-موريس كورنفورث والبراغماتية والفلسفة العلمية- (5-7)


سلام ابراهيم عطوف كبة
2020 / 8 / 24 - 02:16     

وجود العالم المادي

ان ديوي يتكلم عن عمليات التفكير والمعرفة،اثناء كلامه عن العمليات الطبيعية للانسان،كنوع معين من الكائنات الحية،سكن كوكب الارض.انه يتكلم كما لو كان الناس والارض ومجموع العالم المادي لها وجود حقيقي،وكما لو انه كان يعطي صورة تتصف بكل ما يستطيعه من موضوعية عن بعض الاشياء كما هي حادثة فعلا في الواقع.
او بكلمات اخرى،انه يتكلم كما لو ان اوصافه تنطبق تقريبا على ما هو حادث بالفعل بصورة مستقلة عن تفكيره عنه وبحثه فيه.ولكنه بعد لحظة يقول بأن نتائج البحوث – التي يجب ان تتضمن بحثه عن التفكير ايضا – لا تنطبق ولا يمكن ان تنطبق مع(الواقع السابق الوجود)،بل ان (الاشياء موضوع المعرفة)انما(توجد)كنتائج للعمليات المباشرة.
واذا ما قال الانسان بأن ما اعتقده هو صحيح تماما،وان التفكير والمعرفة من شأنها ان تسمح لافكارنا بأن تعكس الحقيقة الموضوعية،ولبحوثنا بأن تنتج المعرفة،التي هي معرفة بالحقيقة الموضوعية.الا ان ديوي لا يقدم لنا مثل هذه الصورة المادية،والنتيجة هي المثالية الذاتية – الا انها مثالية ذاتية موضوعة بأقصى ما يمكن من الغموض في الصياغة.
ان هذا الغموض هو بدرجة يترك قراء مؤلفات ديوي الكثيرة جدا في حالة اضطراب تام حول ما اذا كان ديوي يفترض وجود او عدم وجود العالم المادي الذي نسكنه.ففي عبارة معينة يتكلم ديوي كما لو كان العالم المذكور موجودا،ولكنه عندئذ يواصل وصف الموجود المذكور ومعرفتنا به بسيل من الجمل لا يمكن ان تؤدي الا الى نتيجة واحدة واضحة،هي ان العالم في نظره غير موجود اطلاقا.انه يتكلم في(المقالات في المنطق التجريبي)عن العالم(كمشكلة منطقية)(50).ثم يواصل القول: (ان ما هو مشكوك فيه هو ليس وجود العالم،بل صحة بعض الاعتقادات التقليدية الاستنتاجية حول الاشياء في العالم.ان الشك لا يحوم حول عالم الحس السليم،بل حول الحس السليم،المنطوي على جملة معقدة من الاعتقادات حول بعض الاشياء في العالم.وعليه فاننا لا نثير الشك حول وجود العالم في اي اجراء من اجراءات بحوثنا الحالية،ولا يمكننا ان نفعل ذلك من دون وقوعنا في التناقض الذاتي.اننا نشك في بعض اجزاء – المعرفة – التي تلقيناها حول بعض الاشياء الخاصة في العالم،وعندئذ ننصرف لتصحيحها بأحسن ما يمكننا)(51).
وحسب هذا الاقتباس،ان العالم موجود ولا مجال للشك فيه.ولكنه حالما يصل الامر الى الكلام عن(صحة بعض الاعتقادات التقليدية الاستنتاجية حول الاشياء في العالم)فهناك قصة اخرى.ويواصل ديوي وصف(اعتقادات الحس السليم حول بعض الاشياء)في العالم،بالشكل الذي لا يكتفي فيه بوضع(عالم الحس السليم)موضع الشك،بل يتجاوز ذلك الى انكاره بصورة جازمة.

