-إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية-


عبد السلام أديب
2020 / 8 / 31 - 17:52     

1 - تحت هذا العنوان المقتبس من البيان الشيوعي لسنة 1848، شاركت الى جانب رفيقين آخران في الندوة الرقمية التي أعدها عدد من الرفاق الماركسيين اللينينيين خلال شهر غشت، بثلاث مواضيع، أخضعت للنقاش من طرف المشاركات والمشاركين.

2 - وقد عملت على تقديم الورقة التالية حول الصراع الطبقي في الظرفية التي يجتازها العالم والمغرب حاليا، وهي ظرفية أزمة اقتصادية واجتماعية مفرطة تتخللها إرادة هيمنية متزايدة لأجهزة الدول الوطنية الى درجة لجوءها الى ممارسات فاشستية لفرض ارادتها اتجاه الشعوب. وحيث بدأنا نشهد في كل مكان انفجارات اجتماعية كرد فعل على تقييد حريات الأشخاص والافقار المعمم المصاحب له.

3 - وقد تطرق العرضان الآخران المقدمان من طرف الرفيقين اللذان سبقاني، الى أزمة الماركسيين اللينينيين في الوضع الراهن، وتفشي الجهل بينهم بخصوص التحليلات الماركسية الكلاسيكية وانتقال الكثير منهم، بدون ادراك، إلى الدفاع عن أطروحات معسكر العدو الطبقي، وخاصة انكار وجود الطبقات وانكار وجود البرجوازية والبروليتاريا، مقدمين لإثبات اطروحاتهم مجرد "حدوثات" و"اخبارات" لا تمت الى مجال الفقه الماركسي بصلة فبالأحرى الى المادية التاريخية والجدلية. ولذلك دعا الرفيقان الى نضال أيديولوجي دون هوادة ضد التحريفية والاصلاحية والتصفوية، بمعنى النضال ضد الانحراف الواضح عن الخط الماركسي اللينيني الصحيح وضد الانخراط في اجندات إصلاحية لنمط الإنتاج الرأسمالي باسم الماركسية وضد محاولات التحريفيين الماركسيين تصفية المنظمات المناضلة الماركسية اللينينية الثورية عن طريق تشويه الفكر الماركسي اللينيني ومحاربة الخط البروليتاري الثوري بشتى الأساليب الأيديولوجية المفبركة المكشوفة. كما أكد الرفيقان على أن المساهمة في هذه الندوة الرقمية يشكل جزءا من الصراع الأيديولوجي ضد التحريفية بكافة أشكالها وضد الإصلاحية والتصفوية.

4 - وفي ما يلي مضمون الجزء الأول من المداخلة حول نمط الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية وطبيعة الصراع الطبقي أو بعبارة أخرى طبيعة الصراع الطبقي في المرحلة الحالية من الهيمنة الرأسمالية الامبريالية في القرن الواحد والعشرين.

5 - يشير كارل ماركس في رسالته الى كوغلمان في 11 يوليوز 1868 إلى أن "كل طفل يعرف أن أمة تتوقف عن العمل، لن أقول لسنة واحدة، بل حتى لأسابيع قليلة، سوف تفنى. وان كل طفل يعرف أيضا أن كتل المنتجات المقابلة للحاجات المختلفة تتطلب کتلا مختلفة ومحددة كميا من العمل الاجمالي للمجتمع... ان العلم يستقیم بالضبط في البرهان على الكيفية التي يؤكد بها قانون القيمة نفسه".

6 - وتؤكد هذه الإشارة لماركس أن الانسان مضطر موضوعيا لإنتاج أسباب عيشه والا توقفت حياته عن الاستمرار، وفي سياق بحته عن تلبية حاجياته الحياتية منذ البدايات الأولى للإنسان في ظل شيوعيته البدائية، تولدت القيمة الاستعمالية للاشياء نظرا لضرورتها لاستمرار الحياة، ولتحقيق استمرارية توفير الحاجيات، تولدت أنماط الإنتاج المتعددة والمختلفة حسب تطور تطور تقنيات الإنتاج والعلاقات الإنتاجية التي تفرضها والتي من خلالها يتم اشباع الحاجات الضرورية الفردية والجماعية.

7 - وتنكشف أمامنا الطبيعة الأولية لنمط الإنتاج بصفة عامة، رغم الاختلافات الطارئة عليه في الزمان والمكان، وتتمثل في أولا في التقنيات المتطورة المستعملة في الإنتاج، والتي يمكن الاصطلاح عليها بقوى الانتاج من جهة وثانيا، في علاقات المنتجين بعضهم ببعض، أي ما نصطلح عليه
بعلاقات الإنتاج. وقد سبق لي في عرض سابق منشور في الرابط التالي بالحوار المتمدن :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=683283

أن قدمت سيرورة الانتقال الاجتماعي من المجتمع اللاطبقي في العصر الباليوليتي الى الانقسام الذي حدث في عصر الثورة الزراعية أو ما يسمى بالعصر النيوليتي. وهو الانتقال الذي حدث نتيجة التحول في أنماط الإنتاج القائمة وخاصة التأثير القوي لقوى الإنتاج في افراز التشكيلات الاجتماعية الطبقية.

8 - وقد أكد كارل ماركس صراحة على الدور الحاسم لبنية نمط الإنتاج في ظهور التشكيلات الاجتماعية الطبقية، حيث يقول: "إن العلاقة المباشرة لمالكي شروط الإنتاج بالمنتجين المباشرين، هو ما نكتشف فيه على الدوام السر الأعمق والأساس الخفي لمجمل البناء الاجتماعي". (رأس المال، المجلد الثالث، الصفحة: 916].

