكّل نظرات فيبر الاجتماعية-السياسية ومواقفه النظرية متأثراً بشكلٍ كبير بالوضع الاجتماعي والسياسي في ألمانيا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وظروف العلم في ذلك الوقت، وقبل كل شيء، وضع الاقتصاد السياسي والتاريخ والفلسفة الاجتماعية.
كان يُميز وضع ألمانيا آنذاك صراع قوتين اجتماعيتين: من جهة، اليونكرز أعضاء الارستقراطية الألمانية وخاصةً البروسية المُرتبطين بامتلاك الأراضي على نطاقٍ واسع، والذين كانوا يخرجون من المشهد التاريخي، ومن جهة أُخرى الطبقة الرأسمالية الصاعدة التي تسعى الى الاستقلال السياسي. كانت احدى السمات الأساسية لتطور الرأسمالية في ألمانيا هو أنها لم تستطع أبداً أن تُحرر نفسها من أصفاد النظام الاقطاعي-البيروقراطي، الذي طبع بصمته على الحياة السياسية والتفكير العلمي، وقبل كل شيء، على مجال العلوم الاجتماعية في ألمانيا.
تشكّل الوعي الذاتي للطبقة الرأسمالية الألمانية في الوقت التي ظهرت في طبقة جديدة، اي البروليتاريا، على الساحة التاريخية. لقد اضطرت البرجوازية الألمانية أن تُناضل على جبهتين: ضد الاتجاهات المُحافظية الدفاعية لمُلّاك الأراضي من جهة، وضد الاشتراكية الديمقراطية، من جهةٍ أُخرى. هذا الأمر حدّد طابعها المُزدوج، أي تذبذبها السياسي ولاحسميتها، والطبيعة المُتناقضة لمواقف مُنظريها.
كان ماكس فيبر 1864-1920 أحد هؤلاء المُنظرين. نشأ في اسرةٍ برجوازيةٍ ميسورة الحال، واكتسب ذوقاً سياسياً في شبابه المُبكّر. كان ليبرالياً في توجهه السياسي والتي كانت تصطبع بصبغة قومية تسببت فيها الخصائص المُميزة لتطور ألمانيا التاريخي في القرن التاسع عشر.
دَرَسَ فيبر التشريع في جامعة هايدلبيرغ، ولكن لم تكن اهتماماته تقتصر على هذا المجال وحسب. في سنوات دراسته كان مهتماً أيضاً بالاقتصاد السياسي والتاريخ الاقتصادي، كما كانت دراساته في التشريع ذات طابع تاريخي. كان ذلك بسبب تأثير ما يُسَمّى المدرسة التاريخية التي سادت الاقتصاد السياسي الألماني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (فيلهلم روشر Wilhelm Roscher، كورت كنيس Kurt Knies، غوستاف شمولير Gustav Schmoller). لم يكن أنصار هذه المدرسة، الذين كانوا متشككين تجاه الاقتصاد السياسي الانجليزي الكلاسيكي، متوجهين الى حد كبير باتجاه بناء نظرية موحدة، بقدر ما كان هدفهم ابراز الروابط الداخلية بين التطور الاقتصادي، والجوانب القانونية والاثنوغرافية والنفسية والأخلاقية والدينية من حياة المُجتمع. لقد حاولوا انشاء هذا الرابط من خلال التحليل التاريخي. أملى الظرف التاريخي الخاص لتطور ألمانيا، الى حدٍ كبير، عرض هذه المسألة. كدولةٍ بيروقرطيةٍ مع بقايا النظام الاقطاعي، لم تكن ألمانيا مثل انجلترا، لذلك لم يأخذ الألمان مُطلقاً في المبادئ الفردية والنفعية التي تكمن في أساس الاقتصاد السياسي الكلاسيكي لآدم سميث وريكاردو.
ان أعمال فيبر الأولى هي (حول تاريخ النقابات الحِرَفية في العصور الوسطى) On the History of Merchant Guilds in the Middle Ages 1899، (التاريخ الزراعي الروماني وأهميته للقانون العام والخاص) Roman Agrarian History and Its Significance for Public and Private Law 1891 والذي (أي هذا الكتاب) أدخله على الفور في قائمة كبار العُلماء الألمان ودليل على أنه أتقن مُتطلبات المدرسة التاريخية، وعرف كيفية استخدام التحليل التاريخي لابراز ارتباط العلاقات الاقتصادية بتشكيلات القانون العام. قام في كتابه (التاريخ الزراعي الروماني) برسم الخطوط العريضة لما أسماه "السوسيولوجيا التجريبية" خاصته، والذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتاريخ. لقد عالج تطور مُلكية الأراضي في العصور القديمة بعلاقتها مع التطور الاجتماعي والسياسي، وانتقل أيضاً الى تحليل أشكال تنظيم الأُسرة والحياة اليومية والأخلاق والطوائف الدينية وما الى ذلك. كان لاهتمامه بالمسألة الزراعية دافع سياسي حقيقي. نَشَر في ثمانينيات القرن التاسع عشر عدداً من الأوراق والتقارير حول المسالة الزراعية في ألمانيا، حيث انتقد موقف اليونكرز المُحافظ ودافع عن أهمية التطور الصناعي لألمانيا.
في الوقت نفسه، حاول تطوير برنامج سياسي جديد لليبرالية البرجوازية في ظروف الانتقال الى رأسمالية الدولة الاحتكارية التي كانت تظهر بالفعل في ألأمانيا.
كان فيبر أُستاذاً في جامعة فرايبورغ منذ عام 1894، وبدءاً من عام 1896 في هايديلبيرغ. تمت دعوته عام 1904 الى سانت لويس في الولايات المُتحدة لالقاء عدد من المُحاضرات. لقد تَرَك النظام الاجتماعي والسياسي لأمريكا في ذهن فيبر انطباعات كثيرة أثرت على تطور أفكاره بشدة كسوسيولوجي.
جذبت مسائل العمل والهجرة والزنوج والسياسيون أهتمامه. ظل مُهتماً بهذه المسائل عندما عاد الى ألمانيا مُقتنعاً بأن آلة السياسية الاحترافية ضرورية للديمقراطية الجماهيرية اذا كان لا بد من انشاء قوة تعويضية لطبقة البيروقراطية المُكونة من موظفي الخدمة المدنية(1). أصبح، في عام 1904 مُحرراً (جنباً الى جنب مع فيرنر سومبارت Werner Sombart) لمجلة العلم الاجتماعي والسياسية الاجتماعية السوسيولوجية Archiv für Sozialwissenschaft und Sozialpolitik، والتي ظهرت فيها أهم أعماله، بما في ذلك عام 1905 الدراسة المشهورة عالمياً باسم (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية). كانت هذه الدراسة بدايةً لسلسلة من المنشورات حول سوسيولوجيا الدين الذي ظل مشغولاً به حتى مماته. لقد اعتبر أعماله في السوسيولوجيا بمثابة جدال ضد الماركسية. لم يكن من قبيل المُصادفة أنه عَنوَن محاضرات سوسيولوجيا الدين التي ألقاها في جامعة فيينا عام 1918 بـ"نقد ايجابي للمفهوم المادي للتاريخ". لكنه فسّر الفهم المادي للتاريخ بطريقة مُبتذلة وُمبسطة، مُطابقاً اياه مع المادية الاقتصادية. في الوقت نفسه، تأمل فيبر في مسائل المنطق ومنهجية العلوم الاجتماعية. ظهرت سلسلة من الأوراق حول هذه المسائل بين عامي 1903-1905.
كان نطاق اهتمامامات فيبر في تلك الفترة واسعاً بشكل غير مألوف: فقد انشغل بالتاريخ الاقتصادي والقانوني والديني وحتى الفني القديم والوسيط والحديث، ودرَس تاريخ الطبيعة ومُستقبل ومصير الرأسمالية الحديثة، ومسألة التحضر الرأسمالي، وفي هذا الصدد، درس تاريخ المدينة القديمة والوسطى، وبحث في الطبيعة المُحددة للعلوم التي عاصرها بفروقاتها عن الأشكال التاريخية الأُخرى للمعرفة، وأبدى اهتماماً كبيراً بالوضع السياسي، ليس فقط في ألمانيا بل وأيضاً خارجها، بما في ذلك أمريكا وروسيا.
عَمِلَ فيبر منذ عام 1919 في جامعة ميونيخ. نشر بين عامي 1916-1919 أحد أعماله الرئيسية (الأخلاقيات الاقتصادية لأديان العالم)، والتي ظل يعمل عليها حتى آخر أيام حياته. من بين أعماله الهامة الأُخرى دراستيه (السياسية بوصفه حِرفة) 1919 و(العلم بوصفه حِرفة). لقد عكست هذه الدراسات مزاجه الذهني بعد الحرب العالمية الأولى، واستياءه من سياسة ألمانيا في فترة فايمار، ونظرته القاتمة للغاية لممُستقبل الحضارة الصناعية الرأسمالية.
مات فيبر عام 1920 دون أن يُنجز كل ما أراد أن يُنجزه. تم نشر عَمَله (الاقتصاد والمُجتمع) 1921، والذي لخّصَ دراساته السوسيولوجية وضم مجموعةً من المقالات حول منهجية ومنطق الدراسات الثقافية-التاريخية والسوسيولجية، وسوسيولوجيا الدين، والسياسية وسوسيولوجيا الموسيقى، بعد موته.

2- المسالة المنهجية لعلوم الثقافة
ارتبطت المبادئ المنهجية لسوسيولوجيا فيبر ارتباطاً وثيقاً بالوضع النظري للعلوم الاجتماعية غير الماركسية في نهاية القرن التاسع عشر. من المُهم بشكلٍ خاص فهم موقفه من أفكار فيلهلم ديلتاي(أ) والكانطية الجديدة، بشكلٍ صحيح.
كانت مسألة الأهمية العامة لعلوم الثقافة مركزيةً في أعمال فيبر. كان مُتفقاً في احدى النقاط مع ديلتاي: لقد شارك الأخير في مُعاداة الطبيعانية وكان مُقتنعاً انه من المُستحيل، عند دراسة النشاط الانساني، الانطلاق من نفس المبادئ المنهجية التي استخدمها الفلكيون في دراستهم حركة الأجرام السماوية. مثل ديلتاي، اعتبر انه لا يمكن للمؤرخ ولا السوسيولوجي ولا الاقتصادي أن يتجاهلوا حقيقة أن الانسان كائنٌ واعٍ. لكن فيبر، رفض بحزم، أن يسترشد، في دراسة الحياة الاجتماعية، بمنهجية التجربة المُباشرة والحدس، لان نتيجة مثل هذا النمط من الدراسة تفتقر الى الأهمية العامة. ووفقاً له، فان الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه ديلتاي وأتباعه هو النزعة السيكولوجية. اقترح فيبر، بدلاً من دراسة الأصل النفسي لأفكار مُعينة للمؤرخ من زاوية أن هذه لأفكار ظهرت بطريقة ما في ذهنه، وكيف توصل بشكلٍ ذاتي الى فهم الارتباط بينها، بكلماتٍ أُخرى، بدلاً من البحث في عالم خبرات المؤرخ، يجب دراسة منطق تَشَكّل المفاهيم التي اعتمد عليها المؤرخ، لان التعبير فقط في شكل مفاهيم مُهمة بشكلٍ عام لما "تم الحصول عليه بشكلٍ حَدسي" يحوّل العالم الذاتي لأفكار المؤرخ الى عالم العلوم التاريخية الموضوعي.
التزم فيبر، في دراساته المنهجية، بشكلٍ أساسي بالمُتَغَيّر الكانطي الجديد حول التأكيد التاريخي المُعادي للطبيعانية. مُتتبعاً خُطى هنريك ريكرت، ميّز فيبر بين فعلين: التوجه القِيَمي، والتقييم. في حين يقوم الأول بتحويل انطباعنا الفردي الى حُكُم موضوتي ومُهم بشكلٍ عام، لا يتجاوز الثاني الذاتية. يُعلن، أن علم الثقافة والمُجتمع والتاريخ يجب أن يكون خالياً من الأحكام القِيَمية مثل العلوم الطبيعية.
هذا المُتطلّب، لا يعني أن على الباحث أن يرفض بشكلٍ عام تقييماته وأذواقه، يجب عليها ببساطة أن لا تقتحم جدود أحكامه العلمية. يُمكن له، ولديه الحق، فيما وراء هذه الحدود، أن يُعبّر عن اراءه كما يراه مناسباً بوصفه شخصاً خاصاً، وليس عالماً.
ومع ذلك، قام فيبر بتعديل مُقدّمات ريكرت بشكلٍ جوهري. على عكس هذا الأخير، الذي الذي عالج القِيَم وتسلسلها كشيء فوق تاريخي، كان فيبر يميل الى مُعالجتها على أنها توجه لفترة تاريخية مُعينة، باعتبارها اتجاه مصلحي متأصل في عصر مُعين. وهكذا، تم نقل القِيَم من خارج التاريخ الى داخله، وتم تقريب عقيدة القِيَم الكانطية الجديدة من الوضعية. كان تعبير "اتجاه القيمة" يعني التفسير الفلسفي لـ"المصالح" العلمية المُحددة التي تُوجه اختيار وتحديد موضوع البحث التجريبي(2).
كانت مصلحة العصر، شيئاً أكثر استقراراً وموضوعيةً من مُجرد المصلحة الخاصة للباحث، ولكنها في الوقت نفسه، كانت شيئاً أكثر ذاتية من المصلحة ما فوق التاريخية التي أطلق عليها الكانطيون الجُدد "القِيَم". بالنسبة لريكرت، كانت القيمة مُتجذرة في الواقع فوق التاريخي، في الذات المُتعالية.
بتحويلها الى "مصلحة العصر"، أي الى شيءٍ نسبي، أعطى فيبر معنىً جديداً لمذهب ريكرت.
نظراً لان القِيَم، وفقاً لفيبر، هي مُجرّد تعبير عن التشكيل العام لعصرها، فان لكل عصر "مُطلقاته" الخاصة به. وهكذا ثَبُتَ أن المُطلَق تاريخي، ونسبي.

3- النموذج المثالي Ideal Type كبناء منطقي
كان فيبر من أعظم المؤرخين والسوسيولوجيين الذين حاولوا بوعي أن يُطبّقوا المفاهيم الأداتية الكانطية الجديدة في ممارسة البحث التجريبي.
ان مذهب مفاهيم ريكرت كوسائل للتغلب على التنوع المُكثّف والشامل للواقع التجريبي قد انعكس بطريقة أصيلة عند فيبر في مقولة "النموذج المثالي". بشكلٍ عام، كان النموذج المثالي هو "مصلحة العصر" مُعبّراً عنه في شكل بناء نظري. وهكذا، لم يُشتق النموذج المثالي من الواقع التجريبي, بل تم بناؤه كمخطط نظري، وبهذا المعنى أطلق عليه فيبر اسم "اليوتوبيا".
كلما تم بناء النموذج المثالي بشكل أكثر حدةً ودقة، كلما كان أكثر تجريديةً ولا واقعياً ، ويكون، بهذا المعنى، "تزداد قُدرتها على القيام بعملها سواءاً الاصطلاحي أو التصنيفي وكذلك البحثي أيضاً"(3). وبالتالي، فان نموذج فيبر المثالي قريب من النموذج المثالي المُستخدم في العلوم الطبيعية. لقد فَهِمَ فيبر نفسه ذلك جيداً. يقول أنه لا يُمكننا أن نجد في الواقع البُنى الذهنية التي تُسمى النماذج المثالية، الا بقدرٍ قليل، كما بالضبط لا يُمكن حسبان التفاعلات الفيزيائية الا بافتراض فراغ مكاني مُطلق(4). لقد أطلق على هذا النموذج المثالي، نتاجاً لخيالنا، تشكيل ذهني خلقناه نحن، وبالتالي أكد على أصله ما فوق التجريبي. مثلما يقوم عالم الطبيعة ببناء نموذج مثالي كأداة ووسيلة لمعرفة الطبيعة، يتم كذلك انشاء نموذج مثالي كأداة لفهم الواقع التاريخي. واعتبر أن انشاء نموذج مثالي يجب أن يُعامل ليس كهدف بل كوسيلة(5). وبسبب انفصاله عن الواقع التجريبي واختلافه عنه، يُمكن للنموذج المثالي أن يكون بمثابة مقياس لمقارنة الواقع به.
بالنسبة لفيبر، فان مفاهيماً مثل "التبادل الاقتصادي" و"الانسان الاقتصادي" Homo oeconomicus و"الحِرفة" و"الرأسمالية" و"الطائفة الكُنسية" و"المسيحية" و"الاقتصاد المديني القروسطي" بناءات نموذجية مثالية يجب توظيفها لوصف التشكيلات التاريخية الفردية. اعتبر ان التفسير "الواقعي" Realistic-(بالمعنى القروسطي لهذه الكلمة)- للنماذج الالمثالية هو أحد الأخطاء الأكثر شيوعاً، أي مُطابقة هذه البناءات الذهنية مع الواقع الثقافي والتاريخي نفسه. ولكن تنشأ هنا صعوبات تواجهه مُرتبطةً بمسألة كيفية بناء النموذج المثالي. فيما يتعلق بمحتواها فان لهذه الانشاءات طابع يوتوبي ناشيء عن التركيز الذهني لعناصر مُعينة من الواقع فيها(6). هُنا نكتشف التناقضات في مُعالجة النموذج المثالي. من ناحية، شدد فيبر، في الحقيقة، على أن النماذج المثالية هي "يوتوبيا" أو "فانتازيا"، ومن ناحية أُخرى، يتضح أنها مُستمدة من الواقع نفسه، وان كان ذلك بطريقة "تُغيرها" Deform، اي من خلال ابراز وفرز العناصر التي تبدو نموذجيةً للباحث.
اذاً، ما هو النموذج المثالي: هل هو بُنية قَبلية أم تعميم تجريبي؟ ان فرز عناصر مُعينة من الواقع لتشكيل مفهوم، مثل "اقتصاد نقابة الحِرف المدينية" يفترض على ما يبدو فرز شيء ما من الظواهر الفردية، ان لم يكن مُشتركاُ بينها جميعاً، فانه يجب على الأقل أن يكون نموذجياً لكثيرٍ منها. وقف هذا الاجراء في مقابل تشكيل المفاهيم الفردية التاريخية كما تخيلها ريكرت، بل كانت تُشبه تشكيل المفاهيم المُعممة. من أجل حل التناقض، رسم فيبر خطاً بين النماذج المثالية التاريخية، والسوسيولوجية.
لاحظ ريكرت مُسبقاً أن السوسيولوجيا كعلم، على عكس التاريخ، يجب أن يُصَنّف ضمن العلوم التعميمية Nomothetic التي تُوظف منهجيةً تعميمية. تُوَظّف المفاهيم العامة فيها ليس كهدف للمعرفة، بل كوسيلة. ان نمط تشكيل المفاهيم السوسيولوجية، حسب قوله، لا يختلف منطقياً عن الطريقة التي تتشكل بها مفاهيم العلوم الطبيعية. ان خصوصية مفهوم فيبر عن النموذج المثالي، وسلسلة الصعوبات الكاملة المُرتبطة به، ترجع الى كونها بالنسبة له مبدأ كلاً من المعرفة السوسيولوجية والتاريخية. كما لاحظ أ. والتر في مقاله (ماكس فيبر كسوسيولوجي) Max Weber als Soziologe، تتشابك الميول التفريدية والتعميمية غند فيبر دائماً، نظراً لان التاريخ والسوسيولوجيا عنده لا ينفصمان عن بعضهما(7).
عندما تقدّم فيبر لأول مرة بمفهوم النموذج المثالي في أعماله المنهجية عام 1904، اعتبره بشكل أساسي كوسيلة للمعرفة التاريخية، كنموذج مثالي تاريخي. لهذا السبب شدّد على انه مُجرد وسيلة للمعرفة وليس غايةً بحد ذاته.
اختلف فيبر عن ريكرت في فهمه لوظيفة التاريخ. لم يحصر نفسه "بما كان موجهاً في الحقيقة الى مدرسة ليوبولد رانك Leopold Ranke التاريخية"، كما أوصى ريكرت، ولكنه كان بدلاً من ذلك يميل الى اخضاع الفردي التاريخي الى التحليل السببي. وبذلك، كان يُدخِل بالفعل عُنصر التعميم في البحث التاريخي، مما أدى الى تقليص الفجوة بين التاريخ والسوسيولوجيا. كتب فيبر، عند تحديده دور النموذج المثالي في التاريخ والسوسيولوجيا بأن هذه الأخيرة أنشأت مفاهيماً للنماذج وبحثت عن القواعد العامة للأحداث، على عكس التاريخ، الذي ألهم التحليل السببي لما للأفعال الثقافية ىالفردية والشخصيات.