تحديد اللامحدود

ان النقطة الاولى التي يجب ملاحظتها عما يقوله ديوي حول وجود العالم المادي،هي ان العالم حسب رأيه،عالم(غير محدود).ومهما يكن نوع وجود العالم فهو وجود(غير محدود).ان ارجاع وجود الاشياء الحقيقية الى حالة من عدم التحديد الذي لا شكل له،يرتبط برأي ديوي من ان(مواد المعرفة)(منشأة)بطريقة ما،بعمليات المعرفة.ان ديوي يتكلم في عدة عبارات في كتابه(المنطق)كما لو كان هذا(الانشاء)لمواد المعرفة،عملية صياغة بعض المواد الغامضة الموجودة سابقا في اشياء جديدة،وبصورة اكثر تحديدا،كما لو كان الامر يتعلق بتحويل شئ ما كان سابقا عديم الشكل وغير محدد،الى شئ جديد محدد.ان الاشياء وخصائصها تصبح داخلة في المعرفة،حسب رأي ديوي،بنتيجة ممارسة طريقة(البحث).وهو يقول عن هذه الطريقة في البحث ما يلي: (ان البحث يمارس تحويلا وجوديا واعادة بناء المواد التي يعالجها،ان نتيجة هذا التحويل..هي التحول من موقف صعب غير محدود الى موقف محلول ومحدود).ثم يقول بعده: (ان الحكم هو التحول من موقف سابق غير محدد وجوديا او غير محلول،الى موقف محدد)(52).
انه يلح على(ان البحث يمارس تحويلا وجوديا).انني اعتقد ان هناك معنى واضحا تكون فيه العبارة المذكورة صحيحة بالنسبة مثلا لتلك الآراء التي ينقدها ديوي،والتي ترى بأن اكتساب المعرفة يكمن في مجرد(المشاهدة السلبية).
ان(التحويل الوجودي)يجري اولا في البحث،بقدر ما يحدث تحول في العلائق القائمة بيننا وبين الاشياء الخارجية.فعندما نصل لاكتساب المعرفة بشئ ما،يتحول ذلك الشئ الذي كان مجهولا لدينا الى شئ معلوم.ان طبيعته وخصائصه التي كانت سابقا غير محددة ومشكلة بقدر ما يتصل الامر بنا،حددت الآن من قبلنا،وبهذه الطريقة،كما عبر عن ذلك انجلز في احدى المرات،يتحول(الشئ بذاته)الى(شئ لنا).
وثانيا يتضمن التحويل المذكور فعل شئ بموضوع البحث.مثال ذلك خذ بحثنا في عناصر الماء،الذي ينطوي على فصل عنصريه المكونين: الاوكسجين والهايدروجين.وبهذه الطريقة نكون قد غيرنا الماء وقمنا بتحطيمه في الواقع،وبقى لدينا بدله الاوكسجين والهايدروجين.خذ مثلا آخر: البحث في النجوم بواسطة الادوات الفلكية.ففي هذه الحالة نحن لا نقوم بتغيير النجوم،ولكننا نقوم فعلا بعدة عمليات على الضوء المنبعث منها.
وفي جميع هذه الاحوال وما يماثلها،يجري هناك(تحول وجودي)بالفعل،وهذا التحول هو ذو طابع يمكننا من احداث بعض النتائج التي تجعل ما كان سابقا غير محدد بالنسبة لنا،شيئا محددا.مثال ذلك لقد حددنا ان الماء مكون من الاوكسجين والهايدروجين او ان كوكبا معينا هو ذو حجم كذا وبعد كذا..الخ.
وعليه فان(التحول الوجودي)الذي ينطوي عليه البحث يتضمن الخصائص التالية:

1. نحن نقوم ببعض الاشياء بموضوعات البحث،ونحدث فيها بعض التغيرات وبعض النتائج.
2. وبنتيجة ذلك،تقوم بعض العلاقة الجديدة بيننا وبين الاشياء الخارجية،نزيد بواسطتها معرفتنا بها.ان الفكرة غير المحددة تتحول الى فكرة اكثر تحديدا،وعلى طول ذلك يتحول عجزنا وترددنا بالنسبة لبعض الاشياء،الى مزيد من الثقة ومعرفة ما العمل وما هو المتوقع.

