اصل الدين ح 2


عباس علي العلي
2020 / 8 / 18 - 16:00     

هذا التقرير ليس تقريرا تفضيليا للدين الإسلامي على بقية الديانات الإبراهمية، بل نعتقد بأن ما وصل لنا من خلاصات الأديان تثبت حقيقتين وهما:
1. إن أصل الأديان الإبراهيمية كمبادئ وأفكار وأساسيات إيمانية كلها تتفرع من شريعة موسى وما دون في الألواح من حنفية إبراهيم وما تناقله الأنبياء بعد إبراهيم أبيهم، وهو نقل عن الأنبياء الذين سبقوه وخاصة في الفترة المحصورة بينه وبين نوح، أي أن شريعة موسى هي خلاصة لدين التوحيد العراقي ومبادئه الأخلاقية والعبادية.
2. لا يمكن الفصل بين الأديان الإبراهيمية وأعتبارها أديان منزلة بخصوصيات خاصة، فكلها تعود في الجذور إلى فكرة واحدة مما يصعب تصنيفها على أنها أديان مختلفة، أما المتناقضات التي تظهر بينها فهي تماما مثل ما حدث داخل الدين الواحد نتيجة الصراعات الفكرية والسياسية أو التأثير القومي للداخلين في الدين أو الطائفة أو المذهب محملين بثقافات مغايرة أو توجهات قصدية للتحريف والتخريب.
هذه الحقائق تقودنا للأستنتاج التالي والذي لا يمكن تجاهله مع ما تقدم وهو (أن الأديان الإبراهيمية الثلاث تشكل بمجملها وحدة موضوعية واحدة، مصدرها الإرث التاريخي الديني وإن صيغت أو تأطرت بمظاهر خارج جوهرها الأساس، نتيجة الحاجة لها مكتوبة ومدونة على النحو الذي وصلنا كصور ومفاهيم، مما يعني أن الغالب منها ثقافة حضارية متواترة تناقلت بين الأمم والحضارات نتيجة التلاقح والتقارب والجغرافية بعطائها التاريخي، وأن قضية الوحي والإرسال كانت تعبيرا عن صورة تقريبية إريد من خلالها إفهام الناس أن تلك القواعد والقيم مصدرها واحد ومنشأها واحد، والغرض الأساسي إقناع الناس بترك الديانات متعددة الآلهة والتوجه نحو مركزية أساسية تسهل بالتالي توحيد المجتمع على أس جمعي ضامن لأستمرارية الدين).
هذه الخلاصة الموضوعية تجد أساسها ومبررها في المشتركات الكبرى بين الدين الإبراهيمي وبين الإرث الحضاري في المنطقة، وهذا لا يعني أن كل ما وصلنا منه بالتأكيد خاص بالإرث الحضاري التاريخي لمنطقة العراق لجغرافية التاريخية والتي يحددها علماء الديانات والتاريخ الديني بالمنطقة المحصورة (منطقة تشمل العراق الحديث وجنوب شرق تركيا وشمال شرق سوريا) والتي كانت تحكم المنطقة لمدة 4200 سنة، منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد في جميع أنحاء بلاد ما بين النهرين وحتى القرن العاشر تقريباً بعد الميلاد، فقد تأثرت كثير أيضا بأفكار وثقافات وحضارات شعوب أخرى في نواحي التجسيد الطقوسي أو الرموز الدينية، ففي المسيحية مثلا (جاء في كتاب تاريخ الهند المجلد الثاني ص 329 (كرشنا هو المخلص والفادي والمعزى والراعي الصالح وابن الله الاقنوم الثاني من الثالوث المقدس وهو الاب والابن وروح القدس، وقد مجدت الملائكة السيدة ديفاكي والدة المخلص كرشنة ابن الله وقالو: يحق للكون ان يفخر بابن هذه الطاهرة .
الدين الإسلامي مع أننا أفترضنا من خلال الحديث أن كان الأكثر تنظيما وأنضباطا في وصف الأحداث والوقائع والسير، لكنه في الجانب الأخر العبادي نراه أكثر قربا وأشد ألتصاقا بمصدرين أساسيين يمكن رد ما سن من طقوس وأليات التدين لهما، وهما الدين اليهودي وتفاصيله من لصوم والصلاة والحج إلى الهيكل والختان والأخلاقيات الدينية في العبادة والكثير من التفاصيل الدقيقة، وأيضا أثر من جهة أخرى بالزرادشتية الفارسية وخاصة في تفاصيل الصلاة وأوقاتها والطهارة والوضوء وربما أشياء أكثر يمكن للباحث الجاد أن يجدها في التفاصيل المقارنة ، كما تأثرت مثلا اليهودية بالديانة الصابئية العراقية القديمة التي كان يعتقد أنها الصورة الأكثر قربا لملة إبراهيم في التعبير الطقوسي عنها .