ان مهمة التاريخ، حسب فيبر، هي اقامة صلة سببية بين التشكيلات التاريخية الفردية. يخدم النموذج المثالي كوسيلة للكشف عن الصلة النشوئية للظواهر التاريخية، لذلك أطلق أطلق عليه النموذج المثالي النشوئي(8).
ما هو النموذج المثالي السوسيولوجي؟ اذا كان على التاريخ، وفقاً لفيبر، أن يسعى للقيام بتحليل سببي للظواهر الفردية، أي الظواهر المتموضعة في الزمان والمكان، فان مهمة السوسيولوجيا هي انشاء القواعد العامة للأحداث بغض النظر عن تحدديتها الزمانية-المكانية. بهذا المعنى، يجب أن تكون النماذج المثالية، كأدوات للبحث السوسيولوجي، أكثر عموميةً، ويُمكن تسميتها "النماذج المثالية النقية" على عكس النماذج المثالية النشوئية. وهكذا يبنى السوسيولوجي نماذج مثالية نقية للهمينة (الكاريزما، العقلانية، البطرياركية) التي يمكن ايجادها في كافة العصور التاريخية في أي مكانٍ في العالم. كلما كانت هذه النماذج أكثر نقاءاً، أي كلما كانت أبعد عن الواقع والظاهرة الموجودة امبريقياً، كلما كانت أكثر ملائمةً للبحث.
شابه فيبر "النماذج النقية" للسوسيولوجيا ببُنيات المثالية النموذجية للاقتصاد السياسي بمعنى: 1- في كلٍ من العلمين هناك تنظيم للفعل الانساني كما لو كان قد حدث في ظروف مثالية، و2- يتعامل كلا المجالين مع هذا الشكل المثالي لسياق الفعل بشكلٍ مُستقلٍ عن ظروف المكان والزمان. افتُرِضَ أن الفعل سيحدث بنفس الطريقة في أي عصر وفي أي دولة، اذا تم استيفاء الشروط المثالية. يتم تحديد اختلاف الظروف وتأثيرها على مسار الأحداث، وفقاً لفيبر، من خلال انحرافها عن النموذج المثالي، الذي نُصادفه دائماً، ولكن فقط بناء النموذج المثالي يجعل لنا من الممكن أن نُلاحظ هذا الانحراف ونُعبّر عنه بمفاهيم عامة.
كما يُلاحظ أحد طلاب فيبر، تختلف النماذج المثالية النشوئية عن النماذج النقية فقط بدرجة عموميتها. يتم توظيف النماذج النشوئية بشكل ضيق في المكان والزمان، ولكن لا يتم موضعة تطبيق النموذج المثالي النقي. ان النموذج النشوئي هو وسيلة لابراز الرابط الذي حدث ذات مرة، ولكن النموذج النقي هو وسيلة لابراز الرابط الذي يحدث دائماً. يصيرالفارق النوعي الذي يضعه ريكرت بين التاريخ والسوسيولوجيا، فارقاً كمياً بينهما، عند فيبر.
أما فيما يتعلّق بتَشَكّل المفاهيم التاريخية، فان فيبر انفصل عن ريكرت في ابرازه جانب التعميم. في السوسيولوجيا، على العكس، يُخفف فيبر من حدة مبدأ ريكرت في الفصل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية باستحضار عُنصر التفريد Individualisation. تم التعبير عن هذا المفهوم في رفض فيبر البحث عن قوانين الحياة الاجتماعية، وقصر نفسه على المهمة الأكثر تواضعاً والتي تتمثل في وضع قواعد الأحداث الاجتماعية.
ياختصار، يمكننا أن نقول، أن التناقضات التي نشأت فيما يتعلق بتشكيل فيبر لمفاهيم النموذج المثالي كانت مُرتبطة الى حدٍ كبير بالوظائف والأصول Origins المُختلفة للنماذج المثالية في التاريخ والسوسيولوجيا. في حين أنه يمكن القول فيما يتعلق بالنموذح المثالي التاريخي أنه كان وسيلةً للمعرفة ولكن ليس هدفها، فان الأمر لم يكن كذلك فيما يتعلق بالنموذج المثالي السوسيولوجي. بالاضافة الى ذلك، في حين أن النموذج المثالي تقدّمَ بعنصر (العام) في التاريخ، فقد أدى، في السوسيولوجيا، وظيفة استبدال العلاقات المحكومة بقانون بعلاقات نمطية Typical. وهكذا، قام فيبر الى حدٍ كبير، بوسائل النموذج المثالي، بتقليص الفجوة بين التاريخ والسوسيولوجيا التي وسعتها في الأصل نظرية مدرسة بادن. في هذا الصدد، كان السوسيولوجي الألماني هانز فرايرHans Freyer مُحقاً عندما لاحظ أن النموذج المثالي جعل التعارض بين أنماط التفكير التعميمية والتفريدية أقل وضوحاً، لانه، من ناحية أبرز ما هو مُميز في الفردي، ومن ناحية أُخرى، أبرز النمطي-(وليس الصلاحية العامة للقانون)- من خلال التعميم(9).

4- مسألة الفهم، ومقولة "الفعل الاجتماعي".
من أجل اظهار كيفية تطبيق فيبر للنموذج المثالي، يجب علينا تحليله من زاوية محتواه، ولهذا من الضروري التعريف بمقولة أُخرى من سوسيولوجيته، وهي (الفهم) Understanding. على الرغم من أنه مُفارقاً، فقد اضطر فيبر الى توظيف مقولة في أبحاثه سبق له أنه اعترض عليها عند ديلتاي وكروتشه وعدد آخر من الحدسيين، على الرغم من أن لدى "الفهم" عنده معنىً يختلف عنه عند الحدسية.
حسب فيبر، فان الحاجة الى فهم موضوع دراستها، يُميّز السوسيولوجيا عن العلوم الطبيعية. يقول أن السلوك الانساني، مثل كل الأحداث، يُظهِر روابطاً وانتظاماً في مساره. لكن ما يميز السلوك الانساني وحده هو الروابط والأنماط التي يُمكن تفسيرها بشكلٍ "مفهوم" (من الفهم)(10). تفترض حقيقة أن السلوك الانساني خاضع يتضمن ذكاءاً، تفترض وجود اختلاف مُحدد بين علم السلوك (السوسيولوجيا) والعلوم الطبيعية. هنا في هذه النقطة، رأى ديلتاي الفرق بين علوم الروح وعلوم الطبيعة. ومع ذلك، سارع فيبر الى النأي بنفسه عن ديلتاي. لم يقم بمُعارضة "الفهم" بـ"التفسير" السببي، ولكن على العكس، ربطهما معاً بشكلٍ وثيق. يكتب، "السوسيولوجيا، (حسب المعنى المفهوم هنا لتلك الكلمة التي تُستخدم بمعانٍ مُتعددة)، هو علم يهدف الى فهم الفعل الاجتماعي بطريقة شارحة (تفسيرية-المُترجم) ويُفسر أسبابه في تتابعه وتأثيراته"(11). ان الفرق بين مقولته في "الفهم" ومقولة ديلتاي هو أن "فهم" فيبر يسبق التفسير، في حين يُعارضهما ديلتاي، ولكن هذا الفهم، وفقاً لفيبر، ليس مقولةً سيكولوجية كما افترض ديلتاي، وتبعاً لهذا، ليست السوسيولوجيا التفسيرية جزءاً من السيكولوجيا(12).
دعونا نفحص منطق فيبر. يجب على السوسيولوجيا، وفقاً له، مثل التاريخ، أن تتخذ من سلوك الفرد أو الجماعة نقطة انطلاقٍ لها. ان الفرد المُنفصل وسلوكه، هما "خلية" السوسيولوجيا والتاريخ، انهما أبسط وحدة (ذرّة)، والتي لا يمكنها في حد ذاتها أن تنقسم أو تنحل(13). ومع ذلك، تدرس السيكولوجيا سلوك الفرد ايضاً. اذاً ما هو الفرق بين المُقاربتين السيكولوجية والسوسيولوجية؟
يقول فيبر، السوسيولوجيا تُعالج سلوك الفرد فقط بقدر ما يقوم هذا الأخير بأفعاله من أجل شيءٍ مُعين أو معنىً ما. فقط مثل هذا اللسوك هو ما يُصير اهتمام السوسيولوجي. اما عالم السيكولوجيا فان هذا العامل ليس مُهماً بالنسبة له. يُقدّم فيبر المفهوم السوسيولوجي حول (الفعل) من خلال مفهوم (المعنى). يكتب، "(الفعل، هو هنا سلوك انساني (سواءاً كان فعلاً خارجياً أو داخلياً، تخلياً أو قبولاً، كلما وبالقدر الذي يربط القائم بالفعل أو القائمون به معنىً ذاتياً(14). من المُهم مُلاحظة أنه كان يقصد، المعنى الذي يستثمر فيه الفرد سلوكه، لقد شدّد مراراً على أن الأمر ليس "معنىً ميتافيزيقياً" منظوراً اليه كـ"معنىً مُتعالٍ" (لان السوسيولوجيا بالنسبة له لا تتعامل مع الوقائع الميتافيزيقية وليست علماً معيارياً)، ولا هو "معنىً موضوعياً" بمعنى أن أفعال الفرد يُمكن أن تحصل بشكلٍ مُستقل عن نواياه. من خلال هذا، لم يُنكر فيبر، بالطبع، امكانية وجود علوم معيارية ولم يُنكر امكانية التفريق بين "المعنى" الذاتي الداخل في أفعال الفرد، ومعناه الموضوعي المُحدّد. في هذا "المعنى الثاني"، فضّل عدم استخدام "المعنى"، لانه يفترض ذاتاً وُجِدَ لها. لقد ادعى فقط أن موضوع البحث السوسيولوجي هو الفعل المُرتبط بـ"معنىً" متضمن ذاتياً. ان على السوسيولوجيا أن تكون "فهماً" او "تفسيرية" بقدر ما يكون فعل الفرد ذكياً. ولكن هذا "الفهم" ليس سيكولوجياً لان "المعنى" هو شيء لا ينتمي الى مجال السيكولوجيا وهو ليس موضوع بحث لها.
ارتبطت احدى مقولات سوسيولوجيا فيبر المنهجية المركزية-مقولة الفعل الاجتماعي- بمبدأ "الفهم". يمكن الحكم على مدى أهمية هذه المقولة من خلال تعريفه للسوسيولوجيا بأنها العلم الذي يدرس الفعل الاجتماعي.
كيف عرّف فيبر نفسه الفعل الاجتماعي؟
يتضمن في "الفعل" كل سلوك انساني عندما وبقدر ما يربط به الفاعل معنىً ذاتياً به. قد يكون الفعل بهذا المعنى علنياً أو داخلياً ذاتي بشكلٍ صرف، "وهو هنا سلوك انساني (سواءاً كان فعلاً خارجياً أو داخلياً، تخلياً أو قبولاً) كلما وبالقدر الذي يربط القائم بالفعل أو القائمون به معنىً ذاتياً، يجب أن يكون الفعل (الاجتماعي) ذلك الفعل الذي يتبع في معناه المقصود من قِبَل فاعله أو فاعليه سلوك أفرادٍ آخرين ويتوجه في تتابعه حسب ذلك"(15). وهكذا، يفترض الفعل الاجتماعي جانبين، تبعاً لفيبر: الدافع الذاتي للفرد أو الجماعة، والذي بدونه لا يُمكن للمرء أن يتحدث بشكلٍ عام عن الفعل، والتوجه الى شخص أو أشخاص آخرين، والذي يُطلق عليه فيبر اسم "توقّع" والذي بدونه لا يُمكن اعتبار الفعل اجتماعياً.
دعونا نتناول في البداية، الجانب الأول. أصر فيبر على أن السوسيولوجيا لا يمكنها ايجاد الروابط السببية التي تجعل من الممكن في النهاية رسم صورة موضوعية للعملية الاجتماعية بدون الحديث عن دوافع الفاعل.من المُثير للاهتمام مُقارنة هذا بحُجج بارسونز المُماثلة(16).
ان مقولة الفعل الاجتماعي، التي تتطلب فهماً لدوافع الفرد، هي النقطة الحاسمة التي تختلف فيها مُقاربة فيبر السوسيولوجية عن سوسيولوجيا دوركهايم. وباستخدامه لمفهوم الفعل الاجتماعي، أعطى فيبر في الجوهر تفسيراً للحقيقة الاجتماعية موجهاً ضد ما اقترحه دوركهايم. على عكس هذا الأخير، اعتبر أنه (اذا اراد المرء أن يتعامل مع المسألة بطريقة علمية حقاً) فانه لا ينبغي مُعالجة المجتمع ككل أو أي شكل من أشكال الجماعية كذوات للفعل، لانه يمكن لها، اي هذه الأخيرة، أن تكون فقط أفراداً منفصلين. ومن أجل أغراضٍ معرفيةٍ أُخرى، على سبيل المثال، البحث القانوني أو أهداف عملية، قد يكون من المُلائم أو حتى من المُستحيل بدون ذلك مُعالجة مسألة الجماعيات الاجتماعية، مثل الدول والشركات والمؤسسات كأشخاص أفراد. وبالتالي يمكن التعامل معها على أنها مواضيع للحقوق والواجبات أو كمؤدين لأفعال مُهمة قانونياً. ولكن بالنسبة للتفسير الذاتي للفعل في الأعمال السوسيولوجية فان "هذه الكيانات (الجماعيات-المُترجم) ما هي الا مسارات وسياقات معنى لفعلٍ خاص يقوم به أشختصٌ فرادى، لانهم هم وحدهم من يُعتَبرون بالنسبة لنا قائمين بأفعال يوجهها معنى"(17). وفقاً لفيبر، يمكن للسوسيولوجيا أن تتعامل مع الجماعيات كنتاج للأفراد التي يؤلفونها، انها ليست كيانات مستقلة، كما هي عند دوركهايم، بل هي أنماط تنظيم أفعال الأشخاص الفرادى.
لم يستبعد فيبر امكانية استخدام مثل هذه المفاهيم في السوسيولوجيا مثل العائلة والأمة والدولة والجيش، والتي لا تستطيع السوسيولوجيا الرسمية أن تستكمل مسيرتها بدونها. لكنه طالب بأن لا ينسى المرء أن هذه الأشكال من الجماعية ليست في الحقيقة ذوات للفعل الاجتماعي، وأن المرء لا يستطيع بالتالي أن ينسب اليها الارادة والفكر، ولا يمكنه أن يلجأ الى مفاهيم الارادة الجماعية أو الفكر الجمعي، الا بالمعنى المجازي(18). يجب على المرء أن يُلاحظ انه كان من الصعب بالنسبة الى فيبر، أن يكون مُتسقاً في منهجيته الفردانية، لان عدداً من التعقيدات قد نشأت عندما حاوَلَ تطبيق مقولة الفعل الاجتماعي، خاصةً عند تحليل المجتمع التقليدي. ولذلك كان فهم "المعنى المتضمن ذاتياً" عنصراً ضرورياً في البحث السوسيولوجي. ومع ذلك، ما هو "الفهم"، عندما لم يكن فيبر يطابقه مع تفسيره السيكولوجي؟
وفقاً له، فان الفهم السيكولوجي للحالات الذهنية للآخرين هو مجرد وسيلة ثانوية، وليست الرئيسية للمؤرخ والسوسيولوجي. يُمكنهما فقط أن يلجآ اليها عندما يتعذر فهم معنى الفعل.
يُمكن لهذا الشكل من السيكولوجيا التي توظف منهج الفهم الذاتي "أن تُقدم خدمات غاية في الأهمية في التفسير السوسيولوجي للجوانب غير العقلانية من الفعل، ولكن هذا لا يُغير شيئاً في الأساس المنهجي(19). ما هو هذا الأساس المنهجي؟ ان الفعل الموجه ذاتياً بشكلٍ عقلاني تماماً وفقاً للوسائل المُعتبر أنها (ذاتية) وكافية بشكلٍ لا لُبس فيه لتحقيق غايات (ذاتية) لا لُبس فيها، هو الفعل الأكثر قابليةً للفهم بشكلٍ مُباشر من حيث بُنية معناه(20). دعونا نُحلل هذا التعريف. يجب على السوسيولوجيا أن تكون موجهة نحو فعل الفرد أو المجموعة. ان الفعل الذكي هو الأكثر "قابليةً للفهم"، أي الفعل 1- الموجه نحو تحقيق أهداف يُدركها الفاعل نفسه و2- الذي يوظف الوسائل لتحقيق تلك الغايات التي يُدركها الفاعل نفسه على أنها مُناسبة. لذلك يصير الادراك ضرورياً بالنسبة للفعل المدروس لكي يكون واقعاً اجتماعياً. دعا فيبر هذا النوع من الفعل هادفاً، أو موجهاً عقلانياً نحو الهدف. لم تكن هناك حاجة (حسب قوله)، للجوء الى السيكولوجيا من أجل فهمه. يقول، كلما يكون السلوك موجهاً عقلانياً بشكلٍ شرعي Richtigkeitsrationalität(21)، كلما قلت الضرورة لتفسير مساقه باعتباراتٍ سيكولوجيةٍ من نوعٍ ما(22). ان الفعل الذكي العقلاني الموجه نحو الهدف هو ليس موضوعاً للسيكولوجيا، على وجه التحديد لان الهدف الذي نصبه الفرد لنفسه لا يُمكن أن يُفهم ببساطة انطلاقاً من تحليل حياة الفرد الذهنية. يأخذنا فحص هذا الهدف بعيداً عن حدود النزعة السيكولوجية. ان نفسية الفرد تتوسط الرابط بين الأهداف والوسائل التي يختارها الفرد، ولكن، تبعاً لفيبر، كلما كان الفعل أكثر توجهاً نحو الهدف، كلما كان المُعامل السيكولوجي أقل انحرافاً، وكلما كان الرابط بين الهدف والسيلة أكثر "نقاءاً" وعقلانيةً. هذا لا يعني، بالطبع، انه اعتبر الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف كنوع عالمي من الفعل، على العكس، انه ليس فقط لم يعتبره عالمياً وحسب، بل ولم يعتبره سابقٌ على الواقع التجريبي ايضاً. انه نموذج مثالي، وليس تجريبي عام، ناهيك عن كونه عالمياً. لم يكن من المُمكن أن يجده المرء في أشكال صرفة في الواقع كنموذجٍ مثالي. ان الفعل العقلاني الموجه نجو الهدف هو أهم نوع من الأفعال الاجتماعية، وهو بمثابة النموذج الذي تمت مقارنته بجميع أشكال الفعل الاجتماعي الأُخرى. لقد أدرجها فيبر بالترتيب التالي: الفعل 1- الذي يقترب الى هذا الحد أو ذاك من النموذج الصحيح Richtigkeitstypus. 2- (الذاتي) الموجه عقلانياً، أي النوع العقلاني. 3- الأكثر أو الأقل وعياً أو ظاهرياً، والفعل العقلاني الموجه نحو الهدف المُحدد جيداً الى هذا الحد أو ذاك. 4- الذي لم يكن موجهاً عقلانياً نحو الهدف، ولكنه مفهوم في سياق مُماثل. 5- المُتحرك بدافع مُتشابهٍ الى هذا الحد أو ذاك بمعناه ولكن الذي شوهته العناصر غير المفهومة بهذا القدر أو ذاك. 6- الذي ترتبط به عناصر غير ذكية بالمرة أو فسيولوجية من خلال انتقالات غير محسوسة imperceptible transitions(23). تم بناء هذا المقياس، بشكلٍ واضح، على أساس مبدأ المشابهة بين اي فعل للفرد، بالفعل الموجه عقلانياً نحو الهدف (او الموجه بشكلٍ شرعي). ان الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف هو الأكثر قابليةً لـ"الفهم"- ان درجة وضوحه كبيرة للغاية. عندما يصير الفعل أكثر بُعداً عن العقلانية وأقل فهماً، يُصبح وضوحه المباشر أقل فأقل. وعلى الرغم من أنه لا يمكن تثبيت الخط الفاصل بين نوعي الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، عن الفعل اللاعقلاني بشكلٍ صارمٍ في الحياة الواقعية، وعلى الرغم من أن جزءاً كبيراً جداً من السلوكيات ذات الصلة بالسوسيولوجيا، وخاصةً السلوك التقليدي الصرف تقع "على حدود كلا النوعين"(24)، فان على السوسيولوجي أن ينطلق من الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف كنموذج مثالي، مُعالجاً أنواع السلوك الانساني الأُخرى كانحرافات عن النموذج المثالي. وهنا يدخل "الفهم". الشكل النقي، تبعاً لفيبر هو حيث نواجه فعلاً عقلانياً موجهاً نحو الهدف. هو نفسه اعتبر أنه من المستحيل، في هذه الحالة، التحدث عن الفهم السيكولوجي، لان معنى الفعل وهدفه يقعان خارج نطاق السيكولوجيا. ولكن دعونا نسأل سؤالاً مختلفاً. ما الذي نفهمه بالضبط في حالة الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف؟ هل نفهم (معنى الفعل أم الفاعل نفسه)؟ فلنفترض أننا نرى شخصاً يقطع الخشب في الغابة. يمكننا أن نستنتج أنه يفعل ذلك اما مقابل الأجر أو من أجل توفير الوقود لنفسه لفصل الشتاء، وما الى ذلك. بالمجادلة بهذه الطريقة نحاول أن نفهم معنى الفعل وليس معنى الشخص. لكن العملية نفسها، أي الفعل نفسه، يمكنه أن يخدمنا كوسيلة لتحليل الشخص نفسه. الصعوبة التي تنشأ هنا جوهرية للغاية. اذا كانت السوسيولوجيا تسعى لفهم الشخص الذي يفعل، فسيظهر اي فعل بالنسبة لها كاشارة او علامة على شيءٍ ما، في الواقع، سيختلف هذا الشيء عندما لا يعرفه الفرد نفسه أو يحاول أن يخفيه (عن الآخرين او حتى عن نفسه) هذا هو منهج فهم فعل الفرد، بالنسبة الى التحليل النفسي الفرويدي، على سبيل المثال.