9 - وتفيدنا مقولة كارل ماركس هذه بأنه في نفس الوقت الذي يعمل فيه نمط الانتاج على انتاج السلع المادية، فإنه يعيد إنتاج علاقات الإنتاج الطبقية بحسب الحقبة التي تمر منها البشرية. وفي نفس الوقت الذي يعيد فيه نمط الإنتاج، إنتاج هذه العلاقات، فإنه يعيد في نفس الوقت إنتاج ظروف وجوده فوق البنيوية؛ أي الشروط الأيديولوجية والسياسية وعلاقات القوة، وتحديد الدور الذي تلعبه داخل البنية الاجتماعية.

10 - ففي حالة نمط الإنتاج الإقطاعي، ليست القوانين الاقتصادية هي التي تضمن إعادة إنتاج النظام. من أجل الاستمرار في تخصيص الفائض من قبل الملاك، فلا بد من التدخل النشط والأساسي للعناصر الفوقية. فبدون علاقة تبعية أساسية مرتبطة بالعوامل الأيديولوجية والقانونية السياسية، لن يعمل الأقنان في أرض السيد، ولن يسلموا جزءًا من عملهم في أشكال أخرى من الريع (عينًا أو نقودًا). في هذا النمط من الإنتاج، إذن، فدور البنية الفوقية الأيديولوجية أو القانونية - السياسية هي المهيمنة، حيث يتم ضمان إعادة إنتاج نمط الإنتاج من خلالها.

11 - فإلى هنا يمكننا التمييز داخل بنية نمط الإنتاج الطبقية بين قوى الإنتاج التي تهيمن عليها الطبقة المسيطرة وإدارة علاقات الإنتاج القائمة بين الطبقة المسيطرة والطبقة المسيطر عليها. وفي نفس الوقت أمكننا ملاحظة من جهة وجود بنيات تحتية تتمثل في كيفية اشتغال قوى الإنتاج بما فيها الايدي العاملة الإنسانية لتأمين استمرارية انتاج الحاجيات الأساسية لاستمرار الحياة، ويمكن وصفها ببنيات تحتية للإنتاج الاقتصادي. ومن جهة أخرى وجود بنيات فوقية تتمثل في وسائل الطبقات المسيطرة لضمان استقرار نمط الإنتاج ودوامه وهي اليات الدولة والقانون والسياسة والايديولوية والثقافة والدين ... الخ.

12 - فنحن هنا أمام صورة مركبة معقدة لنمط الإنتاج تعمل آليا على انتاج التشكيلة الاجتماعية وتضمن استمرار إعادة انتاجها. وفي مواجهة الجدل حول الأولوية داخل بنية نمط الإنتاج هل هي للبنيات الفوقية من عناصر سياسية وقانونية وإيديولوجية ، أم هي للبنيات التحتية الاقتصادية، فقد سبق لكارل ماركس ان حسم هذا الجدل لصالح البنيات التحتية، حينما ادعى البعض ان إدارة المجتمع في ظل الإمبراطورية الرومانية كان للسياسة وخلال القرون الوسطى كان للكاثوليكية كايديولوجية، حيث أجاب: "ومن الجلي تماما أنه لا العصور الوسطى كانت تقتات على الكاثوليكية ولا العالم
القديم على السياسة. بالعكس، فأسلوب الحصول على أسباب العيش هو الذي يفسر لماذا لعبت السياسة هنا، والكاثوليكية هناك، الدور الرئيس". [رأس المال، الهامش رقم 33، الفصل الأول، الصفحة 126-127].

13 - يمكننا أن نفكك الآن أن بنية نمط الإنتاج تتكون من العناصر التالية:

1 – هناك أولا ثلاث مكونات لنمط الإنتاج، وهي الواجهة الاقتصادية أو الهيكل الاقتصادي الذي يشكل البنسات التحتية لنمط الإنتاج، ثم الواجهة السياسية والقانونية والإدارية وأجهزة القمع، ثم الواجهة الأيديولوجية بمختلف تعبيراتها الفلسفية والثقافية والدينية وكافة الفنون.

2 – ضمن هذه البنية الكلية لنمط الإنتاج تكون الهيمنة لأحد عناصرها وقد رأينا أنها البنية التحتية الاقتصادية، بينما يتمثل دور البنيات الأخرى في الدعم والمحافظة على استمرارية علاقات الإنتاج الاقتصادية.

3 – ثم إن ما يميز كل نمط من أنماط الإنتاج هو ديناميته، أي إعادة الإنتاج المستمر لظروف وجوده. نمط الإنتاج الرأسمالي اليوم، على سبيل المثال، يعمل باستمرار على إنتاج السلع المادية من خلال الحرض على تقسيم العمل الاجتماعي داخل نمط الانتاج إلى رأسماليين وعمال، ويغذي باستمرار أيديولوجية متكاملة تفضل هذا النوع من الإنتاج ويشكل قواه السياسية والنقابية التي تدافع عنه وتحفزه. ويعيد إنتاج علاقات الإنتاج الرأسمالية. واعادة إنتاج بنياته الفوقية؛ أي الظروف الأيديولوجية وعلاقات القوة، فضلاً عن الدور الذي تلعبه داخل البنية الاجتماعية.

