بدايات الفكر الفلسفي في بابل ومصر القديمة


غازي الصوراني
2020 / 8 / 30 - 20:00     



"كان نظام الرق، هو النظام السائد في بابل ومصر القديمة، حيث سُخِّرَ العبيد لبناء منشآت الري، ولتشييد الأهرامات والمنابر والقصور، وفي أواخر الألف الرابعة وبداية الألف الثالثة قبل الميلاد بلغت العلاقات العبودية في هذين البلدين أوج تطورها"([1]).
الحضارة البابلية:
تعادل الحضارة البابلية من حيث القيمة التاريخية الحضارة المصرية و الهندية و الصينية نظرا لما تركته من آثار أدبية و علمية فيها، على سبيل المثال مساهمتهم في الرياضيات و الفلك، وإنشائهم لأول مكتبة في التاريخ و هي مكتبة آشور بنيبال و هو واحد من كبار الحكام آنذاك، كذلك إقامتهم لأول شريعة في التاريخ تعرف بقوانين حمورابي كما ساهمت هذه الحضارة في بعض الأفكار الفلسفية و منها([2]):
1. أصل الكون: يري البابليون الأوائل أن الماء هو العنصر المؤسس للكون و بذلك يكونون قد سبقوا الفكر اليوناني و بشكل خاص ما قال به طاليس يؤكد ذلك ما نقرأه في قصيدتهم المشهورة جلجامش حيث يقول أحد مقاطعها: (إن إبسو- المحيط أي الماء- أبو كل الأشياء، خلق كل شيء و بعد أن امتزج مع أخيوس- الأرض أو التربة- لم يكن قد ظهر فيه أي حقل و لم يكن هنالك وجود لمستنقعات، لم يكن أحد من الآلهة قد خلق و لم يكن أحد قد اتخذ له اسما و لم تكن المصائر قد تقررت...) يفيد هذا المقطع بشكل صريح أن الماء سابق لجميع الموجودات وأنه هو منشؤها.
2. موضوع الخلود: دونت ملحمة گلگامش مسألة الخلود وبينت أن الفكر البابلي لم يكن يؤمن بالأبدية و إنما أقر بفكرة الفناء، ومن هنا الطابع التشاؤمي لهذه الملحمة التي تدعو إلى ضرورة التمتع بالحياة قدر الإمكان.
3. الموقف الميتافيزيقي: يتميز الفكر البابلي بقوله في مرحلته الأولى بتعدد الآلهة و من أشهر آلهتهم: بعل، عشتار، شماس، آنو و كلها ترمز للشمس أو الماء أو التراب لأنهم عادة يعبدون الطبيعة لاعتقادهم بأنها مصدر حياتهم.
فلسفة القانون: ساهم البابليون في إقامة قواعد للتنظيم الاجتماعي و السياسي عرفت باسم قوانين حمورابي هذه القوانين تجسد فكرتين أساسيتين: الفكرة الأولى ضرورة تنظيم المجتمع وفقا لقوانين معينة، ثانيا ارتباط هذا النظام بفكرة العدالة و ذلك أن العدل يشترط النظام و يرفض الفوضى، ويبين نص من نصوص هذا القانون مدى ارتباطه كذلك بمؤسسه ألا و هو حمورابي يقول حمورابي (أنا الحاكم الحارس أضم بين أحضاني أهالي بلاد سومر و أكاد و كجت حماهم حتى لا يضطهد القوي الضعيف و حتى يتحتم عليهم أن يتوفوا العدل في معاملتهم اليتيمة والأرمل. دع أي شخص مظلوم له حق يمثل أمام صورتي كملك للعدالة)"([3]).
أخيراً، مهم الإشارة إلى دور الأسطورة وتأثيرها على الحضارة البابلية، فقد "لعبت الأسطورة، التي جسدت محاولات الناس الأولى لفهم ظواهر الطبيعة، دوراً كبيراً في نشوء الفكر الفلسفي لدى سكان ما بين النهرين، كغيرهم من شعوب العالم القديم، وبالتدريج تحولت الاساطير، التي تحكي أصل الآلهة Theogony، إلى معتقدات فكرية وفلسفية عن أصل العالم وارتقائه، ولم تكن النجوم، عند البابليين، وسائط تساعد الناس على حساب الزمن، وفي التنبوءات الفلكية، فحسب، بل وقوى خالقة، أوجدت العالم، وتؤثر فيه باستمرار، فالقمر، عندهم، "أبو الآلهة"، والنجوم – آلهة، تنير ليلا فقط، من ثم تأتي الشمس، فتطفىء النجوم السماوية، ولذا فانها مصدر الظلمة، والقوة التي تحكم عالم جوف الأرض (العالم الاسفل)، ومصدر الموت والهلاك، لكن القمر، بعد أن يموت، يعود فيبعث من جديد، ولذا كان – عند البابليين – رمز الحياة، الخالدة، التي لا تنطفئ شعلتها أبداً، وبمرور الزمن يتحول بين الخير (النور) والشر (الظلمة) في اسطورة نشوء العالم إلى التغني بانتصار إله النور على اله الظلمة، ويغدو اله النور قوة سامية، تسير العالم وتحفظه.
