الوطنية اللاوطنيه: ثورة اكتوبر الثانيه/3


عبدالامير الركابي
2020 / 8 / 21 - 14:34     

الوطنية اللاوطنية: ثورة أكتوبرالثانية/3
عبدالاميرالركابي
عاش العراق مابعرف بتاريخه الحديث كحالة ومسار، منطويا على استهداف رئيسي يتمحور حول فك رموز ومنطويات كينونته الازدواجيه، الامرالمطابق لنمط بنيته، وظل يحكم اليات دورات تاريخه السالفه من دون تحقق، مع استمرار هيمنه حالة التعذر والنكوص تكرارا خلال دورتين، اورثتا في الدورة الأولى السومرية البابلية الابراهيميه، المنظور التعويضي النبوي التوحيدي، وبناء المملكة المفارقة للارضية، "مملكة الله على الأرض"، في حين تركت الدورة العباسية القرمطية، "الانتظارية" دالة على الاستحالة التحولية في الدورة الثانية، الى ان دخل العالم والمجتمعات الأحادية طورها الأخير، الأعلى، الممهد لانتهاء سطوة الأحادية، وبدء زمن العقل المتحرر منها، القادر على استكناه الحقيقة الأصل المضمرةـ غير المماط عنها اللثام والمودعه في الظاهرة المجتمعيه.
ومنذ القرن السادس عشر، دخلت ارض مابين النهرين تشكلها الثالث من سومر الحديثة تكرارا، حاملة بالتفاعل مع المتغير الأحادي الاستثنائي على الضفة المقابلة من المتوسط، عنوان التحقق المنتظر بماهو منجز شامل على مستوى المعمورة، وجد شرطه أخيرا وعنصر اذكاء محركات تحققه، في الثورة الاوربية الأحادية التي أعقبت الدورة الثانية الشرق متوسطية الجزيرية/الإمبراطورية الرافدينية، ونتجت عنها، وعن محفزات مفاعليها، وبعد لحظتين، قبلية، ودينية انتظارية تجديديه، مرتا على التشكل الحديث، حصل مع بداية القرن العشرين اللقاء التصادمي الاحتدامي المركب بين التصاعدين، ليصبحا وكما هما بالاصل وحدة، كان توزعها "التفارقي الرباعي" دالا على انقلابيتها العظمى، ارتكازا لوحدة الاليات التفاعليه المستجدعلى مستوى الكوكب.
سواء في ارض الرافدين او الشرق المتوسطي / منطقة احتشاد الأنماط المجتمعية / لايعرف الزمن المذكور التفارقي الرباعي تسمية بغير الظاهر الطاغي والمتغلب منه في لحظته، باعتباره حالة "صعود الغرب الحديث وثورته البرجوازية الاليه الصناعية"، بحكم ظاهريتها الساطعه الكاسحة، وحضور مفاعيلها الكوكبية الانقلابيه، ماقد برر ومازال الى الان اسباغ دلاله ومعنى الظاهرة الغربيه الحديثة، على اللحظة الراهنه من التاريخ البشري، خصوصا مع استمرار هيمنه المنظورات الأحادية، وقد طرا عليها شكلها الأوربي الأعلى، الأكثر ديناميه وعلوا، فما كان من الممكن يومها والى اليوم، النظر في الحالة الحالة على العالم منذ منتصف الالفية الثانية، على انها لحظة الانتقال الى "وعي الازدواج"، بعد انتهاء صلاحية ومفعول الأحادية ومنظورها، ببلوغها قمتها النهاية، واخر أشواط تجليها الحداثية الاوربية، بمعنى الحاق الظاهرة الاوربية الحديثة، بلحظة تحول كبرى، هي ضمنها عتبه لازمه وضرورة تاريخيه غير عادية.
