القراءة التاريخية كيفاً _ عبد الكريم سروش مثلا 2


عباس علي العلي
2020 / 8 / 21 - 22:04     

تجديد قراءة أم تجديد فكر

التجديد الفكري واعادة نمذجة وقراءة الفهم الديني بربطه بالتاريخ أي أعادة قراءة الإسلام كفكر بمقاربة تاريخية، لا يعني بأي حال من الأحوال أن نجعل من هذه الدعوة أعاد خلق منظومه فهمية وإدراكية للدين تبنى خارج ما هو عقلاني وأصولي، بمعنى أن لا يكون هذا الطرح الليبرالي مدعاة للتجاوز عن حقائق تتصل بأصل وروح الحقيقة الدينية الجوهرية، وإن كنت أنا لا أمانع أن يطرح الموضوع على بساط البحث النقدي والبرهاني المتوافق مع توسع الأفق المعرفي والفكري الإنساني لذي ركمته البشرية في تاريخها، وجعل كل الفهم الديني الأثري محلا للنقد العلمي وفق قياسات يتفق عليها أولا كونها معيار للبرهنة وقياس النتائج، لكن دون ان نبني نتائج نظرية عن واقع يختلف تماما عن الفرض ولا يتوافق مع الموجود النهائي التحصيلي منه.
هذا المطلب ليس خياليا ولا يمس جوهرية الدين التي تمثل علاقة عمودية قائمة بين الوجود الإنساني الروحي وقيم السماء، كذلك لا يمكن عدها انتهاك لركائز الدين طالما أنه ستمهد لصياغة وأعاده فهمنا لوظيفة الدين الذي يشكل جزء مهم من الوجود الحقيق للإنسان، طالما تعلق به وأنشد له منذ أول مرة يطأ فيها الأرض باحثا عن جواب محدد، وهو المطلوب من السؤال المتكرر بلا أنقطع لماذا أنا في الوجود؟ وما قيمة هذا الوجود بالنسبة للسماء وبالنسبة للأرض كوطن يحتوي ويضم هذا الوجود بعلاقته الأرض والسماء والإنسان؟ وكيف يبرر فعله المباشر وغير المباشر على ما يمكن ن يجعل هذه العلاقة مفهومة ومنتظمة وحقيقية؟.
التأريخ ليس شاهد زور يمكن ن نجعله مطية نركبها كلما أردنا أن نغير من قواعد المعاملة، لأن في التأريخ خاصية فهم بأشكال متعددة تبعا لمعنى قيمة الفعل التأريخي الذي يمتد من أقصى حدود الشر إلى أبعد حدود الخيرية، وكل يحاول أن يفلت به إلى المنطقة التي تؤمن له مساغ لفعله وتشهد له بالصحية الكاملة، والدليل كم من ممجد للطواغيت على وجه لأرض؟ وكم من ضحية بات مسلوبة المعنى تبريرا لحكمية التأريخ الأعمى؟.
التأريخ الأعور لا يمكن أن يكون حاكما على الدين طالما أن الدين لم يكشف عن كامل إنسانيته ولم يفرض شروطه الحيوية في مجتمع تبرأ من الله في أحيان كثيرة، وأنتهك حدوده بدواع لا تمت للتاريخ ولا للدين ولا للإنسانية، بل فرض شروط صاغها صناع التأريخ ومرتكبي الحماقات ونسبوها للدين، فأصبحت بنظر القارئ التأريخي مرتكزا وعملة قادرا أن يتسوق به ويسوق فكرته عن الدين من خلال عزل الكثير من المحددات المهمة والضرورية لاكتمال استكشاف الحقيقية، وهذا ما أسقط الكثير من الأفكار والنظريات التي اتخذت من التأريخ وجها واحدا وتفسيرا لحركة الوجود، كالنظرية المادية التأريخية التي أصبحت تراث أكثر من كونها رؤية حقيقية وإنجازيه للتغيير والارتقاء الإنساني.