ومع ذلك فان ديوي يكتب كما لو كنا،عندما تحدث بعض النتائج باعمالنا خلال عملية البحث،نخلق شيئا او موضوعا للمعرفة ذا صفات محددة،لم يكن موجودا في السابق.انه يكتب كما لو كنا عندما نفصل الماء الى اوكسجين وهايدروجين،نخلق وضعا يكون فيه الماء مكونا من الاوكسجين والهايدروجين،بينما لم يكن في السابق الا ماء غير محدد بالنسبة لتركيبه.الا ان الماء كان دائما مركبا من الاوكسجين والهايدروجين.ان ما خلقناه هو بالاحرى الموقف الذي مكننا نحن من القيام بعملية فصل عنصريه،والوصول الى معرفة ماهية تركيب الماء.
وهكذا فان ديوي يخلط مسألة تحويل العلاقة بيننا وبين الشئ الذي يجري خلال قيامنا بعمل ما على الشئ المذكور،والذي ينتهي بتحديد فكرتنا عنه معبرا عنها بمقاييس نتائج عملياتنا فيه،وبين مسألة خلق نوع جديد من الشئ،خلق(موضوع للمعرفة).ان التحول الى شئ معلوم يتضمن،كما يبدو في تفكير ديوي،خلق شئ جديد.ان التحديد الذي نقوم به بالنسبة لخصائص الشئ،يتضمن في رأيه خلق شئ جديد بالتحديدات المذكورة،وهذه التحديدات لم تكن موجودة سابقا على الاطلاق في الموقف(السابق)الذي كان(غير محدد وجوديا).
وهكذا فعندما يتكلم ديوي عن(وجود العالم)الذي يقول عنه انه لا يحوم حوله الشك،انما هو يشير الى مجرد عالم(غير محدود)تماما.ان التحديد والتمييز والتركيب،انما ندخلها نحن بانفسنا في العالم.والواقع اننا نواجه هنا شيئا مشابها لصورة جديدة من مثالية كانت.

