-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (7-7)


سلام ابراهيم عطوف كبة
2020 / 8 / 28 - 00:00     

"مثالية العمل"وفلسفة الامبريالية الامريكية

يسمي ديوي البراغماتية(مثالية العمل).ان البراغماتية في نظره تؤدي الى(مثالية للعمل مكرسة لخلق المستقبل بدل الجمود على الآراء المتعلقة بالماضي)،ويضيف الى ذلك بأن هذه المثالية(لا تقهر)(66).كذلك ينبؤنا بأن(مثاليته حقيقية واكثر انسجاما مع العلم،لانها تنبثق حالما تسلم الفلسفة برأي العلم في ان الافكار هي بيانات ليس عن الحاضر او الماضي،بل عن الاعمال واجبة الانجاز في المستقبل.لان الانسانية سوف تتعلم بأن الافكار لا قيمة لها الا اذا تحولت الى اعمال من شأنها ان تعيد ترتيب وانشاء العالم الذي نعيش فيه،بشكل ما،ومهما يكن ذلك ضئيلا)(67).
وهكذا فأن ديوي يعلن بأن البراغماتية هي(مثالية للعمل)تعتبر نفسها(لا تقهر)،وانها تنصرف(لاعادة ترتيب وانشاء العالم)و(لخلق المستقبل)،من دون عناء البحث عن اية معرفة صحيحة(للحاضر او الماضي)،مع انكار(الجمود على الافكار المتعلقة بالماضي).ويمكن ملاحظة بعض السمات البارزة من هذه(المثالية للعمل)على الفور كما يلي:

1. انها تتصف بوجهة النظر الرئيسية التي يعبر عنها وليام جيمس بالقول بأن(قيمة)اية فكرة يجب الحكم عليها(بالارباح)التي تعود بها.
لقد شكى جيمس في كتابه(البراغماتية)من النقاد الذين شوهوا المبدأ البراغماتي القائل بأن(الحقيقي هو الناجح)بتفسيره(بأننا اناس نفكر بأن الانسان يستطيع ان يقول ما يشاء ويسمي ذلك حقيقة دون ان يخرج عن المقتضيات البراغماتية).ثم تساءل جيمس متعجبا بغضب(انني اترك لكم لتحكموا عما اذا لم تكن هذه التهمة الا مجرد قذف عديم الحياء)(68).
طبعا ان هذا مجرد قذف،لان جيمس والبراغماتيين لم يقترحوا بأن كل ما يشاؤه الانسان يمكن ان يعتبر صحيحا.انهم قالوا فقط بأن كل ما يعتقد انه مربح يمكن ان يعتبر صحيحا.ان النتائج المحسوسة هي التي لها الوزن والاعتبار،انها النتائج التي لها(قيمة نقدية).وهكذا فأن (مثالية العمل)تتضمن ما سماه جيمس(التزامنا العام لفعل ما هو مربح).

2. ان البراغماتية بتأكيدها على هذا الالتزام،لا يبدو انها تدرك ان ما هو مربح لفئة من الناس قد لا يكون مربحا للفئة الاخرى.مثال ذلك ان الرأسمال منجزا(التزامه العام لفعل ما هو مربح)قد ينصب ماكنة جديدة،من شأنها ان تؤدي الى بطالة عدد من العمال.ان هذا يعود بالربح على الرأسمالي،ولكنه لا يعود الا بالخسران على العمال،لان كل ما يعود عليهم من هذه الصفقة،هو في الواقع خسارة الاجور.
كذلك اذا حكمنا على(قيمة)الافكار،بمقياس(تحولها الى اعمال تعيد ترتيب وانشاء العالم)،نجد ان الناس مختلفي المصالح،كالرأسماليين والعمال،يجب ان يحكموا على قيمتها غالبا بشكل مختلف،لان مسألة اعادة انشاء العالم بصورة(صغيرة)تختلف في الواقع حسب المصالح الطبقية،وهي تختلف اكثر بكثير بالطبع،في قضايا اعادة انشاء العالم،بالمقاييس(الكبيرة).
