القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 11


عباس علي العلي
2020 / 8 / 29 - 04:05     

الكمال الديني

الكمال الديني عند سروش منفصل عن الجامع الديني لأن الكمال في تهيئة الأسس له، في حين أن الجامع يتجلى بالاحتواء على مجموع البناء المراد من الدين كغاية ونتيجة وأيضا كواقع، عندما لا يكون الدين جامع للتصورات والحلول فهو منقطع عنها بالقدر الذي يفصل تاريخية الدين عن واقعه، أي ان العودة إلى مبدأ محدودية الأحكام الفقهية وجزئية الاحتكام ترتبط أساسا بالواقع التأريخي فقط ، فالدين عنده لا يستجيب لما بعد حياة النبي وتجربته التأريخية، وحتى في هذه الفترة لم يكن الدين جامعا لكل الأحكام الضرورية حسب زعمه، ولا أعرف كيف أمكنه الأستدلال على ذلك وهو الذي يقول في مناسبة أخرى أن ما جاء به النبي تصورا كاملا بمنتهى التمامية كما أوردنا سابقا هذا القول، بمعنى أن دين النبي لم يأت بجميع الحلول المستوجبة والواجبة لا لعصره ولا لما بعد عصره وهنا لا بد من ترك الناقص والبحث عن موارد النقص من مصدر خارجي، فكيف نفترض أنه قادر على تجاوز ما بعد التجربة من حال واقعي لو كان الدين اصلا من صناعته ومتعلق بحدود بشريته وتاريخانيته كما يؤكد ويصر على ذلك، قد يفترض الكاتب أن مجرد تهيئة أسس الكمال تجعل من العنصر البشري مكمل للجامع ومنشئ له ومسيطر على موارده، وبذلك يكون الإنسان هو خالق النصف الثاني من الدين النصف الذي يتبدل ويتغير مع الزمن والمستحكم البيئي والتأريخي.
بالرغم من تفريق سروش بين قاعدتي الكمال والإجماع على النحو الذي شرحناه سابقا، إلا أنه يصر في كتاباته على الدمج بينهما ويجعل من الدين كي يكون كاملا غير منقوص، عليه أن يهيئ فقط للناس مفهوم الهداية الذي يعني بسط الأسس التي تنقل الإنسان من حالية المجهول بالدين إلى حدود العلم به، وأن غاية الدين هي تحقيق هذه الأنتقالة فقط، وعلى الدين أن يترك المرحلة اللاحقة للإنسان كي يمارس بشريته ليتم شرائط الجمع فيه (وعلى هذا الأساس فلو قبلنا بأنّ الدين يمثّل الحد الأدنى اللازم بالصعود بالإنسان في معراج الكمال المعنوي فإنّ مفهوم «الكامل» يتحقق لهذا الدين بالحدّ الأدنى من توفير أدوات الهداية والكمال المعنوي، فلا منافاة اطلاقاً بين فرضية الحدّ الأدنى مع فرضية كمال الدين. فلو كان هدف الدين والرسالة السماوية تحقيق هذا المقدار من الحدّ الأدنى (سواء في دائرة الأحكام أو الأخلاق أو المعارف الدينية المتصلة بشكل عام بمقولة الهداية ) .
إذن صورة الكمال الديني عند سروش تبتدئ وتنهي بالهداية فقط، وما بعد الهداية يكون مجرد فهم لذاك الكمال ويتجاوز مبدأ الأقلي الذي أعتمده سابقا، فيعود للفول به مؤكدا عدم التفريق بين الكمال وبين الضروري من وظيفة وشكلية الدين (ففي هذه الصورة يكون الدين قد أدى رسالته وبيّن للناس هذا المقدار من الحد الأدنى، فلا نقصان فيه من هذه الجهة) ، علية فلا بأس من التدخل البشري المضاف عندما يكون الدين بحاجة إلى إكمال نافيا وضاربا عرض الحائط مقولة النص (اليوم أكملت لكم دينكم.....).