لم يستبعد فيبر امكانية اتباع مثل هذا النهج من حيث المبدأ. يتألف الجزء الأساسي الكامل من سيكولوجيا الفهم، وفقاً له، فقط من محاولات ابراز الروابط التي لم تتم ملاحظتها أو التي يصعب ملاحظتها (وبهذا المعنى فهي غير عقلانية)، والتي يتضح أنها في الواقع ارتباطات عقلانية موضوعية بهدفها النهائي. وبغض النظر عن هذا الجزء من أعمال ما يُسمى "التحليل النفسي"، أدى بناء مثل نظرية الاستياء theory of resentment عند نيتشه، على سبيل المثال، الى عقلانية موضوعية للسلوك الخارجي، انطلاقاً من مصالح معينة. وبالمناسبة، قامت المادية الاقتصادية قبل ذلك بعقود ببناء نظرية منهجية مشابهة(25). من الواضح أن فيبر لم يستبعد مثل هذا النهج لمُعالجة الظواهر الاجتماعية ولكنه اعتبر أنه من الضروري الاشارة الى طبيعته الاشكالية وبالتالي الحاجة الى تقييده واستخدامه كويسلة ثانوية. لقد رأى طبيعته الاشكالية في أن الفعل الموجه نحو الهدف، والعقلاني الموجه بشكلٍ شرعي، لم يكونا مُرتبطين معاً بوضوح بشكلٍ ذاتي.
كان فيبر يضع في اعتباره التعقيدات الخطيرة التالية الناتجة عن المقاربة النفسية. عندما يكون الفرد نفسه مُدركاً للهدف بشكلٍ واضح ويحاول فقط اخفاؤه عن الآخرين، يكون هذا أمراً مفهوماً بسهولة. مثل هذا الموقف يمكن يتناسب تماماً مع مُخطط السلوك العقلاني الموجه نحو الهدف. ولكن عندما يتعلق الأمر بفعلٍ لا يُدرك فيه الفرد أهدافه الخاصة (وهذه هي الأفعال التي يبحث فيها التحليل النفسي)، فان السؤال الذي يطرح نفسه هو ما اذا كان لدى الباحث أسباباً كافية للادعاء بأنه يفهم الشخص الفاعل أكثر مما يفهم الفرد المعني، نفسه. في الحقيقة، لا ينبغي للمرء، بعد كل شيء، أن ينسى أن منهجية التحليل النفسي نشأت من مُمارسة علاج المرضى عقلياً، الذين اعتبر الطبيب، أنه يفهمهم أكثر مما يفهمون أنفسهم. لقد كان شخصاً "سليماً" وكانوا مرضى. ولكن على أي أساس يمكنه تطبيق هذه المنهجية على الأشخاص "الأصحاء" الآخرين؟ لا يمكن أن يكون هناك الا أساس واحد، وهو الاقتناع بأنهم هم ايضاً "مرضى". ولكن تم نقل مفهوم "المرض" Illness هنا، من مجال الطب، الى المجال الاجتماعي العام، كمعالجة للمجتمع ككل.
من الواضح، أن مثل هذه الاعتبارات هي التي أجبرت فيبر على تقييد مجال تطبيق مثل هذا النوع من المناهج في البحث السوسيولوجي والتاريخي. لكن بعد كل شيء، كيف أجاب هو نفسه على مسألة الفهم؟ ما الذي نفهمه بالتحديد في حالة الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف؟ هل نفهم بذلك معناه؟ ام الشخص الفاعل نفسه؟ لذلك اختار فيبر فعلاً عقلانياً موجهاً نحو الهدف يتطابق فيه هذان العُنصران، كنموذجٍ مثالي. من أجل فهم معنى الفعل، يعني في هذه الحالة فهم المعنى الذي يريده الشخص، وحينما نريد أن نفهم الشخص، فان هذا يعني، فهم معنى فعله. اعتبر فيبر هذا التطابق، الحالة المثالية التي يجب على السوسيولوجيا أن تنطلق منها. في الحقيقة، لم يتطابق هذين العنصرين في العادة، لكن العلم، حسب فيبر، لا يستطيع أن ينطلق من الحقيقة التجريبية، وعليه أن يخلق مكاناً مؤمثلاً Idealised، وهذا المكان، بالنسبة للسوسيولوجيا هو الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف.

5- الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، كمقولة منهجية في سوسيولوجيا فيبر
بما أن فيبر، اعتبر الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف نموذجاً مثالياً، فقد أعلن بحق بأن الطابع "العقلاني" لمنهجيته لم يفترض مُسبقاً مُعالجةً عقلانيةً للواقع الاجتماعي نفسه. كانت العقلانية الموجهة نحو الهدف مجرد مبدأ منهجي للسوسيولوجيا، حسب رأيه، وليست مبدأً انطولولجياً. لقد كانت وسيلةً لتحليل الواقع، ولكنها لم تكن سمةً من سمات هذا الواقع نفسه. لقد شدد بشكلٍ خاص على هذا العنصر.
على الرغم من أنه حَرِصَ على التفريق بين الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف كبناء نظري نموذجي مثالي من جهة، والواقع التجريبي من جهة اُخرى، الا ان مُشكلة العلاقة بين النموذج المثالي والواقع التجريبي كانت بعيدةً كل البعد عن البساطة التي يعتقدها فيبر، حتى فيبر نفسه لم يكن لديه اجابةً واضحةً حولها. بغض النظر عن مدى رغبته في تقسيم هذين العالمين مرةً واحدةً والى الأبد، فان حدة هذا التقسيم قد اختفت عند المحاولة الأولى لتفعيل النماذج المثالية والعمل بها. لقد سبق ورأينا، بشكلٍ عام، الصعوبات التي نشأت بالنسبة له في هذه المسألة.
ما هي المُقدمات المهمة بالنسبة للنظرية السوسيولوجية التي احتواها (الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف)؟ باختياره لهذا الأخير كأساس منهجي للسوسيولوجيا، نأى فيبر بنفسه عن النظريات السوسيولوجية التي اتخذت "الكُليات" Totalities كحقيقة أولية، أي "الشعب"، "المُجتمع"، "الدولة"، "الاقتصاد". في هذا الصدد، انتقد بشدة "السوسيولوجيا العضوية" Organic التي اعتبرت الفرد كجزء "خلية" لعضوية اجتماعية مُعينة. لقد اعترض بحزم على مُعالجة المجتمع على أساس نموذج بيولوجي. بالنسبة له، لا يجب لمفهوم العضوية، فيما يتعلق بالمُجتمع، الا أن يكون استعارةً مجازية، لا أكثر. "من المُمكن أن يكون مُفيداً أو ضرورياً لأغراض معرفية أُخرى أن ننظر الى الفرد على سبيل المثال على أنه تكوين متفاعل من (خلايا) أو تركيب مُعقد من ردود فعل حيوية كيميائية أو النظر الى حياته (النفسية) على أنها تتكون من عناصر مُفردة (متساوية ومتكافئة)، من خلال ذلك يُمكننا بلا شك التوصل الى معارف قيّمة (قواعد سببية)... وبالنسبة لعلم الاجتماع (بالمعنى المُستخدم هنا وكذلك بالنسبة للتاريخ) فان ارتباط معنى الفعل تحديداً هو موضوع البحث"(26). فَصَلت المُقاربة العضوية لدراسة المُجتمع نفسها، عن حقيقة أن الانسان يسلك سلوكاً واعيا. كانت المُشابهة بين الفرد وخلية الجسد (او العضوية) مُمكنة فقط وقائمة على شرط الاعتراف بعامل الوعي على انه غير جوهري. اعترض فيبر على ذلك، وطرح نموذجاً للفعل الاجتماعي يعترف بهذا العامل على أنه أساسي. وبما أن فيبر أعلن انه، اي هذا العامل، مُهمة ضرورية للسوسيولوجيا، فقد انطلق في أبحاثة من الفرد بدلاً من "الكُل" الاجتماعي.
يقول فيبر: "يُمكن أن نلمس الفعل، بمعنى توجيه معى للسلوك الخاص بطريقة (مفهومة)-حيثما يُمثل سلوك شخص أو عديد من فرادى الأشخاص"(27).
كان مبدأ (الفهم) بذلك، هو معياراً لفصل المجال الخاص بالسوسيولوجيا عما لا يُمكنه أن يكون موضوعاً للدراسة السوسيولوجية. بالنسبة لفيبر، نحن نفهم سلوك الفرد، ولكن ليس سلوك الخلية، كما أننا لا "نفهم" (حسب مفهوم فيبر للمصطلح) فعل الأمة أو الاقتصاد القومي، على الرغم من أنه يُمكننا أن نفهم تماماً تصرفات الأفراد الذي يشكلون أمةً (أو الذين ينخرطون في الاقتصاد). لهذا قال فيبر أن مفاهيماً مثل "الدولة" و"الجمعية" و"الاقطاعية" وما شابه ذلك، تُشير الى فئات مُعينة من التفاعل الانساني. ومن ثم فان مهمة السوسيولوجيا هي قصر هذه المفاهيم على الفعل "المفهوم"، أي ليس حصراً، على أفعال الأفراد المُنخرطين فيها (أي في الدولة، أو الاقطاعية، الخ)(28).
كان مثل هذا النهج الزامياً بالنسبة الى السوسيولوجيا، حسب قوله، لكنه لم يكن كذلك، بالنسبة للعلوم الانسانية بشكلٍ عام. يُمكن لعلم التشريع، على سبيل المثال، أن يعتبر الدولة، او جماعةً ما، في ظروفٍ مُعينة "شخصاً قانونياً"، ولكن لا يحق للسوسيولوجيا القيام بذلك. يفترض نهج الوسيولوجيا مُسبقاً مُعالجة هذه التشكيلات كقانون فقط في الشكل الذي تنعكس فيه من خلال فعل الفرد المُنفصل العقلاني الموجه نحو الهدف (وبالتالي من خلال الوعي). وبقدر ما يُصبح القانون (التشريعي) موضوعاً لبحث السوسيولوجيا، فان هذه الأخيرة لا تهتم بالمُحتوى الموضوعي للمبادئ الحقوقية، ولكن تهتم فقط بفعل الفرد في وسط المُحددات والنتائج التي تلعب فيها أفكار الشخص حول "معنى" المبادئ الحقوقية دوراً مُهماً(29). يجب على السوسيولوجيا أن تدرس المؤسسات الاجتماعية (القانون، الدين، الدولة، الخ)، وفقاً لفيبر، بالشكل التي تُصبح مُهمةً فيه للأفراد الفرادى، والتي تكون رسالتها (اي رسالة المؤسسات) موجهة حقاً في أفعالهم. وهذا يعني أن وصمة "الميتافيزيقيا" التي كانت دائماً حاضرة في المذاهب السوسيولوجية التي اتخذت هذه المؤسسات كنقطة انطلاق لها "باعتبارها كُلاً بشكلٍ عام" تُزال تماماً. يُمكن ايجاد هذه الوصمة لا محالة في النظريات السوسيولوجية التي نشأت من الافتراضات المنهجية للواقعية بالمعنى القروسطي. عارض فيبر وجهة النظر هذه بمتطلب انطلاق السوسيولوجيا في دراستها من الأفراد المُنفصلين. يُمكن وصف موقفه على هذه الأسس بأنه اسمي Nominalist، لكن لن يكون وصفاً كهذا مُناسباً تماماً. لقد طرح مطلب الانطلاق من الفعل الفردي كمبدأ للمعرفة والفهم، وبسبب توجهه الكانطي الجديد، لم تكن خاصية مبدأه للمعرفة بأي حالٍ من الأحوال الواقع الاجتماعي نفسه. ان الواقع طيّع بمعنى أنه يمكن ايضاً دراسته بطرق أُخرى، والتي يُمكن أن تكون نتائجها علماً مُختلفاً عن السوسيولوجيا، على سبيل المثال علم القانون او الاقتصاد السياسي. وبالتالي، لم يزعم فيبر، عند الحديث عن فعل عقلاني فردي موجه نحو الهدف، بأن هذا الفعل هو سمة من سمات واقع الحياة الاجتماعية نفسها، لقد استخدمه كنموذج مثالي نادراً ما يجده المرء في شكل نقي في الواقع. لذلك سيكون من الأفضل التحدث عن اسمية فيبر المنهجية، أو منهجيته الفردانية. لكن هذه المنهجية الفردانية، بالطبع، لها اثارها الانطولوجية. من خلال افتراض الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف كنطقة انطلاق له، عارض فيبر مُعالجة الوعي كظاهرة قَبلية(30). يُمكن صياغة نقطة انطلاقه المنهجية الأساسية على النحو التالي: يعرف الشخص نفسه ما يريده. في الواقع، بالطبع، فانه لا يعرف ما يريده دائماً، لان الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف هو حالة مثالية Ideal. لكن يجب على السوسيولوجيا أن تبدأ تحديداً من هذه الحالة المثالية كمقدمة نظرية منهجية. يُمكن للمرء أن يستنتج أن مبادئ فيبر مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفهمه للتاريخ. ان الحياة الاجتماعية بالنسبة له، هي تفاعل للأفراد، وعلى الرغم من أنه هو نفسه شدد باستمرار على الأهمية المنهجية الاستثنائية لتراكيب النماذج المثالية، الا أننا يجب أن نذكر أن فرديته المنهجية مُرتبطة بشدة بنظرته العامة ذات النزعة الفردية، ومُعالجته للمجتمع كتفاعل للأفراد، اي مُرتبطة بالاسمية السوسيولوجية.

6- الفعل الاجتماعي و"التوجه نحو الآخر"- التوقع.
اعتبر فيبر توجه فعل الشخص الى فردٍ آخر (أو أفرادٍ آخرين) هو العنصر الالزامي الثاني للفعل الاجتماعي. كتب، موضحاً بالضبط، ما هو التوجه المُتضمن هنا: "الفعل الاجتماعي (بما في ذلك الترك أو التحمل) يمكن توجيهه تبعاً للسلوك الماضي أو الحاضر أو المُستقبلي المتوقع من الآخرين (الانتقام لحالات هجوم سابقة او الدفاع في حال وقوع هجوم راهن او اتخاذ اجراءات دفاعية تجاه هجمات مُستقبلية). وهؤلاء (الآخرون) يُمكن أن يكونوا فُرادى ومعارف أو عديداً من الأشخاص غير مُحددي العدد وغير معروفين تماماً (يُمكن أن يعني (المال) على سبيل المثال سلعةً تبادليةً، يقبلها المُتاجِر عند التبادل لانه يوجه فعله تبعاً لتوقع أن كثيرين جداً، غير معروفين له وبعددٍ غير محدود سيكونون من جانبهم مُستعدين في المُستقبل لقبوله)"(31). كان تقديمه لمفهوم "التوجه نحو الآخر" في السوسيولوجيا مُحاولةً لايجاد شيء شامل وعالمي في المنهجية الفردانية، والاهتمام بجوهر ما هو "اجتماعي" (اذا كان يُمكن للمرء ان يُقول عنه هذا)، والتي بدونها ستصير منهجيته مثالاً كلاسيكياً على الكروزوية. لم يكن مُمثلي الكروزوية (أو الروبنسونيين، كما أسماهم ماركس) يتصورون أي "توجه نحو الأخر" في تصرفات الأفراد. بالنسبة لهم، استند فعل الفرد على "المصالح الفردية" (لم يكن من قبيل المصادفة أن روبنسون كروزو هو الذي خدم بمثابة النموذج للانسان الاقتصادي homo economicus). تنطلق السوسيولوجيا، حسب فيبر، من حيث تجد أن الانسان الاقتصادي هو نموذج مُبسّط للغاية من الكائن الانساني.
ولكن يُمكن أن يُطرَح السؤال هنا، لماذا احتاج فيبر الى مثل هذا الطريق المُلتوي للاعتراف بوجود ما هو "عالمي" وشامل. النقطة المُهمة هي أنه بهذه الطريقة فقط يُمكنه اظهار الشكل الذي يعمل به "العالمي" في السوسيولوجيا. لا يجب على السوسيولوجيا أن تُعالج "ما هو اجتماعي" بمعزل عن الأفراد، لا يجب أن يكون هنالك حتى آثار لاثبات الاجتماعي. يوجد "العالمي" والشامل فقط الى ذلك الحد والمدى الذي يُدركه الأفراد الفُرادى ويوجهون أفعالهم من خلاله. أوضح فيبر أن وجود مثل هذه الجماعيات كـ"الدولة" أو "النقابة" من وجهة نظر السوسيولوجيا، لم تعنِ شيئاً آخر الا كونها احتمالاً يأخذها الفرد بعين الاعتبار في أفعاله، بهذا القدر أو ذاك. يصير وجود مثل هذه المؤسسة أكثر اشكاليةً، عندما تقل هذه الاحتمالية. ان تقلّص هذه الاحتمالية حتى الصفر يعني نهاية المؤسسة المعنية (الدولة، القانون، الخ).
تَدين مقولة فيبر "التوجه نحو الآخرين" في أصلها، بلا شك، الى مجال القانون Law، وهي تفسير سوسيولوجي لـ"القبول"(ب) Admission والاعتراف Confession، وهي مفاهيم رئيسية في الحقوق وفلسفة القانون.
وهكذا ليست سوسيولوجيا القانون واحدةً من الأقسام الخاصة في سوسيولوجيا فيبر وحسب: انه يوضح: "القبول"، الذي يُشكل مبدأً هاماً للغاية من مبادئ الحقوق، هو عُنصر مُكون لأي فعل اجتماعي بشكلٍ عام.
تكتسب مسألة أشكال الهيمنة(جـ) في نظرية فيبر أهميةً خاصة، وهي تخرج في شكل سؤالٍ عن "شرعية السُلطة" وبشكلٍ عام على شكل مسألة "الشرعية". ولكن يجب على المرء أن يُلاحظ أن مسألة "الشرعية"، لم تحصل على حلٍ ثابتٍ لا لُبسَ فيه. لقد كانت هذه المسألة مُرتبطةً دائماً، في الحقوق والفلسفة الاجتماعية بقكرة "القانون الطبيعي". أما بالنسبة لفيبر، فقد اعتبر "القانون الطبيعي" افتراضاً قِيَمياً لا مكان له في السوسيولوجيا، لان الأخيرة تهدف لأن تكون علماً تجريبياً وبالتالي يجب أن تكون خاليةً من القِيَم. لقد ظلت مهمة الاثبات النظري لمقولات مثل "التوقع" و"الشرعية" دون حل حتى النهاية(32).
