فى ذكرى ميلاده - إبراهيم فتحي قائدا شيوعيا


سعيد العليمى
2020 / 8 / 21 - 22:05     

لقد مثل إبراهيم فتحى (23 اغسطس 1931 – 3 اكتوبر2019) طوال تاريخه ذلك المفكر العضوى الماركسي المستقل المعادى لسلطة الرأسمالية ، وأجهزة دولتها الايديولوجية ، ثاقب الرؤية المعادى للدوجماتية ، ذو النزعة النقدية الذى لايركن لإجابات جاهزة ، صاحب الرسالة ، والملتزم ، وقد أدى به ذلك الى ان يناهض دائما الوعى الزائف فى الحقل السياسي والاجتماعى والادبى والفنى والفلسفى من منظور ماركسى ، اى منظور الدفاع عن قضايا المضطهدين من عمال وفلاحين وطموحاتهم فى التحرر الوطنى والاجتماعى . وهو لم يقف بانتاجه الفكرى والسياسي عند حد الكشف عن التناقضات الطبقية للنظام الناصرى – الساداتى وتعريتها وبيان دلالاتها ، بل طبق مايترتب على تلك الافكار فى الممارسة بالانخراط فى نشاط حزبى يكون أداة التغيير فى الوجهة التى حددتها "الأنا الجمعية" التى اختار ان ينتمى اليها .
وقد كان مهيأ أكثر منا جميعا ، بحكم تاريخه الثرى فى النضال الشيوعى السابق للقيام بدوره كقائد فكرى وسياسي للتنظيم الشيوعى المصرى ( الذى أصبح لاحقا ح ع ش م فى سبتمبر 1975 ) ، فهناك خبرته النظرية والسياسية بواقع الحركة الشيوعية المصرية والعالمية ، ومعاناته النقدية طوال سنوات لصراعها الفكرى بكل ضراوته وحدته ، بقضاياها واطروحاتها وخلافاتها ، وحقيقة إمتلاكه رصيدا معرفيا هائلا راكمه خلال تاريخه الحزبى ، وكذلك حصاد الصراعات التى خاضها حول قضايا عينية ملموسة تخص واقع الثورة المصرية ( داخل تنظيمه ثم فى جدالات تنظيمه مع التنظيمات الأخرى ) ، فقد واجه فى بواكير حياته السياسية – أثناء عضويته القصيرة فى حدتو - مسألة تمصير الحركة الشيوعية من القيادات الاجنبية ، والموقف من الصهيونية وإسرائيل ، وفكرة التحالف مع الاخوان المسلمين ، ورفض الكفاح المسلح ضد المحتل البريطانى ، وتأييد حركة ضباط يوليو ، واعدام عاملى كفر الدوار خميس والبقرى ، مما أدى به فى اواخر عام 1952 الى الانشقاق عن حدتو مع بعض رفاقه رفضا لسياستها وإختلافا معها فى القضايا الآنفة ، الى ان انتهى الأمر بتكوين منظمة "وحدة الشيوعيين المصريين " .
وجدير بالذكر إن من يقوم بدور المسؤول السياسى ، سواء كان فردا أم جماعة لابد ان يمتلك الإستعداد اى نوع من " التطبع " تغنيه الممارسة ، اى حرفية متمكنة لإكتساب متن معرفى ورأس مال رمزى يمثل نوعا من اللغة ( النظريات ، الإشكاليات ، المفاهيم ، التقاليد التاريخية ، المادة التاريخية .. الخ ) التى أنتجها وراكمها العمل السياسي الشيوعى . فالممارسات تتحدد بشروط الوجود المباشرة وبكل التاريخ السابق .
وكان عليه فيما بعد كمسؤول سياسى بعد إنشقاقه المبدئى عن " حدتو " أن يسهم مع رفاق حزبه ( وحدة الشيوعيين المصريين ) فى تحديد مواقف سياسية وعملية فى النقاط الفاصلة فى التاريخ السياسي النظام الناصرى بصدد المصرى مثل اتفاقية الجلاء ، وأزمة مارس 1954 ، مؤتمر باندونج ، وصفقة الأسلحة التشيكية 1955 ، تأميم القناة ، والعدوان الثلاثى 1956 ( تطوع مع الكاتب ابراهيم عامر، وبهجت النادى المهاجر الى فرنسا فى كتائب الفدائيين للقتال فى بورسعيد ) فالوحدة المصرية السورية 1958 ، ثم التأميمات "الاشتراكية " يوليو 1961 . وقد وجدت هذه المواقف صداها فى كتابات سرية او ترجمات علنية عبرت عن مواقف حزبية جماعية ، وان صدرت باسم ابراهيم عامر الذى كان يعمل صحفيا فى جريدة الجمهورية آنذاك . منها كراس " تأميم القناة " 1956 ، كراس " ثورة مصر القومية " 1957 ، كراس " الإستقلال والطريق الى الاشتراكية " وهو ترجمة لمؤلف للعالم البولونى جوليان هوخفيلد 1957 . وأهمية هذه الدراسة على صغر حجمها أن موضوعها كان انصهار عدة قوميات متفاوتة النضج فى عصر الامبريالية فى قومية اشتراكية واحدة ، فى سياق الثورة الاشتراكية ، وهى الفكرة التى وجدت صداها فى وثائق حزب العمال الشيوعى المصرى ، اى فى وثيقة حول سلطة البيروقراطية البورجوازية فى القسم الخاص بالقومية العربية ، وفى وثيقة فى ذكرى اتحاد الجمهوريات العربية . ثم كتاب الأرض والفلاح 1958 الذى رفض الزامية المراحل الخمس التى يتعين أن تمر بها كل البشرية ، وذكر لأول مرة موضوعة نمط الإنتاج الآسيوى فى مصر ( وهو نمط كان مرفوضا منذ عام 1933 تاريخ آخر جدال حوله من قبل العلماء السوفييت فى الحركة الشيوعية العالمية ) ، ثم عرض ملامح برنامج فلاحى فى المسألة الزراعية .
