الزمن الصهيوني:


نضال الصالح
2020 / 8 / 27 - 15:16     

في نهاية شهر مارس لعام 2002 صدر لي كتاب يتحدث عن القضية الفلسطينية ويفضح جرائم المحتل الصهيوني بعنوان " صرخة فلسطينية". ولقد بيعت نسخه الألفين خلال شهر ونيف. ومع ذلك ظل الكتاب محدود الانتشار بين مجموعة محدودة من القراء الذين لديهم فكرة مسبقة عن القضية ولهم موقف رافض للحركة الصهيونية.
بتاريخ 11 أكتوبر من نفس العام وقع حادثان مرتبطان ولكن ليس بشكل مباشر وللآن لا أستطيع أن أؤكد أن الأول هو نتيجة للثاني. الأول أن مجموعة من الجنود الإسرائيليين قاموا بإطلاق النار على أختي شادن الصالح وعلى زوجها الدكتور جمال أبو حجلة وابنها سائد المدرس في جامعة النجاح في منزلهم في نابلس وكانت النتيجة مقتل أختي وجرح زوجها وأبنها.
في نفس اليوم والتاريخ قامت مؤسسة فيزنتال اليهودية العالمية بإرسال رسالة رسمية للحكومة السلوفاكية تطلب منها منع كتابي وسحبه من الأسواق ومحاكمتي بتهمة العداء للسامية وإنكار الهولوكوست وتصفني في الرسالة أنني أقوم بما قام به الإعلام النازي وأكتب كما كتبت الصحف والمجلات النازية. هددت فيزنتال في رسالتها الحكومة السلوفاكية بوقاحة بأن عدم تلبية طلبها يمكنه أن يسبب منع دخول سلوفاكيا إلى الإتحاد الأوروبي. حولت الرسالة إلى وزير العدل السلوفاكي الذي حولها بدوره إلى المدعي العام. على إثر ذلك قام الناطق باسم الجالية اليهودية برفع شكوى قضائية ضدي إلى المدعي العام يطلب نفس المطالب التي وردت في الرسالة.
تحرك الإعلام كالكلب المسعور وخرج على شاشات التلفزيون بعض الإعلاميين مطالبين برأسي ودعي المدعي العام إلى التلفزيون وانهالت عليه الأسئلة والتي ركزت على وجوب عقابي لكي أكون عبرة لغيري وامتلأت الصحف بالمقالات عن الموضوع وأصبح كتابي خبر الساعة. ما لم يتوقعوه هو أن الكتاب أصبح محط أنظار القراء فانهال الناس على شراء الكتاب حتى أصبح أكثر الكتب مبيعا في وقته في سلوفاكيا.
لقد مر على ذلك التاريخ ثمان سنوات وبقي الكتاب يطبع ويباع في الأسواق. وفي الناحية الأخرى ظل ممثلي الجالية اليهودية يقدمون الشكوى تلو الأخرى والاحتجاج تلو الآخر لسحب الكتاب ومنعه وعقاب صاحبه إلى جانب ادعاءات كثيرة منها إثارة الكراهية والعنصرية ضد اليهود. لقد قام المدعي العام بكل ما يلزم واستشار مجموعات عدة من المختصين وقام بتوزيع الكتاب على مجموعات من الاستشاريين القانونيين والمؤرخين والباحثين الاجتماعيين لقراءته والبحث عن ممسك قانوني للاستناد إليه قانونيا لمنع الكتاب وتقديم صاحبه للمحاكمة ولكن بدون نتيجة. ومع مرور الزمن لا تزال القضية قيد التحقيق، يبقيها حية الشكاوى والاحتجاجات المتتالية من قبل الناطق باسم الجالية اليهودية الذي أعلن عدة مرات أن مكاني هو السجن ووجودي خارجه راجع لقصور في النظام القضائي السلوفاكي.
قبل عامين قام بعضهم بوضع الكتاب على الإنترنت وأتاح سحبه للجماهير مما دفعنا لوقف طباعته الورقية ونشره. ولكن ذلك لم يمنع من استمرار القراء بطلبه ورقيا ولقد تتالت الرسائل الإلكترونية والورقية تطالب بطبعه ورقيا من جديد. عندما تكاثرت الضغوط والمطالب قررت نشره من جديد، ولكن بسبب طول المدة على صدور الكتاب وبسبب ظهور معلومات جديدة مهمة خلال هذه المدة عن القضية الفلسطينية، قررت إعادة كتابة الكتاب من جديد وإصداره في حلة جديدة ولقد قضيت أكثر من عام في ذلك. لقد صدر الكتاب في نهاية عام 2019 تحت عنوان "حكاية الشعب الفلسطيني"، وما أن ظهر للوجود حتى وضع الكتاب ومؤلفه على اللائحة السوداء ومنع بيع الكتاب.
أحد أصدقائي، مدرس جامعي للغة العربية وعضو في مؤسسة الشرقيات وممثل دبلوماسي سابق لسلوفاكيا في العراق وله عدة مؤلفات عن القضايا العربية وعن جمال عبدالناصر، له ابن ضابط في المخابرات السلوفاكية . ذهب الابن لزيارة مدير المخابرات ليسأله عن مصدر المنع وسببه، وصدف أن المدير يعرفني معرفة شخصية ولقد زارني مع ابن صديقي في بيتي حيث أراد مني شرح علاقة الإسلام بالمنظمات الإرهابية.
