مدينة الديوانية وما تحمله الذاكرة عن الخطاط ملا علي


نبيل عبد الأمير الربيعي
2020 / 8 / 31 - 13:22     

كنت صغيراً وفي الصف الأول في مدرسة الجمهورية النموذجية المختلطة في الديوانية عام 1964م، وكان لكل معلم له أساليب تجعل الدرس شائقاً ومحبباً لدى التلاميذ، لما يتضمن الدرس من حكايات وقصص وطرائف، ولا سيما درس القراءة الخلدونية، ولا تزال بعض الطرف من تلك الدروس عالقة بذهني حتى هذا اليوم، وكان لدرس القراءة وكراس الخط ومعلمنا ناجي الصالحي (أبو منذر) له الدور في حبنا للدرس وللخط العربي، كان يحكي لنا عن الخطاط اللبناني (نسيب مكارم تولد سنة 1889م وتوفى سنة 1971م)، الذي كتب الدستور العثماني على بيضة من حجر، كان معلمنا يقسم تلاميذ الشعبة (ب) اسبوعياً إلى لجان، منها: لجنة الاستقبال ولجنة النظافة وفارس الصف، فأنا كنت من ضمن لجنة النظافة مع زميلي وصديقي باسم حميد الخزرجي، طلب منا المعلم أن نذهب إلى خطاط قرب مقهى الحاج إسماعيل خليل ليخط لنا على (شريط أبيض) كلمة (لجنة النظافة)، وعلى أن يكون لكل شريط لون.
فذهبت إلى محله الكائن في بداية زقاق صغير يؤدي إلى علوة الحاج هلال المياحي ومحل السيد ضياء زيني لبيع المواد الإنشائية، فتولد في نفسي إعجاب شديد، وشوق شديد، ومحبة شديدة لهذا الذي يكتب مثل هذا الخط الجميل على شريط من البولستر للتلاميذ، وزاد إعجابي حين علمت بأن فنّه تجاوز الحدود، وبدأ يكتب الآيات القرآنية، كان من ضمن عمله فضلاً عن الخط صيانة الأقفال وصنع المفاتيح ثم اهتم بالخط، وعند طلبي منه خط كلمة (لجنة النظافة) ولقائي لأول مرة به، بدا لي رجلاً يلبس الملابس العربية وفي دكانه الصغير الذي يغلقه بعد نهاية عمله بجرارات من الصفيح تدخل في سكة خشبية عند مدخل الدكان، رجلاً من أهدأ من رأيت نفساً، ومن أكثر الوجوه بشاشة، وبشراً، ومن أكثر المرحبين ترحيباً، فلا تكان وتمر دقيقة واحدة حتى تراه يقول لكَ: أهلاً وسهلاً ثم يكررها ويقول مرة أخرى أهلاً وسهلاً، وهكذا. كان طاهر النفس، صادق اللهجة والطيبة التي تصونه من الخبث والختل والدجل.
راح يتفنن في الكتابة، ويخرج المخطوط على قواعد الفنون المبتكرة وليس على القواعد التي أخذ بها الخطاطون، كأن يكون طول الألف سبع نقط مثلاً أو عين القاف نقطة واحدة، وإنما راح يكتب الخط بكتابة فنية لا تستطيع أن تحول نظرك عن اللوحة. وفي مرحلة الجامعة ابهرني زميل الدراسة وصديقي نبيل الشريفي بأعماله الخطية الباهرة، وكنت أسأل نفسي هل أصدق أن ينقش نبيل على حبة من الرز؟ سورة الحمد؟ وهل يستطيع أن يقرأها القارئ بالعدسات كما يقرأ سائر المخطوطات، وقد فاجأنا بمعرضه السنوي عام 1983م داخل كلية الادارة والاقتصاد/ جامعة بغداد بأنواع الأعمال التي خطها ومن ضمنها حبة الرز، حتى بدأ يخط القرآن الكريم، وكان أبرع ما رأيت عملاً بعد أعمال الخطاط هاشم البغدادي.
لكن كان أول من خط السور القرآنية والدستور العثماني قبل قرن من الزمن هو الخطاط اللبناني الدرزي نسيب مكارم، الذي كان نجاراص ثم أبهر المقربين له من أنواع الخط الذي قام به ومن كتابة الدستور العثماني على بيضة من الحجر. وخط أبيات من الشعر على حبة من الرز التي أهداها إلى متحف الجامعة الأمريكيةببيروت سنة 1919م والتي كانت تعرف بالكلية السورية الانجيلية.