الا ان هذا الاعتبار لا يظهر انه خطر ببال البراغماتيين على الاطلاق.ان الفلسفة البراغماتية تتحدث دائما من وجهة نظر تفترض فيها اتقان الآراء حول ما هو مربح وما هو غير مربح.وعندما تقول بأن(الحقيقي هو الناجح)تفترض ايضا الاتفاق حول مفهوم (الناجح).


3. ان البراغماتية،باعتبارها كل فكرة كوسيلة او اداة للحصول على الارباح،وللحكم عليها بمقياس نجاحها في تحقيق الاغراض المطلوبة،تبرهن على تفاؤلها الزائد بصدد آفاق الحصول على الارباح،وباستمرارية ضمان الارباح المطلقة،طالما سار الانسان في الطريق الصحيح للحصول عليها.وفي هذه النقطة،تتعارض البراغماتية تمام التعارض مع جميع انواع الفلسفة الاخرى،التي تدعو الى عقم الجهود البشرية،او التي تصور الانسان وكأنه يواجه عالما لا يستطيع ان يأمل السيطرة على قواه الجبارة.

الا ان هذا التفاؤل هو من نوع غريب وغير عقلي.فهو يتميز من جهة بالثقة(باننا)نستطيع ان نعيد ترتيب وانشاء العالم بأي شكل يلائم(مصالحنا)الخاصة،وبهذا نستطيع الحصول على الارباح التي(لنا)مصلحة فيها،ولكنه من الجهة الاخرى يتميز بنفس التأكيد القاطع على ان تحقيق كل هذا لا يتطلب اي عناء كبير(حول الحاضر وحول الماضي).
وهكذا فان هذا التفاؤل لا يستند الى اي اعتبار سليم للحقيقة الموضوعية،او دراسة لقوانين التطور التاريخي.انها تنظر للعالم الموضوعي كشئ(غير محدد)بالمرة،تماما كالمادة الخام التي تنتظر تحويلها الى قيم نقدية.
لا تتشبث بآراء حول الماضي لان الماضي لا وجود له!ولا تهتم بما هو كائن وبما كان وانصرف كليا للارباح المستقبلة خالقا لنفسك مستلزمات الحصول عليها،وعندئذ سوف لا تقهر!هذه هي رسالة(مثالية العمل).
ان هذه الفلسفة كانت منذ البداية فلسفة امريكية على الاخص.لقد ولدت في فترة من تاريخ الولايات المتحدة اعقبت انتصار الشمال على الجنوب في الحرب الاهلية.وقد تمت في الدور الاخير من تطور اسلوب الانتاج الراسمالي،عندما كان التكنيك قد تقدم تقدما كبيرا،وتمت تهيئة الانتقال الى المرحلة الاحتكارية.لقد عبرت هذه الفلسفة تعبيرا جيدا عن مطامح(مثالية العمل)للطبقة الرأسمالية الامريكية لتلك الفترة،ببحثها النهم وراء اقصى الارباح ورغبتها العارمة في اقصاء المنافسين،وفي فتح الاقاليم البكر،وفي احداث ثورة مستمرة في التكنيك الانتاجي وفي اللحاق والتفوق على(العالم القديم).
لقد كانت تعبر عن روح المبادرة الفردية والمشروع الفردي.لقد كانت تعبر عن التفاؤل الصارخ لفترة كان يفترض فيها ان كل مواطن(عدا الزنوج طبعا)هو حر ومساو للمواطنين الآخرين،وان له نفس الفرص المتساوية للنجاح واقامة اعماله الخاصة.
ان هذه هي الشروط التي مكنت البراغماتيين من الكلام عن(الارباح)وعن(الافكار الناجحة)من دون اية صعوبة من قبلهم او من قبل مستمعيهم،حول تحديد معنى كل ذلك.ان العامل والمليونير معا،افترض ان لهما نفس المفهوم عن مضمون العمل الناجح هو مفهوم المليونير طبعا.واذا ذهب ابن العامل للجامعة،كان يؤمل انه سيتعلم هناك نفس الآراء التي ساعدت على نجاح المليونير.
لقد علمت البراغماتية ان مثل تلك الافكار هي افكار(صحيحة)،وان جميع الافكار الاخرى(تفتقر الى اليقين).بل هي علمت اكثر من ذلك ان كلمة(الصحيح)لا تعني اي شئ عدا الخصيصة التي تقود الى النجاح،وان اعطاءها اي معنى آخر،معناه ان الانسان غير عملي،اي انه يتبنى فلسفة تأملية بدل الفلسفة العملية.