الوجود الخام

ان العالم غير المحدد اذن،يتحدد حسب رأي ديوي من قبلنا في عملية البحث،عندما نخلق مواد المعرفة المحددة.ويضيف الى ذلك ان ما نبدأ به،قبل ان يخلق البحث مواد المعرفة،هو مجرد(وجود خام).انه يكتب: (بأن بعض الكيانات الخام،التي يغيرها او ينتزعها التفكير،الا انها غير متكونة بأي شكل كان من الفكر او اية عملية ذهنية،تثير عدة مشاكل للتأمل،وبهذا تضع امام الاختبار نتائجها التي كانت تبقى تأملية لو لم توضع تحت الاختبار).ثم يواصل ديوي كلامه: (في الواقع يجب الالحاح على ان هذه الكيانات الخام،لا تشبه من جهة المحتوى الموضوعي للمواقف التكنولوجية او الفنية او الاجتماعية التي يمد الفكر جذوره فيها،ولا تشبه من جهة اخرى الاشياء التي يجب معرفتها،اي مواد المعرفة)(53).
ان ما يلح عليه ديوي حول هذه(الكيانات الخام)،هو انها بينما تكون نقطة الابتداء في المعرفة،الا انها ليست مواد للمعرفة،لأن مواد المعرفة تخلق اثناء البحث.ثم يواصل بأن هذه(الكيانات الخام)،يمكن مقارنتها(بالحديد الخام)الذي يطرق لصنع بضاعة مصنوعة.انها مجرد(وسائل)لصنع البضاعة الجاهزة النافعة – مادة المعرفة.والاهم من ذلك،هو انها تملك وجودها فقط(في بعض الكيانات الخاصة في الموقف الذي ينشأ وتعمل فيه).انها،كالمعادن الخام(تستخرج)لاستعمالها من قبلنا لبعض الاغراض المعينة،الا انها تختلف عن الخامات،في انها لا تظهر للوجود الا اثناء عملية الاستخراج او الاستعمال(54).
ان ديوي يميز هنا في هذا الكلام المبهم عن(الكيانات الخام)بين مادة المعرفة الجاهزة ونصف الجاهزة،اي التي تنشأ وتخلق من قبلنا في عملية البحث – وبين نقطة الابتداء الخام او الفجة للمعرفة،التي مهما كانت فانها ليست مادة محددة للمعرفة.
ان ديوي واتباعه يودون اعتبار هذا كنظرية(تطورية)للمعرفة.لقد قال ديوي بأن هناك(استمرارية في التطور)من(البيولوجي)الى(المنطقي).وهذه التغيرات(التي تنتهي بمواد التجربة البشرية،تكون تاريخا او مجموعة من التغيرات المتميزة بالتطور او النمو)(55).ولكن ما هو هذا (التاريخ)(للتطور)؟انه حسب رأي ديوي العملية التي ننطلق بها – ابتداء من استخراج المادة الفجة او الخام التي هي مجرد (وسيلة) او (اداة)للمعرفة – لانشاء مواد المعرفة بشكل او بآخر.
ومهما يحاول ديوي تزيين هذه النظرية(التطورية)بعبارات مختلفة حول التفاعل بين العضوية والمحيط،وحول التطور من البيولوجي الى المنطقي،فأنها باقية مجرد شكل من اشكال المثالية الذاتية.لقد كتب بيركلي: (ان جميع جوقات السماء واثاث الارض،او بعبارة اخرى ان جميع الاجسام التي تكون الاطار الجبار للعالم،ليس لها اي وجود بدون العقل).ويتفق معه ديوي قائلا: (ان وجودها يكمن في ادراكها او معرفتها).انه يقول بأن مواد التجربة البشرية توجد فقط كنهاية لعملية تطور ونمو،تنشأ خلال مجراها من مواد خام فجة.ان ديوي يعطي مثالية بيركلي الذاتية لونا كانتيا نموذجيا.ان مواد المعرفة ليست مجرد معطيات حسية فجة،تستخرج وتكتسب فقط كأدوات للمعرفة.وانطلاقا من هذه(الكيانات الخام)تنشأ مواد المعرفة في مجرى عملية التطور والنمو،وتنتهي في(مواد التجربة البشرية).انه يزعم بأن(الموقف الذي اتخذه في المقالات موقف واقعي بصراحة)استنادا الى رأيه في ان(بعض الكيانات الخام)تكون نقطة الابتداء في كل بحث.