خلال هذا الطور من زمن الانتقال الى الازدواج عقلا، والي مابعد مجتمعية واقعا، ماكان متوقعا ظهور رؤية ( وطن/ كونية) كتلك اللازمة والمفترض انبثاقها حال التقاء البنية العراقية السائرة للتشكل الحديث، بالوافد الأوربي، فلم يكن واردا بلوغ العقل الواقع هنا منذ قرون تحت وطاة الانقطاع التاريخي على مستوى التعبير عن الذات، مع ماكان متوجبا حينها من نوع تعبير ذاتي انقلابي استثنائي على مستوى عموم التاريخ المجتمعي، ظل منتظرا منذ قرابة سبعة الاف عام، ذلك مع العلم ان التيارات المذكورة لم تنشا، ولا اتت ضمن سياق وكحصيله لتطور التشكل التاريخي الازدواجي الامبراطوري الذي كان مايزال وقتها سائرا عند طوره الأول المعتاد كمنطلق من ارض السواد، ينتظر اشتراطات استكمال الكيانية الازدواجية، بظهور وتركز عناصرومكملات بنائه الامبراطوري التاريخي.
يعني ذلك وبحساب الاليات الازدواجية، انتماء الظاهرة المسماة ب "الوطنية الحديثة الايديلوجية الحزبيه" الى مستوى من الوعي المفتعل والمستعار، باعتبارها قوة مضافه لجملة العوامل الكابحه للصعود الوطن /كوني الازدواجي، والمزورة له، المفبركه لالياته وظواهره، وهو مظهر ارتبط بحالة استثناء صادفت عملية التشكل الازدواجي الحديث الثالث، وميزته عن التشكلين، او الدورتين، الأولى والثانيه، فالدورة الحالية امتازت بحضور عنصر لم يكن قد حضر من قبل ابان الدورة السومرية البابلية، ولا العباسية الانتظارية القرمطية، حيث كان انفتاح الأفق شرقا وغربا بوجه الإمبراطورية شرطا لتحققها، لهشاشتها البنيويه، في المرة الأولى بسبب عامل السبق التشكلي التاريخي الرافديني وبكورته المجتمعية، مااعطاه إمكانية التمدد الى عيلام والاناضول وساحل الشام بداية على يد سرجون الاكدي، والى الصين والهند شرقا واوربا الغربيه غربا في الدورة الثانيه، الامر الذي كان قد هياه قبلا،الفتح الجزيري العربي، كما حرر بداية، واطلق الاليات الرافدينيه المعطله الرازحه تحت وطاة الاحتلال الفارسي.
اليوم وللمرة الأولى وليس من دون دلاله او معنى، يواجه الصعود الامبراطوري ابتداء منذ تبلوره الأول، تحدي الانقطاع التاريخي المستمر من سقوط بغداد عام 1258 أولا مع الحضورين العثماني والصفوي وتحديدا الأول منهما، وما اعقبه في القرن العشرين من حضور الغرب واستعماره، وشتى اشكال تمظهره النموذجي والمفهومي، الامر الذي كان قد كرس اليوم ظاهرة الاستبدال كملمح أساسي مرافق لعملية التشكل الراهن، القبلي أولا، والديني ثانيا، كضرورتين وحاجتين موضوعيتين، الحقتا واضيفت لهما في الطور الاستعماري صيغة من صيغ الاستبدال المؤقت، جرى خلالها تطويع الظاهرة الغربية وانعكاساتها، لأغراض مقاومتها ومنع تمكنها من اخضاع البنية التاريخيه لاغراضها.
وكما الحال مع كل تاريخ العراق بدوراته الثلاث، تظل الرؤية الأحادية هي الغالبة والمعتمدة في النظر الى، وتفسير الظواهر التاريخيه هنا. الامر الذي يزيد من تحفير أسباب استكمال البنية الازدواجية الرافدينية، بسد النقص التاريخي، لاعلى مستوى ارض الرافدين لوحدها، بل على صعيد الظاهرة المجتمعية على مستوى المعمور، فالظاهرة المجتمعية بدات في سومر ناطقة لسانا، ومعها المجتمعات كلها، لتصبح عند اخرها، ومنتهى دورتها الثالثة التاريخيه " ناطقة عقلا"، فتصيرسائرة الى الانتهاء، والزوال من على وجه الكوكب الأرضي.