وهكذا كان وليام جيمس في محاضراته عن (البراغماتية)قد صب سخريته على كامل فكرة كون الحقيقي يكمن في الانطباق على الواقع وان الافكار الحقيقية بمعنى من المعاني حقائق(منسوخة).
(انني استطيع في الواقع ان اتخيل ماذا يعني النسخ ولكني لا اجد اي سبب يدفعني لذلك)هكذا يقول جيمس،الذي يتساءل: ما هو الفرق بين هذا وبين(نسخ)الحقيقة؟وهو يجيب على تساؤله هذا بالسلب المطلق.انه يقول: (عندما قاد المعجبون،الشخص الايرلندي،الى وليمة الطعام على كرسي وثير خال من المقعد،علق على ذلك قائلا:لو لم يكن الامر متعلقا بالشرف،لسعيت للوليمة على الاقدام).وهكذا(فيمكن للحقيقة هي الاخرى الا تنسخ)(لو لم يكن الامر متعلقا بالشرف).
ان ما تراه البراغماتية،هو ليس (نسخ)الحقيقة في الافكار،ليس البحث عن اي معيار موضوعي للحكم على حقيقة الافكار،بل كل ما تؤكد عليه هو الاطمئنان الى اي شئ يخدم الاغراض العملية.ان الافكار يجب الحكم عليها من وجهة نظر النجاح العملي.
لقد لعبت الفلسفة البراغماتية دورا هاما في التربية الامريكية.ان ديوي اشتهر في كتبه في نظرية التربية،شهرته في كتبه الفلسفية،وقد الح على ان التربية تبدأ مع الولادة،وان هدفها هو اعداد الفرد كمواطن للحياة العملية،وهذا الجانب العملي هو الشئ المهم،وليس ملء دماغ الحدث(بالمعرفة الميتة).كذلك طبق براغماتي آخر،اوليفر وندل هولمز براغماتيته في ميدان القانون زاعما انه لا يمكن اقامة القانون على اي مبدأ من مبادئ الحق،بل يجب صياغته كليا لاغراض المقتضيات الاجتماعية العملية.كذلك يرى المؤرخ البراغماتي جون فيسك،بأن الهدف الاسمى للتاريخ يجب ان يكون المناداة(بالمصير البارز للعرق الانكلوسكسوني)(69).
لقد عبر البروفسور رالف بارتون بري،من جامعة هارفارد ببلاغة عن المغزى الثقافي لفكرة(النجاح)البراغماتية،وذلك في مساهمة له عن المغزى الثقافي لفكرة(النجاح)البراغماتية،وذلك في مساهمة له في موضوع(هل يوجد فلسفة في امريكا الشمالية؟)،وذلك في المؤتمر الفلسفي الثاني للدول الامريكية(كانون الاول 1947).وربما يتصور بعض القراء بأن البروفسور كان يهزل،ولكنه كان في الواقع جادا كل الجدة.لقد عرف مفهوم(النجاح)،ودفع عنه تهمة(المادية)فقال:-
(من الخطأ الافتراض بأن فكرة النجاح الامريكية قاصرة على النجاح المادي.ان ما هو امريكي بصورة متميزة على الاخص،هو ليس استبعاد الفن والادب والعلم والدين،بالركض وراء الثروة،بل هو ان تدخل في الفن والادب والعلم والدين شيئا ما من تلك الروح والموقف،الذي يمثل الركض وراء الثروة ابرز خصائصهما:ليس اغراق الثقافة بضجيج الصناعة،بل فكرة اثارة الضجة حول الثقافة نفسها.ولهذا فليس النجاح المادي فقط هو المقبول،بل اي نجاح كان دون ان يكون ذلك موجها ضد اكتساب الثقافة،بشرط امكان قياس الثقافة نفسها بمقياس النجاح.ان المعيار ليس تجاريا او كالحا من حيث الجوهر،بل انه تنافسي من حيث الاساس،سواء انطوى ذلك على تسجيل ارقام قياسية او دحر المنافسين الآخرين)(70).