وبالتالي، فان (المعنى الذاتي) و(التوجه نحو الآخرين)، هما سمتان ضروريتان للفعل الاجتماعي. لا يُمكن، حسب فيبر، تسمية كل فعل، بانه اجتماعي وفقاً لهذا التعريف. اذا كان فعل الفرد موجهاً، على سبيل المثال، الى توقع "سلوك" معين من شيءٍ مادي (آلة، او ظاهرة طبيعية، الخ)، بدلاً من كونه متوجهاً نحو فردٍ أو أفرادٍ آخرين، فانه لا يمكننا أن نُطلق على هذا الفعل حينها فعلاً (اجتماعياً) بالمعنى الذي يُقرّه فيبر. وبنفس الطريقة، ليس الفعل الديني الذي يُستسلم فيه الفرد للتأمل والصلاة الانفرادية، وما الى ذلك، فعلاً اجتماعياً. يُصبح النشاط الاقتصادي للفرد فعلاً اجتماعياً فقط عندما يتوجه أو يهتم بفردٍ آخر (أو أفراد) أثناء توزيع سِلَعٍ اقتصاديةٍ مُعينة أو يتخلص منها. لا يُمكن اعتبار عمل العديد من الأفراد، اجتماعياً، على سبيل المثال، اذا، تحدد من خلال طبيعة ومُحتوى التوجه نحو الظواهر الطبيعية.
لم يعتبر فيبر أن الفعل المُقلّد الصرف الذي يقوم به الفرد كذرةٍ من الحشد أو الجماهير الذي وصفه غوستاف لوبون على وجه التحديد، بأنه فعل اجتماعي. لقد اعتبره موضوعاً لدراسة علم النفس الجماهيري وليس السوسيولوجيا، على الرغم من أنه يمكن للأخيرة، وفقاً له، أن تُعالج أفعال الأفراد الفُرادى وليس فرداً واحداً، وان كانت ستفعل هذا (أفعال الأفراد الفُرادى) فيجب عليها أن تعالجها على نمط الفرد الواحد، بحيث تُبرز المعنى الشخصي المقصود لأفعال الأفراد الذين يُشكلون الجماعية، وتوجههم المُتبادل تجاه بعضهم البعض.
أدرَكَ فيبر بالطبع، كسوسيولوجي ومؤرخ، أن الأفعال الجماعية هي موضوع مُهم للدراسة من قِبَل السوسيولوجيين، ولكن زاويته المحددة تفترض الكشف عن معنى العلاقة بين سلوك الفرد وحقيقة أنه جزء من الجمهور، أي ببساطة أكثر، كان على السوسيولوجيا أن تفهم ما هو المعنى الذاتي المقصود الذي يربط الفرد بالآخرين، وعلى أي أساس يتحد الناس كجمهور. ان الفعل الذي يتأثر مساره بحقيقة الجمهور، والذي يتحدد بشكل تفاعلي فقط من خلال هذه الحقيقة، هو ليس "فعلاً اجتماعياً" بالمعنى الذي يتحدث فيه فيبر. زَعِمَ فيبر، بالتالي، أنه بمجرد أن يُدرك الفرد أنه "ذرّة" وجزء من الجمهور، تظهر الفجوة بينه وبين "انتمائه للجمهور"، هذا الظرف سيكون ايضاً مُحدداً لبُنية الجمهور نفسها. اختلفت مُقاربة فيبر السوسيولوجية تجاه الحركات الجماهيرية بشكلٍ اساسي حول هذه النقطة عن النهج الاجتماعي-السيكولوجي الذي اقترحه لوبون. قارَبَ هذا الأخير مسألة الحشد او الجماهير من زاويته كسيكولوجي. لقد حاول أن يُميّز ما كان عاماً في اي حشد، سواءاً كان ذلك الجماهير الثورية في شوارع باريس، او مجموعةً من الجنود الرومان، أو حشد من المتفرجين على مسرحية، أو مجموعة من الصليبيين. في الواقع، يُمكن مُلاحظة مجموعة معينة من السلوكيات في أي "حشد" بغض النظر عن التكوين الاجتماعي للأفراد الذين يُشكلونه، ومهما كان مستواهم الفكري. ما يشترك فيه الحشد مع أي حشدٍ آخر هو انه في جزءٍ من سلوكه يتحدد بشكلٍ عفويٍ ونَشِطٍ بشكلٍ صرف. لكن ما يُميز نوعاً من الحشود عن الآخر، وما يجب على السوسيولوجي وليس السيكولوجي أن يدرسه، وفقاً لفيبر، يقع خارج نطاق السيكولوجيا الاجتماعية. لا ينبغي أن يكون موضوع السوسيولوجيا في هذه النقطة السلوك المُباشر للجماهير بقدر ما يجب دراسة نتيجته الهادفة. تؤثر طبيعة الحركات الجماهيرية التي تُحددها بشكلٍ كبير التوجهات ذات المعنى التي تُوجه الأفراد الذين يُشكلون الجمهور- (بانحرافاتٍ أقل أو أكثر)- على طبيعة المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية وغيرها من المؤسسات التي تُنشؤها هذه الحركات. حاول فيبر أن يُطبّق منهجيته في تحليل الحركات الجماهيرية في سوسيولوجيته عن الدين والقانون والسياسة.

7- أنماط الفعل الاجتماعي
يُمكننا، من خلال فحص تمييز فيبر لأنماط الفعل، أن نفهم كيفية تطبيق "النموذج المثالي" للفعل العقلاني الموجه نحو الهدف. لقد أشار الى اربعة أنماط من الفعل: العقلاني الموجه نحو الهدف، العقلاني الموجه نحو القيمة، والانفعالي، والتقليدي.
"1- عقلاني موجه نحو الهدف(د): من خلال توقعات سلوك الأشياء في العالم الخارجي وسلوك الأشخاص الآخرين، وباستخدام تلك التوقعات بوصفها (شروطاً) أو (وسيلة) لغايات عقلانية مرجوة ومتوقعة لانجاحٌ صاحبها. 2- عقلاني قِيَمي: من خلال الاعتقاد الواعي في قِيَم أصيلة أخلاقية أو جمالية أو دينية، أو ذات تفسير آخر، لا غنى عنها لأي سلوك مُعيّن بحت ولا علاقة لها بالنجاح. 3- انفعالي: شعوري خاصةً، وذلك بفعل تأثيرات راهنة وحالات شعورية. 4- تقليدي: من خلال العادة التي دَرَجَ عليها الشخص"(33). يجب على المرء أن يلفت الانتباه على الفور الى النقطة التي مفادها أن النمطين الأخيرين من الفعل-الانفعالي والتقليدي- ليسا أفعالاً اجتماعية بالمعنى الدقيق حسب فيبر، لاننا لا نتعامل هنا مع معنىً واعٍ. لاحظ فيبر نفسه أن "السلوك التقليدي البحت، مثل التقليد الذي يأتي كرد فعل... يقف تماماً على حدود- ما يمكن اساساً تسميته بالفعل الذي (يوجهه معنىً) بل أنه كثيراً ما يقعل خارج تلك الحدود. ذلك أنه لا يعدو أن يكون في كثيرٍ جداً من الحالات مُجرد رد فعل عميق على مُثيرات مُعتادة في اتجاه التصور الداخلي الذي حدث تأقلم عليه"(34). أول نمطين فقط هما فقط الأفعال "الاجتماعية" في معنى فيبر للمُصطلح. "فالفرد الذي يقوم بفعل عقلاني قِيَمي بحت هو من يقوم بالفعل بغض النظر عن نتائجه المتوقعة لخدمة ما يعتقد فيه ويبدو له على أنه واجب أو كرامة أو جمال أو تعاليم دينية أو شفقة أو أهمية (لشيء) اياً كان نوع هذه الأهمية. اذ دائماً ما يكون الفعل العقلاني القِيَمي (وفقاً لمفاهيمنا المُستخدمة هنا) فعلاً يتوجه تبعاً (لأوامر) أو وفقاً (لطلبات) يعتقد القائم بالفعل أنها مفروضة عليه. لهذا لا يُمكن أن نتحدث عن عقلانية قِيَمية الا عندما يستجيب الفعل البشري لتلك الطلبات... ومن هنا تكتسب هذه العقلانية القِيَمية-كما سنرى- من الأهمية ما يكفي لابرازها بوصفها نمطاً خاصاً"(35). في حالة الأفعال العقلانية الموجهة نحو القيمة والأفعال الانفعالية فان هدف الفعل، هو نفسه وليس شيئاً آخر (نتيجة، نجاح، الخ). والنتائج الثانوية في كلتا الحالتين لا تؤخذ بعين الاعتبار. على عكس الفعل العقلاني الموجه نحو القيمة، فان النمط الأخير من الفعل العقلاني غير قابل للتقسيم من جميع نواحيه. اعتبر فيبر أن الفعل متوجه عقلانياً نحو الهدف "عندما يوجه فعله تحقيقاً لغرضٍ مُعين وبالاستعانة بوسيلة محددة وأملاً في بلوغ نتائج ايجابية بعينها، ويقوم في ذلك بالموازنة بصورة عقلانية ما بين الوسيلة والغاية، وكذلك بين الغايات والنتائج المُصاحبة، وأخيراً بين الغايات المُختلفة المُمكنة فيما بينها"(36). كما سنرى، صنّف فيبر هذه الأنماط الأربعة من الأفعال حسب ازدياد عقلانيتها: في حين يمكن تسمية الأفعال التقليدية والانفعالية بأنها لاعقلانية ذاتية (يُمكن أن يكون كلاهما عقلانيين اذا أُخذا بشكلٍ موضوعي)، فان الفعل العقلاني الموجه نحو القيمة يحتوي بالفعل على عُنصر ذاتي عقلاني، حيث أن الفاعل يربط بوعي بين فعله بقيمة مُحددة كهدف لها، لكن هذا النوع من الفعل، هو فعل عقلاني نسبياً فقط، لان القيمة نفسها تؤخذ بدون المزيد من التوسطات والاثبات ولا يتم ايلاء الاهتمام في النتيجة لآثار وعواقب الفعل الثانوية. فقط ذلك الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف وحده هو العقلاني تماماً بالمعنى الذي يُريده فيبر، عندما يحدث في شكلٍ نقي.
يقول فيبر، ان سلوك الفرد المؤدي حقاً، كان موجهاً، كقاعدة عامة، وفقاً لشكلين من الفعل، وهناك عناصر عقلانية موجهة نحو الهدف وعناصر موجهة نحو القيمة فيه، بالاضافة الى عناصر انفعالية وتقليدية. يسود في أنواعٍ مُختلفة من المُجتمعات هذا الشكل أو ذاك من أشكال الفعل. تسود الأشكال التقليدية والانفعالية في المُجتمعات التقليدية، ويسود الفعلان العقلانيين الموجهان نحو الهدف والقيمة في المُجتمعات الصناعية، مع الميل نحو الاطاحة بالنمط الثاني.
عند التقدم بمقولة الفعل الاجتماعي، لم يستطع فيبر حل الصعوبات التي تنشأ فيما يتعلق بتطبيقه. كانت هذه "1- صعوبة تحديد المعنى الذاتي الضمني للفعل. في محاولة تعريف ما الذي كان يُشير اليه مفهوم "المعنى"، أجهد فيبر نفسه لسنواتٍ طويلة في تطوير مقولة (الفهم السوسيولوجي)، لكنه لم ينجح أبداً في التخلص تماماً من النزعة السيكولوجية(37). 2- لم تستطع مقولة الفعل الاجتماعي، كـ"خلية" أولية للحياة الاجتماعية، ان تُساعد على فهم نتائج العمليات الاجتماعية التي لا تتطابق مع اتجاه الأفعال الفردية. لم يكن فيبر قادراً على اعادة البناء النظري التاريخي العام، لانه قسّم الكُل الاجتماعي الى مكوناته النفسية الفردية، وتعامل مع كل فرد على حِدَة.

8- العقلانية الشكلية كمقولة في سوسيولوجيا فيبر
لم يكن من المُصادفة أن يضع فيبر أنماط الفعل الأربعة للغعل الاجتماعي التي وصفها حسب عقلانيتها، هذا الترتيب لم يكن مُجرد تكنيك منهجي مُناسب للتفسير. لقد كان مُقتنعاً بأن عقلنة Rationalisation الفعل الاجتماعي هو اتجاه التاريخ نفسه. وعلى الرغم من أن التاريخ لم يَسِر بدون "عوائق" و"انحرافات"، فان التاريخ الأوروبي في القرون الأخيرة، و"اندراج" حضارات غير اوروبية أُخرى على طريق التصنيع الذي يحدث في الغرب، كان، حسب فيبر، دليلاً، على أن العقلنة هي عملية تاريخية عالمية شاملة.
يقول فيبر ان احدى جوانب عملية "عقلنة" الفعل هو "استبدال الارتباط الداخلي للفعل بتقليد معيش بتكيف مُنظم مع أوضاع المصالح القائمة... ولكننا نُلاحظ بالطبع أن هذه العملية لا تُغطّي مفهوم (عقلانية) الفعل بصورة وافية. حيث أنه علاوةً على ذلك يُمكن لتلك العقلانية أن تسير بصورة ايجابية في اتجاه العقلانية القِيَمية الواعية، ولكنها يُمكن أن تسير أيضاً على حساب التقليد، فضلاً عن سيرها على حساب الفعل الانفعالي، وأخيراً لصالح فعلٍ عقلانيٍ بحث لا يؤمن بالقِيَم"(38).
ماذا يعني الدور المُتنامي للعمل العقلاني الموجه نحو الهدف من وجهة نظر المُجتمع ككل؟ يتم عقلنة طُرُق ادارة الاقتصاد، والادارة سواءاً في الاقتصاد والسياسية والعلوم والثقافة، أي في جميع مجالات الشؤون العامة، ويتم عقلنة طريقة تفكير الناس، وكذلك مشاعرهم ونمط حياتهم ككل. يترافق كل هذا مع نمو الدور الاجتماعي للعلم، والذي هو، حسب فيبر، أنقى تجسيد لمبدأ العقلنة. تغلغل العلم أولاً في الانتاج (الصناعة)، ثم الادارة، وأخيراً في الحياة اليومية أيضاً، ورأى فيبر في ذلك دليلاً على العقلنة الشاملة للمُجتمع الحديث.
ان العقلنة، حسب قوله، هي نتيجة لاتحاد عدد من العوامل التاريخية التي حددت مُسبقاً تطور اوروبا على مدى 300 أو 400 عاماً الماضية. لم يدرس مجموعة هذه العوامل كشيء مُحدد مُسبقاً، لقد كانت بالنسبة له نوعاً من الصدفة التاريخية، لذا، لم تكن العقلنة، من وجهة نظره ضرورةً للتطور التاريخي بقدر ما كانت قدراً ومصيراً. لقد حدثت العقلنة، لانه، في وقتٍ مُعين، وفي منطقةٍ مُعينةً من العالم، يمكن ايجاد عدة ظواهر تضمنت مبدأً عقلانياً، تم استكمال علم العصور القديمة ولا سيما الرياضيات في عصر النهضة، بالتجربة التي اكتسبت (منذ زمن غاليليو) طابع العلم التجريبي الجديد المُرتبط داخلياً بالتقنية. القانون الروماني العقلاني، الذي لم تكن أنماط المُجتمع السابقة عليه تعرفه، والذي تطور على الأرض الأوروبية في العصور الوسطى. النمط العقلاني لادارة الاقتصاد الذي نشأ من خلال فصل العمل عن وسائل الانتاج، على أرضية ما أطلق عليه ماركس "العمل المُجرد"، أي العمل القابل للقياس الكمي. حسب فيبر، كان العامل الذي جعل من المُمكن تولي كل هذه العناصر، هو البروتستانتية التي خلقت الشروط الايديولوجية المُسبقة لتحقيق اسلوب عقلاني لمواصلة الأعمال (بشكلٍ اساسي من خلال استدخال تقدم العلوم الى الاقتصاد وتحولها الى قوة مُنتجة)،حيث قامت الأخلاق البروتستانتية هُنا، بتحويل النجاح الاقتصادي الى دعوة دينية.
نشأ نتيجةً لذلك، نمط جديد من المُجتمع لم يكن موجوداً من قبل في أوروبا، وبالتالي، لم يكن لهذا النمط أي مثيل، أي المُجتمع الذي يُسميه سوسيولوجيي اليوم مُجتمعاً صناعياً. وصف فيبر جميع أنماط المُجتمعات السابقة عليه بأنها تقليدية، على عكس الحديث. كانت سمتها الأكثر أهميةً هي أن مبدأ العقلانية الشكلية لم يكن سائداً فيها. ما هو هذا المبدأ؟
ان العقلانية الشكلية هي القابلية للحساب في المقام الأول، والعقلانية الشكلية هي ما هو قابل للحساب الكمي، والذي يستنفد خاصية الكمي دون غيره. يقول فيبر "سيتم استخدام مُصطلع (العقلانية الشكلية) للفعل الاقتصادي لتحديد مدى الحساب الكمي من أجل حساب ما هو ممكن تكنيكياً وما يُمكن تطبيقه بالفعل. من ناحيةٍ أُخرى، فان العقلانية الجوهرية هي الدرجة التي يتم بها تزويد مجموعة مُعينة من الأشخاص، بغض النظر عن كيفية تحديدها، بالسلع بشكلٍ مُناسب عن طريق فعل اجتماعي موجه اقتصادياً. سيتم تفسير مسار الفعل هذا انطلاقاً من مجموعة مُعينة من القِم النهائية بغض النظر عن ماهيتها"(39).
بعبارةٍ أُخرى، تم وصف الاقتصاد الذي يسترشد بمعايير مُعينة تقع خارج ما يُمكن حسابه، أي الاقتصاد الذي يخدم غايات لا تتحدد من نفسه، كاقتصاد مُحدد مادياً (جوهرياً). العقلانية "الجوهرية" هي عقلانية لأجل (شيءٍ ما)، أما العقلانية الشكلية هي عقلانية (ليس لشيءٍ ما)، العقلانية بذاتها، مأخوذةً كغايةٍ في حد ذاتها.لكن لا ينبغي أن ننسى أن مفهوم العقلانية الشكلية هي نموذج مثالي، ونادراً ما يُمكن ملاقاته في شكلٍ خالصٍ في الواقع التجريبي. ومع ذلك، فان الحركة نحو العقلانية الشكلية، كما أظهر فيبر في العديد من أعماله، هي حركة من التاريخ نفسه. لقد سادت "العقلانية الجوهرية" في أنماط المُجتمع السابقة، ولكن في المجتمعات الحديثة تسود العقلانية الشكلية التي تتوافق مع هيمنة نمط الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف على جميع الأفعال الأُخرى.
لم يكن فيبر أصيلاً في نظريته حول العقلانية الشكلية وحول اختلاف نمط المُجتمع الحديث عن المُجتمع التقليدي في هذا الصدد تحديداً. ما قال عنه أنه عقلانية شكلية اكتشفه ماركس قبله، وصوره في أعماله في مفهوم "العمل المُجرّد"(40). لَعِبَ المفهوم دوراً مُختلفاً في بُنية فكر ماركس عن الدور الذي لعبه عقلانية فيبر الشكلية، لكن لا يوجد شك في تأثير ماركس عليه في هذه النقطة(41). بالنسبة لماركس، فقد كان أهم مؤشر على العمل المُجرد هو أنه "ليست له صفات خاصة ومن ثم لا يمكن قياسه الا بالكمية وحدها"(42). حسب ماركس، صارت الصفة الكمية للعمل مُمكنة فقط في المُجتمع الرأسمالي، الذي خلق "العمل البرجوازي، المُتعارض مع العمل الاقطاعي"(43). كانت خصوصية هذا العمل قبل كل شيء، شموليته المُجردة، اي عدم تعلقه بشكل السلعة المُحدد الذي يخلقه، ولا يتعلق بالحاجات التي تُشبعها هذه السلعة. يُسجل تعريف ماركس للعمل المُجرد الشامل، حقيقة تحول العمل الى وسيلة لخلق الثروة بشكلٍ عام. وهكذا يُصبح الانسان واحتياجاته، كما أوضح هو ذلك، مُجرد وسيلة، وعنصراً ضرورياً للمسار الطبيعي للانتاج.
كانت السمة الأكثر جوهريةً لعقلانية فيبر الشكلية، حسب ما يؤكد الفيلسوف الألماني كارل لوفيث Karl Löwith، بأن نمط الادارة أصبح مُستقلاً لدرجة أنه لم يعد له اي علاقة واضحة باحتياجات الانسان على هذا النحو(44).
لم تكن العقلانية الشكلية مبدأً يخضع له الاقتصاد الحديث وحسب، بل كان يخضع له أيضاً مُجمل اتجاهات المجتمع الحديث.
