مغامرة الكتابة وكتابة المغامرة*


مرتضى العبيدي
2020 / 8 / 31 - 14:38     

هل طوى العالم صفحة جائحة كورونا ـ كوفيد 19 التي حلّت به حتّى ينبري الكتّاب للمجازفة بتحبير الكُتب بشأنها؟ هذا هو السّؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهنك لمّا يُطلب منك أن تحرّر تقديما لكتاب يتعلّق بموضوع الكتابة عن هذه المحنة. هل أخذنا ما يكفي من المسافة، المسافة الزّمنيّة لتأمّل ما حدث، حتّى نتمكّن من تقديم تحليل موضوعيّ لما عاشته الإنسانيّة كما لم تعشه في أيّ عصر من العصور؟ فالمحلّل أيّا كان مجال اختصاصه سيجد نفسه بالضرورة أمام العوائق التي تعترض مؤرّخي "الزّمن الرّاهن" والذين لاقوا صعوبات جمّة حتى يُعترف لهم بحقّهم في جعل التّاريخ الآني مادّة لأبحاثهم.
وكثيرا ما استشهد معارضو هذا العلم بجواب رئيس وزراء الصّين الأسبق ووزير خارجيتها (1949 ـ 1976) "شوان لاي" حين سُئل عن تقييمه للثّورة الفرنسيّة، إذ قال "إنّ الوقت لم يحن بعد لتقييم هذا الحدث التّاريخيّ الجلل" ، وكان قد مرّ على وقوعه ما يزيد عن قرن ونصف القرن. لذلك فإنّ التصدّي لدراسة مثل هذه المواضيع الحارقة والجارية أمام أعيننا يُعتبر ضربا من المغامرة. وأعتقد أنّ الأستاذ حسين الرحيلي، صاحب الكتاب الذي بين أيديكم والذي اختار له عنوان "العولمة ما بعد الكورونا" ينتمي إلى هذه الفئة من المغامرين.
فالعنوان لا يُخبر فقط عن موضوع الكتاب، بل هو يشي أيضا بالطّبيعة الاستشرافيّة للبحث، وكأنّه يريد أن يقول إنّ الجائحة التي حلّت بالنّاس ستترك، بالتّأكيد، آثارا لا على حياة النّاس فحسب بل على ما يكيّف هذه الحياة ويتدخّل في تفاصيلها الدّقيقة، ويجعل من حدث بسيط يحصل في ركن قصيّ من العالم عاملا مؤثّرا في حياة أناس يعيشون في أماكن بعيدة، وكأنّ العالم تحوّل إلى "قرية كونيّة" حسب تعبير عالم الاقتصاد الانكليزي "مارشال ماك لوهان" في حديثه عن العولمة.
لكنّ الاستشراف الطّامح إلى أن يكون أقرب إلى العلم ليس ضربا من التّكهّن أو التنبّؤ بل هو ينبني على وقائع ومعطيات موضوعيّة وجب استعراضها وتحليلها حتّى يتوصّل الباحث إلى استخلاصات مطمئنة وذات مصداقيّة. وهو ما سعى إليه الكاتب حسب اعتقادنا من خلال الأبواب الأربعة التي قسّم إليها كتابه وتناول فيها على التّوالي: التّطوّر التّاريخي للعولمة، فأزمة سنة 2008، فالعولمة زمن الكورونا ليصل إلى العولمة ما بعد الكورونا.