هنا أستعير مقطع من أحد كتاباتي القديمة لكي ابين مقدار التأثر الشخصي والذاتي للإنسان حينما يتناول دراسة الدين بخاصة، فيسقط فيها ذاتيته ومعتقداته الباطنية أكثر مما يدعي من حيادية وتجرد، تبدو المشكلة أكثر صعوبة أيضا عندما تتناول الفكر الإنساني ومنه الديني على الخصوص بتجرد حتى لو كنت مع أو ضد هذا الفكر، فالعوامل الذاتية لا بد أن تظهر من حيث لا يمكن سترها بالإرادة، ولكنها لا بد من أن تنعكس في زاوية أو عدة زوايا من هذا النظر، لأن الإنسان وببساطة ما هو إلا كائن متفاعل مع ما تفرضه النفس من ميول واتجاهات باطنية لا مرئية ولا محسوسة في حال أنت تنظر لما لا ترغبه هي، أو لا يتوافق مع مقدماتها فيصبح الميل واضحا، وهذا ما حذرت منه الآية الشريفة التي جاءت للتدليل على أن الإنسان لا يمكن أن يكون حياديا ولا مجردا تماما في تناول النظر للأمور الخارجة عنه {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ} النساء129.
العقل والعلم والمنطق المجرد يشير دوما على أن البحث في أي موضوع خارج دائرة وجوده الحقيقي قد يقود إلى نتائج مغايرة ولا تفصح إلا عن واقع هو في الجوهر خارج الموضوع، وبالتالي فالحال الأنسب لذلك هو أن نعود لأصله وجذوره والبحث في ذاتيته وكل ما يتصل به، ثم نكتشف من ما بين ذلك عن ضالتنا ونبني قناعتنا على نتائج تربط بين المقدمات والنتائج والعلائق المتشابكة، هذا هو الذي يقودنا إلى إدراك الحقيقة دون غيرها حتى لو أستلزم منا ذلك أن نكفر ببعض النتائج التي تخالف البرهان الذي وصلنا له أخيرا.
لكي أصل إلى فهم واعي لما أريد أن أصل إليه من حقيقة أن الله والدين لا يمكن أن أبحث عنهم خارج أطارهم الخاص، وبدون الغوص بحيثيات الذات المرتبطة بهما، وأن أكون مستعدا لتقبل كل ما يمكن أن يقودني البحث إليه من يقين بالنتائج، طالما أن العقل يقره ولا ينكره بدليل أنا من وضع أليته وصنع مفاهيمه دون أن يكون هذا الأمر جزما هو نهاية كل شيء بالنسبة لي، فليست النتائج معصومة من إثبات جدارتها ولا العقل المجرد معصوم من التيه، ولكن طالما أنني لم أجد ما استنكره على هذه النتائج تبقى صالحة للتقيد بها حتى ظهور الدليل المخالف لها أو مخالف لمنهجية العقل في الوصول.
هنا لا بد أن نبحث عن الدين بين العلة والدليل بين الروابط التي تجمعهما وتفرق بينهما، نبحث بين علة الوجود وغائيته وما بين العلة والغائية تتجلى لنا إرادة الديان، إذن محل البحث ينحصر في إرادة الله وما يتفرع عنها من مظهر له ارتباط بنظم سليمة تؤطر سلامة التوافق والتناظر المبني على أن كلاهما شيء واحد، له ماهية ذات وجهين لا يكتمل كل منهم إلا بالأخر، وهما معا يشكلان وظيفة الاستخلاف ويبرران علة الخلق التي حصرها الله باستهداف الرحمة، وجعلها قاعدة الإصلاح ونتائجها الدليل إلى فهم العلة تفكيكا وتحقيقا في الأرض وفي السماء.
النتيجة التي لا مفر منها أننا لو أمنا أن الله في ذاته كامل وحقيقي ومترابط في أمره على النحو الذي لا يثبت عليه النقص أو الغفلة أو النسيان، ونحن نؤمن به حقيقة لا بد لنا أيضا أن نؤمن أن الكمال الديني لا يكون كليا ولا جزئيا إلا بالتمامية العامة له، فالكمال هي صورة المطلق الذي لا تتخلخل في جانب ولا يعتريها نقص، لأن ذلك يجرد الكمال من صفته المعنوية ويحيله لمفهوم النقص أو العجز، فكل كامل هو تام بجزئياته كما هو نام بصورته الكلية، سواء افترضنا عدم الجمع أو تصورنا ذلك، فكيف يكون كاملا ومطلقا وهو بحاجة إلى إتمام لاحق من غيره، فأما أن يكون الكلام بالكمال يعني التمام أو يكون الأفتراض خاطئ لأن المطلق بذاته لا يحتاج إلى خارج يثبت إطلاقه وهذا هو مبدأ التسليم التي قامت عليه الديانات كلها.