هذه النظرة إلى دور النجوم كانت وراء ظهور التنجيم Astrology، الذي يعكس ايماناً خرافياً بقدرة النجوم على التأثير في مصائر الافراد والمجتمعات، وقد تطلب تطور الزراعة والري والبناء ضرورة توسيع المعارف العلمية، وتطبيقها في الحياة العملية، كما اخترع العلماء البابليون "النظام الستيني" في الحسابات، الذي ما يزال مستعملاً في جميع أنحاء العالم (1 ساعة = 60 دقيقة، 1 دقيقة = 60 ثانية)"([4]).
الحضارة الفرعونية :
" خلال الألف الثالث قبل الميلاد، حقق الطور الأول من التاريخ المصري الذي ندعوه بالمملكة القديمة، أهم منجزات الثقافة المصرية في التكنولوجيا والعمارة والفنون، وفيما يتعلق بالمعتقدات الدينية، فقد حل الإله "رع" تدريجياً محل الإله حوروس، وصار رئيساً للبانثيون المصري وأباً لجميع الآلهة، وكان يتجلى في العالم المادي على هيئة قرص الشمس. أما "حوروس" و"سيت" فقد تابعا صراعهما ولكن من خلال ميثولوجيا مختلفة، فقد أنجب رع إبنين هما شو- الهواء، وتفنوت- الرطوبة، ومن زواج شو وتفنوت ولدت السماء نوت والأرض جيب، ومن زواج السماء والأرض ولد أربعة آلهة هم: "أوزوريس" و"سيت" و"إيزيس" و"نفتيس"؛ فتزوج أوزوريس من إيزيس، وسيت من نفتيس"([5]).
"ومع نهاية حكم الأسرة السادسة انهارت المملكة القديمة، ودخلت البلاد في الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة الانتقالية الأولى، وخلال هذه الفترة، ترسخت اللامركزية السياسية، واستقل حكام الأقاليم الذين راحوا يُبَنَّون قصورهم الفارهة الخاصة ويُنَمُّون ثرواتهم؛ ولم يعد الفرعون مصدر قوتهم وجاههم، كما أنه لم يعد شفيعهم من أجل الخلود في عالم الآلهة، فراحوا يشيدون صروح دفن لهم في مناطقهم، ويسعون لتحقيق الخلود دون شفاعة الفرعون ووساطته، بعد ذلك، "أخذت كل شرائح الشعب تتطلع إلى الخلود، وإلى حياة سعيدة بصحبة الآلهة بعيداً عن ألم وشقاء الحياة الأرضية، وبذلك ولدت فكرة الجنة السماوية المُعَدَّة لجميع الصالحين بصرف النظر عن منشئهم الطبقي، وصار الإله الصاعد "أوزوريس" هو الشفيع الوحيد للموتى الذي يمسك بمفاتيح العبور إلى العالم الآخر لكل من عمل صالحاً في دنياه، وبهذه الطريقة تم ربط الأخلاق بالدين؛ فلقد كان "أوزوريس" إلهاً أخلاقياً يحض على فضائل الأعمال ويجزي بها، ويكره الرذائل ويعاقب عليها"([6]).
" في أواسط القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وخلال الفترة التي كانت فيها مصر في أوج عظمتها وقوّتها، ارتقى عرش هذه الإمبراطورية مترامية الأطراف الفرعون "أمنحوتب" الرابع، أو "أخناتون" كما دعا نفسه بعد ذلك، وحَكَمَ لمدة ستّ عشرة سنة (1369-1353 ق.م) أسّس خلالها لأوّل ديانة توحيدية معروفة لنا تاريخياً، وبنى أوّل المعابد لإلهه "آتون" في العاصمة طيبة.
يقوم معتقد "أختاتون" على الإيمان بإله واحد للبشرية جمعاء، وهذا الإله هو طاقة صافية لا تتخذ شكلاً ما، ولكنها تتبدى في عالم الظواهر بقرص الشمس مصدر الحياة لكل مخلوقات الأرض، "وقد ارتبط ظهور الفكر الفلسفي هنا بالخطوات الأولى لعلوم الطبيعة – الفلك والرياضيات، من جهة، والاسطورة، من جهة ثانية، ولم تكن الفلسفة قد ظهرت بعد كشكل متميز من أشكال الوعي الاجتماعي"([7]).