14 - في زمن ماركس، كان الجميع يدرك ويصف أعراض المرض الرأسمالي من فقر الجماهير، وتراكم ثروات مجموعات صغيرة معينة، واستغلال النساء والأطفال، وما إلى ذلك. وقد تمرد البعض؛ وسعى البعض الآخر إلى تفسير هذا الوضع بالعودة إلى النزعة الجبرية، القوانين الإلهية: "كان هناك دائمًا فقراء وسيظل هناك دائمًا فقراء". لكن ماركس وإنجلز عرفوا كيف يتقدمون من الوصف إلى معرفة أسباب وقوانين التطور الرأسمالي العميقة، وهي المعرفة التي سمحت لاحقًا للأحزاب الماركسية بإحداث ثورة وإنشاء أنظمة اجتماعية جديدة. لكننا مع الأسف نوجد اليوم أمام أزمة الماركسيين اللينينيين التحريفيين، الذين يعملون على مراجعة كامل الصرح الماركسي اللينيني الثوري لتطبيع العلاقة مع الرأسمالية المهيمنة، عبر نفي الطبقات والصراع الطبقي.

15 - ويعقب فريدريك انجلز على ازمة الماركسيين اللينينيين اليوم الذين ينطلقون من "حدوثات" ذهنية للخروج باطروحات ميتافيزيقية كانتهاء الطبقات والصراع الطبقي وانتهاء البرجوازية والبروليتارية وبالتالي اختفاء نمط الإنتاج الرأسمالي، من خلال ما يلي: "ينطلق الفهم المادي للتاريخ من الحكم القائل بان الانتاج، وعلى أثره تبادل منتجاته، يشكل اساس اي نظام اجتماعي، وان توزیع المنتجات ، ومعه انقسام المجتمع إلى طبقات او فئات، يحدده، في كل مجتمع متواجد في التاريخ، ما ينتج وکیف ینتج وكيف يجري تبادل هذه المنتجات، وهكذا فالأسباب النهائية، لكل التغيرات الاجتماعية والانقلابات السياسية يجب البحث عنها، ليس في أذهان الناس وليس في فهمهم المتزايد للحقيقة الخالدة والعدالة، بل في تغيرات نمط الإنتاج والتبادل؛ ويجب البحث عن تلك الأسباب ليس في الفلسفة، بل في اقتصاد العصر المعني". [إنجلز، ضد دوهرينغ، الصفحة 312].

16 - ويؤكد كارل ماركس على "إن نمط إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام". (مقدمة في مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي).

17 - تبقى الإشكالية المطروحة هنا هي كيف يحدث الانتقال من نمط انتاجي الى آخر؟ علما ان نمط الإنتاج يولد من خلال السيرورة الموضوعية لانتاج وإعادة انتاج الحياة المادية للإنسان وما يحدث خلال ذلك من هيمنة قوى الإنتاج على علاقات الإنتاج، وفرزها لبنيات اقتصادية تحتية وبنيات سياسية وايديولوجية فوقية.

18 - لقد قدم كارل ماركس اجابة واضحة وشافية لهذه الإشكالية في مقدمة مساهمته في نقد الاقتصاد السياسي لسنة 1859. ففي هذه المقدمة يخبرنا كارل ماركس بما يلي: " عندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع علاقات الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه العلاقات التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبا سريعا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائما أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في علاقات الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه".

19 - فماركس يخبرنا بأن التوازن الداخلي النسبي لنمط الإنتاج بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج يتعرض للاختلال، لأن قوى الإنتاج تصل موضوعيا الى درجة معينة من تطورها تجعلها في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة التي تعرف نوعا من التعفن الداخلي المتزايد مما بنفتح المجال امام الثورات الاجتماعية، وهي الثورات التي تحدث انقلابا في البنيات الفوقية تماشيا مع الانقلاب الذي يحدث في القلب المادي لنمط الإنتاج، وبهذه الكيفية يحدث الانتفال من نمط انتاجي مختل الى نمط انتاجي آخر أكثر تحقيقا للتوازن النسبي والذي يستمر الى ان يحدث اختلال من جديد فتتعفن علاقات الإنتاج وتظهر حقبة جديدة من الثورات الاجتماعية.

20 - تفيدنا نظرية ماركس بأن الصراع الطبقي يشكل مكونا أساسيا موضوعيا من مكونات أنماط الإنتاج الطبقية المختلفة، غير أن درجة حدته تختلف بحسب مراحل تطور نمط الإنتاج القائم. ففي مرحلة صعود نمط الإنتاج القائم يحدث نوع من التوازن النسبي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج رغم حدة التناقض داخل علاقات الإنتاج، لكن مع تطور قوى الإنتاج تحدث تدريجيا اختلالات في علاقات الإنتاج القائمة فتنفجر الصراعات الطبقية العفوية في كل مكان، وتحاول الطبقات المهيمنة عبر وسائلها التقليدية ضبط هذه الصراعات الطبقية والتحكم فيها ماديا وايديولوجيا، لكن الطبقات المستغلة قد تنظم نفسها بشكل محكم، فتقود سلسلة من الثورات تنتهي بانتصارها على نمط الإنتاج القائم من خلال إزاحة بنياته الفوقية وإعادة بناء بنيات فوقية جديدة وادخال توازن جديد على البنيات الاقتصادية التحتية.

21 - تتعايش في بلدان عدة، من بينها المغرب، عدد من الأنماط الإنتاجية وحيث يكون أحدها الأكثر هيمنة على باقي الأنماط. ويمكن تحديد تاريخ دخول نمط الإنتاج الرأسمالي الى المغرب عبر المبادلات التجارية مع أوروبا الرأسمالية منذ بداية القرن التاسع عشر، وخي المبادلات التي حتمت على التجار المغاربة ضرورة التكيف مع شروط التبادل التجاري الدولي. وسيتواصل التأثير الاقتصادي الرأسمالي على المغرب، الى أن يصبح نمط الإنتاج المهيمن حاليا.

