-فك الارتباط- المعكوس و -نهاية التخلف-


نايف سلوم
2020 / 8 / 18 - 21:16     

إذا استأنسنا برأي لسمير أمين مع إجراء بعض التحويرات في العبارة، أمكننا القول أنه لا يمكن الفصل بين الدول الغنية والدول الفقيرة على مستوى التحليل الاقتصادي، بحيث لا يمكننا بكل الأحوال أن نضع البورجوازية الإمبريالية كنقيض أساس للبورجوازيات الطرفية. وهذا يصحّ على المرحلة الإمبريالية بوجه عام وعلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص. بالتالي ليس التخلف صفة جوهرية عنصرية للبلدان الرأسمالية الطرفية، بل التخلّف هو الوجه الآخر لنمو البلدان الرأسمالية الغنية التي تعتمد في جانب من غناها على الاستغلال المكثّف للبلدان الطرفية، ما يجعل تلك البلدان "متخلفة" بهذا المعنى. إن التخلف هو صورة العلاقة الإمبريالية كعلاقة استغلال وتحكم.
يعتمد قيام البديل التنموي للبلدان المتخلفة حسب سمير أمين على مفهوم "فك الارتباط"، أو التنمية "المستقلة"، بحيث يدعو كل بلد إلى فصل نفسه عن الاقتصاد العالمي، وإلى أن تخضع العلاقات العالمية إلى أولويات التنمية المحلية لخلق " تنمية معتمدة على الذات". هذا لا يعني بالضرورة رفض الاتصال الخارجي، ولكنه يشير الى السياسات المحلية العازلة لتأثيرات القوة الاقتصادية الإمبريالية (والتي تتطلب بالضرورة الاكتفاء الذاتي كسياسات اقتصادية محلية فاعلة). ويهتم هذا البديل بإدراج "قانون للقيمة" وطني يكون "عقلانياً" وذا "قيمة شعبية" أو ذا توجيه شعبي لقانون القيمة في الوقت ذاته، وهذا يفترض طبيعة محددة للطبقات الحاكمة وسياسات حكومية ذات توجه شعبي أساساً. بمعنى آخر، ينطوي هذا البديل على خلق اقتصاد وطني ذي قواعد مختلفة عن قواعد الاقتصاد العالمي الرأسمالي. في هذه الحالة، يجب تحديد الأولويات الاقتصادية المحلية دون الخضوع إلى المطالب الرأسمالية العالمية. بقول آخر: إخضاع المطالب الرأسمالية الإمبريالية لمتطلبات السياسات الاقتصادية الشعبية، ما يفترض إعادة توجيه استراتيجية لهذه السياسات ومواجهة مع الإمبريالية.
وبناء على هذا الفهم وهذا التحوير لفكرة سمير أمين، وعلى شيء من النقد لفكرته بخصوص فهم التخلف، تلك الفكرة التي تهمّش دور البنية الطبقية للبلد المتخلف ودور طبيعة الطبقة الحاكمة، لصالح فهم تجاري قائم على التبادل غير المتكافئ (الاستغلال التجاري)، نلاحظ أن التخلف ليس سوى صور للعلاقة الإمبريالية؛ علاقة السيطرة والاستغلال بين المراكز الميتروبولية الإمبريالية والأطراف الرأسمالية المتخلفة. هذه الصورة مجسدة بسيطرة طبقات حاكمة بعينها على العملية الاقتصادية-السياسية، حيث تشكل هذه السيطرة ذراعاً ضاربة للإمبريالية في هذه البلدان، بل تسعتين أحياناً بها لمهاجمة دول مجاورة "مارقة" بالتصنيف الأمريكي. كاعتماد الولايات المتحدة على الدول المجاورة لفنزويلا وبوليفيا بهدف زعزعة الاستقرار في هذين البلدين المناهضين للسياسة الأمريكية. ودور السعودية في مهاجمة إيران، ودور تركيا في ليبيا وسوريا.