ففي الباب الأوّل، يناقش الكاتب مفهوم العولمة مستعرضا عددا من التّعريفات التي قُدّمت لهذا المصطلح ونقاط الالتقاء بينها ونقاط التّباين ليخلص إلى تحديد السّمات التي تُجمع عليها أغلب التّعريفات، إلاّ أنه يفتح قوسا للردّ على بعض التّبسيطات القائلة بأنّ العولمة مفهوم معاصر ارتبط بمرحلة معيّنة من تطوّر نمط الإنتاج الرأسماليّ، ليبيّن أنّ العولمة أقدم من ذلك بكثير وأنّ المجتمعات القديمة، وفي ظلّ أنماط إنتاج ما قبل الرأسماليّة عرفت أشكالا من العولمة، ولعلّ "طريق الحرير" الذي خطّته أقوام قديمة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة يعتبر تجسيدا ملموسا لهذا المفهوم في العصر القديم، إذ هو لم يساهم فقط في تطوير المبادلات التجاريّة بين تلك الأقوام والشّعوب، بل إنّ القوافل كانت تحمل معها في حلّها وترحالها ثقافاتها وأفكارها وأديانها وعاداتها وتقاليدها، مثلما تسعى إليه العولمة اليوم. وهو بذلك يسير على خطى الباحث الألماني الماركسيّ "أندري قاندر فرانك" الذي يعتبر أنّ العولمة ظهرت في شكل من أشكالها المتحوّلة منذ أن توطّدت العلاقات التجاريّة بين السومريين وحضارة وادي السّند في الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما أشار كذلك إلى أنّ الحرير- رغم أنّه كان العنصر التّجاريّ الرئيسيّ في المبادلات مع الصّين- فإنّ الاتّجار كان يشمل أيضا سلعا شائعة أخرى مثل الملح والسّكر وغيرهما. وقد انتقلت مع تلك السّلع الأديان والفلسفات والتكنولوجيات المختلفة والأمراض على طول طرق الحرير. وتعرّض الكاتب إلى العوائق التي حالت دون استرسال ذلك الشّكل من التّبادل. ومن تلك العوائق ما يتعلّق بالجوانب التّقنية والأمنيّة وغيرها، ومنها ما يتعلّق بأنماط الإنتاج السّائدة أو المتعايش بعضها مع بعضها الآخر والتي لم تكن لها نفس الخصوصيّات، إذ هي متغيّرة من منطقة جغرافيّة إلى أخرى ومن حضارة إلى أخرى. وقد عرّج على نمط الإنتاج الآسيويّ الذي يجمع عدّة سمات تجعله مختلفا عن أنماط الإنتاج المتداولة في كتب الاقتصاد السياسيّ الماركسيّ كالعبوديّة والإقطاع. وهو نمط لم يتطوّر الإنتاج في ظلّه بما يوفّر الاستمرار لتجارة معولمة، وذاك ما سيوفّره لاحقا نمط الإنتاج الرأسماليّ.
وقد تابع الكاتب الحديث عن نشأة هذا النّمط الجديد للإنتاج من رحم الأنماط القديمة في العصر الوسيط، ونبّه إلى ما ساعده على ذلك. فأشار إلى تطوّر وسائل النّقل البحريّ التي سهّلت التّواصل بين الشّعوب والبلدان وأدّت إلى الاكتشافات الكبرى ومنها اكتشاف القارّة الأمريكية أواخر القرن الخامس عشر. واستعرض بإطناب مختلف مراحل تطوّر الرّأسماليّة وظهور العملة التي ستسهّل المبادلات التّجاريّة، وتطوّر الحرف ونشأة المدن الحرفيّة التي ستوفر مادّة للتّجارة التي لن تقتصر على الموادّ الأولية والمنتجات الزراعيّة. وستنشأ تبعا لذلك في نقاط متعدّدة من العالم النواتات الأولى للرأسماليّة التّجاريّة في طورها المركنتيلي أوّلا وصولا إلى أطوار أكثر تقدّما لاحقا.
وخصّص الجزء الأخير من هذا الباب الأوّل إلى تطوّر الرأسماليّة في العصر الحديث وخاصّة في مجال الصّناعة وإلى آثار الثّورات الصّناعيّة المتتالية التي مكّنت من توفير فائض في الإنتاج وأدخلت العالم في نسق جنونيّ بحثا من قِبَلِ رأس المال عن الأرباح والمزيد من الأرباح، خاصّة بعد نشأة البنوك والرأسمال البنكيّ الذي باندماجه مع الرّأسمال الصناعيّ سيفضي إلى الرّأسمال الماليّ الذي سيشكّل الأساس الماديّ للامبرياليّة. واستعرض النّتائج المدمّرة للعصر الاستعماريّ الامبرياليّ وما أدّى إليه من استعباد لأغلب شعوب العالم وبلدانه وما صاحبه من صراعات بين القوى الامبرياليّة ذاتها، وهي صراعات قادت إلى تدمير العالم في حربين كونيّتين لم يفصل بينهما أكثر من عقدين، تخلّلتهما أزمة 1929. وقد أودت جميعها بحياة الملايين من البشر إرضاء لجشع رأس المال والرأسماليّين.