لقد كانت ولا تزال لهذه(المثالية البراغماتية للعمل)،لفلسفة النجاح هذه،استجابة قوية في الولايات المتحدة،ولم تكن لها نفس الاستجابة بالمرة في اوربا.لقد وجدها جميع الفلاسفة البورجوازيون الاوربيون،من دون استثناء تقريبا،عسيرة الفهم،غير مقنعة،وحتى ايضا مثيرة.مثال ذلك ان رسل في كتابه(تاريخ الفلسفة الغربية)يجد انها مثيرة على وجه التأكيد.انه يصف موقفها العام من الكون(كألحاد كوني).انه يسميها(فلسفة القوة)،مرتبطة(بعصر الصناعة)،وحتى انه يقول عنها انها تعبر عن(التسمم بالقوة).ويضيف لذلك قائلا: (ومن الطبيعي ان تكون اقوى استجابة لها لدى الامريكان)(71).
على ان اللورد رسل يبدي الاستعداد الكافي الآن بقبول (الزعامة الامريكية)،الا انه مع ذلك يشعر – كسائر افراد الطبقة الحاكمة البريطانية – بأن الامريكان يبالغون في مدى السير وسرعته.ان فلسفتهم (فلسفة القوة)تزعجه وتبدو نتائجها خطرة له،بينما تداعب نظريتها مواطن حساسة من نفسه.انه لا يود التنازل عن منع(التأمل).
اما في انكلترة،فقد مال الرأسماليون الناجحون الى تقليد طرق حياة سادة الارض.وكما عبر عن ذلك انجلز في احدى المرات(كان هناك مساومة بين الطبقة الوسطى الناجحة وبين الملاكين الاقطاعيين في السابق.ماذا عسى ان يكون البورجوازي الانكليزي من دون ارستقراطيته،التي علمته آداب السلوك،وزودت جيشه بالضباط لحفظ نظامه في الداخل،وكذلك بالبحرية التي فتحت له آفاق الممتلكات الكولونيالية والاسواق الجديدة؟)(72).
ومن هنا جاء الطلب الملح الذي لا يزال يجد تعبيره على مستوى عال في الجامعات – في كتابات لود رسل وبعض الفلاسفة الآخرين الاقل المعية،لانشاء فلسفة،تتكيف ونظرة الطبقة المرفهة.ان الثقافة الرأسمالية في انكلترة وباقي البلدان الاوربية تزاوجت مع ثقافة سادة الارض،الا ان مثل هذا الزواج لم يحصل في الولايات المتحدة.ان المثل الاعلى لم يكن هناك التأمل الترفي في الخير والحق والجمال،بل (اثارة الضجة)حول الثقافة.لقد كانت الجامعات تمول من قبل رجال الاعمال وتدار من قبلهم،وتكرس لانتاج رجال اعمال ناجحين.ومن هنا نشأت الجذور لفلسفة رجال اعمال حقيقية،اي للبراغماتية.ان الفلسفة المذكورة هي فلسفة عملية متفائلة،حاضرة للنجاح السريع،ومقياسها الوحيد للقيم هو مقياس النجاح،مقياس الربح.
لقد كانت البراغماتية اذن،النتاج الفكري لاحدث البلدان الرأسمالية،الولايات المتحدة،وللظروف الخاصة والجديدة التي كانت تكتنف تطور المشروع الراسمالي هناك حينذاك.وهذا بالضبط هو الذي يعطيها حقا مظهرها في التقدم والانطلاق،الذي يميزها عن اغلب انواع الفلسفة البورجوازية والادبية.انها اكثر الفلسفات رأسمالية،وانقاها في هذا الصدد،بين جميع فلسفات المجتمع الرأسمالي.لقد حررت نفسها،اكثر من اي نوع آخر من الفلسفات الرأسمالية او البورجوازية،من الاسكولائية(المدرسية)،والصوفية(الغيبية)الموروثة من الظروف التي كانت سائدة قبل عهد الرأسمالية.وبهذا تكون قد حررت نفسها من اي بقايا لأي وازع فيما يتصل بالبحث عن الحقيقة او الامانة للمبادئ.انها تعبر عن انصراف كلي مطلق للحصول على الارباح والفوائد لدحر المنافسين ولفتح ميادين جديدة للحصول لمشاريع الاعمال،ولاخضاع كل شئ اطلاقا للمشاريع المذكورة.
