القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 6


عباس علي العلي
2020 / 8 / 27 - 03:50     

الوحي ومفهوم الإخبار
في مفصلية مهمة من فكر سروش هناك خلط متقصد ومتعمد يضع القارئ البسيط الغير مهتم بالعمق المعرفي ولا بسر الفكرة من وراء المباني اللفظية المطروحة، ويراد منها ان نسلم بها كحقيقة من خلال المساوات بين الدين كفكرة معرفية ومنتج بشري لا شك فيها مع كل الطروحات الوضعية ، وهي أن الفكر عموما دون النظر للكونية ومصدريته قابل لأضافه الصفة الخبرية عنه والتي يقررها المنطق بقانونه المأثور (أن الخبر قابل للتصديق والتكذيب الطبيعي وذاتيا من حيث كونه خبر)، فيشير إلى فهم أجمالي وكأنه حقيقة ثابته (ان المعرفة الدينية، كأي معرفة أخرى، هي حصيلة جهد البشر وتأملهم، وهي دائما مزيج من الآراء الظنية واليقينية، ومن الحق والباطل، ولا مجال لإنكار تطور هذه المجموعة وتكاملها)، نافيا عن الدين مرة أخرى حقيقته المطلقة بكونه خبرا بالمفهوم المنطقي واللغوي، بل نافيا بذلك من أنه إرادة السماء ورب السماء متشبثا بفكرة قطع الوصل بين الإله وبين النبي بواسطة الوحي الناقل لها.
هذه المفصلية التي لا تفرق بين فهم الإيمان كونه مصداق خارجي لاستحقاق وجود الدين متصل بالقارئ والمتلقي وبين الدين كموضوع ذاتي خالص، نعم الفهم مختلف دوما ولا خلاف فيه ولا أعترض على ما ينتج منه كونه طبيعي عقلي؟ ولكن الخلاف أن نجعل من الماهية والوجود شيء واحد، فأما أن يكون جوهر الدين فوقي خارجي عن الذات البشرية وتختلف الإفهمات والتفسيرات حوله وهذا غير مستنكر ولا تعارض بينه وبين حقيقة كون التعامل العقلي البشري يفترض التنوع والتعدد ، أو أن يكون المعطى الأسي والمكون للدين هو فكرة البشر عن الوجود وما يحتمل العقل من تصورات عنه، هذا ما لا يحدده على وجه الدقة فكر سروش ويشكل التناقض الحقيقي في فكره، فهو مثلا يشير إلى حقيقة الخارج المؤسسة للدين وإن علل في الاخر الاختلاف في نتيجة التعقل لا في نتيجة المصدر (نحن لا نقول إن الوحي الذي أتى به الأنبياء يكمله البشر إنما نقول إن فهم البشر لمفاد الوحي يتطور).
نعم فهم البشر الذي يتلقى الدين عن النبي وبلا شك ولا اعتراض، وليس النبي الذي يتلقى الدين من الوحي هو الذي يتطور في الجوهر، قد يكون في ترتيبية التدرج نعم ولكن ليس جوهريا كما يؤكد في مقاله له (فإذا قلنا إنّ النبوة تعني الاقتراب من عوالم المعنى وسماع نداء الغيب، وبذلك تحصل للنبي تجربة بهذا المعنى، ففي هذه الصورة يمكن القول بإمكانية زيادة واتساع هذه التجربة. فكما أنّ كل صاحب تجربة في العالم الدنيوي يمكنه ترشيد تجربته وتقويتها، فإنّ النبي يمكنه أيضاً ترشيد نبوته وتقويتها وبذلك يزداد نبوة بالتدريج، والشاعر يمكنه أن ينمي شعره ويكون أشعر من السابق، وهكذا الفنان والعارف والمدير حيث يكون بإمكانهم تقوية قدراتهم وملاكاتهم الفنية والعرفانية والإدارية) ، إذن من يملك زمام تقوية النبوة وتأصيلها أجتماعيا وتأريخيا هو النبي المبتدع لا النبي المطيع {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }يونس15.
يستظهر الدكتور سروش الإيمان بالقرآن ويستدل بآياته حينما تكون قابلة بفهم ما أن تعزز فرضياته، وهنا نحن نستدل بآية تنسف كل الفرض الذي تقدم من أن النبي هو الذي يصنع ويطور ويقوي نبوته من خلال عامل الزمن، ومن خلال الاطمئنان الحاصل لدى الجمهور المتلقي الذي أمن بالنبوة والوحي دون السؤال عن حقيقة المصدر وعن أمتحان هذ الادعاء، وبالتالي فهو يمرر نبوءته بالمراوغة العقلية التي يكشف عنها طبيعة شخصية النبي وما تملك من مؤهلات مؤثرة على الناس، أي أن العامل الرئيسي ببسط قناعة الناس بالدين هي شخصية النبي وليس حقيقية الدين (لو أخذنا بنظر الاعتبار المسيرة الجدلية والديالكتيكية لظاهرة الامتحان والممتحن وكيف يؤثر أحدهما على الآخر، فالعابد والعبادة يرتبطان بعلاقة جدلية، فكلما زادت العبادة فإنّ منزلة العابد ستسمو ويشعر العابد في نفسه بالانشراح والبهجة، وكلما شعر العابد بالبهجة أكثر فإنّ عبادته ستتعمق وتكون روحانية أكثر. ونبي الإسلام بدوره كان يملك شخصية فريدة وهي رأسماله الأساسي، وهذه الشخصية هي محل التجارب الدينية الوحيانية والموجد لها، وهي القابل والفاعل لها) .
هذا اللف والدوران والمراوغة تخفي ورائها قولا صريحا، إن رأسمال النبي في الحقيقة هي قدرته على خداع الناس بعد ان تغلب على قواه العقلية وسخرها في هذا الأتجاه، ويصر سورش على جعل هذه الحالية هي كما يقول راس مال النبي الوحيد، نافيا مرة اخرى أي علاقة للنبي بالمحدد السماوي ونفيا ثابتا لمصدرية الدين، هذا التخبط والتعارض الذي يرد بين ادبيات فكرته توضح إضطرابا حقيقيا في بنائها، فلا هو قادر على تبرير انتقاداته بالطريقة الفلسفية التي أراد امتطائها ولا توفق في صب الفكرة كلها في رباط واحد غير مهلهل ولا فضفاض.