ثمّ استعرض المؤلّف خصائص فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية وما رافقها من محاولات إقامة نظام عالم جديد يعبّر عن موازين القوى الجديدة. ولعلّ أهمّ تلك الخصائص تحوّل ثقل النّظام الرأسماليّ من القارّة العجوز (نهاية الامبراطوريات الاستعمارية للبلدان الأوروبية) نحو أمريكا الرّابح الأكبر من الحربين. فهي لن تجد أمامها سوى المعسكر الشرقيّ بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي ستقارعه في ما سمّي بالحرب الباردة، وصولا إلى انهيار جدار برلين ونهاية القطبين ومساعي أمريكا للاستفراد بالعالم.
وهنا تتضافر جهود التّرسانات الاقتصاديّة والعسكريّة والإعلاميّة والإيديولوجيّة لتعلن نهاية التّاريخ والانتصار النّهائيّ للنّمط الغربيّ الكفيل وحده بضمان الرّفاه لكل شعوب العالم. فتتشكّل نظريّة العولمة في طورها المعاصر تعبيرا نهائيّا عن هيمنة نمط الإنتاج الرّأسماليّ الباسط نفوذه على كلّ أرجاء العالم. وتجنّد الآليات والأدوات القديمة منها (المؤسّسات الماليّة النهّابة، التكتّلات الإقليمية، الاتفاقيّات الثنائيّة ومتعدّدة الأطراف: اتفاقيّة جينيف 1927، اتفاقيّة هافانا 1947، القات، القاتس...) والمستحدثة وعلى رأسها منظمّة التّجارة العالميّة للتّحايل على الشّعوب والأمم وبسط نفوذ الامبرياليّة عليها جميعها وعلى كامل مقدّراتها.
لكن ما أن ظنّت القوى الامبرياليّة أنّ الأمر استتبّ لفائدتها حتّى اندلعت أزمة الرّهون العقاريّة في قلب النظام الرأسماليّ، أي في الولايات المتحدة الأمريكية، وسرعان ما انعكست آثارها ـ بفعل العولمة ـ على بقيّة العواصم الرأسماليّة وفي بلدان الأطراف أو المحيط حسب تعبير الرّاحل سمير أمين. وقد خصّص الكاتب القسم الثاني من كتابه لتقديم عرض مكثّف حول أزمة 2008 التي حسب اعتقاده لم يتعاف منها بعد النّظام الرأسماليّ، بل إنّ آثارها مازالت تلاحقه في هذا القطاع أو ذاك، أو في هذا البلد أو ذاك. ولأنّ الأزمات هي من طبيعة النّظام الرأسماليّ، ولأنّ هذه الأزمة الأخيرة تأتي في ظرف مختلف عن أزمة 1929، فقد حاول الكاتب شرح أسبابها لتبيان أنّها تختلف جوهريّا عن الأزمة السّابقة. فإذا كانت أزمة 1929 هي أزمة فائض إنتاج، فإنّ محرّكات الاقتصاد اليوم لم تعد هي نفسها، إذ فقدت المحرّكات التقليديّة القائمة على الإنتاج (الفلاحة، الصّناعة) مكانتها المحوريّة في الدّورة الاقتصاديّة لتحلّ محلّها حركة رؤوس الأموال في البورصات والاقتصاد الافتراضيّ والتّشجيع على الاستهلاك المفرط والإقراض دون ضمانات، وهذا العنصر الأخير هو الذي أدّى إلى أزمة الرّهون العقاريّة.
وقد رافق تعميم نظريّة العولمة حرب إيديولوجيّة شعواء سوّقت لنظريّة القطب الواحد وتفوّق الإنسان الأمريكي على غيره من البشر، والتّرويج لنمط العيش الأمريكي على أنّه الكفيل بإخراج البشريّة من حالة "الهمجيّة" لتأخذ بأسباب الحضارة، وصاحب ذلك محاولاتٌ لتدمير كلّ ما يشكّل الخصوصيّات الثقافيّة والحضاريّة لبقيّة الشّعوب، من ذلك، مثلا، تنميط التّعليم وتدميره وتحقيره خاصّة في البلدان الفقيرة حتّى يكف عن لعب دوره باعتباره مصعدا اجتماعيّا، مقابل التّرويج لثقافة الرّبح السّريع والسّهل.
إلاّ أنّه وفي خضمّ هذا السّعي المحموم لبسط سلطان أمريكا على العالم، كانت الصّين تحقّق في صمت تقدّما لا مثيل له في التّاريخ سيمكّنها من إغراق الأسواق، بما فيها أسواق البلدان الامبرياليّة، بالبضاعة التى يحتاجها مواطنو دول الرّفاه لتجد نفسها بعد حيّز وجيز من الزّمن تتحكّم في أكثر من نصف التّجارة العالميّة، وهو ما لن ترتضيه الإدارة الأمريكية التي ستعلن الحرب التجاريّة على الصين.