انها فلسفة للعمل وحشية،مستهترة،وقاسية كل القسوة في تعبيرها عن الفردية الرأسمالية.وبنفس الوقت،فهي كما يتبجح ديوي هي(مثالية للعمل).انها تنجح – اكثر من اي فلسفة اخرى – في اخفاء الطابع المثالي على المعمعة الرأسمالية وعلى الحرب في سبيل الارباح والمنافع التنافسية،تحت ستار،المبادئ الطنانة حول المعرفة والحقيقة والرفاه البشري.
انها تشجب(المادية)،وتعامل الدين والاخلاق بأعظم الاحترام،وهي بنفس الوقت تجمع الى هذا،مفهوما(طبيعيا)للقضايا الانسانية،تستند اليه في ادعائها بانها علمية بصورة كاملة وحرة من الاوهام والخيالات المثالية.
واذا ما ادرك الانسان الطابع الرأسمالي للفلسفة البراغماتية،وبصورة محددة كونها تمثل(مثالية العمل)للرأسمالية الامريكية،سقطت عنها جميع التناقضات الظاهرة ومظاهر الاضطراب البادية.انها كنظام منطقي،تفتقر الى التماسك تمام الافتقار،ولكنها كآيديولوجية طبقية،تمثل تماسكا يدعو الى الدهشة.
ان كامل نظرية المعرفة والحقيقة البراغماتية،هي نظرية مثالية،ولا تمثل(طبيعيتها)الا مجرد ستار للتغطية على مثاليتها الذاتية.ان مطلبها بأن النظرية يجب ان تخدم الاغراض العملية،وراء ستار عبارات الصالح العام في الغالب – لان البراغماتيين مقتنعون بأن مشروع العمل الناجح مرادف للنجاح الانساني – ان المطلب المذكور يعني بأن النظرية يجب ان تخدم اغراض التطبيق الرأسمالي،اغراض مشاريع الاعمال.
انها نوع دقيق للمثالية،كان يعبر عن نظرة ومطامح الطبقة الرأسمالية الامريكية و(مثاليتها للعمل)،وبنفس الوقت انها نظام للتهريج والتضليل الاجتماعي.ذلك لأن مجموع الاتجاه نحو انتشار شعبية الفلسفة البراغماتية،كان يقصد به المساعدة على ادخال النظرة الراسمالية في اذهان الشعب الامريكي.لقد مجدت الطرق الرأسمالية امام الشعب،وعلمت هؤلاء الذين يقاسون الاستثمار،روح التسوية بين مصالحهم ومصالح مستثمريهم،وتعليق آمال وهمية بالنسبة لمستقبلهم في نفس اطار النظام الاجتماعي الراسمالي.
لقد نظر مؤسسو الفلسفة البراغماتية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر الى الامام والى الوراء على السواء.وفي نظرتهم الى الوراء لم يستطيعوا الا ان يشعروا بأن النوع القديم من الفلسفة الدينية والآلهية،الذي كان سائدا لحد كبير حينذاك في الولايات المتحدة قد قضى زمانه.وقد كانوا في ذلك على حق،لأن ذلك النوع لم يكن ليتلائم وخدمة الظروف الجديدة للتطور الصناعي الرأسمالي السريع،لا كنظام للافكار يرضي القوى الرأسمالية نفسها،ولا كحصن آيديولوجي ضد الكفاح النامي المنظم للطبقة العاملة.ومن هنا جاء الهجوم على المبادئ المثالية التقليدية،الذي بدأ به البراغماتيون حملتهم الفلسفية.اما في نظرتهم الى الامام،فانهم اخترعوا المبدأ القائل بأن الحقيقة هي النجاح،وان الناس بطرحهم اهدافا عملية امامهم،وبحثهم عن (الثمار)و(الارباح)العملية،لهم الحق في التأكيد بأن الحق هو كل ما يخدم الاهداف المذكورة.لقد كان يجب استبدال الحقيقة،والحقل والمبدأ جميعا بالملاءمة.وهكذا،فبهذه الطريقة،وبينما كانت الرأسمالية الامريكية لا تزال متحركة في الاتجاه المطلوب،انشغل الفلاسفة الامريكان بالفلسفة التي تكون خير تمهيد آيديولوجي لتقبل الواقع الاحتكاري،وما زالت الامبريالية الامريكية في دور المخاض..قامت الامبريالية،وزودت الرأسمالية الامريكية بفلسفتها المطلوبة.
