عبادة التاريخ


عباس علي العلي
2020 / 8 / 30 - 06:22     

لا شك أن التأريخ ملتصق بالإنسان يجري معه ويرافقه في رحلة الوجود، لا يمكنه أن ينسى يوما أن وجوده تاريخ كما هو مستقبل وهو الحاضر، فالتاريخ هو لغة الزمن التي يحكيها الإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي يعيشه ويتعامل معه وكأنه رفيق دربه، من هنا كان علاقة التأريخ بالإنسان علاقة ناتج ومنتج بالطول وبالعرض لا يسعه أن يتخلى عنه أو يحاول أن يضع الفواصل بينه وبين ما كان صنع يده، لهذا فالإنسان يقولب أفكاره وحتى وجوده المادي وأحيانا الروحي وفق مقولات التاريخ ومنطقه حتى لو كان ذلك في جزء كبير منه غير حقيقي أو ربما يشكل أحد الأوهام التي أمن بها على أنها واقع الوجود ووجود الواقع فيه.
أسوق هذه المقدمة القصيرة حتى أبدا مقالتي عن عبادة التأريخ وخاصة تأريخ العبادة في حياة البشر، العبادة الدينية التي تعني في جوهرها المحرك الروحي لغالبية الناس والتي تشكل مع التاريخ جناحين يطير بهما في عالمه وواقعه، قد يقول البعض أن العلم والمعرفة والأخلاق كلها محركات في وجود الإنسان ومحركات ضرورية رافقته أيضا، لا أنكر أن الوجود هو تفاعل الكثير من المحركات التي سارت بالإنسان ليصل إلى وجوده الحالي، لكن تبقى في حدود قدرتها على فعل الخلق الوجودي محدودة على من يتعاطى بها، إلا الدين والتأريخ فهما يمسان الإنسان رغب بهما أو لم يرغب، فالإنسان كما أراه كائنا تأريخيا ودينيا بأمتياز وهذا ما لا يجعل منه مميزا فقط، بل أسيرا لهما حيث ولى وجهه يجدهما أمامه.
لذا فلا عجب أن يسقط أحدهما على الأخر أوو يفهم التاريخ على أنه دين الوجود، أو يفهم الدين على أنه تاريخ الوجود، فحتى يعيش متوازنا بينهما جعل من عبادة التاريخ كعبادة الدين ومن تاريخ العبادة دينه التأريخي عندما أنفصل عن جوهر الدين ذاته ورأى في مسيرة هذا الدين في الزمان وعبر التاريخ هي التجربة التي يجب أن يؤمن بها، لقد كانت هذه أحدى خطايا الإنسان وسببا في كل مآسيه التي لم تنقطع يوما بفعلها التدميري على وجوده، السبب أنه ينظر للتأريخ وكأنه هو حركة الله فينا ومحركه الذي يقودنا في عالمنا الوجودي، حتى أضحى أهتمامه بهذه المسيرة أكثر جدية وقداسة من الدين نفسه وإن لم يقل ذلك لكنه يفعلها ويؤمن بها في اللا شعور، الأديان التي أرادت أن تكون مشاريع فكرية له في سباقه مع مقتضيات البقاء والتطور عادة ما تختفي بعد أن تتبلور في الواقع ليحل محلها السيرة الدينية وأحداث التأريخ بوجهها المادي، فينقلب أتجاه الإنسان من متابعة جوهر الدين وأسسه إلى فعل الإنسان فيما فعله ويفعله في دينه.
لو درسنا بعين الناقد المتفحص عن علات وأسباب فشل الدين في إرساء ناجح لمبادئه وقيمه السامية في مجتمع بحاجة لها، نجد أن العلة لا تكمن في الدين ولا في أفكار البناء التي ينادي بها عادة، العلة تكمن في عدم فصل الإنسان بينه أي بين الدين وبين أحداث وتاريخية الإنسان وهو يتعاطى معه، حتى الكتب السماوية خصوصا والكتب التي كانت مصادر الدين في حياة الشعوب تحولت إلى مجرد أستعراض لتاريخ الإنسان الذي قاد أو ساهم في بناء هيكل الدين، التوراة مثلا والإنجيل وغيرها من كتب الأديان هي في الغالب منها سيرة رجال الدين من الأنبياء إلى أخر صناع الحدث الديني، قد يكون القرآن أقل في تأثير عبادة التأريخ فيه لكنه من جهة أخرى أوجد الإنسان شقيقا له وموازيا في تأثيره على المتدين الإسلامي سميت كتب الصحاح أو المسانيد أو مجموعات الحديث المنسوب للنبي مع مجموعة كتب السيرة التي كتبها مؤرخون على عواهن النقل، لتشكل مع القرآن المصدر الثاني للدين.
هذا الربط بين التاريخ كونه فعل بشري متعلق بحياة الإنسان وإن كان في جزء منه يمثل ترجمة أو رؤية الإنسان للدين إلا أنه ساهم في أضعاف المصدر الأساس الذي يجب أن يتقيد به الإنسان ويواصل مسيرته وسيرورته الفكرية وفقا لما فيه من قدرة على خلق حالة الإيمان الصحيح، الأدهى من هذا كله أن الكثير من الناس المؤمنين والمتدينين لا يفرق بين التاريخ هذا وبين الدين كفكر متعالي ثابت نسبيا طالما أن رؤيته مجسدة بالنص العقلي، أما التأريخ فهو المختلف عليه وفيه ومنه وهو أيضا نتاج بشري خالص لا علاقة له بالدين إلا من ناحية صياغة حركته في واقع الإنسان، فتحولت العبادة الأحدية الواحدية التي فرضها فكر الدين إلى وجهات نظر وأثر للفعل التأريخي للأشخاص بما هم بشر، العلاقة التي يريدها الله للإنسان علاقة عقل بعقل وليس علاقة شخص بأشخاص، فلو لم يكن عيسى نبي ومحمد نبي وموسى نبي فالله يختار ووفقا لمحدداته أشخاصا أخرين لهذه المهمة، ليبلغوا ويذكروا الإنسان أن الله يقول لهم ما قاله هؤلاء الرسل والأنبياء، الدين فكرة خارج الرسول والنبي وإن كانت تتطلب نماذج عالية ونزيهة وصادقة لكن في جانبها الموضوعي وليس في الجانب الذاتي منه.
الدين الذي يتعاطى به البشر اليوم في غالبه إلا ما ندر هو دين التاريخ ودين الحدث ودين الرجال والنساء منقطع عن جذوره الأساسية ومفرغ من مفهوم الفكرة الإلهية، أستنادا إلى ما ورد في تاريخ الدين من حدث ووجود شخصي للإنسان ودوره في إعادة نمذجة المفاهيم، على المستوى الإسلامي وأنا أتكلم عن دين أؤمن به وأتعامل معه لو جرد هذا الدين من تأريخيته فقط وعدنا به إلى نقطة الإنطلاق، قد نجد أن أسباب الخلاف والأختلاف تكمن في عبادتنا لهذا التاريخ وليس أختلافا في الدين أو عليه، إنما الخلاف في تقديس تاريخية وجود رجال الدين وقادته في واقع المسلمين، هنا أنقسم الناس منهم من يؤيد ويمجد ويقدس فلان لتأريخه والأخر يختار من تهوى قراءته مع سيرورة وجود الشخص التاريخي فحدث الخلاف والإنقسام وكلهم يقولون نحن نؤمن بمشتركات الدين الأساسية، الحقيقة أنهم يعبدون التأريخ الديني ولا يعبدون الدين التأريخي الذي أحتوى أصل الفكرة وجوهرها.