وتزامن ذلك مع بداية تجاوز روسيا لنتائج مخلّفات تفكّك الاتّحاد السوفيتيّ والمعسكر الشرقيّ الذي انضمت معظم دوله بعد تفكيكها وتشظّيها إلى الأحلاف الغربيّة (الاتّحاد الأوروبي، الحلف الأطلسيّ...)، إذ أنّها عادت بعد إعادة ترتيب بيتها الداخليّ بقوّة إلى السّاحة الدوليّة، مستغلّة معاداة شعوب العالم والعديد من دوله للامبرياليّة الأمريكية، وطارحة لإقامة تكتّلات جديدة للحدّ من التغوّل الأمريكي. ولعلّ أهمّ تلك التّكتّلات مجموعة البريكس التي تضمّ البرازيل وروسيا والصّين والهند ودولة جنوب إفريقيا، رغم ما يوجد بين أنظمتها من تباينات في التّصوّرات وفي الارتباطات.
كلّ هذه المعطيات كانت تشير إلى أنّ نظام القطب الواحد سائر نحو الزّوال وأنّ نظاما جديدا أقل ما يقال فيه أنّه سيكون متعدّد الأقطاب، هو بصدد التّشكّل والظّهور، وهو ما يسمح بالقول إنّه عشيّة اندلاع أزمة الكورونا، كانت أزمة النظام الرأسماليّ العالميّ على أشدّها، ولم تكن هذه الأخيرة هي المتسبّبة فيها مثلما تحاول الأنظمة الرأسماليّة وخدمُها التّرويج له.
إذن كانت أزمة النظام الرأسماليّ في ذروتها عند ظهور الفيروس التّاجي الذي سيساهم خاصّة في الكشف عن الطّبيعة الوحشيّة لرأس المال الباحث دوما عن المزيد من الأرباح، ممّا أدّى ويؤدي إلى تدهور أكبر لحياة البشر وتدمير أوسع وأعنف للطّبيعة.
وإذا كانت تداعيات الوباء تجلّت خاصة في الجانب الصحيّ إذ تمّ تسجيل إصابة الملايين من البشر بالفيروس ووفاة مئات الآلاف منهم، فإنّ تداعيات أخرى ما فتئت تبرز للعيان. فقد كشف الوباء عن هشاشة المنظومة الصحيّة للدول الغنيّة التي لم تكن تقيم أيّ وزن لحياة مواطنيها، وقد أدّت بها سياسات الخوصصة المفرطة للقطاعات العموميّة ومنها الصحّة إلى النتائج الكارثيّة المعلومة. فالدّولة الأقوى والأغنى في العالم كانت الأكثر عجزا على مقاومة الوباء، وهي التي سجّلت الأرقام الأعلى من حيث الإصابات والوفيات.
لقد كشف الوباء الطبيعة الوحشيّة للعولمة الرأسماليّة، وأظهر أنّ عولمة رأس المال قد صاحبتها عولمة الفقر والبؤس والمرض واليأس والأوبئة والتّدهور المستمرّ للخدمات العامّة في قطاع الصّحة وظهور طبّ طبقيّ في خدمة الأثرياء فقط .
كما أنّ إدارة الأزمة من قبل الحكومات البرجوازيّة كشفت رياءها، إذ هي واصلت الدّفاع عن منظومتها القيميّة التي يحتل فيها النّفاق والتّعالي والتّحقير والأنانيّة مكانًا كبيرًا، وقد تخلّت بصفة فجّة عن قيم التّضامن والتّآزر والأخوّة التي كثيرا ما زيّنت بها خطاباتها. فقد وصل بهم الأمر إلى حد إحياء النّظريات المالتوسيّة الجديدة لإضفاء الشرعيّة على خسارة الأرواح البشريّة.
وسادت حالة الاستثناء جميع البلدان التي سرعان ما تخلّى حكّامها عن ترسانة النّصوص المتعلّقة بالحريّات العامّة والفرديّة وحقوق الإنسان. كما عادت للظّهور النّزعات القوميّة المتطرّفة والدّعوات إلى الانطواء على الذّات واعتبار الآخر عدوّا والتّشهير به.