الا ان هذا الزعم يجب ان لا يخدع احدا.واذا كان يقصد (بالواقعية)الاعتراف بالوجود الموضوعي للعالم المادي الحقيقي،مستقلا عن كونه دخل نطاق المعرفة(ومثل هذه الواقعية هي عنصر لا غنى عنه في الموقف المادي وهي خطوة في طريق المادية)كان ما يقوله ديوي ليس(واقعيا)بالتأكيد.انه يقول بأن المعرفة تأخذ نقطة انطلاقها من بعض (الكيانات الخام)التي(تستخلص)في عملية المعرفة،ولا توجد الا(كوسيلة)في تلك العملية،وان المعرفة تنتج في صياغة مواد المعرفة من مواد تلك الكيانات الخام،بحيث لا توجد مواد المعرفة تلك(بصورة مستقلة)بل هي تخلق في عملية المعرفة.ان هذا(الموقف)ليس واقعيا.انه مجرد مثالية صرفة خالصة،مهما تبرقع بالاصطلاحات البراغماتية او البيولوجية او السلوكية.
ان نظرية ديوي التطورية هي مجرد مشروع خيلي مثالي لتطور الوعي،منفصل عن قاعدته المادية.لقد بحث ماركس وانجلز عن التطور الحقيقي للوعي والمعرفة كما يلي: (ان الافتراضات التي نبتدئ منها..هي افتراضات حقيقية،لا يمكن ان تجرد عن محيطها الا في الخيال.انهم الافراد الحقيقيون،بنشاطهم وظروفهم المادية التي يعيشون في كنفها،سواء اكانت الظروف التي يجدونها موجودة قبلهم،او الظروف التي يخلقونها هم بنشاطهم الخاص)(56).
ان ما يفعله ديوي بالضبط هو تجريد(الافتراضات الحقيقية)في الخيال.فبدل الافراد الحقيقييين بنشاطهم وظروفهم المادية التي يعيشونها،نجد امامنا مجرد(كيانات خام)،وتحولها الى (مواد للمعرفة).ان الكيانات الخام يفترض انها(مستخرجة)،بينما يفترض ان مواد المعرفة(مصنوعة).ان مجموع هذه الصورة المجردة لعملية التجريد والصنع المثالية المزعومة،ترجع العالم المادي الحقيقي الذي تعود اليه جميع النشاطات في الواقع،وتشير اليه جميع المعرفة،الى مجرد حالة من(عدم التحديد الوجودي).
ان ديوي يفصل تطور الوعي عن افتراضاته المادية الحقيقية،كما انه يفصل ايضا بين فكرتنا عن الشئ باعتبارها تعبر عن معرفتنا المكتسبة له،وبين الشئ المادي الحقيقي الموجود خارج العقل والتي تمثل فكرتنا عنه انعكاسا جزئيا وغير كامل.
اننا نقوم بانفسنا بانشاء فكرتنا عن الشئ،الا اننا ننشئها كصورة للشئ الموجود مستقلا عنا.ان جميع ما يتضمنه وينطوي عليه وجود الاشياء المادية،يتجاوز في جميع مراحل تطور المعرفة ما استطعنا معرفته عنها،والتعبير عنه في افكارنا.ان موضوع المعرفة الحقيقية احفل بما لا يحد مما نستطيع استيعابه في معرفتنا.اما بالنسبة لديوي،فانه يضيق على نطاق المعرفة،انه يرى ان الموضوع الحقيقي للمعرفة،الموجود بصورة مستقلة عن معرفتنا به،لا يمثل اي شئ،انه مجرد حالة من عدم التحديد،وكل ما يعترف به هو عملية انشاء فكرتنا عن الموضوع.انه يعترف باننا نستطيع باستمرار،مواصلة اضافة مزيد من التحديد لفكرتنا عن الشئ،الا انه لا يعترف بأن هذه التحديدات لا تكون المعرفة الا بقدر ماهي تعكس الخصائص الحقيقية وغير القابلة للاستنفاد للشئ الحقيقي الموجود بصورة مستقلة عن فكرتنا عنه.
لقد كتب لينين: (بأن الطبيعة لا نهائية،الا انها توجد ايضا بصورة لانهائية.وهذا الاعتراف،الوحيد،القاطع،وغير المشروط،بوجود الطبيعة خارج فكر الانسان ومداركه،هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاارادية النسبية وعن المثالية)(57).على ان عدم الاعتراف بوجود الطبيعة،هو الذي يكون جوهر فلسفة ديوي والبراغماتية بوجه عام،كنظام فلسفي مثالي.