المخابرات السلوفاكية تختلف اختلافا كبيرا عن غيرها من المخابرات، كونها منظمة معلوماتية بحتة وليس لها أي قوى بوليسية وليس من اختصاصها العمل البوليسي او القمعي. المدير أخبر ابن صديقي أن المنع جاء بناء على طلب رئيس مجلس النواب من القوة البوليسية الجديدة المدعوة " قوة محاربة الإرهاب „ وهي قوة تشبه إلى حد بعيد الغستابو الألمانية. ولقد قامت عدة مرات بالاعتداء على بعض المثقفين والصحفيين والدخول عنوة إلى بيوتهم وتفتيشها وإرهاب أهلها.
دانكو، رئيس مجلس النواب هو في نفس الوقت رئيس الحزب القومي وهو من أعرق الأحزاب السلوفاكية وكان منذ ظهوره الثاني بعد سقوط النظام الاشتراكي حليفا لقضايانا وخاصة القضية الفلسطينية. بتحايل غريب استطاع دانكو أن يخلع رئيس الحزب السابق وأن يحل معه. كانت، في بداية استلامه لرئاسة الحزب، تربطني به رابطة صداقة انتهت بعد أن أصبح رئيسا لمجلس النواب، حيث أن أول عمل قام به هو زيارة إسرائيل وإلقاء خطاب في الكنيست الإسرائيلي وتقبيل العلم الإسرائيلي أمام مشاهدي التلفاز. بعد عودته إلى سلوفاكيا قدم إلى المجلس مشروع قانون لمعاقبة معادي السامية. بدوري لم أستطيع الصمت على هذه الخيانة فكتبت رسالة مفتوحة موجهة إليه أصفه بأسوأ الصفات.
لقد وقع الناشر في مأزق مالي حيث بقي الكتاب في مخزنه ولم تجرؤ المكتبات على قبوله إلا مكتبة واحدة، فعرضت عليه شراء الكتاب بسعر التكلفة فوافق.
نشرت على صفحات التواصل الاجتماعي إعلانا أقول فيه أن الكتاب صدر بناء على إلحاح الجمهور ولكن الدوائر الرسمية قد منعته ولذلك أدعوا كل من له اهتمام بالحصول على الكتاب أن يحضر إلى بيتي ويشرب معي فنجانا من القهوة العربية ويحصل على الكتاب بإهداء خاص مني.
حضر السلوفاك من جميع أطراف سلوفاكيا القريبة والبعيدة ومنهم من حضر من مكان عمله في أيرلندا والنمسا وغيرها. كثير منهم حضر ومعه لائحة بأسماء أصدقاءه ومعارفه الذين يرغبون الحصول على الكتاب بإهداء مني وتوقيعي. حاول الكثير منهم دفع ثمن الكتاب فرفضت رفضا قاطعا، فلقد صدر لي أكثر من إثني عشر كتابا باللغة العربية والتشيكية والسلوفاكية وأنا لم أقبل استلام فلسا واحدا لأنني أعتبر كتبي عملا وطنيا واجتماعيا وأرفض أن أقبل مقابل ذلك أي قيمة مادية. لقد وزع الكتاب بهذه الطريقة كاملا ولكن لم يشبع رغبة القراء حيث إن الكمية لم تغطي طلبات القراء.
بعد الانتخابات البرلمانية العامة سقطت الحكومة ومعها سقط حزب رئيس مجلس النواب وخسر دانكو مركزه كرئيس المجلس وتألفت حكومة جديدة. اعتقد الناشر أن الفرصة قد سنحت لطباعة كمية أخرى من الكتاب ونشرها، اعتقادا منه أن سياسة الحكومة الجديدة ستكون أكثر تفهما وأكثر حرية. حذرته من ذلك وأخبرته أن الحكومة الجديدة، في رأيي، أكثر سوءا من سابقتها وهي أمريكية صهيونية، ولكنه لم يسمع لرأيي وطبع كمية كبيرة وقام بتوزيعها.
الحكومة الجديدة أسوأ من سابقتها بكثير وأكثر خبثا. هي كما ،حذرت الناشر، حكومة أمريكية صهيونية. لم تمنع الكتاب علنا ولم تصدر قرارا بمنعه. كل ما عملته أنها أرسلت عملاءها إلى دور الكتب وطلبت منهم سحب الكتاب. بدأ الناشر باستلام رسائل هاتفية أو الكرتونية " تعال وخذ كتبك، إننا لا نستطيع إبقاءها عندنا وبيعها. وفي حالات أخرى كانت سيارات حمولة تقف أمام مكتبه حاملة الكتاب وطالبة إعادته.
أصبحت حالة الناشر النفسية سيئة جدا لدرجة أنه أعلن تقاعده عن العمل في إصدار ونشر الكتب وعندما أرسلت إليه نسخة عن مخطوطة كتابي الجديد " حكايا فلسطينية" رفض ولأول مرة منذ عرفته، طبع ونشر الكتاب، مع أن زوجته قد أبدت إعجابها به. طلبت منه أن يزورني، فوضعي الصحي لا يسمح لي بزيارته ومنذ حادثة السيارة الذي حدث لي وسبب في كسر ركبتي ويدي وكاحلي إلى جانب تمزق في الحجاب الحاجز الأيمن لم أعد أسوق سيارتي إلا لمسافات قصيرة جدا وتبقى سيارتي معظم الوقت في الكراج. تحايل عن زيارتي وبعث لي رسالة الكترونية يقول فيها أنه مستعد أن يطبع لي وباسمي وعلى حسابي مئة نسخة لتوزيعها على أفراد العائلة والأصدقاء وسيكتب أن الكتاب طبع على حسابي وأنه غير مسؤول عن الكتاب وعما فيه أبدا، ثم تابع أنه أصبح عجوزا وأن زوجته مريضة وأنه لم يعد تحمل المشاكل. وافقته وعرفت أنني مثله وصلت إلى نهاية الطريق وأن كتاب " حكايا فلسطينية " سيكون آخر كتاب لي.