ان البراغماتية الامريكية تعبر خير تعبير عن النظرة العالمية وعن مطامح تلك القوى التي استطاعت ان تكدس لديها وان تحتكر جميع (الثمار والارباح)الناتجة عن التطور الرأسمالي – المشاريع الكبيرة والترستات البليونيرية.ووراء جميع تعميمات ديوي حول النظرية والتطبيق،والمعرفة والحقيقة،حيث يخضع كل شئ الى النجاح المقاس بالنتائج والارباح،يقوم التبرير القاسي للسياسة التوسعية للمشاريع الكبيرة،التي اضفي عليها الطابع المثالي،تحت عبارات (خلق المستقبل)و(اعادة بناء العالم الذي نعيش فيه).ولو اخذ بقيمته الظاهرية كرأي فلسفي،نجد ان المبدأ البراغماتي(الحقيقي هو المربح)مبدأ مضطرب غاية الاضطراب ونظرية غير دقيقة حول الحقيقة،اي انها نظرية غير مفيدة من الوجهة الفلسفية.
الا ان هذه النظرية غدت التعبير الكامل عن وجهة نظر وكلاء ومرتزقة عالم المشاريع الكبيرة للحقيقة.انها(فلسفة)خبير المبيعات،وزعيم الحزب،ورجل السياسة الاستعماري.ان جميع هؤلاء هم حملة افكار،عليها بالدرجة الاولى الحصول على نتائج معينة،والخصيصة الوحيدة التي تهمهم في الافكار هي خصيصة مساعدتهم على الحصول على النتائج المذكورة.وبنفس الوقت تتمتع الفلسفة البراغماتية بلون ديماغوجي ومضلل نموذجي.مثال ذلك ان هذه الديماغوجية بلغت في كتابات جون ديوي مقاييس واسعة.وهذا هو المعنى الحقيقي لقابلية ديوي الخارقة على الكلام،ولقدرته على تغطية اي شئ يريد قوله بستار من العبارات الغامضة المبهمة المطاطة،وهي طريقة في الكتابة كانت تزداد بروزا مع كل كتاب جديد في مسيرة ديوي الطويلة كفيلسوف للامبريالية.لقد كانت فلسفة ديوي مثالية ذاتية ولكنه حاول عرضها كفلسفة(طبيعية).ومع انها لم تقترن بأي شئ يدعى الحقيقة،فقد حاول ديوي عرضها كنظرية للحقيقة.
لقد كانت الامبريالية تلجأ دائما للديماغوجية الاجتماعية.وما كان للامبرياليين الامريكان ان يتعلموا اي شئ في هذا الصدد من شركائهم الكبار البريطانيين،او من الفاشيين الالمان والعسكريين اليابانيين،الذين ضموهم جميعا الآن تحت اجنحتهم.ان للامبريالية الامريكية نوعها الخاص من الديماغوجية،والتي تمثل الفلسفة البراغماتية احد تعبيراتها.انها تسمي احتكارات الرأسمال الكبير(المشروع الحر)،وتسمي حكمها المطلق غير المحدود(الديمقراطية)،وهي تحاول ان توسع سيطرتها على الشعوب الاخرى تحت ستار معارضة المفاهيم العتيقة للقومية والسيادة الوطنية،كما هي تحاول ان تدوس على الحقوق الانسانية تحت الاقدام بأسم الدفاع عن الحرية الفردية.ان ديوي والبراغماتيين هم اساتذة كبار لمثل هذا التضليل في ميدان الفلسفة.