بهذا يكون حضور الغرب، وظاهرته الحداثية، وثورته الالية الصناعية، ونموذجه، وجملة مفاهيمه، قمة مؤقته استدعتها الضرورة التحولية لاجل ادخال مجتمع الازدواج زمن وعيه بازدواجه، الامر الذي ظل ينقص الظاهرة المجتمعية، ويحول دون بدء انتقالها لمابعدها على مستوى المعمورة وعلى مدى ماعرفته من تاريخ، ولايمكن لاشتراط كهذا ان يكون واردا عند بداية عمليه وجدت لكي تفضي بعد اصطراع ضروري تاريخي استمر ل 82 عاما، لحصيلة متجاوزه لعناصرها التي تتكون منها كمادة اصطراع، أي ان "فهد" يوسف سلمان يوسف والجادرجي ماكانا باية حال ولسوء حظهما، ليحتلا سوى موقع " المادة"،او العنصر الاصطراعي، او وجزء منه، بصفته موجودا من جملة عناصرمتناقضه، لغرض التجاوز والعبور، وبصفتهما ملحقا بظاهرة أحادية في اعلى صيغها، وجدت بحالة صدام مع محيط وموقع ازدواجي، صار بسببها ماخوذا بمهمه الانتساب لذاته المطموسه، المتعذرة على الإحاطة تاريخيا الى الساعة.
هنالك (وطن/ كونية) ازدواج، مضمره، متعذره، ظلت تنتظر التحقق على مدى مئات السنين، استغرقت دورتين تاريخيتين وانقطاعين، وجدت في الدورة الثالثة بإزاء، وفي اصطراع مع "وطنية" أحادية بلغت اقصى واعلى ممكناتها، وعمت الكرة الأرضية متغلبه، ماقد انتج سيناريو تحقق نهائي لما بعد "وطنية"، من البديهي ان يبدا كمرحلة أولى بغلبة التوهمات "الوطنية" الأحادية، كما الامر في غالبية بقاع المعمورة، بالاخص غير الازدواجية من بلدانها، الامر الذي اكتسب في الحالة الازدواجية الرافدينيه، صيغة وحال الاصطراع المفضي ل "مابعد غرب"، بدل تكريس نموذج الغرب بطلب اللحاق به، وترسم ماانجزه.
هكذا تنفصل "الوطنية الحزبيه الايديلوجه" الثلاثينيه العراقية، تماما عن ارضها، وما تتصور أنها معنية به ومقتنعه بتمثيله، في عراق ينتهي تاريخه الحديث باستحالة المشروع الغربي و"دولته"، التي يعمد الغرب في نهاية المطاف عام 2003 الى تدميرها وسحقها بيديه، بعد عقود من صراع استحالة الإمبراطورية الازدواجية المقابل لاستحالة الدولة الغربيه، لحين دخول العراق زمن "مابعد الازدواج"، وبضمنه "مابعد غرب"، ذهابا الى مابعد مجتمعية، مؤسسة على اشتراطات، منها تجاوز الغرب نفسه لحداثته الأولى، ولاليات انقسامه "الطبقي" مع ظهور الالة، وغلبه عنصر المنتجيه اللامجتمعي / التكنولوجي، ودخول العالم والمجتمعات زمن تازم "العيش على حافة الفناء" كمحصلة ونهاية، تولدت عن الثورة الاليه البرجوازيه واحتداماتها الانتاجويه التدميرية للاسس المجتمعية، بمقابل تجدد حالة العيش على حافة الفناء عراقيا، وشمولها العراق كله، شمالة وجنوبه، بعد ان ظلت تتركز في الماضي في ارض السواد، دون ارض الجزيرة الجزء الأعلى من ارض الرافدين، مايجعل عملية الانتقال الكبرى مابعد التاريخيه، قيد التحقق مع تحولها الى واقع واشتراط وجودي حياتي على مستوى المعمورة إضافة لتحقق العنصر الانتقالي المادي/ التكنولوجي.
ومن هنا وضمن مثل هذه الاشتراطات تولد اليوم ثورة 1 تشرين 2019 ومجددا في ارض سومر، باعتبارها عملية انقلاب شامل، لاعلى مستوى العراق بذاته، بل على مستوى المعمورة، بوضعها الإشارة الأولى باتحاه زمن مابعد "انسايوان"، ومابعد "مجتمعيه"، حين يصير الغرب ونموذجه الحديث من الماضي باعتباره اخر تجليات الأحادية التي كانت سائدة خلال زمن "الغيبة"، وامتناع التحقق التحولي "المنتظر".