كانت نظرية العقلانية الشكلية، في جوهرها، هي نظرية فيبر عن الرأسمالية. من الضروري مُلاحظة الارتباط الوثيق بين منهجيته، ولا سيما نظرية الفعل الاجتماعي وتمييزه بين أنماط الفعل من جهة، ونظريته حول نشوء الرأسمالية، من جهةٍ أُخرى. في الواقع، شدّد على أنه عندما ابتكر مبدأ النموذج المثالي، كان يسترشد، في التحليل الأخير بـ"مصلحة العصر" التي حددت اتجاه الرؤية بالنسبة له. هذا العصر، هو الذي جعل فيبر يُحدد مسائل من مثل (ما هو المُجتمع الرأسمالي الحديث، وما هو أصله ومسار تطوره وما هو نصيب الفرد في هذا المُجتمع، وكيف سيُحقق المُثُل العليا التي أعلن عنها ايديولوجيوها في القرنين السابع عشر والثامن عشر كـ"مبادئ للعقل")- كمبادئ مركزية بالنسبة له. حددت طبيعة هذه المسائل مجموعة تقنيات فيبر المنهجية مُسبقاً. تم انشاء نمط "الفعل الاجتماعي" وخاصةً الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، كنقطة مرجعية للتنظير حول أنماط الفعل الأُخرى. ما هو مُميز هنا، اعتبار فيبر نفسه، سلوك الفرد في المجال الاقتصادي كأكثر مثال تجريبي نقي للفعل العقلاني الموجه نحو الهدف. ولم يكن من باب الصدفة أن يستشهد، كقاعدٍ عامة، على الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف بأمثلةٍ من السلوك الاقتصادي: اما تبادل السِلَع، أو الصراع التنافسي في السوق، أو البورصة وما الى ذلك. في المقابل، عندما كان يُشير الى المُجتمعات التقليدية، فانه كان يقول بأن النمط العقلاني الموجه نحو الهدف قد تم تحقيقه لفي بشكل رئيسي في المجال الاقتصادي.
وهكذا، اشترطت مسألة مصير الرأسمالية، منهجيته الفردانية. لذلك كان لديه موقف اجتماعي مُحدد تماماً، ظهر في سوسيولوجيته الخاصة به، كنصير لايديولوجيا ومصالح الطبقة الرأسمالية.

9- نظرية فيبر حول أنماط الهيمنة
ارتبطت نظرية فيبر عن "العقلنة" ارتباطاً وثيقاً بفهمه للفعل الاجتماعي. لم تكن سوسيولوجيا السُلطة الخاصة به أقل ارتباطاً بمقولة الفعل الاجتماعي. واعتبر "التوجه نحو الآخر" عنصراً لا ينفصل عن الفعل الاجتماعي. عندما نُحرر مقولة "القبول" المُميزة للقانون، من الأهمية المعيارية التي تحوزها في علم القانون، ومن معناها الميتافيزيقي التي تأخذه في نظريات "القانون الطبيعي" فاننا نحصل على وجه التحديد على مفهوم "التوقع" الذي يعتقد فيبر أنه ضروري للدراسة السوسيولوجية للمجتمع. هذا المفهوم مُهم جداً في نظريته حول أنماط الهيمنة الشرعية، اي الهيمنة التي يعترف بها الأفراد المحكومون. الهيمنة بالنسبة له هي: فرصة اطاعة مجموعة من الأشخاص لنظام أو أوامر معينة(45). وبالتالي فهي تفترض توقعاً مُتبادلاً: من قِبَل من أمر بتنفيذ أمره، ومن قِبَل اولئك الذين أطاعوا الأمر وبالتالي يعترفون به. بدأ فيبر تحليله لأنواع الهيمنة الشرعية، بما يتوافق تماماً مع منهجيته، بدراسة "دوافع الطاعة" (النموذجية المُمكنة)(46). لقد وجد ثلاثةً من هذه الدوافع، وبالتالي ميّز ثلاثة أنواع نقية من الهيمنة.
"يُمكن أن تقوم الهيمنة، اي فرصة الامتثال/الطاعة لأمرٍ مُعين، على حوافز مختلفة من القيادة: فيمكن أن تحصل من أجل مصالح بحتة، اي انطلاقاً من اعتبارات عملية مُعقلنة سلباً اوايجاياً، من طرف المُطيع، أو ان تقوم من جهةٍ أُخرى على (العادة) البسيطة، اي على مُجرد التعود على الفعل المعهود، أو أن تكون خاضعة لانفعالٍ بحت، أي أن تجد ما يسوغها في الميل الشخصي البسيط لدى المحكوم نفسه"(47).
أطلق فيبر على النمط الأول من الهيمنة اسم (القانوني)، وهذا النمط معنىً مصلحي باعباره "دافعاً للطاعة"، وهو مبني على الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف. لقد صنّف البلدان الرأسمالية الحديثة (بريطانيا العُظمى، فرنسا، الولايات المتحدة، الخ) في هذا النمط. وشدد على أن هناك فيها طاعةً ليس لشخصية فردية ولكن للقوانين المعمول بها، ولا يخضع لها المحكومون فحسب، بل والحكّام أيضاً. يتألف جهاز الادراة من موظفين مدربين تدريباً خاصاً والذين يُطلب منهم التصرف "بغض النظر عن الشخصيات"، اي وفقاً لقواعد شكلية وعقلانية صارمة. ان المبدأ القانوني الشكلي هو الأساس الوحيد لـ"الهيمنة القانونية"، وهذا المبدأ، حسب فيبر، هو أحد الشروط المُسبقة الضرورية لتطور الرأسمالية الحدثة كنظام للعقلانية الشكلية.
البيروقراطية، حسب فيبر، هي "النموذج الخالص تقنياً للسيادة القانونية. لكن ليس هناك سيادة بيروقراطية فقط، اي مُسيّرة من قِبَل موظفين ملتزمين بعقد ومعينين فحسب، فهذا النمط ليس مُمكناً قطعاً. فالدوائر العُليا من الروابط السياسية يحتلها اما ملوك (سادة كاريزماتيون بالوراثة) واما (رؤساء) مُنتخبون من قِبَل الشعب (اي شكل المُبايعة الكاريزماتية... الخ) أو (رؤساء) مُنتخبون من طرف مجموعة برلمانية"(48). لكن العمل اليومي المتواصل يقوم به موطفي السلك الاداري، والذي لا يمكن لعمل الآلة الاجتماعية أن يستمر اذا ما توقف هذا النشاط.
ان على الموظف الذي يتطابق مع نمط الدولة "العقلانية" أن يكون حاصلاً على تدريبٍ قانونيٍ خاص، لكي يؤدي مطلب الكفاءة. اليكم كيف وصف فيبر النموذج الخالص للادارة البيروقراطية العقلانية:
"يتألف الطاقم الاداري تحت السلطة العُليا، في أنقى نموذج، من موظفين أفراد يتم تعيينهم ويعملون وفقاً للمعايير التالية:
1- هم أحرار على الصعيد الشخصي ولا يخضعون للسلطة الا فيما يتعلق بالتزاماتهم الرسمية غير الشخصية.
2- هم مُنظمون في تسلسلٍ هرمي للوظائف واضح المعالم.
3- لكل وظيفةٍ مجالٌ متخصص محدد بوضوح بالمعنى القانوني.
4- تمتلئ كل وظيفة بمحتوىً تعاقديٍ حر. وبالتالي، من حيث المبدأ، هناك اختيار حر.
5- يتم اختيار المرشحين على أساس مؤهلاتهم الفنية... يتم تعيينهم وليس انتخابهم.
6- يتقاضون رواتبهم المالية الثابتة، ويحق لهم في الغالب معاشاتٍ تقاعدية.
7- يتم التعامل مع الوظيفة باعتبارها المهنة الوحيدة، أو الأساسية على الأقل، للموظف.
8- هذه الوظيفة هي حرفة، أي مهنة. هناك نظام للترقية حسب الأقدمية او الانجاز او كليهما. تعتمد الترقية على حكم المدراء.
9- الأعمال الرسمية منفصلة كلياً عن مُلكية وسائل الادارة وبدون استحواذ على المنصب.
10- يخضع الموظف لانضباط ورقابة صارمين في تسيير الوظيفة"(49).
حسب رأيه، يتوافق هذا النمط من الهيمنة بشكلٍ وثيق مع البُنية العقلانية الشكلية للاقتصاد التي أصبحت راسخةً في أوروبا الغربية والولايات المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر. صار هناك نفس التخصص والتقسيم للعمل، كما في الصناعة. انفصل الموظف عن "وسائل الادارة"، كما انفصل المُنتِج عن وسائل الانتاج. "ان الادارة البيروقراطية تعني في الأساس، مُمارسة التحكم بأساس المعرفة. هذه هي ميزتها التي تجعلها عقلانية بشكلٍ خاص"(50). كان النموذج المثالي للادراة البيروقراطية العقلانية الذي وصفه فيبر، بلا شك، أمثَلةً للحالة الفعلية للأمور، ولم تكن هذه الحالة متحققة تجريبياً في أي دولة رأسمالية حديثة. كان يقصد هنا آلة الادارة (الآلة machinery بالمعنى الحرفي)، التي لا يُمكن أن يكون لها في الواقع اي مصالح باستثناء "مصلحة الوظيفة" ولم تكن عُرضةً للفساد. لقد اعتبر أنه لا توجد أي آلة في العالم يُمكنها العمل بدقة وبتكلفة زهيدة مثل هذه الآلة البشرية(51). لكن الآلة الادارية، مثل اي آلةٍ أُخرى، تحتاج الى برنامج. وفقط الزعيم السياسي (أو القادة) هم الذين يستطيعون وضع أهدافها ويمنحونها برنامجاً، بعبارة أُخرى، شخص يضع الآلية الشكلية للادراة في خدمة قِيَم سياسية مُحددة. وهنا وجد مبدأ الفصل بين "العلم" و"القيم" النموذجي لمنهجية فيبر تطبيقاً آخر في سوسيولوجيته عن الهيمنة.
النمط الآخر من الهيمنة الشرعية، هي التي تحكمها "الأخلاق" والتعود على طاعة معينة، والتي دعاها فيبر التقليدية. "فرابطة السيادة هنا هي الجمعنة ويُمثل السيد/رب البيت نموذج الأمر، في حين أن المُمتثلين له هم (الرعية) ويتكون جهاز الادارة من (خدم). أما الطاعة فتعود الى الشخص بحكم المكانة الذاتية المُقدسة عن طريق الأصل: أي بمقتضى البر والاحسان، فمضمون الأوامر مقيد بالتقليد الذي يُهدد تجاوزه المُفرط من قبل الحاكم مشروعية سيادته الذاتية القائمة باختصار على قداسته"(52). وشدد على أن "الرابطة المنزلية" هي "الخلية الأولى لعلاقات السيادة/السلطة التقليدية(53)، (كان هذا الظرف هو الذي جعل هذا النوع من الشرعية المُميز لهذا النوق من الهمينة، ثابت ومُستقر بشكلٍ خاص)(54).
يتألف الجهاز الاداري في هذا النوع من السلطة من خدم المنازل والأقارب والأصدقاء الشخصيين الذين يعتمدون على اللورد أو التابعين له. في جميع الحالات، يكون الاخلاص الشخصي هو الأساس للتعيين في الوظيفة وفي التقية داخل السلم الهرمي، وليس الانضباط في الخدمة أو الكفاءة كما هو الحال في نمط الهيمنة الذي فحصناه أعلاه. نظراً لعدم وجود حدود لارادة وسلطة اللورد، غالباً ما يتم كسر السلسلة الهرمية من خلال الامتيازات.
ميّز فيبر شكلين من أشكال الهيمنة التقليدية: الادارة ذات البُنية الأبوية الخالصة، والبُنية الطبقية.
في الأول، يتم جلب الخدم الذين هم في تبعية شخصية تامة للسيد أوالحاكم اما حسب نظام الأعيان الخالص كعبيد، أي من طبقات لا يشملها القانون باطلاق المقربين وعامة الناس، وُجِدَ مثل هذا النوع من السلطة التقليدية في الدولة البيزنطية. في النمط الثاني، لا يكون "الخدم" تابعين شخصياً للسيد أو الحاكم وانما هم مستقلون بحكم تقلدهم الوظيفة كأشخاص ذوي مكانة اجتماعية مرموقة ليس كما هو الحال في البُنية الأبوية الخالصة، فهؤلاء قد أُعيرت لهم امتيازات أو تنازلات من قبل السيد او الحاكم مع وظيفتهم وطبقاً لذلك تكون ادارتهم مستقل. كانت الدول الاقطاعية في اوروبا الغربية هي الأقرب الى هذا النوع. كانت الادارة من قِبَل العبيد والأقنان كما في آسيا الصغرى وفي مصر حتى عصر المماليك، نوعاً طرفياً وغير مُتسق من الادارة.كانت الادارة من قِبَل الأعوام الأحرار أقرب الى البيروقراطية العقلانية. يُمكن أن يكون للادارة التي قام بها الأُدباء والكُتّاب طابعٌ مختلف، ولكنها تكون دائماً أقرب الى النوع الطبقي: البراهمانيين والماندرين والبوذيين وقساوسة المسيحية(55).
كان غياب القانون الرسمي، وبالتالي متطلب العمل بغض النظر عن الأشخاص، من سمات أنواع السلطة التقليدية. كانت طبيعة العلاقات في أي مجال شخصية بحتة، ولكن، كما أكد فيبر، تمتع مجال التجارة بقدرٍ مُعين، وان كان نسبياً، من هذا المبدأ الشخصي البحت في جميع أنماط المُجتمع التقليدي(56). كان هناك دائماً شكل تقليدي للتجارة الى جانب التجارة الحرة.
الشكل الثالث البحت للهيمنة بالنسبة الى فيبر، كان ما أسماه بالسلطة الكاريزماتية. لعب مفهوم الكاريزما أو هبة الله (من الكلمة اليونانية Kharisma، اظهار الاحسان) دوراً مهماً في سوسيولوجيته. الكاريزما، على الأقل وفقاً لأصل الكلمة، هي نوع من القُدرة الاستثنائية التي تُميز الفرد عن الآخرين والتي لم يكتسبها هو نفسه (أعطاها له الله أو الطبيعة أو القَدَر). يعتبر فيبر من الصفات الكاريزماتية "القدرات السحرية، تنبؤات أو بطولة، طلاقة الروح أو اللسان. يبدو الجديد الأبدي وما هو خارق للعادة هنا وما لم يحدث بعد او الانبهار العاطفي عن طريق الكاريزما بمنزلة المنابع للولاء الشخصي. وتُمثل سيادة النبي (بوذا، اليسوع، مُحمّد) وبطل الحرب والديماغوجي الكبير (سولون وليكورغوس والكسندر العظيم والقيصر ونابلييون)، النماذج الخالصة لها"(57). ان النمط الكاريزماتي للهيمنة الشرعية هي النقيض المُباشر للهيمنة التقليدية. في حين أن النمط التقليدي مدغوم بالعادات ويرتبط بالعُرف الراسخ بشكلٍ راسخٍ ولمرةٍ واحدة، فان النمط الكاريزماتي، على العكس من ذلك، يعتمد على شيء غير اعتيادي، شيء لم يُدرَك من قَبل. لم يكن من قبيل الصدفة، وفقاً لفيبر أن تكون كلمة "وأما أنا فأقول لكم" but I say unto you(هـ)، مُميزةً للنبي(58). ان نمط الفعل الانفعالي هو الأساس الرئيسي للسلطة الكاريزماتية. كتب: "في الفترات التقليدية النمطية، تُصبح الكارزما قوةً ثوريةً عظيمة"(59)، قادرة على احداث تغييرات في بُنية المُجتمعات التي تفتقر الى الديناميكية. ولكن على الرغم من جميع الاختلافات وحتى الطبيعة المُتناقضة لنمطي الهيمنة الكاريزماتية والتقليدية، فقد كان هناك الكثير من القواسم المُشتركة بينهما، فقد كان كلاهما قائماً على العلاقات الشخصية بين الحُكّام والمحكومين. قي هذا الجانب، تعارض كلا النمطين من النمط العقلاني الشكلي بوصفه لاشخصياً. لم تكن التقاليد ولا الاعتراف بالحق الشكلي للسيد، مصدراً للتفاني الشخصي له، بل كان التفاني العاطفي له والايمان بجاذبيته. لهذا السبب، شدد فيبر، أنه كان على القائد الكاريزماتي أن يُظهر حضوره باستمرار. كان اتحاد الشعب المُسيطر، كما في الحالة السابقة، هو المُجتمع Community، حيث يتوحد المُعلم وتلاميذه، والقائد وأتباعه وأنصاره، وفقاً لطابع الكاريزما. كان مفهوم "التنافس" العقلاني، ومفهوم "الامتياز" غائبين في الجهاز الاداري الذي تشكّل على أساس حضور الكاريزما (في المسؤول) والتفاني للقائد. اختلفت الهيمنة الكاريزماتية عن الأنماط العقلانية الشكلية والتقليدية في عدم وجود قواعد فيها (سواءاً أكانت عقلانيةً أم تقليدية): فقد تم اتخاذ القرار بشأن جميع الأمور بطريقة غير عقلانية، من خلال قرارات الوحي أو... الابداع او الفعل او المثال من حالةٍ الى أُخرى(60). كان مبدأ الشرعية الكاريزماتية استبدادياً على عكس المبدأ العقلاني الشكلي. استندت سُلطة القائد الكاريزماتي بشكل أساسي على قوة موهبته وليس القوة الجسدية الفظة (والتي بالمناسبة، لم تكن مُستبعدةً بأي حالٍ من الأحوال).
يجب على المرء أن يُلاحظ ايضاً أن فيبر اعتبر الكاريزما لا علاقة لها تماماً بمحتوى وصحة ما أعلنه أو دافع عنه أو طبقه الشخص الكاريزماتي، لان على السوسيولوجيا أن تكون علماً خالياً من القِيَم. لقد كان فيبر غير مُبالياً بشكلٍ قاطع بالقِيَم التي تقدم بها الشخص الكاريزماتي الى العالم: كان كليون Kleon، نابليون، يسوع او جنكيز خان كلهم قادرة كاريزماتيين مُتطابقين من وجهة نظر فيبر كسوسيولوجي، حيث كانت الدول والمُجتمعات الدينية التي أنشأها هؤلاء تنويعات للهيمنة الكاريزماتية.
استبعدت مبادئ فيبر المنهجية امكانية التفريق بين سياسيين على سبيل المثال من مثل السياسي اليوناني بيريقليس Pericles، والسياسي الديمغوجي من مثل هتلر، الذي اعتمد على اشكال سياسية ايحائية للتأثير على الجماهير وبالتالي تناسب مع تعريف فيبر للشخص الكاريزماتي. نظراً لان السوسيولوجي، وفقاً لفيبر، يجب أن يهتم بالنتيجة الموضوعية لأفعال الشخص التاريخي وليس باختلافه الذاتي (مثلاً تدينه الحقيقي أم نفاقه)، فقد تضمنت سوسيولوجيته على بعض الغموض. لعب هذا الغموض دوراً سلبياً، بغض النظر عن تحيزه السياسي، في الوضع الاجتماعي والسياسي المُعقد الذي نشأ في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى خلال فترة جمهورية فايمار.

10- الطبيعة المُتناقضة لموقف فيبر السياسي
لقد سبق وأشرت الى أنه كان للهيمنة القانونية، بالنسبة الى فيبر، قوةً شرعيةً أضعف من الهيمنتان التقليدية والكاريزماتية. لقد علّق نمط الهيمنة القانونية على الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، أي على المصالح. وبالتالي، فان الهيمنة القانونية في شكلها البحت ليس لها أي أساس قِيَمي، ولذلك فان البيروقرطية الشكلية والعقلانية التي تُمارس هذا النوع من الهيمنة يجب أن تخدم حصرياً "مصلحة القضية"، ويتوافق طابعها اللاشخصي مع "مبادئه اللاقيمية" Extra-Value Maxims المُقترحة.