واخيرا فأن هناك حاجة لتقدير اهمية التعاليم البراغماتية حول وجود العالم الموضوعي،وخاصة لهجة التفاؤل التي تسود الفلسفة البراغماتية.ان(مثالية العمل)البراغماتية تقول بأن(الافكار هي ليست عبارات عما هو كائن او عما قد كان،بل هي عبارات عن الاعمال الواجب انجازها)،وانها(مكرسة لخلق المستقبل،بدل الجمود على آرائها حول الماضي).ان هذا هو نفس الموقف الذي عبر عنه هنري فورد بشكل اكثر فجاجة عندما قال(بأن التاريخ هو الافحاش).لقد كان متفائلا حول(عدم غلبة)سيارات موتورز،وان مثل هذا المشروع لن يعاني مصير الكثير من المشاريع الاخرى المختلفة في الماضي.ومع ذلك فقد كان هنري فورد مخطئا،وهكذا ايضا كان البراغماتيون.
ان الوقائع الموضوعية،وقوانين التاريخ،حقائق صلدة لا تقاوم.ان(التقدم)الرأسمالي يؤدي بصورة حتمية الى الازمات والفقر والحروب وتخريب نفس وسائل الانتاج التي يخلقها المشروع الرأسمالي نفسه بخلق شروط تداعيه وسقوطه،وقد سبق ان خلقها بالفعل.ولكن البراغماتية،والحقيقة الموضوعية،هي كما ذكرنا،تعلم باعتبارها فلسفة المشروع الكبير،عدم وجود اية حقيقة موضوعية،وان العالم الموضوعي هو عالم غير محدد ينتظر التحديد من قبل رجال عمليين مغامرين،واننا نستطيع مواصلة السير لخلق المستقبل من دون الاهتمام بالماضي.ان هذا تفاؤل ساذج،الا انه يعبر اكمل تعبير عن المحاولات التوسعية لاصحاب الاعمال الكبار الامريكان.انه يعبر عن التصميم الاعلى(لخلق المستقبل)ولطبع نموذج المستقبل المذكور على اية حقائق موضوعية قد تقف في طريقه.وبنفس الوقت انه يهيئ اذهان الناس لقبول واستحسان طرق الامبريالية الامريكية باعتبارها(مثالية العمل)،والاعتقاد بأن هذه المثالية للعمل(لا تقهر).

ان البراغماتية اذن،خاصة بالشكل الذي اعطاه اياها ديوي،هي فلسفة الامبريالية الامريكية.انها تعبر عن نظرة ومطامح كبار رجال الاعمال الامريكان بشكل فلسفي.هذه هي قاعدتها الاساسية،وذلك هو المضمون الحقيقي لجميع مبادئها.ومن هذا المصدر تستقي البراغماتية مظهرها الانطلاقي،ومعارضتها لجميع اشكال المثالية(التأملية)التي لا تلائم المثالية العملية لاقصى الارباح.ولكن من المستحيل عدم رؤية انها هي نفسها شكل من اشكال المثالية،وان هجومها الحقيقي يوجه رأس حربته لا ضد المثالية بل ضد المادية وضد المادية الماركسية على الخصوص.ان البراغماتيين هم اقل الفلاسفة(برج عاجيين)،انهم انصار جهاديون لمعسكر الامبريالية ضد معسكر الاشتراكية،وهذا هو مغزى معارضتهم لاشكال المثالية(التأملية).
والبراغماتية،بصفتها المعبرة عن وجهة النظر الطبقية الجهادية لأشد اجزاء الرأسمالية الاحتكارية عدوانية ورجعية،للامبرياليين الامريكان،هي بنفس الوقت نظام للديماغوجية والتضليل موجه للشعب الامريكي،محاولة قولبة وجهة نظره في قالب النظرة الامبريالية،وتضليله بشعارات مزيفة عن المشروع الحر والديمقراطية وخلق المستقبل واعادة بناء العالم،فيما هي تحرضه ضد كل ما هو تقدمي ومناهض للامبريالية.

الهوامش

(68) وليم جيمس: (البراغماتية)،ص 233.
(69) ها.ك.ويلز: (البراغماتية فلسفة الامبريالية).
(70) (الفلسفة والبحث الفينومنيولوجي)،مجلد 9،عدد 3،آذار 1949.
(71) رسل: (تاريخ الفلسفة الغربية)،ص 854 – 856.
(72) انجلز: (الاشتراكية الطوباوية والاشتراكية العلمية)،المقدمة.