22 - لكن القول بأن النظام الرأسمالي العالمي أصبح مهيمنا على المغرب، لا يعني إنكار وجود علاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية وما زالت موجودة، بشكل منتشر للغاية: فهناك علاقات إنتاج قريبة من تلك الخاصة بالمجتمع البدائي في بعض الأماكن المعزولة. وسيادة علاقات شبه إقطاعية في العديد من مناطق الفلاحية، وانتشار كبير بشكل ملحوظ للإنتاج الحرفي الصغير.

23 - إن علاقات الإنتاج المهيمنة لا تفرض قوانين عملها على علاقات الإنتاج الأخرى الخاضعة لها فحسب، بل إنها تحدد أيضًا الطابع العام للبنية الفوقية للمجتمع.

24 - يفسر تعقيد البنية الاقتصادية والطابع المهيمن لإحدى علاقات الإنتاج التي تتعايش مع الطابع المعقد للبنية الأيديولوجية والقانونية السياسية لكل مجتمع محدد تاريخيًا.

25 - لتعيين هذا الواقع الاجتماعي المحدد تاريخيًا، نستخدم مفهوم التشكيلة الاجتماعية. حيث يشير هذا المفهوم، إلى حقيقة ملموسة ومعقدة وغير نقية، مثل كل الواقع؛ لتمييزه عن مفهوم نمط الإنتاج الذي يشير إلى موضوع مجرد، نقي، مثالي.

26 - كما هو الحال مع كل تشكيلة اجتماعية، تتكون هذه التشكيلة الاجتماعية الملموسة والمحددة تاريخيًا من بنية اقتصادية، وبنية أيديولوجية، وبنية سياسية قانونية. وقد تطرقت لهذا الطابع المميز للتشكيلة الاجتماعية المغربية في كتابي: "الصراع الطبقي والتحولات الاقتصادية والسياسية في المغرب" (2005) لكن على هذا المستوى، تتسم التشكيلة الاجتماعية بطابع أكثر تعقيدًا. لذلك، نجد في كل تشكيلة اجتماعية، مع استثناءات قليلة جدًا، (1) بنية اقتصادية معقدة، تتعايش فيها علاقات الإنتاج المتنوعة. تحتل إحدى هذه العلاقات المكانة المسيطرة، وتفرض قوانين عملها على العلاقات الأخرى التابعة؛ (2) بنية أيديولوجية معقدة شكلتها اتجاهات أيديولوجية مختلفة. إن الاتجاه الأيديولوجي السائد، الذي يُخضع لميول الأخرى تشوهها، يتوافق بشكل عام مع الاتجاه الأيديولوجي للطبقة الحاكمة، أي النزعة الأيديولوجية التي تنتمي إلى القطب الاستغلالي لعلاقة الإنتاج المهيمنة؛ (3) بنية قانونية سياسية معقدة تؤدي وظيفة سيطرة الطبقة الحاكمة.

27 - وقد سبق لي الإشارة في كتابي المشار اليه أعلاه الى أهمية الاحداث التاريخية في المغرب منذ ما يعرف "بالفتح الإسلامي" الى كيفية هيمنة السلالات العربية القادمة من الشرق خاصة قبائل بنو هلال وبنو سليم على أجود الأراضي على طول ساحل المحيط الأطلسي، والتي طردت منها سكانها الامازيغ الأصليين خاصة قبائل البورغواطة، ليشكل سيطرة السلالات العربية على هذه الأراضي طبقة الملاكين العقاريين الكبار، وجزأ من الطبقة الحاكمة السائدة في المغرب حاليا.

28 - فدراسة التشكيلة الاجتماعية في المغرب تحتم على الدارس أن يأخذ بعين الاعتبار السيرورة التاريخية التي افرزتها ورسمت علاقات الإنتاج السائدة الى اليوم. فالتشكيلة الاجتماعية، إذن، عبارة عن بنية معقدة، تتكون من هياكل إقليمية معقدة يتم التعبير عنها بدءًا من بنية علاقات الإنتاج. من الضروري دراسة كل هيكل إقليمي في استقلاليته النسبية فيما يتعلق بالباقي ووفقًا لخصائصه الخاصة. ففي حالة المغرب يمكن للباحث أن يتساءل عن سبب عيش القبائل الامازيغية الى اليوم في مناطق جبلية أو صحراوية معزولة؟ وما هي الاحداث التاريخية التي حتمت عليهم اللجوء الى تلك المناطق؟ ثم ما هي أنماط الإنتاج التي عاشوا عليها في تلك المناطق؟ وما هو تأثير نمط الإنتاج الرأسمالي على تلك الأنماط الإنتاجية المحلية.