نشير هنا إلى " الأثر الكبير للتقويم الشمسي في حياة الناس العملية، وقد ذكر المؤرخ اليوناني، هيرودوت، أن المصريين توصلوا، قبل غيرهم من شعوب العالم، إلى تحديد طول السنة بـ 365 يوماً وربع اليوم، كما أحرزت الرياضيات المصرية نجاحات هامة، منها –حساب حجم الهرم الناقص ذي القاعدة المربعة، ودساتير حساب مساحة المثلث والمستطيل وشبه المنحرف والدائرة، وتشير طرق الحساب، التي كانت تُعَلَّم في المدارس المصرية، إلى المستوى العالي – بمقياس تلك الايام- الذي بلغته المعرفة النظرية في بلاد وادي النيل، هنا أيضاً يمكن، بوضوح، تتبع الطريق، الذي سلكه الفكر في انتقاله من احضان التصورات الدينية إلى التأويل الفلسفي للأسطورة، فقد تغير مضمون الاسطورة ليصبح فلسفياً، اكثر منه دينياً، وقد "ارتبط هذا بتطور العلوم والمعرفة، من جهة، وبالصراع، الذي دارت رحاه بين العبيد ومالكيهم، بين طبقات الاحرار الميسورين، الذين أصبحوا في الألف الثاني قبل الميلاد قوة متميزة لا يستهان بها، وبين الزعامة التقليدية في نظام الرق، من جهة ثانية، "وهكذا ظهرت المؤلفات، التي تثير الشكوك حول صحة التصورات الدينية، ولا سيما الاعتقاد بالحياة الخالدة في العالم الآخر، كما تدعو هذه المؤلفات إلى تشييد دعائم حياة سعيدة هنا، في عالمنا الارضي، لا أن نقبع بانتظار نعيم الدار الآخرة، كما كان لازدياد حدة الصراع الطبقي، أثره في ظهور التعاليم السياسية الأولى، التي تعبر عن آراء الطبقات المسيطرة، فينادي أحدها علناً: "أخْضِع العامة، واسحَق اندفاعها وحرارتها"، كما تطفح هذه التعاليم بالحقد العارم على الجماهير وتطلعاتها، وتصور النظام العبودي نظاماً الهياً خالداً، لن يتغير أبداً"([8]).
إن الآثار الأدبية الفرعونية "تطرح، وان يكن بسذاجة، مسألة الأساس (الأصل) المادي لظواهر الطبيعة، فتتحدث عن الماء البارد، الذي منه تتولد الكائنات الحية، وتتحدر عنه جميع الاشياء، أو الهواء، الذي يملأ الفراغ، و"يحضر في الاشياء كلها"، لكن الفكر الفلسفي هنا لم يصل إلى المستوى، الذي بلغه في بلدان نظام الرق الأكثر تقدماً، ومع ذلك كان للافكار الالحادية والمادية الساذجة لدى المصريين والبابليين أثرها في التطور اللاحق للعلم والفكر المادي في العالم القديم، بهذا الصدد يذكر المؤرخ بلوتارك أن الفيلسوف اليوناني طاليس تَعَلَّمَ من المصريين بالذات أن يفترض الماء أصلاً للاشياء وعلتها الأولى"([9]).
هذه هي بعض ملامح الفكر الفلسفي في الشرق القديم الذي تأثرت به الفلسفه الاغريقيه وتفاعلت مع المعطيات الفلسفيه المصريه والبابليه بشكل خاص .
 


([1]) موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم –دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) – - ص 53
([2])  موقع المعرفة – فلسفة شرقية – الانترنت.
([3])  المرجع نفسه.
([4]) موجز تاريخ الفلسفة – جماعة من الأساتذة السوفيات – تعريب: توفيق ابراهيم سلوم –دار الفارابي – طبعة ثالثة (1979 م) - ص 53 / 54
([5]) فراس السواح – بذور فكرة الشيطان في ديانة مصر القديمة - الأوان– 5/4/2010
([6]) المرجع نفسه .
([7]) فراس السواح – تراتيل أختاتون وسفر المزامير – الأوان – 6/5/2009.
([8]) جماعة من الأساتذة السوفيات – مرجع سبق ذكره - موجز تاريخ الفلسفة - ص 55 / 56
([9]) المرجع نفسه - ص 57