ولابد من الإشارة هنا لتحليل غاية فى الأهمية كتبه إبراهيم فتحى إبان إعتقاله فى سجن القناطر الخيرية عام 1961 ووجد طريقه خارجه بعنوان : "حول إشتراكية رأس المال الكبير " وكان تحليلا للتأميمات التى أجرتها السلطة الناصرية ، وفيه تتجلى إرهاصات ماكتبه عن البورجوازية البيروقراطية فيما بعد . وتناول فيما تناول التراكم الرأسمالى الذى يحققه التأميم ، ورأسمالية الدولة ، وظاهرة البونابرتية كشكل للحكم – وقد اطلعت على التحليل بنفسي عام 1968 بمعرفة المناضل الراحل عبد السلام الشهاوى .
لقد مثل إبراهيم فتحى بالنسبة لنا تجسيدا للفكر الثورى ، وخطا راديكاليا داخل الحركة الشيوعية المصرية التى سيطر على كل مفاصلها وتوجهاتها الفكر اليمينى المراجع ، ورغم انه كان فى جدالاته النظرية والسياسية خصما حادا ، قاسيا ، عنيدا ، ولاذعا ، فلم تكن قضية الثورة بالنسبة اليه موضع مساومة ، الا انه وفى الجانب الآخر كان تربويا مع رفاقه الأصغر سنا ، والأقل خبرة ، يكللهم برعايته ، ويلعب دورا فاعلا نشيطا فى تطويرامكاناتهم ، ويحاول خلق نواة قيادية منهم ، ولم يستغل مكانته الأدبية فى إملاء موقف تبناه عليهم . وقد شكل بوصفه فردا جزءا من كل ، وقد أثر فى هذا الكل بمقدار مااستوعب الحاجة التاريخية – السياسية لهذا الكل وتكيف بمقتضاها .
لقد اعتاد القول " كل ماأعرفه هو أننى لست ماركسيا " مقتفيا إثر ماركس ، مشيرا لجدلية فكره ، والحال أن مضمون مايقول عنى قدرته على دراسة العينى فى وجوده العينى ، وتغيير الموقف حسب حركة الواقع ان تطلب الأمر ذلك ، ترتيبا على التحولات الجارية ، وكانت قضايا الثورة المصرية والعربية هى مناط كل شئ عنده ، ولايعنى بأى حال التخلى عما هو ثورى ومبدئى فى الماركسية ، ومراجعة أطروحاتها الأساسية بروح يمينية ، أو تكييفها إصلاحيا بحيث تدعم متطلبات الأوضاع الطبقية القائمة . فعلى سبيل المثال حين كان بعض مثقفى الحركة الشيوعية المصرية مثل محمود أمين العالم ، وإسماعيل المهدوى ينتقدان الفلسفة الوضعية المنطقية التى كان راعيها الأول فى مصر زكى نجيب محمود بوصفها " فلسفة استعمارية " ، كان يناقش ويركز على دورها فى مصر فى تبديد " خرافة الميتافيزيقا " والفكر اللاهوتى المهيمن بإدخال والتشديد على تأسيس الفكر العلمى . وتبنى موقف ماركس فى الأيديولوجية الألمانية الذى تمكن من أن يرصد التغيرات التى تعترى نظرية ما حين تنتقل من مكان إنتاجها النظرى الأصلى لبيئة فكرية مغايرة ، كفكر الثورة البورجوازية الفرنسية ، والمذاهب الاشتراكية ، بعد إستيرادها لألمانيا . وقد إستبق بذلك إدوارد سعيد حين تناول هذا الموضوع تحت عنوان " هجرة النظرية " بعدها بعقود طويلة . وحين دار نقاش فى فرنسا فى الستينات حول أنماط إنتاج ماقبل الرأسمالية ، وأعيد طرح مفهوم نمط الانتاج الآسيوى للمناقشة ، ووجد ذلك صدى لدى كوادرنا الأساسية ، وبات موضوعا للجدل والإختلاف ، وطالب البعض بموقف حزبى فى هذه المسألة ، رفض بإصرار ان يحسم هذا الموضوع العلمى بالتصويت ، تاركا المسألة مفتوحة للبحث وتباين الآراء وللكشوف الأثرية . وفى الوقت الذى كان يمين الحركة الشيوعية المصرية يتخذ موقفا ستالينيا تشهيريا من التروتسكية رفض ايضا ان ننصاع لهذا الاتجاه معينا ان الموقف من التروتسكية المصرية يتحدد بمواقفهم من قضايا الثورة المصرية ولا ينبغى أن يحكمنا موقف السوفييت منها .
وربما حق لى أن أقول مع هيجل "يعبر الأفراد الأفذاذ عما هو جوهرى ، عن الضرورة التاريخية ، عن حقيقة زمنهم ويمنحون طاقتهم لبلوغها . "