تعامل فيبر مع علاقات الهيمنة في الدولة "العقلانية" على غرار تلك الموجودة في المشاريع الخاصة (كان نموذج الفعل الاقتصادي الموجه نحو الهدف، بعد كل شيء، هو الفعل الاقتصادي). العلاقات في المجال الاقتصادي، حسب قوله هي "الخلية" التي نشأ منها نمط الهيمنة القانوني وتطور. ما الذي كانته هذه الخلية؟
كان الشرط المُسبق الأكثر عموميةً لنشوء الاقتصاد العقلاني للرأسمالية الحديثة، وفقاً لفيبر، هو الحساب العقلاني لرأس المال باعتباره المعيار لجميع المؤسسات الصناعية الكُبرى التي تعمل على تلبية الاحتياجات اليومية. كانت امكانية المُحاسبة الصارمة، والسيطرة على حسابات تحصيلات المشاريع عن طريق جدولة الأرصدة والتي ظهرت فقط من عددٍ من الشروط المُسبقة التي لم تكن موجودةً من قبل، هي التي فتحت الطريق أمام تطوير اقتصادٍ "قومي". ما هي هذه الشروط المُسبقة؟ كانت 1- حيازة الصناعيين المُستقلين للمُلكية الحرة لوسائل الانتاج المادية (الأرض، الأجهزة، الآلات، الأدوات، الخ). 2- السوق الحُرّة، اي حرية السوق من القيود غير المنطقية على التبادل، على سبيل المثال قيود النقابات. 3- التكنيك العقلاني، اي المحسوب بدقة، للانتاج والتبادل. 4- قانون عقلاني راسخ (يجب على النظام الرأسمالي أن يقوم على قواعد قانونية ادارية وقضائية ثابتة، من أجل ان يقوم بتشغيل اقتصاد عقلاني). 5- العمالة الحُرّة، أي وجود اشخاص ليس لديهم الحق في بيع قوة عملهم في السوق وحسب، بل ومُجبرون اقتصادياً على القيام بذلك أيضاً. 6- منظمة تجارية للاقتصاد، والتي يتم من خلالها تثبيت حقوق المُشاركة في المشاريع وحقوق المُلكية، وباختصار، امكانية توجيه النشاط حصرياً لتغطية الاحتياجات عن طريق معرفة متطلبات السوق ومدخولات المشاريع.
كان لمُعظم الشروط المُسبقة لنشوء الرأسمالية، التي ذكرها فيبر عنصراً مُشتركاً، وصفه بـ(تحرير الشيء من شيء آخر): تحرير السوق من قيود النقابات، وتحرير القانون من الأخلاق والعادات(61)، وتحرير المُنتج من وسائل الانتاج. سوف نفهم بسهولة لماذا كانت هذه الشروط المُسبقة ضرورية حتى يمكن أن تكون هناك مُحاسبة عقلانية لرأس لمال، اذا فهمنا ان المُحاسبة افترضت امكانية تحويل جميع الخصائص النوعية الى خصائص كمية، وكل ما لم يكن قابلاً لمثل هذا التحويل، فانه يُعتبر عقبةً في طريق تطور اقتصاد رأسمالي عقلاني.
في فهم فيبر للعقلانية، فانها ذات طابع شكلي رسمي وظيفي. تطلّب تطورها الكامل ظهور نفس نمط الادارة الوظيفية، خالياً من أي عناصر ذات معنىً (قِيَمي)، واعتبر الهيمنة القانونية مثل هذا النمط. ولكن بما أن العقلانية الشكلية، مثل نوع الفعل العقلاني البحث الموجه نحو الهدف المُقابل لها، فانها لم تكن غايةً في حد ذاتها، ولكن وسيلةً لتحقيق غايةٍ أُخرى. لم يكن للسلطة القانونية شرعيةً كافيةً، وكان يجب تعزيزها بشيءٍ آخر، اما بالتقاليد أو بالكاريزما. عندما نُترجم هذه الاطروحة الى لغة سياسية، فانها ستكون كما يلي: لم يكن للديمقراطية البرلمانية، المُعترف بها من قبل الليبرالية باعتبارها الهيئة (الشرعية) الوحيدة في النمط القانوني الأوروبي لدول أوروبا الغربية الرأسمالية، لم يكن لديها قوةً شرعيةً كافيةً في نظر الجماهير، وكان لا بد من تكميلها اما بمَلكٍ وراثي (يتم الحد من حقوقه في البرلمان)، أو زعيم سياسي مُنتَخَب عبر الاستفتاء(62). في الحالة الأولى، يتم تعزيز شرعية السُلطة القانونية عن طريق التقاليد، وفي الحالة الثانية عن طريق الكاريزما. توصّل فيبر نفسه في السنوات الأخيرة من حياته الى استنتاج مفاده أنه من الضروري استكمال الشرعية البرلمانية على وجه التحديد بالشرعية الاستفتائية، أي سياسي مُنتَخَب بشكل مُباشر من قِبَل الشعب كله وليس من قِبَل البرلمان، وله الحق في مُخاطبة الشعب مُباشرةً على رأس البرلمان. وزَعم أن الاستفتاء وحده هو الذي يُمكن أن يمنح هذا الزعيم السياسي الشرعية التي تسمح له باتباع سياسة مُحددة التوجه، أي وضع آلية الدولة البيروقراطية في خدمة أهداف مُعينة.
عندما نتذكر أن الكاريزما، من حيث المبدأ، لم تحصل على اي تفسيرٍ ذي مغزى في سوسيولوجيا فيبر، فمن المفهوم أن موقفه السياسي يبدو غامضاً للغاية في ضوء الأحداث التي وقعت في ألمانيا بعد 13 عاماً من وفاته. وبينما يرى بعض طُلاب أعماله الغربيين أنه توقّع وسبق نظرياً تطور الأنظمة الشمولية في أوروبا وحذّر من امكانية قيامها، يميل آخرون الى القاء اللوم عليه لانه ساعد بشكلٍ غير مُباشر، على صعود تلك الأنظمة.
قدّم فيبر أُسساً حقيقيةً لمثل هذه التقييمات الأخيرة. كان موقفه السياسي، وكذلك نظريته في الهمينة، انفصالاً جوهرياً عن موقف الليبرالية الكلاسيكية، الذي كانت الكانطية الجديدة على وجه الخصوص، هي التي تُمثله نظرياً في ألمانيا. يظهر هذا الانفصال بشكلٍ أكثر وضوحاً، من الناحية النظرية، في مُعالجة الدولة الرأسمالية القانونية كتشكيل وظيفي بحت يحتاج الى اضفاء الشرعية عليه من خلال (قِيَم) ليست من داخله.
ارتبط غموض موقفه، بموقفه المُتناقض من التقليد العقلاني Rationalist Tradition. من ناحية، خرج كنصيرٍ للعقلانية، وقد أظهر ذلك في منهجيته الموجة نحو الفعل الفردي ذو المعنى الموجه ذاتياً بالدافع، وأظهر ذلك ايضاً في ارائه السياسية. منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت مقالاته وخُطَبه السياسية موجهة ضد المُحافظين الزراعيين وايديولوجيا اليونكرز الألمان الذين عارضهم بموقفٍ ليبرالي برجوازي. كان نقده للاعقلانية فلسفة الحياة الرومانسية يتوافق تماماً مع نقده لليونكرز المُحافظين في السياسة، وتوافق الدفاع الواعي عن العقلانية كمبدأ رئيسي للاقتصاد الرأسمالي مع عقلانيته في المنهجية. ظهر موقف فيبر القيّم حول العقلانية كمبدأ أخلاقي، بشكلٍ واضح، في تفضيله لأخلاقيات المسؤولية Verantwortungsethik وأخلاقيات الاقتناع Gesinnungsethik. افترضت الأولى مُسبقاً تقديراً رصيناً للوضع، وصياغةً عقلانيةً للبدائل المُحتملة، والاختيار الواعي والتنفيذ الثابت لاحدى الاحتمالات وكذلك المسؤولية الشخصية عن هذا الاختيار. لقد طالب بأن يسترشد المرء بهذا المبدأ على وجه التحديد سواءاً في العلم (كانت نماذجه المثالية تهدف أساساً الى اعطاء صياغة عقلانية صارمة للبدائل المُحتملة)، وفي السياسة حيث، يجب على "أخلاق المسؤولية"، في رأيه، أن تكون صفةً الزاميةً للقائد السياسي. في جدالاته ضد روشر وكنيس وماير، اشار فيبر نفسه الى العلاقة بين مفهومي العقلانية والحرية، وهي "القيمة" الأكثر أهميةً بالنسبة له. يكون المرء حُراً، حسب فيبر، عندما يكون نشاطه عقلانياً، أي عندما يكون المرء مُدركاً للهدف المنشود بوضوح، وعندما يختار الوسائل المُناسبة للوصول اليه. كلما اتخذ الفاعل قراراً "بحريةٍ أكبر"، أي كلما زاد اعتماده على "اعتباراته" الشخصية التي لا تشوبها أي شائبة اكراهات ومؤثرات "خارجية"، وكلما يكون الدافع أكثر خضوعاً لمقولات "الغاية" و"الوسيلة"، وكلما كان تحليله العقلاني أكثر اكتمالاً، يُمكن حينا أن نُدرج نشاطه في المُخطط العقلاني.
ومع ذلك، لم يُشارك فيبر بالكامل مبادئ التقليد العقلاني. لم يعترف بالقيمة الأنطولوجية للعقلانية، لكنه قَبِلَ فقط أعميتها المنهجية. كان ميله الى فصل المنهجية والانطولوجيا من جهة، وفصله بين المنهجية والايديولوجيا من جهةٍ أُخرى، يرجع في حد ذاته الى النأي بنفسه عن مبدأ العقلانية. ظهر هذا على المُستوى السياسي في انفصاله عن الليبرالية الكلاسيكية، والذي ظهر في المقام الأول عندما كان يدرس مسائل الاقتصاد السياسي. فقد كتب أن الأخيرة لا يُمكن أن تُوجه سواءاً الى الأخلاق، أو الانتاج التقني أو الى "الأفكار". يُمكن ويجب عليها أن تتوجه نحو المُثل العُليا "القومية"، وينبغي أن يكون هدفها تعزيز الاقتصاد وازدهار الأمة. كما برز مفهوم "القومية" على أنه أعلى قيمة سياسية. وصحيح أن "قوميته" لم يكن لها نفس طابع قومية المُحافظين الألمان. لم يعتبر أنه من المُمكن التضحية بحرية الفرد السياسية من أجل "الأمة". كان مثاله الأعلى مزيجاً من الحرية السياسية والمجد القومي. كان المزيج من الليبرالية السياسية والنزعات القومية من سمات ألمانيا بشكلٍ عام، وربما لم يكن فيبر استثناءاً من ذلك، لكنه أعطى لأفكار "القومية" جوهراً مُختلفاً عن القومية التي كانت تتحدث عنها ليبرالية القرن التاسع عشر الألمانية. كانت نفس هذا النوع من الازدواجية نموذجياً لموقف فيبر من العقلانية الشكلية. حاول السوسيولوجي الأمريكي آرثر ميتزمان أن يوضح في كتابه (القفص الحديد) Iron Cage، أن موقف فيبر من العقلانية الشكلية تغير كثيراً اثناء تطوره. واعتبر أنه في حين كان فيبر مُلتزماً ونصيراً للعقلانية في الفترة الأولى من عمله، فانه، بعد ذلك، وخاصةً خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها، كان يميل الى أن ينتقد بشدة مبدأ العقلانية، مُعارضاً اللاعقلانية الكاريزماتية لها(36). يبدو لي أنه لا يُمكن اثبات مثل هذا التطور الحاد لأعمال فيبر، وأن نهج ميتزمان يُبسّط الصورة الحقيقية. عندما نُقارن أعمال فيبر مثل (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية)-التي تنتمي الى الفترة الأولى- و(العلم كدعوة) Science as a Calling-من العام الأخير من حياته- يُمكن للمرء أن يجد في كليهما موقفاً متناقضاً من مبدأ العقلانية(64). يمكن للمرء أن يقول بحق (كان يوجد هنا تغيراً في اللهجة). كان مزاج "التشاؤم البطولي" أضعف عند فيبر الشاب، وأصبح أقوى عاماً بعد عام في حياته اللاحقة.
لم يكن لدى فيبر موقفاً مُزدوجاً تجاه العقلانية وحسب، بل كان له ايضاً موقف مُماثل تجاه نقيضها الكاريزما، وايضاً تجاه "التقليدية"، الأكثر بُعداً عنه. كان ذلك الظرف يشله دائماً كسياسي. كانت هذه الازدواجية تؤثر عليه في كل مرة يريد أن بشكلٍ لا لُبس فيه على بعض المواقف السياسية: بدا له كل مخرج يتم اكتشافه اليوم كأنه سيكون طريقاً مسدوداً غداً. اولئك الذين كانوا يعرفون مزاجه السياسي كانوا مُقتنعين بأنه يفضل النشاط السياسي المُحترف على العمل الأكاديمي، ولكن كانت مأساته الخاصة، أشار وولفغانغ مومسن بحق، أنه على الرغم من أنه كان مولوداً كـ"فاعل"، الا أن نشاطه كان دائماً مشلولاً بسبب العقل(65).

11- سوسيولوجيا الدين
أثّر الغموض الملحوظ في موقف فيبر تجاه أي نموذجٍ مثالي (العقلاني، الكاريزمي، التقليدي) على سوسيولوجيته عن الدين.
بدأت دراساته في هذا المجال بكتابه (الأخلاق البرونتستانتية وروح الرأسمالية) 1904، واستكملها بدراسات تاريخية وسوسويولوجية رئيسية تُحلل أديان العالم (الهندوسية، البوذية، الكونفوشيوسية، الطاوية، اليهودية، الخ). يمكن تمييز مرحلتين في عمله حول مسائل الدين، تختلف ليس فقط في موضوعها، ولكن ايضاً جزئياً في اتجاه اهتماماته البحثية. في المرحلة الأولى، عندما كان يعمل على كتاب (الأخلاق البروتستنانتية)، كان اهتمامه بالدين مقصوراً بشكل أساسي على المسائل المُتعلقة بالدور الذي لعبته في تشكيل الرأسمالية الحديثة من خلال التغير في الأخلاق الدينية بسبب صعود وتطور البروتستانتية، وعلى نطاقٍ أوسع، في تحقيق مبدأ العقلانية. لذلك أصبح موضوع دراسته هو الرابط بين المبادئ الأخلاقية الدينية وأشكال النشاط الاقتصادي، حيث كان جداله هنا يتركز ضد مفهوم ماركس حول الدين باعتباره نتاجاً للعلاقات الاقتصادية. كان موضوع جداله في حقيقة الأمر-وبغض النظر عما كان يُريده،-من حيث موضوعه، موجه ضد الاثبات الاقتصادي المُبتذل للدين، وليس الماركسية، لان الماركسية قد اعترفت تماماً بتأثير العوامل الروحية على البُنية الاقتصادية للمجتمع. احتفظ الموضوع الذي نوقِشَ في (الأخلاق البروتستانتية)، اي العلاقة والتأثير المُتبادل بين الدين والاقتصاد، احتفظ بأهميته في دراسات فيبر اللاحقة عن الدين أيضاً. كانت احدى الموضوعات الرئيسية في دراساته عن الأديات العالمية هي كيف أثرت المبادئ الدينية والأخلاقية على طابع وطريقة تحقيق النشاط الاقتصادي، وبشكلٍ أساسي أشكال دوافعه، وكيف "غيّر" Deformed هذا النشاط الاقتصادي المبادئ الدينية والأخلاقية. كانت وسيلته الرئيسية في التحليل هي المُقارنة، والتي دعت اليه منهجيته في النمذجة المثالية. كانت الدرجة التي سمحت بها هذه الأخلاق الدينية أو تلك لعقلنة النشاط الاقتصادي، هي موضوع مقارنته الأساسية، ان لم تكن الوحيدة. أوضح أن درجة العقلنة، تتناسب عكسياً مع قوة العنصر السحري الموجود بدرجات متفاوتة في أي دين. كانت ثُنائية الأضداد "العقلاني" و"السحري" احدى أدوات التحليل في كتابه (الأخلاق الاقتصادية لأديان العالم) Economic Ethic of World Religions(66). عندما انتقل فيبر من تشكل الرأسمالية الحديثة وتطورها الى انشاء السوسيولوجيا باعتبارها علماً تجريبياً عن المُجتمع، وبينما كان يتأمل في مكان ودور العامل الديني في بُنية التشكيل الاجتماعي، فقد نصب لنسفه هدفاً جديد، جنباً الى جنب مع الهدف السابق. لقد حاول، بوسائل سوسيولوجيا الدين، الكشف عن مُحتوى مقولة الفعل الاجتماعي: تضمنت سوسيولوجيا الدين معنىً ذاتياً كما موضوعه الخاص. في حين انه في سوسيولوجيا القانون والدولة قام بتحليل أشكال "التوجه نحو الآخر"، حاول في سوسيولوجيا الدين تقديم تصنيفٍ للأنواع الرئيسية للمعنى كما ظهرت في التاريخ. ونتيجةً لذلك، أصبحت سوسيولوجيا الدين قسماً مركزياً للسوسيولوجيا ككل.
مثلما كان من الصعب فصل العناصر في فعلٍ اجتماعيٍ حقيقيٍ بعضها عن بعض، "المعنى المُتضمن ذاتياً"، كذلك كان من الصعب أيضاً فصل التشكيلات الدينية-الأخلاقية عن تشكيلات الحقوقية المُرتبطة ارتباطاً وثيقاً في التاريخ. ولكن لأغراض التحليل، قام فيبر بتقسيمهما عند عمد لتوضيح "آلية" ارتباطهما. لذلك لم يعد الأمر في هذه السلسلة من الدراسات يتعلق فقط بعلاقة الدين بالاقتصاد، بل يتعلق أيضاً يعلاقة الدين بأشكال السُلطة، والدين والفن والعلم والفلسفة، الخ.
على الرغم من توسع وتعمق الموضوع، الا أن الوسائل المنهجية لتحليله ظلت كما كانت من قبل، وظل معيار المُقارنة هو نفسه هنا كما هو الحال في أقسام السوسيولوجيا الأُخرى، أي الفعل العقلاني الموجه نحو الهدف، وأنقى نموذجٍ له-الفعل الاقتصادي. ظل اثبات ارتباط أخلاق الدين بالأخلاق الاقتصادية، كما كان من قبل، أهم وسيلة لتحليل فيبر لكلٍ من الدين نفسه، وعلاقته بالقانون والدولة والعلم والفن، الخ. لم يُجر فيبر المُقارنة على أساس عناصر خارحية ثابتة للفعل الديني. هذا النهج لم يُسفر الا عن القليل فيما يتعلق بالظواهر الدينية. فقط فهم معنى الأفعال التي يتم تنفيذها، أي دوافع الأفراد الذي يفعلون، جعل التحليل السوسيولوجي للدين مُمكناً. كان من الضروري، قبل مُقارنة جميع أنواع السلوك الديني وتصنيفها، رؤية الشيء الذي يجب مقارنته وتصنيفه. كان دور منهجية (الفهم) مُهماً بشكلٍ خاص في سوسيولوجيا الدين. في حين أن بناء النموذج المثالي جعل فيبر قريباً من الوضعية والاسمية، فقد تطلّب مبدأه في "الفهم"، على العكس من ذلك، التأمل و"التجربة المُشتركة" Co-Experiencing (مما يُعطي اساساً للتفريق بين سوسيولوجيته في الدين وفينومينولوجيا ادموند هوسرل)(67). كان ذلك هو الذي جعل بيتريم سوروكين يدّعي أن سوسيولوجيا الدين عند فيبر كانت أساساً لسوسيولوجيا الثقافة ككل. اختلف منهج فيبر في دراسة الدين عن منهج المدرسة الفرنسية (دوركهايم وليفي برول وآخرون) من جهة، وعن التقليد الانجليزي (المُمتد من تايلور الى فريزر) من جهةٍ أُخرى. كانت دراسة نشأة الدين، وأشكاله المُبكرة، في المقام الأول، سمةً مُميزةً لكلٍ من المدرستين الفرنسية والبريطانية: لم يكن من قبيل الصدفة أن كلتا المدرستين اجتذبتا لدراسة المفاهيم الدينية للمُجتمعات البدائية، وانطلاقاً من ذلك، تم فحص بُنية الوعي الديني على هذا النحو. لم يفكر علماء الاثنوغرافيا وطلاب الدين البريطانيون، مُسترشدين بمبدأ التطورية Evolutionism، بأي طريقةٍ أُخرى لدراسة الدين غير دراسته من حيث نشأته (تطوره). حلل دوركهايم، الذي اعتبر الدين والمُجتمع مُتطابقين بشكلٍ عام، حلل مسألة أصل وجوهر الدين كشيئين مُتطابقين مع أصل وجوهر المُجتمع، لذا فان الأهمية التي كان دوركهايم يُعقلها على دراسة سوسيولوجيا الدين هو أمرٌ مفهوم.
في حين أن فيبر لم يجعل مسألة أصل الدين مشكلته المركزية، الا أنه ايضاً لم يدرس بشكلٍ خاص جوهره. كما لاحظ ارنست كاسيرير Ernst Cassirer بشكلٍ صحيح، فان فيبر في سوسيولوجيته قد طرح مسألة التكوين البحت Pure Composition للدين، وليس أصله التجريبي أو النظري(68).