لكن الأمر الطريف والملفت أن يقوم الرئيس الأمريكي الشعبويّ، والزعيم لبلد يقود المعسكر الإمبريالي، بالأخذ بفكرة سمير أمين عن "فك الارتباط"، لكن من موقع معكوس! فقد حذّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخراً من أنّ «الانفصال الكامل» بين الاقتصادين، الأميركي والصيني، يبقى خياراً سياسياً محتملاً لإدارته. وقال على موقع "تويتر" –حسب جريدة الأخبار اللبنانية - إنّ الولايات المتحدة الأمريكية تحتفظ بالتأكيد بخيار سياسي، في ظروف شتى، بانفصال كامل عن الصين. وأضاف أنّ موقفه هذا، هو ردّ على تصريحات الممثل التجاري في إدارته روبرت لايتهايزر، الذي كان على رأس مفاوضات واشنطن مع بكين، خلال الحرب التجارية. وقال لايتهايزر، الأربعاء أمام لجنة في الكونغرس، إنّ الصين حتى الآن ملتزمة بشروط اتفاق مرحلي خفّف من حدّة الخلاف بين البلدين، وإنّ الانفصال الكامل بين الاقتصادين العملاقين مستحيل في الوقت الراهن. كذلك، أضاف: "هذا كان خياراً لسياسة قبل سنوات، لكني لا أظن أنه سياسة أو خيار سياسي منطقي في هذه المرحلة."
من الملفت أن الخيار الذي يريد ترامب اعتماده هو خيار سياسي تماماً كالخيار الذي تريده طبقة حاكمة في بلد متخلف مناهضة للسياسة الإمبريالية اعتماده. إذ أن هذا الخيار ليس اقتصادياً ولا يعتمد على المباراة والتنافس الاقتصادي، بل هو إرادة سياسية لطبقة اجتماعية حاكمة.
إن المخاوف الأمريكية من الصعود الاقتصادي الصيني تذكّر بما كان لينين يردده في أوائل العشرينيات من القرن العشرين، من أن حكم الاشتراكية-الديمقراطية أو ما سماها لينين "رأسمالية الدولة الاشتراكية" سوف تتفوق اقتصادياً على رأسمالية الدولة الإمبريالية.
هذا الانعكاس التاريخي للأدوار يؤكد وجهة نظر لينين بخصوص الدور الاقتصادي لرأسمالية الدولة الاشتراكية في فترة الانتقال نحو الاشتراكية كنظام عالمي. (وكأن نهاية التخلف في فك ارتباط الاقتصاد الأميركي عن الاقتصاد الصيني الصاعد). لأنه وكما كان نيتشه يتصور بداية الدراما بناء على محاولاته في فهم أفول الدراما، فإن التفكير الأمريكي الإمبريالي "بفك الارتباط" مع الاقتصاد الصيني الصاعد، يعطينا فكرة واضحة عن الدور الذي كان يلعبه الارتباط و"التبادل غير المتكافئ" بين الدول الإمبريالية والأطراف المتخلفة، والذي تلعب فيه الطبقة الحاكمة في البلد المتخلف دور الكومبرادور –السمسار لترحيل خيرات هذه البلدان نحو المراكز الميتروبولية الامبريالية، ولتأخذ الطبقة – الكومبرادور حصتها من السمسرة على اقتصاد بلد بكامله. لكن هذا الانقلاب التاريخي في الأدوار سوف يوفّر فرصة تاريخية لأنظمة "طرفية" محكومة من قبل بورجوازية محلية بينها وبين الإمبريالية الأمريكية تمايزات ونزاعات، كي تزدهر وتلعب دوراً معارضاً بصورة أكبر تجاه السياسات الإمبريالية. سوف يوفر هذا الانعكاس في الأدوار والصعود العالمي للصين كقوة اقتصادية، فرصة للبازار الإيراني كطبقة بورجوازية حاكمة في إيران ليقوم بنشاط متقدم في مواجهة السياسات العدوانية للولايات المتحدة. وهذا يطرح تساؤلاً من الجهة الأخرى حول قدرة الطبقة الحاكمة اللبنانية كبورجوازية كولونيالية –كومبرادور في استقبال الاستثمار الصيني بإيجابية وما هي قدرة حزب الله في التأثير لتسهيل هكذا استثمارات منتجة وفعالة لإعادة توجيه كاملة للاقتصاد اللبناني الذي صمم ك"محل صرافة" للغرب الإمبريالي، وكسياحة صيفية لدول الخليج النفطية الغنية.