التأريخ بمعزل عن الروح الإنسانية وبمعزل عن قيم الأخلاق والخير والجمال يصبح قاسيا وعبثيا ينحاز للقوة والطاغوتية الفكرية، ويتعامل مع الإنسان كفاعل خارج عوامله الأساسية الدافعة والمؤثرة، والتي هي في بعض جوانبها لها امتدادات لا يمكن للتأريخ أن يستحضرها بالقراءة عن بعد وبتجرد، لأنه يقرأ الصورة ويستحضر الشكل العام ولا يتوغل بالجوهر الإنساني الذي بنى وشيد الفعل بتداخلات واشتراكات متشعبة، هنا يقع التأريخ بمعنى القسوة بمعنى أنه لا يرى الإنسان إلا من وجهه المادي فقط.
قبل الدخول في تجربة الدين كونها تجسيد لوجود خطين في الحياة الإنسانية يحركان ذات الإنسان لفعل وجوده وتفعيله، أي أن الإنسان إن لم يمارس ما وجب عليه منهما لا يمكن أن يكون نموذج حقيقي له، وهما الخوف والأمل، فلا أظن أن الحياة البشرية تخلو من هذين الوجهين ومن انعكاسات كونية التواجد البشري على الأرض، ومن مفاعيلهما تتشعب كل التصرفات السلوكية والحسية وحتى المعرفية لتطبع عالم الوجود بشيء من الديناميكية التي تجعل الحياة تستمر، وتستمر بدافع الخوف والطمع بما يحمل الامل من ترقب وحافز.
الدين كمحرك لهذين العنصرين تمتد مفاعيله بين الخوف والأمل على نطاقين خارجي وذاتي، أي خارج الدين وخارج ذاتيته، كما يمتد لخارج الهدف منه وأيضا خارج ذاته، بمعنى أن عنصري الخوف والأمل يتداخلان في شبكة من العلاقات تمتد عميقا في جذر الانسان الذاتي كمتلقي لتنتهي إلى ما هو أبعد شيء خارجي عن الدين، وهو إرادة الديان الأولى قبل خلق الإنسان والدين معا (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ*الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ*)الرحمن، تبدأ عملية المفاعيل من جوهرية أسم الله الرحمن لتنتهي في عملية الحسبان، وما بينهما نجد أن الفعل والفاعل والمفعول به جميعا لا يتركان الخوف من الحساب ولا ينسيان قيمة الرحمة، هذا هو حقيقية الشعور الإنساني بعيدا عن تدينه بخط محدد، الأمل بالله والخوف منه على امتداد وجوده وبدنوهما لا يمكن ان يكون الإنسان عاقلا للدين أو متعقلا له.
إذن الدين كتجربة بشرية تمتد من كونية الخوف والأمل ولكن لا تنتهي بكونية ذات الدين، بمعنى أننا نفهم أن تجربتنا التي يصوغها الخوف والأمل هي تجربة إنفعالية وليست تجربة فاعلة فينا، لأن الفاعل الأصلي فوق بشريتنا ولأنه يملك القوة والقدرة على أن يمنحنا أيا منهما دون أن نكون قادرين أن نتجاوز هذه القوة وهذه القدرة، وبالتالي من وضع الدين لا يمكن أن يكون الخوف والأمل بذاتهما ولكن بمن جعل فيهما من فعل حقيقي وجسد ذلك، فعند تجاوز حقيقة أن الخوف والأمل هما خارج صناعة العقل وأنهما ترتيب فكري سلوكي يصوغها لإنسان من تجربته البشرية كمدرك حسي لفعل الفاعل والجاعل الأصلي لهما، نكون قد أمنا أن العقل يخدعنا بفعله عندما يصوغ الفكرة الوهمية ويؤمن بها ويمارسها كتجربة ويبني عليها تبريراته لهذ الوجود، إنها خديعة المتوهم.
إن من يظن أن التجربة الدينية كلها في جوهرها وصوريتها تنضم تحت مفهوم الوصف البشري ونتاجه الحر والقاطع، يؤكد على حقيقة أن العقل الذي ينطلق منه بحاجة إلى إعادة قراءة نظامه العامل وفهمه على أنه نتاجه الخاص دون تدخل خارجي، أن في هذا الطرح لا يتبنى العقلانية الحقيقية ولا ينحاز للمنطق العقلي السليم الذي يسمي الحقائق بمسمياتها، ليتجاوز بحركة التفافية عليه ليبني مجموعة نتائج صحيحة على قاعدة بدأت بخطأ أفتراضي، ثم التسليم بها ليؤكد أن الدين بمجمله وبصياغاته ومعطياته وما يرمي له كله خارج القاعدة الأصلية التي تجعل الأشياء كلها فاعلة بدون فعل، أو يمنحها القوة على التدرج والتدحرج للأمام وكأن العقل البشري يسلم بمخالفة ما يؤمن به ويدعو له بقانون العلة والمعلول.