تتنوع السياقات الخارجية للسلوك الديني لدرجة يصعب معها فهم هذا السلوك الا من وجهة نظر الخبرات والأفكار والأغراض الذاتية للأفراد المعنيين-باختصار، من وجهة نظر (معنى) السلوك الديني(69). استرشد فيبر ايضاً في دراسة الدين بمُتطلب الانطلاق من الفرد المُنفصل ودوافعه وخبراته وأهدافه. لذلك من المفهوم، انه على عكس دوركهايم، شدد فيبر على عُنصر مُختلف تماماً في أي دين، بما في ذلك (وحتى قبل كل شيء) الدين البدائي، أي الأفعال السحرية والعقائدية التي كانت دائماً، وفقاً له، هدفاً له. كتب "ان أبسط أشكال السلوك التي تُحركها العوامل الدينية أو السحرية، موجهة الى هذا العالم"(70)، في المقام الأول للسيطرة على الطقس (لاستدعاء المطر، لوقف العاصفة ومال الى ذلك) لعلاج المرض (بما في ذلك طرد الأرواح الشريرة من جسد الشخص المريض) والتنبؤ بالأحداث المُستقبلية، كان ذلك على وجه التحديد لان العمل السحري كان هدفه، في قناعة فيبر تحقيق بعض النتائج الدنيوية (وبهذا المعنى عقلانية)، واعتبر أنه من المُمكن تصنيف هذا النوع من الفعل على أنه "سلوك عقلاني نسبياً"(71).
يتمثل الجانب الثاني الأكثر أهميةً في سوسيولوجيا الدين عند فيبر في تركيزه على دور قدرات الفرد غير العادية والخارقة للطبيعة والتي بفضلها يمكن أن يكون ساحراً أو شاماناً أو نبياً او مؤسساً لدينٍ جديد. كانت هذه القدرات (الكاريزما الفردية)، حسب قوله، قوةً اجتماعيةً هائلة، لكنها قوة لاعقلانية وضعها في مُقابل العوامل العقلانية. وهكذا تعامل مع الكاريزما مرةً أُخرى كعامل يُشير الى الفرد ويتطلب الانتباه الى السلوك الفردي على وجه التحديد باعتباره خلية العملية الاجتماعية.
اختار فيبر ايضاً موضوع الدراسة وفقاً لاهتماماته ووفقاً للمنهجية. درس بشكل أساسي أديان المُجتمعات المُتقدمة، أي أديان العالم التي تقع على مستوىً عالٍ من التمايز الاجتماعي والتطور الفكري الكبير وظهور شحصية تتمتع بوعي ذاتي واضح. على الرغم من أن عنصر الطقوس والعبادة له مكانة في الأديان العالمية، فقد نمت أهمية العناصر العقائدية والأخلاقية مقارنةً بالعناصر الطقوسية الى ذلك الحد الذي ضعف فيه مبدأ الجماعة وبدأ فيه تمايز الفرد. وفي هذا الصدد، وجدت منهجيته، التي تطلبت تحليل دوافع الأشخاص الذين يتصرفون، موضوع دراستها المناسب.
درس فيبر، انطلاقاً من بيانات هائلة عن أشكالٍ متطورة للغاية من الحياة الدينية، مكان وماهية الظروف الاجتماعية والطبقات الاجتماعية والجماعات المهنية التي سادت فيها الطقوس الدينية، ودرس مكانة المبدأ التقشفي الفعال والمبدأ التأملي الصوفي والعقائدي الفكري. وهكذا حسب فيبر، كانت العناصر السحرية هي أكثر ما كان يُميز أديان الشعوب الزراعية، والفلاحين-في سياق الثقافات المتطورة للغاية. شكّل الايمان بالقدَر والمصير سمةً لدين المُجتمعات والفئات العسكرية. وكان لدين المناطق الحضرية وخاصةً الحرفيين طابعٌ عقلاني، وتعتمد هذه الجماعات أقل من الفلاحين على الظروف الخارجية والطبيعية، وأكثر على العمليات الأكثر ايقاعيةً وانتظاماً وعقلانيةً. ولكن وُجِدَ عدد كامل من العناصر المتنوعة في كل فئةٍ اجتماعيةٍ، منذ نشأت أديان العالم وانتشرت، كقاعدة عامة، في أكثر من منطقةٍ واحدة. عند فحص الصورة الفردية للأنظمة الدينية والأخلاقية العالمية، صنفها فيبر وفقاً للطبقات الاجتماعية التي كانت حاضنةً لها على وجه التحديد: كان حاضن الكونفوشيوسية هو البيروقراطي الذي يضع العالم في نظام، والهندوسية يحتضنها الساحر الذي يُنظم العالم، والبوذية للراهب التأملي المتجول في العالم، والاسلام يحتضنه المُقاتل الذي يغزو العالم، والمسيحية كانت للحِرَفي الرحّال. أولى فيبر اهتماماً خاصاً لمسألة المنبوذين، أي المجموعات التي كانت تحتل أدنى درجات التسلسل الهرمي، أو التي تقع خارجه. في حين توجه اهتمام الكونفوشيوسية لوضع العالم في نظام، والهندوسية لتنظيمه، والكاثوليكية والأرثذوكسية لتنويره وتطهيره، والتي كانت تُميز الطبقات الأرستقراطية الحاصلة على أفضل الامتيازات، فقد ظهرت الدوافع الآخروية والسعي أو التوجه الى العالم الآخر، كقاعدة، وليس بشكلٍ حصري، في مُقدمة "أديان المنبوذين".
أظهر فيبر، عند تحليله "لأخلاق المنبوذين الدينية" من البيانات التي جمعها حول اليهود، وخاصةً أديان الأنبياء وكذلك من التيارات والطوائف المسيحية المُختلفة، أن حَمَلَة "دين المنبوذين" لم يكونوا عبيداً أبداً أو عمالاً أحراراً، الذين لم يكونوا نشطين دينياً، وفقاً له. كما أنه لا يعتقد أن البروليتاريا المُعاصرة له، كانت استثناءاً في هذا الصدد(72). كان الأكثر نشاطاً دينياً من بين المحرومين، تبعاً له، الحرفيون والحرفيون الصغار وأبناء وبنات الطبقات الأكثر امتيازاً والذين تم نبذهم (على سبيل المثال، المثقفون الروس من الطبقة المتوسطة، الذين ألهمته كثيراً نظرتهم الى العالم). ولكن لا ينبغي الاعتقاد أن النزعة الاخروية والتوجه الى العالم الآخر قد استبعدت وجود المُثقفين. ناقش فيبر هذا الموضوع بشكلٍ خاص وتوصل الى استنتاج مفاده أن المنبوذين المُثقفين و"المثقفين الشعبيين" (على سبيل المثال، الحاخامات) كانت ظاهرةً شائعةً مثل وجود مفكرين كموظفين حكوميين كبار (على سبيل المثال، الماندرين الصينيين) أو رجال الدين (في الهندوسية أو اليهودية) وهكذا.
يصنف فيبر الأديان أيضاً وفقاً لمواقفها المُختلفة تجاه العالم. ميّز قبول العالم الدين الكونفوشيوسي، أما البوذية فاتخذت موقف رفض العالم. كتب "الأديان الهندية... هي مهد الأخلاق الدينية التي تنازلت عن العالم (نظرياً وعملياً)(73). قَبِلَت بعض الأديان العالم بشرط تحسينه وتصحيحه: مثل الاسلام والمسيحية والزرادشتية. كان موقف الأخلاق الدينية من مجال السياسة، وبشكلٍ عام من السُلطة والاكراه، يعتمد على ما اذا كان العالم مقبولاً والى أي مدى. كان الدين الذي يرفض العالم غير سياسياً كقاعدة ويستبعد الاكراه. كانت البوذية هي الأكثر اتساقاً في هذا الصدد، على الرغم من أن أفكار اللاعنف كانت ايضاً من سمات المسيحية. أشار فيبر، الى ان الدين الذي قَبِلَ العالم نسق آراءه بسهولة مع عالم السياسة، أما الأديان السحرية فلم تتعارض مع السياسة بشكلٍ عام.
كان لأديان العالم طابعاً خلاصياً كقاعدةٍ عامة. كانت مسألة الخلاص مركزيةً في الأخلاق الدينية. حلل فيبر التعاليم الدينية الأخلاقية وفقاً لطريق الخلاص الذي اقترحته. كان هناك نوعان مُختلفان في المقام الأول: الخلاص من خلال السلوك الشخصي، على سبيل المثال في البوذية. والخلاص من خلال شفيعٍ أو مُخلصٍ (اليهودية والاسلام والمسيحية). كانت طُرُق الخلاص في الحالة الأولى تتم من خلال أفعال طُقُسية أو احتفالات أو أفعال اجتماعية (حب الأقرباء، العمل الخيري، رعاية الجيران في الكونفوشيوسية)، أو، أخيراً، الكمال الذاتي. كان هناك في الحالة الثانية (الخلاص من خلال شفيع) العديد من الاختلافات: 1- من خلال اضفاء الطابع المؤسسي على الفرد (الانتماء الى الكنيسة كشرطٍ للخلاص في الكاثوليكية) 2-من خلال الايمان (اليهودية واللوثرية) 3- من خلال رحمة الأقدار (الاسلام والكالفينية).
أخيراً ميّز فيبر طُرُق الخلاص التي لم تعتمد كثيراً على تنفيذ الوصايا، وعلى أداء المؤمنين لأعمال الطقوس، كما على حالتهم الداخلية. هنا اكتشف ايضاً نوعين مُختلفين: الخلاص من خلال السلوك الأخلاقي الايجابي، والخلاص من خلال التأمل الصوفي. في الحالة الأولى كان المؤمن يُدرك نفسه كأداة للارادة الالهية. كان الشرط الضروري للطابع الأخلاقي لسلوكه هو الزهد. هنا بدوره (أي في الزهد)، يوجد حالتين مُمكنتان: اما أن يكون الهدف هو الهروب من العالم (ثم يكون الزهد وسيلةً للتحرر من جميع الروابط التي تربط الشخص بالعالم) أو يكون الهدف هو تحويل العالم (الكالفينية)- ويكون الزهد فيها وسيلةً تخدم الغايات الداخلية أو الاقتصادية أو العلمية أو اي نشاطٍ آخر). كان الهدف من الطريق الثاني، أي التأملي الصوفي، هو تحقيق حالة من الصفاء أو التنوير الصوفي، اتحاد صوفي مع الاله (الالوهية). تكون الوسيلة هنا الزهد، كما في الفعل الايجابي، والذي يمتلك طابعاً عقلانياً. كان السلوك العقلاني الزاهد موجهاً، مع ذلك، الى نبذ هذا العالم والانصهار في اللانهائي.
كما سنرى، فان طريقة المُقارنة والتصنيف التي لجأ اليها فيبر باستمرار دعت الى التمايز المُستمر ومعارضة ظواهر الوعي الديني في مقابل بعضها البعض. كان اساس التفريق الذي لجأ اليه فيبر هو النماذج المثالية، التي برزت كمبدأ عقلاني، ومبدأ كاريزمي، وأخيراً المبدأ التقليدي. وقفت وراء هذه النماذج المثالية "قيمته النهائية": 1- أخلاق الحب الأخوي (الخير). 2- "العقل" مُتحرراً من القِيَم وصائراً الى الوظيفية البحتة، أي العقلانية الشكلية. 3- المبدأ الزاهد العفوي، الكاريزما، أساس الأديان السحرية (القوة اللاعقلانية، القوة الأولية، "الجمال" الذي هو أكثر قوة لاعقلانية حيوية، الحب الجنسي). كانت هذه "المبادئ" الثلاثة بلا شك نماذجاً مثالية، ولم تظهر، كقاعدة عامة، في شكلٍ خالصٍ في الواقع التجريبي. ومع ذلك، ليس هناك شك في أنها كانت جميعها "قيماً" أساسية تتعارض وتنجذب الى بعضها البعض، تماماً مثل النماذج المثالية التي تم انشاؤها على أساسها.
يقول فيبر "نحن نُدرك مرةً أُخرى اليوم أن شيئاً ما يُمكن أن يكون مُقدساً، ليس فقط على الرغم من أنه ليس جميلاً، بل ولانه وبقدرٍ ما، ليس جميلاً. ستجد هذا موثقاً في الفصل الثالث والخمسين من سفر اشعياء وفي المزمور الحادي والعشرين. ومنذ نيتشه، نُدرك أن شيئاً ما يُمكن أن يكون جميلاً، ليس فقط بغض النظر عن الجانب الذي لا يكون خيراً فيه، بل يكون جميلاً في ذلك الجانب غير الخيّر. ستجد هذا مُعبراً عنه سابقاً في (أزهار الشر) Fleurs du mal حيث دعا شارل بولديير مجلّد قصائده. من الشائع مُلاحظة أن بعض الأشياء تكون حقيقية بالرغم من عدم جمالها ولا قداستها وحتى شرها"(74).
كان تعدد الآلهة (صراع الآلهة الأبدي)، هو الأساس الايديولوجي لتفكير فيبر، وقد ظهر بوضوحٍ خاص في سوسيولوجيا الدين، لانه هو نفسه تعامل مع الدين باعتباره الأساس المُطلق للقِيَم، على الرغم من عدم اقتصارها عليه. رأى فيبر أنه كان من المستحيل التوفيق بين "القِيَم" المتصارعة. لا يوجد تفكير علمي ولا تأمل فلسفي يمكنه أن يجد أسساً كافية لتفضيل مجموعةٍ من القيم على مجموعةٍ أُخرى. كتب يقول "لا أعرف كيف يُمكن للمرء أن يُقرر (علمياً) قيمة الثقافة الفرنسية أو الألمانية، لان هناك ايضاً آلهةً مُختلفةً تتصارع مع بعضها البعض، الآن وفي كل العصور القادمة.
... القَدَر، وبالتأكيد، ليس "العلم"، يسيطر على هذه الآلهة... اي انسانٍ ذاك، سيأخذ على عاتقه محاولة "الدحض العلمي" لأخلاق الموعظة على الجبل Sermon on the Mount (تعاليم يسوع الأخلاقية في انجيل متّى-المُترجم)؟ على سبيل المثال جُملة (لا تُقاوم الشر)، أو صورة قلب الخد للعدو؟ ومع ذلك، من الواضح، من منظور دنيوي، أن هذه أخلاق سلوك المُهانين. على المرء أن يختار بين الكرامة الدينية التي تمنحها هذه الأخلاق، وكرامة السلوك الانساني التي تُبشر بشيءٍ مُختلفٍ تماماً: قاموا الشر لئلا تكونوا مسؤولي عن شرٍ قاهر. من وجهة نظرنا النهائية، احدهما شيطان والآخر اله، ويجب على المرء أن يُقرر أيهما هو الهه وأيهما شيطانه(75).
يمكن العثور على التعددية الالهية هذه على مستوى "القيم النهائية" عند فيبر أكثر كمفكر قريب في نظرته الى تعاليم هوبز وميكافيلي ونيتشه، وليس كأحد أتباع كانط او الكنطيين الجدد. لقد ورث عن الثلاثة السابقين سعيه الجاد لفهم الحقيقة مهما كانت، ومن تقاليدهم نشأت قناعاته العميقة بأن الحقيقة فظيعة وقاسية وليست مواساة وطمأنة. كما ورث عن نيتشه "حبه للقدر" مهما كان قاسياً.
تضمنت سوسيولوجيا فيبر جميع التناقضات التي تُميز المُجتمع الرأسمالي الحديث، وفجرت تفكيره من داخله. كان عليه، من أجل التغلب عليها، أن يُغير افتراضات تفكيره وأن يتغلب على حدود النظرة البرجوازية الليبرالية للعالم، وهو ما لم يستطع فعله بوعي ومبدأية، ولم يكن يُريد أن يفعله. أعلن فيبر عام 1885 بشكلٍ لا لُبس فيه أنه عضو في الطبقة البرجوازية وشعر بنفسه أنه كذلك، وأنه نشأ في أحضان ارائها ومُثُلها(76).

12- ماكس فيبر من المنظور التاريخي
توافق موقف فيبر النظري المتناقض مع موقفه الاجتماعي-السياسي المتناقض وغير المُتسق لليبرالية القومية الألمانية. اضطرت الطبقة الرأسمالية في ألمانيا في مطلع القرن العشرين الى القتال ليس فقط ضد القوى اليمينية المُحافظة، كما كانت تفعل سابقاً، ولكن أيضاً ضد القوى اليسارية، والقوى الأكثر راديكاليةٍ منها. وجد الاطار الذهني للطبقات الوسطى الألمانية، المحصورة بين اليونكرز التي لم تُغادر المشهد بعد، والبروليتاريا، وجد تعبيره في توجه فيبر السياسي.
يُفسر موقعه ايضاً، موقفه المُتناقض تجاه ماركس. من ناحية،ـ اعترف بماركس باعتباره باحثاً بارزاً وضع الأسس لدراسة الرأسمالية وشَهِد عاملاً قوياً للتطور التقدمي فيها مُقارنةً بنمط الاقتصاد الاقطاعي. من ناحيةٍ أُخرى، اعتبر فيبر أن الاستنتاجات التي استخلصها ماركس من تحليل الرأسمالية طوباوية. لم يقبل طريق التحويل الثوري للرأسمالية الذي اقترحه ماركس، واعتبر أنه من المُستحيل بناء نمط جديد من المُجتمع، المُجتمع الاشتراكي.
يظهر تأثير ماركس، كما أشرت سابقاً، في تشكيل أحد أهم مفاهيم سوسيولوجيا فيبر، أي مفهوم العقلانية. لكن فيبر شن حرباً ضد مفهوم الماركسية له، مُحاولاً اظهار أن العقلانية الشكلية كمبدأ للاقتصاد الرأسمالي الحديث لم تكن نتيجةً للانتاج الرأسمالي ولكنها نشأت من عدد كامل من العوامل المُتعددة في لحظةٍ تاريخيةٍ مُعينة. العقلانية الشكلية وفقاً له، كانت مصير أوروبا (والآن الانسانية جمعاء) والتي كان من المُستحيل تجنبها. اعتبر فيبر ان رغبة الماركسية للتغلب على الرأسمالية وبناء مُجتمع اشتراكي جديد، هي أمر طوباوي. لم يكن يميل الى اعتبار الرأسمالية نظاماً كاملاً بدون مشاكل، ولكنه لم ير بديلاً له. وجدت العقلانية الشكلية الصرف والتي تفتقر الى أي محتوىً قِيَمي في فيبر نصيراً لها، على هذا الأساس استمرا في اعتبار نفسه ليبرالياً من الطبقة الوسطى، دون أوهام. نقّب فيبر عن العقلانية الشكلية ليس فقط في الاقتصاد ولكن ايضاً في العلم والقانون والأخلاق الدينية، وذلك لاثبات أنه لا يُمكن أن تُحقق اعادة بناء اقتصاد المُجتمع النتيجة المرجوة. نشأت مبادئه المنهجية ايضاً من خلال جدله ضد الماركسية. كان مطلب التحرر من القِيَم، على سبيل المثال، موجهاً بوضوح ضد مبدأ التحزب في العلوم الاجتماعية. وضع فيبر حداً فاصلاً حاداً بين المعرفة العلمية كمعرفة موضوعية لا تعتمد على موقف العالم الايديولوجي، والنشاط السياسي حتى للعالم نفسه كمجالين مُختلفين تماماً يجب على كلٍ منهما أن يكون مُستقلاً عن الآخر. لكن كما أوضحت بالفعل، لم يستطع فيبر نفسه أن يُدرك على يُحقق هذا التقسيم الصارم.
كان بناء النماذج المثالية، بمفهوم فيبر، بمثابة وسيلة للبحث "المُستقل عن القِيَم". لقد طور منهجية النمذجة المثالية من خلال الصراع المباشر ضد المدرسة التاريخية، وبشكلٍ غير مباشر ضد ماركس. في الواقع، سعى الأخير في أعماله الى فهم المُجتمع ككلٍ مُحدد، مستخدماً لهذا الغرض طريقة الصعود من المًجرّد الى الملوس، والذي يُمكن من خلاله اعادة انتاج الكُل، في مفهوم. كان فيبر يُصارع طوال حياته ضد السوسيولوجيين والمؤرخين الذين اعتمدوا على بُنىً كُلية، وكان بلا شك يُحارب ماركس ايضاً. كان ابتكاره لنظرية الفعل الاجتماعي، الذي كان من المُفترض أن يبدأ من التأمل بالفرد والذات في سلوكها، نتيجة جدالٍ ليس فقط ضد العضويين (ليبون ودوركهايم) ولكن ايضاً ضد الماركسية، والتي عزا اليها، دون أسس، التقليل من دور الوعي الانساني والدافع الفردي في ديناميكيات العمليات الاجتماعية-التاريخية.