29 - إذن فمفهوم نمط الإنتاج يشير إلى كلية اجتماعية مجردة (رأسمالي، إقطاعي، عبد، إلخ). بينما يشير مفهوم التشكيلة الاجتماعية إلى كلية اجتماعية ملموسة. فهي ليست مزيجًا من أنماط الإنتاج، أو مجاميع اجتماعية مجردة أو مثالية، إنها واقع ملموس محدد تاريخيًا، منظم بدءًا من الشكل الذي تتعايش فيه علاقات الإنتاج المختلفة على مستوى البنية الاقتصادية مجتمعة. لذلك، لدراسة التشكيلة الاجتماعية، في بلد معين، يجب أن الشروع دائمًا بتشخيص نوع علاقات الإنتاج الموجودة، وكيف يتم دمجها؟ وما هي علاقة الإنتاج المهيمنة؟ وكيف تمارس علاقات الإنتاج تأثيرها على المستغلين؟

30 - نحن نعلم أن الفرضية الأساسية للمادية التاريخية تتمثل في شرح مجمل العمليات التاريخية التي يتم إنتاجها في المجتمع، بدءًا من بنيته التحتية الاقتصادية، وبالتالي، بدءًا من البنية الاقتصادية المعقدة التي يتم فيها الجمع بين علاقات الإنتاج المختلفة. هذه الأطروحة لا تعني أن الماركسية تنفي أهمية المستويات الأخرى للمجتمع. يحدد الهيكل الاقتصادي، في الحالة الأخيرة، التنمية الاجتماعية ؛ لكنها لا تنتج شيئًا تلقائيًا. يتمتع المستويان الأيديولوجي والسياسي القانوني باستقلالية نسبية، ضمن الهوامش التي يسمح بها الهيكل الاقتصادي، أي ضمن قوانين التنمية الخاصة بهما. يمكن أن يكون تطورها أكثر تقدمًا، أو يمكن أن يتخلف فيما يتعلق بالهيكل الاقتصادي.

31 - دراسة التشكيلة الاجتماعية هي في الأساس دراسة ميدانية. تتطلب بيانات أو إحصاءات محددة أو بيانات أخرى من هذا القبيل، والتي يجب أن تخضع لدراسة نقدية. لا يمكن أبدًا استنتاج الهياكل الأخرى للمجتمع من البنية التحتية الاقتصادية، فالاقتصاد يخدم فقط "كمبدأ توجيهي" في التحقيق المفصل والمحدّد للهياكل الأيديولوجية والقانونية السياسية.

32 - أخيرًا، على مستوى التشكيلة الاجتماعية، تتخذ الكلية الاجتماعية المحددة تاريخيًا شكل "الفردية الملموسة"، التي تحافظ على هوية معينة من خلال جميع تحولاتها. تتميز دولة أو مجموعة دول عن دولة أخرى أو مجموعة دول بخصائصها الفردية وتاريخها. يمكن تمييز مراحل التطور المختلفة في هذا التاريخ؛ إن ما يحدد العبور من مرحلة إلى أخرى هو تغيير في الطريقة التي تترابط بها علاقات الإنتاج المختلفة التي تتعايش داخلها. فمثلا رغم طغيان الهوية الامازيغية ضمن 80 في المائة من ساكنة المغرب عشية الاستقلال الشكلي، الى ان إرادة الطبقة الحاكمة اختارت على غرار دولة فرنسا فرض وحدة اللغة العربية والدين الإسلامي كلغة ودين الدولة على الرغم من تناقض ذلك مع الهوية الحقيقية للمغاربة وهو ما فتح واجهة الصراع السياسي على مصراعيه فيما يخص الهوية. إن علاقات الإنتاج التي تحتل المكانة المهيمنة في الهيكل الاقتصادي تحدد طابع المرحلة، علاوة على أنها تضفي عليها اسمها. عندما نتحدث عن البلدان الرأسمالية، أو البلدان شبه الإقطاعية، فإننا نشير إلى علاقات الإنتاج المهيمنة في التشكيلة الاجتماعية، لكن هذا لا يمنع وجود علاقات إنتاج أخرى تحتل مكانة تابعة.

33 - لكل صراع طبقي وضعه الراهن في الزمن، فالصراع الطبقي ينطلق من الحقائق المادية الملموسة التي تجتازها التشكيلة الاجتماعية في ظل المرحلة التي بلغها نمط الإنتاج السائد. لذلك تختلف حدة الصراع الطبقي وجدوته حسب الظرفية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في لحظة معينة. فالصراع الطبقي في القرن التاسع عشر ليس هو نفس الصراع الذي ساد خلال القرن العشرين كما أن الصراعات الطبقية التي سادت خلال عقد الستينات من القرن العشرين ليست هي نفسها الصراعات الطبقية التي سادت خلال العقود الموالية أي السبعينات والثمانينات ... الى اليوم. لكن ما هو مؤكد وقائم هو الصراع الطبقي سواء كان قويا أو ضعيفا، فهو مرتبط ارتباطا عضويا بالتشكيلة الاجتماعية من جهة وبنمط الإنتاج السائد.

34 - يمكن لمفهوم "الوضع الراهن" أن يشير إلى وضع العلاقات داخل التشكيلة الاجتماعية السائدة محليا أو وضع العلاقات بين التشكيلات الاجتماعية لمختلف الشعوب وهو ما يحدد الوضع العالمي الراهن فعلى سبيل المثال، الوضع العالمي الذي نشأ عقب انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، ليس هو نفس الوضع العالمي عقب انهيار سور برلين.

35 - وتختلف طبيعة الصراع الطبقي محليا وعالميا بحسب سيرورة التناقضات وسط التشكيلات الاجتماعية المختلفة. وهذا ما يلقي على عاتق الباحث عن واقع الصراع الطبقي في أوضاعه الراهنة إشكالية أدوات التحليل السياسي لتلك الأوضاع. والتركيز خاصة على منهج التحليل الماركسي الذي ينظر للظواهر بذهن مفتوح وبدون تصورات مسبقة، وهو يعنى دراسة الاشياء كما هى عليه حقا، في علاقاتها المتداخلة وحركتها الحقيقية، أو كما يقول لينين: التحليل الملموس للواقع الملموس. وهو المنهج الديالكتيكي الذي ليس الا المنهج العلمي بأوسع معانيه.