من المؤكد أن الدين بالنهاية هو صورة لواقع الإنسان في واقعه وأن جزء من منظومة التدبر البشري بصيغة ما، لكن هذا لا يعني أبدا أن الإنسان في لحظو وعي أو لحظة تأمل أو لموقف حدوثي أكتشف الدين وأعد مخططه، ما لم تكن هناك ملكة فطرية أولية لدى الإنسان تهيء لذلك وتدعم بشرية الدين والتدين في ذاته، دون أن يكون حرا في قبولها لكنه حرا في رفضها بدرجة ما، هذه الحقيقة تقود إلى أن منشأ الظاهرة (التدين) خارجي وبفعل فاعل لا ندركه ببشريتنا إلا من خلال تجسيد هذه الظاهرة وتفريغها في الواقع.
وصحيح أيضا أن الإنسان الطبيعي تعامل مع عملية التفريغ والتجسيد هذه بما توفر له من أسباب في تكوينه من جهة وأسباب بيئية تحاصره وتوجهه، ولكن هذا الامر لم يكن كليا ولا عاما شاملا فهو أيضا ببشريته لديه وسيلة تكوين كبرى هي العقل، مما يعني إن إسقاط الظاهرة على الواقع ليس محكوما بكونه بشر فقط وأنه مضطر لترجمة الواقع كما هو ليكون الدين بمعزل عن العقل الذي لا يتصرف فقط بالمؤثر الخارجي بقدر ما يستطلع أولا جزؤه المصنوع، الجزء الفطري المؤسس له والذي يسمى علميا بالعقل اللا شعوري أو مبدأ الفطرة السليمة لدى الإنسان.
هذا الجانب المهم والحيوي لم يدركه التنويري عبد الكريم سروش في نقده لتاريخية الدين أو لدور البيئة والموقع والحال الأجتماعي في تنظيراته مركزا على أثر الجانب الحسي المادي في نشأة التدين ثم الدين لاحقا، وإن ذكر في بعض كتاباته أن أسس الدين تنبع في جزء منها لروحية النبي، وهنا يقصد الجانب المادي من الروح وليس الجانب الأعتباري العقلي الذي يمنح المنتج جزء من شخصية صاحبه أو الذي أنتجه، فلو لم يكن النبي عاقلا ومدركا لحدود أثر الدين وواعيا لما يقوله ومصمما على بسط فكرته في الواقع، لم ولن ينجح بعيدا عن فهمه للجزء الروحي أيضا للمتلقي والذي سيقبل ويؤمن في الدين، وهذا الجانب يتمثل في القدرة العقلية المقارنة التي سيجريها المتقبل أو الرافض أستنادا إلى فطريته وتكوينه الطبيعي.
فالمسألة ليست بشرية بالكامل بمعنى ليست بيد البشر وحده في تأسيس دين جديد أو دعوة جديدة طالما الإنسان له تأريخ طويل يمتد من أول يوم لوجوده في الواقع، وهذه المسألة لا يمكن التغلب عليها بمجرد أنها تستجيب فقط للواقع، وخاصة أن هناك أصوات معارضة ومنتقدة وضديه له في مجتمع متنوع في طائفة من الأديان والعقائد وكلها تحاول أن تدافع عن عقيدتها، إن التسليم بمقولة سورش بالكامل بأن الإسلام ما هو إلا دين قريش ومكة والواقع العربي فيهما لا يمكن القبول بها بمعزل عما ذكرنا ووضحنا أنها تتصل ببعد أخر فوقي أو ربما مدعوم من فطرة الإنسان الطبيعية التي كونها المصدر الفوقي وجعلها أداة مراقبة وتوجيه فيما يخص ظاهرة الدين والتدين.