كان تأثير فيبر على السوسيولوجيا الماركسية هائلاً، لكنه مُلتَبس. بَذلَ بارسونز، الذي قام بالكثير للترويج له في الولايات المتحدة، جهداً هائلاً لتركيب أفكار فيبر مع أفكار باريتو ودوركهايم في سياق نظريةٍ موحدة حول الفعل الاجتماعي. تم انتزاع مقولات فيبر النظرية من سياقها التاريخي لهذا الغرض وتحويلها الى مفاهيم ذات محتوىً خالد. في الوقت نفسه، تم استخدام فيبر كراية للتوجه السوسيولوجي المُعادي للطبيعانية. عززت أزمة البنيوية الوظيفية في الستينيات الاهتمام بأفكاره المُناهضة للوضعية والتاريخية، لكنها (أي الأزمة) أثارت في الوقت نفسه انتقادات حادة-من جهة اليسار- لموضوعيته المنهجية، ومبدأ "التحرر من القِيَم" (الفين غولدنر وآخرين). أصبح الموقف من فيبر في السوسيولوجيا الألمانية الغربية، أو بالأحرى، تفسيره، خطاً فاصلاً في نفس الفترة بين التوجهات العلمية الوضعية والتوجهات اليسارية (خاصةً مدرسة فرانكفورت). ظهر هذا الصراع، الذي غطى مجموعةً واسعةً من المواضيع، بشكلٍ واضح في مؤتمر السوسيولوجيين في ألمانيا الغربية في عام 1964 المُكرّس لمئوية فيبر(77). في ورقة ماركوز، كما في (جدل التنوير) Dialectics of Enlightenment لهوركهايمر وأدورنو 1947، تمت ازالة الغموض الذي ارتبط بمفهوم العقلانية الشكلية عند فيبر، وتم تفسير موقفه من هذه النقطة على أنه سلبي Negative (و) بشكلٍ لا لُبسَ فيه.
تغير الوضع في منتصف السبعينيات، تمر السوسيولوجيا الألمانية الغربية اليوم بنوعٍ من "احياء فيبر" في اتجاهٍ معاكسٍ تماماً للاهتمام به في السوسيولوجيا اليسارية الراديكالية في الستينيات. وجد هذا الاتجاه الجديد تعبيراً له في أعمال كونستانس سيفارث Constans Seyfarth وجيرت شميت Gert Schmidt و وولفغانغ شلوشتر Wolfgang Schluchter وآخرين(78). ان كُتّاب هذا الاتجاه، من ناحية، يُبرزون الجذور الأخلاقية لمبدأ العقلانية، ومن ناحية أُخرى، يقترحون تفسيراً اجتماعياً ملموساً له، لاظهار ما هي الطبقات الاجتماعية التي كانت تحتضنه خلال تاريخ العصر الحديث. يواصل يورغن هابرماس الدفاع عن أفكار مدرسة فرانكفورت حول فيبر-مع بعض التحفظات، ضد أعضاءها(79).

*بياما بافلوفنا جايدينكو مؤرخة ماركسية رائدة في الفلسفة والتاريخ الفكري لأوروبا الغربية وروسيا. وُلِدَت عام 1934 في اوكرانيا السوفييتية ودرست الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية وتخرجت منها عام 1957 بعد أن تخصصت في تاريخ الفلسفة الأجنبية. دافعت جايدينكو عام 1962 عن اطروحتها في الدكتوراة حول مارتن هايدغر في معهد بليخانوف للاقتصاد الوطني في موسكو. درّست في الستينيات في قسم تاريخ الفلسفة الغربية جامعة موسكو الحكومية، بينما عمِلَت من عام 1969-1988 في معهد تاريخ العلوم والتكنيك في أكاديمية العلوم السوفييتية. هنا أكملت ودافعت عن اطروحتها في الدكتوراة عام 1982 وهي تحليل تاريخ مفهوم العلم من القرن السادس قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر الميلادي. وصارت عام 1988 مديرةً لقسم (المسائل الفلسفية في تاريخ العلم) في أكاديمية العلوم. ان الموضوعات الرئيسية لأعمال جايدينكو هو البحث في كتابات الفلسفة الوجودية سورين كيركيغارد مروراً بمارتن هايدغر وكارل ياسبرز ونيكولاي بيرديائيف وجان بول سارتر. وتاريخ العلم وعلى وجه الخصوص الأسس الفلسفية للعلوم الطبيعية في الفترة الحديثة المبكرة (العقلانية). والفلسفة الروسية مع التركيز على تقاليدها المثالية.

1- Ben В. Seligman. Main Currents in Modern Economics. Economic Thought since 1870 (The Free Press, Glencoe, III., 1962), p 24
أ- فيلهلم ديلتاي 1833-1911 فيلسوف مثالي ألماني، استاذ في جامعة برلين، من دُعاة ما يُسمى بفلسفة الحياة. وتدور أفكار ديلتاي على فكرة الروح الحية التي تتطور في أشكالٍ تاريخية. وقدر رفض ديلتاي امكان معرفة قوانين العملية التاريخية، وزَعِمَ أن الفلسفة لا يمكن أن تكون ادراكاً للماهيات التي تعلو الحس، وأنها لا يُمكن الا أن تكون (علماً للعلوم) أي (نظرية في العلم). ان ديلتاي يُقسّم عالم العلم الى علوم طبيعية وعلوم الروح، وموضوع العلوم الأخيرة هو الواقع الاجتماعي. والفلسفة مفروضٌ فيها أن تُحلل الوعي، لان الوعي وحده يُقدم الوسيلة التي بها نستطيع أن ننطلق من التجارب المُباشرة للـ(أنا) ونصل الى جوهر الحياة الطبيعية والروحية. وعلم النفس الذي يُركّز ديلتاي عليه هو أهم علوم الروح جميعاً، وهو يقصد علم النفس الوصفي لا التفسيري القائم على السببية. وديلتاي في دراسته للفنون التخيلية يُركّز على دور الخيال الذي يرفع الشعراء به ما هو عَرَضي الى مستوى ما هو جوهري، والذي به يُصوّر النمطي على أنه أساس الفرد. وفي رأي ديلتاي ان (علم التأويل) أو (التفسير) يربط بين الفلسفة وعلم التاريخ.
(الموسوعة الفلسفية، وضع لجنة من العُلماء والأكاديميين السوفييت، ترجمة سمير كَرَم، دار الطليعة للطباعة والنشر، ص197).
2- Max Weber. Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie. Gesammelte Aufsätze zur Wissenschaftslehre (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1922), p 473
3- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص49.
4- See Max Weber. Wirtschaft und Gesellschaft. In: Grundriss der Sozialökonomik, III. Abteilung (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1925), p 10
5- "من أجل أن نرى ارتباطات سببية واقعية، علينا أن نُنشئ أُخرى خارج الواقع". Max Weber. Gesammelte politische Schriften (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1951), p 287
6- See Max Weber. Die ‗Objektivität‘ sozialwissenschaftlicher und sozialpolitischer Erkentnis. Gesammelte Aufsätze zur Wissenschaftslehre, p 190
7- A. Walter. Max Weber als Soziologe. Jahrbuch für Soziologie, 1926, 2:3
8- من الأمثلة على النماذج المثالية النشوئية "المدينة القروسطية"، "الكالفينية"، "المنهجانية" Methodism، "ثقافة الرأسمالية"، الخ. لقد أوضح، أن هذه النماذج المثالية النشوئية جميعها تشكلت من خلال ابراز جانب واحد من الحقائق المُعطاة تجريبياً. ان الاختلافات بينها وبين مفاهيم النموذج المثالي من النوع الواحد، أنه يتم الحصول على مفاهيم النوع الواحد، حسب رأيه، من خلال ابراز سمات كل الظواهر المُعطاة، في حين أن النموذج المثالي النشوئي لا يفترض مثل هذه الشمولية الشكلية.
9- See Hans Freyer. Soziologie als Wirklichkeitswissenschaft. Logische Grundlegung des Systems der Soziologie (Verlag von B.G. Teubner, Leipzig, 1930), p 148
10- See Max Weber. Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie. Op. cit., pp 403-404
11- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص28
12- Max Weber. Über einige Kategorien... Op. cit., p 408
13- Ibid., p 415
14- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص28-29
15- نفس المصدر
16- See Talcott Parsons. The Social System (The Free Press, New York Collier, Macmillan-limit-ed, London 1966), p 4
17- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص40
18- See Reinhard Bendix and Guenther Roth. Scholarship and Partizanship. Essays on Max Weber (Univ. of California Press, Berkeley, 1971), pp 290-291
19- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص47
20- See Max Weber. Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie. Op. cit., p404
21- احتاج فيبر مفهوم السلوك الموجه عقلانياً بشكلٍ شرعي من أجل توصيف الفعل العقلاني الموضوعي. يتابق الفعلين الموجه نحو الهدف، والموجه عقلانياً بشكلٍ شرعي عندما تكون الوسائل المُختارة ذاتياً باعتبارها الأكثر مُلائمةً لتحقيق غاية مُعينة، هي أيضاَ، الأكثر مُلائمةً من الناحية الموضوعية.
22- Max Weber. Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie. Op. cit., p 408
23- Ibid., p 411
24- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص29
25- See Max Weber. Über einige Kategorien der verstehenden Soziologie. Op. cit., p.410
26- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص39
27- نفس المصدر
28- See Hans Gerth and C. Wright Mills (Eds.) From Max Weber: Essays in Sociology (OUP, New York, 1946), p 55. Cited from Lewis A. Coser. Op. cit, p 218
29- Ibid., p 219
30- وولفغانغ مومسن، وهو مرجع في دراسة فيبر، اعتبر بحق أن هذا الموقف هو صدىً للمبادئ المنهجية للانسانية الكلاسيكية. كتب: "ان سوسيولوجيا فيبر لم تكن خاليةً من القيم على الاطلاق. حتى نقطة انطلاقها الفردية الجذرية يُمكن اعتبارها مفهومة فقط اذا انطلقنا من التقليد الانساني الاوروبي واحترامه للفرد" See Wolfgang J. Mommsen. Max Weber und die deutsche Politik. 1890-1920. J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1959, p 69
31- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص50
ب- القبول ليس مُماثلاً للاعتراف في المفاهيم الحقوقية البرجوازية. هذا الأخير يعني الاقرار بالذنب. أما القبول، فهو الاقرار الطوعي من قِبَل طرفٍ في دعوى قضائية أو جنائية بأن بعض الحقائق التي تتعارض مع مزاعمه، صحيحة. فهو عادةً ما ينطبق على المسائل المدنية، وفي القضايا الجنائية ينطبق على الوقائع التي لا تنطوي على نية اجرامية. مثلاً، في دعوى قضائية حول ما اذا كان المُدّعى عليه قد قاد سيارةً باهمال نحو المُشاة، فان اعتذار المُدّعى عليه للمُدّعي ودفع فواتيره الطبية هي قبولات أو اقرارات يُمكن تقديمها كدليل ضد المُدّعي عليه.
جـ- في كتاب فيبر (الاقتصاد والمُجتمع-الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات، المُنظمة العربية للترجمة 2015) يُترجم محمد التركي مفهوم فيبر Domination بأنها (السيادة). وأنا اترجمها (الهيمنة). قد لا يكون هناك فرق، لان ما هو سائد هو مُهيمن. ولكن قد يختلط مفهوم السيادة بمعنى الهيمنة، بمفهوم السيادة Sovereignty بمعنى الحكم، لذلك أفضل الالتزام بالترجمة التي اقترحتها أنا.
32- حول هذه النقطة، انظر النقاش المُثير للاهتمام بين وولفغانغ مومسن ويوهانس وينكلمان Johannes Winckelmann في كتاب مومسن Max Weber und die deutsche Politik. 1890-1920, pp 414-419
د- يُترجم صلاح هلال goal-oriented rational ، والذي نُترجمه نحن (العقلاني الموجه نحو الهدف)، يُترجمه (عقلاني غائي). قد يصح هذا. ولكن فيبر يتحدث عن (المعنى) و(الهدف) بشكلٍ واضح، لذلك نعتقد أن ترجمتها كما هي ستكون مفيدةً أكثر، خصوصاً، أن مفهوم (الغائي) و(الغائية) لها معنىً مُعين آخر في السوسيولوجيا والفلسفة، لا نُريد أن نخلطه بالمعنى الذي يُريده فيبر. لذلك سألتزم بترجمتي الخاصة.
33- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص53-54
34- نفس المصدر، ص54
35- نفس المصدر، ص54-55
36- نفس المصدر، ص55
37- لاحظ تالكوت بارسونز، عند تحليله لمفهوم فيبر حول الفعل الاجتماعي، أن مفهوم التقليدانية Traditionalism لا علاقة له نظرياً بالمفهوم السيكولوجي حول العادة Habit. See his The Structure of Social Action (The Free Press, Glencoe, III., 1949), p 647
38- مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ماكس فيبر، ترجمة صلاح هلال، المركز القومي للترجمة 2011، ص61
39- Max Weber. The Theory of Social and Economic Organization, P184,185
40- Karl Marx. Economic Manu-script-s of 1857-58. In: Karl Marx and Frederick Engels. Collected Works, Vol. 28 (Progress Publishers, Moscow, 1986), pp 222-223
41- لم يُنكر فيبر هذا التأثير، بالمناسبة. علاوةً على ذلك، صنّف فيبر ماركس على أنه من أكثر المُفكرين الذين أثروا بقوة في الفكر السوسيولوجي والتاريخي للقرن العشرين. See Eduard Baumgarten. Max Weber. Werk und Person (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1964) pp 554-555
42- نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة راشد البراوي، دار النهضة العربية 1969، ص23
43- نفس المصدر، ص24
44- Karl Löwith. Max Weber und Karl Marx. In: Gesammelte Abhandlungen. Zur Kritik der geschichtlichen Existenz (W. Kohlhammer Verlag, Stuttgart, 1960), p 27.
45 Max Weber. Staatssoziologie (Duncker & Humblot, Berlin, 1956), p 99
45- the Theory of Social and Economic Organisation, Max Weber, Translated by A. M. Henderson and Talcot Parsons, The Free Press, Glencoe Illinois 1947, P.324
46- Ibid
47- الاقتصاد والمُجتمع-الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات، ماكس فيبر، ترجمة محمد التركي المُنظمة العربية للترجمة 2015، ص743.
48- نفس المصدر، ص744-745
49- the Theory of Social and Economic Organisation, Max Weber, Translated by A. M. Henderson and Talcot Parsons, The Free Press, Glencoe Illinois 1947, P.333-334
50- Ibid., p 337
51- Max Weber. Gesammelte Aufsätze zur Soziologie und Sozialpolitik (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1924), p 413
52- الاقتصاد والمُجتمع-الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات، ماكس فيبر، ترجمة محمد التركي المُنظمة العربية للترجمة 2015، ص746
53- كتب فيبر أن الهيمة الأبوية هي أصدق أنواع الهيمنة التقليدية Max Weber. Staatssoziologie, p. 103. من السهل أن نُلاحظ هنا أن تمييزه للأنواع التقليدية والشرعية للسلطة نشأ في جوهره من مُعارضته بين المُجتمع والجماعة Gemeinschaft and Gesellschaft الذي قام به تونيز.
54- أشار فيبر كثيراً الى عدم استقرار وضعف الشرعية في الدولة القانونية الحديثة. يبدو أن نوع الهيمنة القانوني، على الرغم من مُلاءمته للمجتمع الصناعي الحديث، يحتاج الى "تعزيز" من نوعٍ مُعين. لذلك اعتبر أنه من المفيد استعادة المَلَكية الوراثية كرأسٍ للدولة كما حدث في بعض الدول الأوروبية.
55- Max Weber. Staatssoziologie, p. 104
56- Ibid., p 103
57- Ibid., p 104
هـ- هذه آية من الانجيل "وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعدائكم، باركوا لأعنيكم، أحسنوا الى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم".
58- Max Weber. The Theory of Social and Economic Organization, p 361
59- Ibid., p 363
60- Max Weber. Staatssoziologie, p 105
61- كانت الأخلاق والعادات، كما أظهر فيبر نفسه، هي التي أعطت للقانون شرعيته!
62- من أجل تجنب أُحادية الجانب عند فحص آراء فيبر السياسية، يجب أن نضع في اعتبارنا أنه لم يشك أبداً في الحاجة الى برلمان يمكن أن يحد من سُلطة القائد المُنتخب عن طريق الاستفتاء، وأن يُمارس (اي البرلمان) وظيفة السيطرة فيما يتعلق بالقائد وبالجهاز الاداري.
63- Arthur Mitzman. Iron Cage: An Historical Interpretation of Max Weber (Alfred A. Knopf, New York, 1970), pp 168-185
64- In this connection see the appendix to a German edition of this work Max Weber. Die protestantische Ethik, München, Hamburg, 1965
65- Wolfgang J. Mommsen. Max Weber und die deutsche Politik. 1890-1920. J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1959, p 35
66- Weber published a series of papers on the sociology of world religions between 1916 and 1919 in Archiv für Sozialwissenschaft und Sozialpolitik (1916, 41 1916-17, 42 1917-18, 44 1918-19, 46)
67- See Maurice Merleau-Ponty. Les aventures de la dialectique (Gallimard, Paris, 1955) Max Scheler. Die Wissensformen und die Gesellschaft (Francke, Bern, 1960)
68- Ernst Cassirer. Philosophie der symbolischen Formen, Vol. 2 (Cassirer, Berlin, 1925)
69- Max Weber. Economy and Society. An Outline of Interpretive Sociology, Vol. 1 (Univ. of California Press, Berkeley, 1978), p 399
70- Ibid
71- Ibid., p 400
72- See Wolfgang Bessner. Die Begriffsjurisprudenz, der Rechtspositivismus und die Transzendentalphilosophie Immanuel Kants as Grundla- gen der Soziologie und der politischen Ethik Max Webers. Dissertation (Dissertationsdruck, Blasaditsch, Augsburg, 1968), p 78
73- Max Weber. Religious Rejections of the World and Their -dir-ection. In: From Max Weber, Op. cit., p 323
74- Max Weber. Science as a Vocation. In: From Max Weber, Op. cit., pp 147-148
75- Ibid., p 148
76- See Max Weber. Gesammelte politische Schriften (Verlag von J. С. B. Mohr (Paul Siebeck), Tübingen, 1951), p 26
77- See Eduard Baumgarten. Op. cit. Ernst Cassirer. Op. cit
و- أراد هوركهايمر وأدورنو من خلال مفهومهما حول السلبية Negative أن يُعارضا به المفهوم الماركسي للنفي وحتى المفهوم الهيغيلي له. تحتوي كل ظاهرة من الظواهر على نقيضها، وعندما يتطور الصراع بين الأضداد ينفي احدى الضدين أحدهما الآخر فتتضمن الظاهرة كل ما هو ثمين أو مفيد الخ، مما هو منفي، وتتطور الى ظاهرة جديدة على هذا الأساس. عند أدورنو وهوركهايمر، يحصل النفي للقديم بشكل كلي.
78- 78 See Constans Seyfarth. Gesellschaftliche Rationalisierung und die Entwicklung der Intellektuellenschichten. Zur Weiterführung eines zentralen Themas Max Webers. In: WM. Sprondel und Constans Seyfarth (Eds.). Max Weber und die Rationalisierung sozialen Handelns (Ferdinand Enke Verlag, Stuttgart, 1981), pp 189-223 Gert Schmidt. Max Webers Beitrag zur empirischen Industrieforschung. In: Kölner zeitschrift für Soziologie und Sozialpsychologie, 1980, 32, 1: 76-92 Wolfgang Schluchter. The Paradox of Rationalization. On the Relations of ‗Ethics‘ and ‗World‘ in Max Weber. In: Zeitschrift für Soziologie, 1976, 5, 3: 256-284
79- Jürgen Habermas. Theorie des kommunikativen Handelns, Vol. I, (Suhrkamp, Frankfort-on-Main, 1981), pp 240ff

ترجمة الفصل الحادي عشر من كتاب:
A History of Classical Sociology, a Group of Soviet Sociologists, Edited By Prof.I. S. Kon,
Translated By H. Campbell Creigton, Published 1979K Translated 1989, Progress Publisher