36 - ويفيدنا المنهج الديالكتيكي أن كل وضع راهن هو كتلة من التناقضات حيث يكون على الباحث التمييز داخلها بين التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية، بل والعمل على دراسة كيفية وجود هذه التناقضات وكيف تطورت عبر الزمن للتعرف على وضعها الراهن.

37 - فعلى سبيل المثال، في ظل المجتمع الرأسمالي، تشكل القوتان المتناقضتان، البروليتاريا والبرجوازية، التناقض الأساسي. أما التناقضات الأخرى الثانوية، مثل التناقضات بين بقية الطبقة الإقطاعية والبرجوازية، وبين الفلاحين البرجوازيين الصغار والبرجوازية العليا، وبين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة الفلاحية، وبين الرأسماليين غير الاحتكاريين والرأسماليين الاحتكاريين، وبين الديمقراطية البرجوازية والبرجوازية الفاشية، وبين البلدان الرأسمالية وبين الإمبريالية والمستعمرات، فكلها مصممة أو متأثرة بهذا التناقض الأساسي. علما بأن لكل من هذه التناقضات الثانوية جانبان: جانب أساسي وجانب ثانوي.

38 - ولكن، أمام أي تناقض معين، سواء كان أساسيًا أو ثانويًا، هل يجب التعامل مع الجانبين المتناقضين على قدم المساواة؟ مرة أخرى، لا يمكن ذلك. ففي أي تناقض، يكون تطور الجوانب المتناقضة غير متساوٍ، وفي بعض الأحيان يبدو أنها في حالة توازن، وهو أمر مؤقت ونسبي فقط، بينما يبقى التفاوت أساسيا. فأمام كل نقيضين، يكون أحدهما أساسيًا والآخر ثانويًا. وحيث النقيض الرئيسي هو الوحيد الذي يلعب دورًا رائدًا في التناقض. حيث يتم تحديد طبيعة الشيء بشكل أساسي من خلال الجانب الرئيسي للتناقض، وهو الجانب الذي اكتسب المكانة المهيمنة. لكن هذا الوضع لا يبقى ثابتًا؛ فقد تتحول الجوانب الرئيسية وغير الرئيسية للتناقض إلى بعضها البعض وتتغير طبيعة الشيء وفقًا للقاعدة الديالكتيكية وحدة وصراع الضدين.

39 - بعد دراسة التناقضات الأساسية والثانوية، وجوانبها الأساسية والثانوية، على الباحث دراسة خصوصيات كل جانب من هذه الجوانب. فعلى سبيل المثال، في حالة البروليتاريا، علينا أن ندرس مستوى الوعي السياسي للعامل المناضل، أو العامل الثوري، أو مستوى وعي الجماهير العاملة، أو وجود أو عدم وجود أرستقراطية عمالية، ودور الأحزاب الانتهازية والبيروقراطيات النقابية ومدى قوتها الحقيقية في الثورة المضادة ودرجة تطلع الكادحين للحرية والديموقراطية والاشتراكية ومدى تشبعها بهذه المبادئ أو جهلها التام بكل ذلك نظرا للإيديولوجيات المهيمنة.

40 - أخيرًا، لا يكفي معرفة الخصائص المحددة لكل جانب؛ من المهم تحليل نوع العلاقة التي تنشأ بين كلا الجانبين. فمعلوم أن القوى الاستغلالية، التي تتوفر دائمًا على خبرة كبيرة في الاستغلال، تستخدم شكلين عامين من الأدوات: العنف المادي والاحتيال الايديولوجي الرصاص المغطى بالعسل بمعنى المسدس والأقلام المأجورة . وتتيح الهيمنة السياسية للقوى المسيطرة باستخدام القوة القمعية للدولة ضد المستغَلين؛ كما تمكنها الهيمنة الأيديولوجية من توظيف وسائل الإعلام والدعاية لارتكاب الاحتيال الجماعي. ففي لحظة معينة، تعتمد البرجوازية بشكل أساسي على الاحتيال، وفي لحظات أخرى تلجأ بحسب درجة تنظيم الجماهير ووعيها وقدرتها القتالية الى استعمال القمع المادي والاحتيال الأيديولوجي معا.

41 - يفترض التحليل الملموس إذن دراسة الشكل المحدد للصراع الذي يحدث بين أطراف التناقض وقدرة التناقض الثانوي على تغيير وضعه من حالة الضعف الى حالة القوة. بمعنى توفير ظروف اجراء تعديل في نظام التناقضات الذي يحدد ظرفًا معينًا، سواء كان ذلك على مستوى التناقضات الأساسية والثانوية، أو على مستوى الجوانب الرئيسية والثانوية لهذه التناقضات، مما ينتج عنه في نفس الوقت تعديل في الوضع الراهن، وتغيير في الوضع السياسي القائم. ووحده التحليل الصحيح للوضع السياسي القائم، أي في الوضع الراهن، يتيح لنا طرح شعارات مناسبة في الصراع الطبقي، أي الشعارات التي يمكن أن تقدم القوى الثورية.

42 - في روسيا، كان هناك فرق جوهري بين التناقض الذي حسمته ثورة فبراير والتناقض الذي حسمته ثورة أكتوبر، وكذلك بين الأساليب المستخدمة لحلها. فمبدأ استخدام طرق مختلفة لحل التناقضات المختلفة هو مبدأ يجب على الماركسيين اللينينيين مراعاته بدقة كما أوصى لينين بذلك.