عدم امكان معرفة العالم الحقيقي

اما فيما يخص (الكيانات الخام)التي يقول عنها ديوي،بانها(تطرح مختلف المشاكل للتأمل،وبالتالي تخدم اختبار نتائجها،التي كانت تبقى مثالية من دون الاختبار المذكور)،والتي تكون المادة الخام التي تصنع منها(مواد المعرفة)فانه لا يقول ولا يستطيع ان يقول اي شئ عن المنجم الخفي الذي(تستخرج)منه الخامة المذكورة لاستعمالها(كأداة)للمعرفة.انه يعقد – كسائر المثاليين الآخرين في هذا الصدد – جميع مواد المعرفة وجميع (مواد التجربة البشرية)كانشاءات من صنع العقل.اما العالم الحقيقي فيبقى مجهولا لديه وغير قابل للمعرفة اطلاقا.انه ينطبع في ادراكنا فقط(كوجود خام)نصوغ منه المواد التي نبتدعها نحن ابتداعا.اما وراء مادة المعرفة المصنوعة والمادة الخام المستخرجة لصنعها،فيمتد الشئ ذاته،المجهول والغير قابل للمعرفة،وقد قال ديوي بأن(الكيانات الخام)التي تكون نقطة الابتداء لكل بحث،ومحكه بنفس الوقت،(لا تنطبق مع المحتوى الموضوعي للموقف الذي تنشأ فيه عملية التفكير او البحث بل انها مجرد اشياء نستخرجها نحن من الموقف المذكور لاغراضنا الخاصة).
وهكذا فان ديوي يقول باننا نجد انفسنا في موقف معين(تكنولوجي او فني او اجتماعي)،له مضمونه الموضوعي الخاص،واننا نستخرج منه(بعض الكيانات الخام)التي تخدم كادوات لنا لانشاء(مواد المعرفة)واننا بانشاء مواد المعرفة المذكورة من الكيانات الخام،نقوم في الواقع بتغيير الموقف الاصلي،وان مواد المعرفة المذكورة تخدم كوسائل لزيادة تغييره بطريقة منظمة وطبقا لرغباتنا.وهو يسمي جميع ذلك(بموقف واقعي امين).
الا اننا لو تأملنا الامر مليا،وتساءلنا ما هو(المضمون الموضوعي)لاي موقف ينشأ فيه التفكير،ولو بدأنا البحث في هذا الاتجاه لغرض اكتشاف المضمون الموضوعي للموقف المذكور،لوجب علينا طبعا ان نحدد طريقة البحث اللازمة لتقرير المضمون الموضوعي المطلوب.وعندما نكون قد حددنا المضمون المذكور،اصبح(موضوعا للمعرفة)،واصبح بالنسبة لديوي لا يمثل اي شئ(له وجود سابق)بل مجرد شئ انشئ في مجرى عملية البحث.وعليه فان الكلام بالنسبة اليه عن المضمون الموضوعي للموقف الذي ينشأ فيه التفكير والذي تستخرج منه الكيانات الخام التي تطرح المشاكل للتأمل،هو مجرد عبارة فارغة.ان هذا المضمون الموضوعي،كما يرى ديوي،هو مجهول وغير قابل للمعرفة،وقد تستطيع ان تستخرج منه الكيانات الخام وتقيم منها اي عدد من مواد المعرفة،الا ان الموقف الموضوعي(السابق)الذي استخرجت منه الكيانات الخام،والذي نشأت عنه عملية البحث،يبقى غير قابل للمعرفة ولا يمكن التعبير عنه.
ان آراء ديوي عن وجود العالم المادي هي نسيج من الآراء المثالية المتناقضة من البداية الى النهاية.انه يقول: (اننا لا نلقي الشك على العالم اطلاقا)،الا انه يذهب مباشرة بعد ذلك الى تفسير كل مادة للمعرفة باعتبارها مجرد نتاج لنشاطنا الفكري حول الشئ موضوع المعرفة.انه يتكلم عن التفكير والمعرفة كعملية من عمليات الطبيعة،ولكنه يعود فيفسر هذه العملية الطبيعية باعتبارها مجرد عملية صنع واعية لمواد الطبيعة نفسها.
وبقدر ما يسمح ديوي بوجود الاشياء مستقلة عن كونها مواد للفكر،يعمل لاعتبارها غير قابلة للمعرفة،او كمجرد مادة غير محددة تنتظر التحديد،وكل شئ معروف هو في نظره مجرد مادة من انشائنا وتحديدات المعرفة هي من صنع العقل البشري.ان هذه الانشاءات او الصناعات – كما يقول – انما صنعت لغرض التطبيق فقط،اي كأدوات لاغناء الحياة البشرية والسيطرة على المحيط وعلى العالم الخارجي،ولكنه ينكر كون محك العمل والتطبيق انما يختبر الانطباق بين افكارنا وبين الحقيقة الموضوعية.
وفي جميع هذا التفلسف،ليست هناك فكرة واحدة واضحة ولا عبارة واحدة تحمل معنى خاليا من الغموض والابهام.ذلك لان فلسفة ديوي هي فلسفة من فلسفات المثالية الذاتية،التي ترى ان العالم الذي نعرفه هو من نتاج عقولنا،وليس له وجود موضوعي مستقل عن كونه محلا للادراك والتفكير.وهذه هي فلسفة النسبية المثالية او اللاعقلية،التي ترى بانه بينما هناك عملية لصياغة الافكار واعادة صياغتها باستمرار حسب الظروف والمستلزمات العملية المتغيرة،فان الافكار المذكورة لا تعكس الحقيقة الموضوعية،وليس هناك محك لاختبار انطباقها على الحقيقة الموضوعية.


الهوامش


(51) نفس المرجع،ص 105.
(52) نفس المرجع،ص 220.
(53) (مقالات في المنطق التجريبي)،ص 35.
(54) نفس المرجع،ص 38.
(55) جون ديوي: (مشاكل البشر)،ص 198،بالانكليزية.
(56) ماركس وانجلز: (الآيديولوجيا الالمانية).
(57) لينين: (المادية والنقد التجريبي)،الفصل الخامس،المقطع الثاني.