كما فصّل الكاتب القول في التّداعيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة لجائحة كورونا التي ستفضي لا محالة إلى مرحلة الانكماش الاقتصاديّ وهو ما نعيشه اليوم. وهذا سيؤدي حتما إلى ركود اقتصاديّ، وهي مؤشّرات تسبق الأزمة الاقتصاديّة العميقة التي سيشهدها العالم.
لم يسبق أن أثارت أزمة ما نقاشا فكريّا عميقا على النّحو الذي نشهده اليوم. وهو نقاش يتمحور حول مصير الإنسان و مصير كوكب الأرض، نقاشٌ يشارك فيه الفلاسفة وعلماء النّفس وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وعلماء السّياسة ومختصّون في معارف أخرى كثيرة، لا لتحليل أسباب الدّمار الذي سبّبه الفيروس التّاجي، ولكن لفهم تداعياته الفوريّة والمستقبليّة كذلك. وقد انقسم هؤلاء إلى شقيّن متناقضين: شقّ يعتبر ما جرى أمرا طبيعيّا ويقلّل من تداعيات الأزمة ويعتبرها داخلة في منطق الأشياء ويبشّر بتجاوزها في ظرف وجيز وبتعافي النّظام الرأسماليّ منها لتعود عجلة الإنتاج إلى ما كانت عليه وطاحونة الاستغلال إلى طحن العمّال والكادحين، باعتبار أنّ النّظام الرأسماليّ نظام أبديّ سرمديّ، لا محيد للبشريّة عنه. وشقّ ثانٍ يعتبر أنّ ما حصل لم يكن مفاجئا، وأنّ الأزمة الرأسماليّة كانت على أشدّها عند ظهور الفيروس الذي لم يكن سوى قادح أو مفجّر للكشف عن هشاشة النظام الرأسماليّ المحكوم أصلا بتناقضاته الداخليّة.
وبعد استعراضه لأهمّ مقولات هذا الشقّ وذاك، خلص الكاتب إلى الإقرار بأنّ " عالم الغد لن يكون شبيها بالعالم الذي نحن بصدد مغادرته". أمّا عن طبيعة هذا العالم المستقبليّ، فلم يغامر بتقديم جواب قطعيّ عنه: "هل سيكون أفضل، هل سيكون أسوأ؟" إذ أنّه يعتبر أنّ التّناقضات الداخليّة للنّظام الرأسماليّ لا تكفي لتقويض أسسه. فقد تمكّن في أوقات سابقة من إيجاد مخرجات لأزماته مكّنته من الحفاظ على هويّته الاستغلاليّة ونزوعه نحو السّيطرة والهيمنة سواء بالنّسبة إلى البلدان التي يحكمها مباشرة أو غيرها من التي يتحكّم فيها عن بعد. واليوم، فنحن نرى المساعي الحثيثة لمنظّري البورجوازية تبدع الأفكار لمواصلة تحميل العمّال والفقراء وِزْرَ الأزمة الرّاهنة من أجل الحفاظ على مصالح الأوليغارشيّة الماليّة، وذلك بإعادة الرّوح لنظريّات قديمة في ثوب متجدّد كالكينيزيّة وغيرها من نظريّات العقد الاجتماعيّ والوحدة الوطنيّة ودولة الرّفاه.
لذلك يعتقد الكاتب أنّه على المفكّرين التّقدميّين الرّافضين لهذا المآل المحتمل، المساهمة في بلورة بدائل فكريّة وسياسيّة تكون في خدمة الصّناع الحقيقيّين للثّروة والحياة أي الطّبقة العاملة وعموم الكادحين. وهو يُدرج كتابه هذا في هذا السّياق النّضاليّ ويعلن صراحة انحيازه إلى "من هم تحت". فهم الوحيدون القادرون على تحقيق التّغيير الجوهريّ الكفيل بإخراج البشريّة من عصر البربريّة. لذلك فإني أعتبر هذا الكتاب، زيادة على ثرائه الموسوعي وتمشيه الديداكتيكي، يطرح تساؤلات جوهرية تستفزّ القارئ وتدعوه لمحاورة كاتبه.

*نص التقديم لكتاب الأستاذ حسين الرحيلي "العولمة ما بعد الكورونا: حتمية ميلاد نظام عالمي جديد" الصادر عن دار الثقافية للنشر والتوزيع، المنستير/تونس، جوان/يونيو 2020