43 - إن القاعدة المادية للانتقال من نمط إنتاج إلى آخر، حسب الفكر الماركسي، تنطلق كما رأينا أعلاه من عدم التطابق بين علاقات الإنتاج السائدة القديمة المتعفنة والتي تدخل في تناقض مع درجة التطور التي وصلت إليها قوى الانتاج. فيصبح من الحتمي استبدال علاقات الإنتاج القديمة بعلاقات جديدة تتوافق مع الدرجة التي وصل إليها تطور قوى الإنتاج.

44 - إن نمو قوى الإنتاج والظهور الجنيني لعلاقات إنتاج جديدة لهما طابع عفوي وغير متوقع. وكلاء الإنتاج، من خلال إتقان وسائل الإنتاج القديمة وخلق وسائل جديدة، وبالتالي تطوير قوى الإنتاج، لا يدركون العواقب الاجتماعية التي ينتجونها. فتفكيرهم ووعيهم لا يتعدى الفائدة المباشرة التي يحصدونها من هذه العملية.

45 - لكن تطور قوى الإنتاج والتغيرات التي تحدث في علاقات الإنتاج تعمل بشكل عفوي حتى حد معين. عندما تدخل قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج الاجتماعية التي تتوافق معها، والتي ولدت ضمن البنية التحتية القديمة، في صراع مع علاقات الإنتاج الاجتماعية القديمة التي كانت تهيمن عليها، فإن التطور التلقائي يستبدل بالنشاط الواعي، نضال الطبقات المستغلة الأكثر تقدما؛ أي من خلال تلك التي تنشأ عن علاقات الإنتاج الجديدة من خلال خلق الظروف الاقتصادية والقانونية السياسية والأيديولوجية التي تساعد على تطوير علاقات الإنتاج الجديدة.

46 - وهكذا تدافع عن علاقات الإنتاج القديمة الطبقات الحاكمة القديمة التي تضع الدولة تحت تصرفها وأيضا جميع وسائل التأثير الأيديولوجي على الجماهير. فمصلحتهم تكمن في المحافظة على علاقات الإنتاج هذه، وهم يستخدمون كل الوسائل المتاحة لهم لمقاومة القوى الاجتماعية المتقدمة الطامحة إلى إنهاء الأشكال القديمة للملكية من أجل فتح الطريق أمام التطور الكامل للقوى المنتجة. فمن خلال الصراع الطبقي فقط ومن خلال الثورة، يمكن تدمير سلطة الطبقات السائدة القديمة وانهاء العواقب الاقتصادية لتلك القوى.

47 - فالطبقات الثورية تنشأ قوة جديدة، قوة ثورية؛ وعلى هذا الأساس تزيل العوائق التي تحول دون التطور الكامل لقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجديدة المقابلة لها. وبهذه الطريقة، يتم استبدال العملية العفوية للتطور الاجتماعي، المعدة على مستوى البنية التحتية، بالنشاط الواعي للجماهير التي تقودها الطبقة الأكثر تطلعا الى الانفصال عن النظام القديم.

48 - باستخدام مفاهيم أنماط الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية، يمكننا القول إن هذا "الانتقال من نمط إنتاج إلى آخر" يحدث دائمًا في إطار تشكيلة اجتماعية معينة. أولاً، في البنية الاقتصادية المعقدة للتشكيلة الاجتماعية السائدة، حيث تتعايش أنماط إنتاج السلع المادية، في ظل علاقات الإنتاج المطابقة لقاعدتها المادية؛ فتبدأ إحدى علاقات الإنتاج، التي كانت خاضعة حتى ذلك الحين، في اكتساب دور متزايد الأهمية، لدرجة أنها تشكل العلاقة المهيمنة على مستوى الهيكل الاقتصادي والمثال في ظل النظام الرأسمالي هي الطبقة العاملة البروليتارية الواعية. وبعد ذلك، بما أن البنى القانونية السياسية والأيديولوجية للتشكيلة الاجتماعية لم تتغير، وتميل إلى تفضيل علاقات الإنتاج القديمة المهيمنة، يصبح من الضروري أن تستهدف الطبقة التي تمثل العلاقات الجديدة الاستيلاء على جهاز الدولة من أجل تغيير الظروف الأيديولوجية والقانونية السياسية التي تعيق تطور العلاقات الجديدة إضافات الإنتاج.

49 - إن عملية التدمير الواعية والعنيفة لعلاقات الإنتاج القديمة، أي الثورة، هي القانون العام الذي يميز تغيير هيمنة علاقة إنتاج اجتماعية بأخرى في تشكيلة اجتماعية معينة.

50 - إن ما يميز الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية هو أنه في قلب المجتمع الرأسمالي، أي في قلب التشكيلة الاجتماعية حيث تهيمن علاقات الإنتاج الرأسمالية، لا يمكن أن تنشأ علاقات إنتاج إشتراكية، كما حدث مع جميع المجتمعات السابقة في العالم، حيث تولد علاقات إنتاج جديدة في إطار التشكيلة الاجتماعية القائمة وتهيمن بالتالي على علاقات الإنتاج الاجتماعية الجديدة.

51 - ففي مثال الثورة الفرنسية البرجوازية، حدث التغيير في فرنسا من نمط الإنتاج الإقطاعي، السائد حتى ذلك الوقت، إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، على مستوى الهيكل الاقتصادي، قبل ثورة 1789. ليس فقط على مستوى القوى المنتجة وانما على مستوى علاقات إنتاج اجتماعية رأسمالية أيضا. فانطلاقا من هنا اندلعت ثورة 1789، وهي ثورة على المستوى القانوني - السياسي، بعد الثورة العفوية على المستوى الاقتصادي. إن استيلاء البرجوازية على السلطة لم يؤد إلا إلى تقوية وتحفيز قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج المقابلة لها.

52 - من ناحية أخرى، إذا كانت قوى الانتاج في قلب التشكيلة الاجتماعية التي تهيمن عليها الرأسمالية قد ولدت وتطُورت ذات طابع اجتماعي، بشكل متزايد، فيمكن أن تشكل أساس لعلاقات الإنتاج الاشتراكية، حيث لا يمكن إقامة مثل هذه العلاقات بدون ثورة تنتزع البروليتاريا السلطة السياسية بالقوة.

53 - إن المادية التاريخية تبين لنا كيف أن علاقات الإنتاج الاجتماعية المحددة تتوافق، إلى درجة معينة، مع تطور قوى الإنتاج، وكيف أنه، على أساس هذه العلاقات، بالنظر إلى البنيات القانونية والسياسية، تنشأ العلاقات الأيديولوجية. فإذا تغيرت علاقات الإنتاج، فإن العلاقات الأخرى ستتغير عاجلاً أم آجلاً. لكن أطروحة المادية التاريخية هذه التي يبدو أنها تؤسس خطوة أولى لنظام التغييرات في البنى التحتية، والخطوة الثانية، للتغييرات في البنى الفوقية، فتجب دراستها بشكل نقدي.

54 - ما هي أنماط الإنتاج التي يشير إليها ماركس عندما يؤكد ذلك في مقدمة نقده للاقتصاد السياسي؟ إنه يشير إلى أنماط الإنتاج التي يصبح فيها "المجتمع البورجوازي" الشكل المتناقض المطلق ". ويؤكد إنه مع هذا المجتمع البرجوازي، أو نمط الإنتاج الرأسمالي، ينتهي تاريخ ما قبل تاريخ البشرية.

55 - لذلك، إذا كان تأسيس نمط الإنتاج الرأسمالي، ينشأ فقط، مع فرض العلاقات القانونية والسياسية والأيديولوجية، لتأكيد ودعم علاقات الإنتاج التي تنشأ تلقائيًا انطلاقا من البنية الاقتصادية المادية التحتية، فإن هذا الأسلوب لم يعد صالحًا للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. حيث لا يحدث الانتقال من علاقات الإنتاج الرأسمالية إلى علاقات الإنتاج الاشتراكية بشكل عفوي.

56 - فعند الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية كما حدث في الاتحاد السوفياتي عقب الثورة البلشفية، تكون العلاقات السياسية القانونية هي أول العلاقات التي تنشأ. ثم إن استيلاء الطبقة العاملة أو البروليتاريا وحلفائها على السلطة السياسية، يخلق الظروف التي تسمح بإقامة علاقات إنتاج اشتراكية وعلاقات إيديولوجية جديدة تسمح بالتطور الكامل لقوى الإنتاج الجديدة، وهو الأساس الضروري للتأسيس النهائي للشيوعية: "لكل حسب احتياجاته". ويصف فريدريك إنجلز هذه العملية في كتابه ضد دوهرينغ على الشكل التالي:

57 – "مع استيلاء المجتمع على وسائل الإنتاج، يتم القضاء على الإنتاج البضاعي، وبالتالي هيمنة السلعة على المنتج. يتم استبدال الفوضى داخل الإنتاج الاجتماعي بالتنظيم الواعي المخطط. ويتوقف الكفاح من أجل الوجود الفردي. بهذه الطريقة، ولأول مرة، يفصل الإنسان نفسه نهائيًا عن مملكة الحيوان بمعنى معين، منتقلًا من ظروف الوجود الحيواني إلى الظروف الإنسانية الحقيقية. وحيث تصبح دائرة الظروف المعيشية المحيطة بالإنسان، والتي سيطرت على الإنسان حتى الآن، تحت سيطرة ومراقبة الناس الذين أصبحوا، لأول مرة، سادة الطبيعة الحقيقيين والواعين، لأنهم أسياد حياتهم في المجتمع. إنها قوانين ممارستهم الاجتماعية الخاصة، التي كانت تقف أمامهم حتى الآن كقوانين طبيعية وأجنبية ومتسلطة، يطبقها الناس بمعرفة كاملة بالحقائق، وبالتالي يهيمنون عليها. إن الحياة في المجتمع الخاص بالناس والتي كانت حتى الآن تقف أمامهم كما تمنحها الطبيعة والتاريخ، أصبحت الآن من فعلهم الخاص والحر. إن القوى الأجنبية، التي سيطرت على التاريخ حتى الآن، أصبحت تحت سيطرة الناس أنفسهم. فقط في هذه اللحظة سيصنع الناس تاريخهم بوعي كامل؛ من هذه اللحظة فقط، سيكون للأسباب الاجتماعية التي بدأوها تحركهم أيضًا بطريقة راجحة، وإلى حد متزايد دائمًا، الآثار التي تريدها. إنها قفزة الإنسانية من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية".

58 - إذن، فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية هو انتقال يعمل فيه العمل السياسي الثوري على تعزيز علاقات الإنتاج. وحيث لا يرى فيه التحريفيون الماركسية العفويون كما اشرت في مقدمة العرض، الفرق الجذري بين الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية والتحولات السابقة الأخرى.
حيث تطبق نفس النموذج على جميع التحولات وتظل تنتظر أن تتطور التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية تلقائيًا نحو الاشتراكية.

59 - سأتناول في ورقة لاحقة الجزء الثاني من العرض حول الطبقات والصراع الطبقي في المغرب.