هذا التقارب والتطابق أحيانا بين ما يعرف بالديانات الإبراهيمية والديانات الأخرى ومنها الصابئة والزرادشتية مع أعتراف الإسلام بها كديانات من الله ، تؤكد حقيقة واحدة وهي أن الدين الذي بين أيدينا كمسلمين أو مسيحين أو يهود ما هو إلا إرث متسلسل ومتصل وليس بحلقات منفردة، وهو ما يعزز بحثنا في أن جميع الأنبياء والرسل الذين ذكرتهم الكتب الدينية، ما هم إلا قراء ومطورين ومنظمين للجزء الذي وصلهم ممن هم قبلهم دون أن ينكروهم أو يتغافلوا عن وجودهم، وأعادوا صياغة المفردات وفقا للحاجات وللقيم السائدة، وليس تأكيدا أنهم تلقوا الوحي من الله بواسطة ملك أو رسول، وهذا يعيدنا للتساؤل مرة أخرى، ما هي حقيقة الدين الأول؟ ومن صاحبه؟ ومن دعا له أولا من خلال الله أو عبر وسيط؟.
الجواب على هذا السؤال ووفقا لقاعدة التسلسل التاريخي في قضية الأنبياء أن الدين الأول ينتهي عند آدم، فهو الذي كان على أتصال مباشر مع الله يخاطبه ويتخاطب معه بالمباشر حسب ما ورد في النصوص الدينية، هناك من يقول طالما أنك تنفي الوحي وتنفي أن يكون الدين قد نزل عن طريق الوحي كيف لك أن تستشهد بنصوص أنت تنفيها أصلا، والحقيقة أولا أن بحثي هذا وإن كانت أغلب مصادره من الدين المرسل وأستشهد بما يؤمنون لأنني أتحدث أصلا لهم للمؤمن والمتدين الذي يؤمن بها، وعلى قاعدة (ألزموهم بما ألزموا انفسهم به) فأنا أحاججهم وفقا لذلك، أما الملحد والكافر فهم غير معنيين أصلا بالحجج التي أسوقها، المهم أن التسلسل في معرفة أصل الدين وحسب النص الديني هو عين الدين الذي أمن به آدم ثم تابعه الرسل على ذات المنهج، فالدين عند الله الإسلام الذي يعني التسليم لإرادة الله وطاعته أولا وأخيرا .
النصوص الدينية التي تصرح عن معنى الدين تصفه أحيانا بتعبير (الكلمة) أو (كلمة الله) وهو يشير بذلك إلى مصدرية الدين بأعتبار الكلمة تفصح عن إرادة وإرادة الله هي عين أمره ونهيه (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)التوبة (40)، وهذ النص هو نضير آية أخرى وردت في القرأن في سورة الكافرون (لكم دينكم ولي دين) بمعنى أن دين الكافرون ليس هو دين الله وكلمة الكافرون ليست كلمة الله، وهنا نشير إلى ذات المعنى في قصة آدم حيث تلقى من ربه كلمات فتاب عليه (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) البقرة: 37، فهذه الكلمات هي التي عقد بموجبها الله النبوة والرسالة لآدم إلى يوم الدين .
كلمات الرب هي التي رافقت الدين كما رافقت الأنبياء سواء من خلال الوحي أو من خلال قضايا تتعلق بالدين، فمثلا لو تأملنا النص التالي نرى قيمة الكلمة التي تعبر عن معنى الدين (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)الأنعام (115)، الإشارة هنا في الكلمة تعود إلى الأمر الذي لا تبديل ولا تعديل فيه وهي سنة الله ومنهجه مع الخلق والتي تعبر حقيقة كما قال النص على دين الأولين في إشارة إلى أقدم الكلمات الموثقة في النص الديني وهي الكلمات التي علمها إلى آدم من قبل (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)فاطر (43).
الملخص كله من هذا التسلسل التاريخي يعود بنتيجة واحدة لا مفر منها وهي أن الدين الأول الذي يمكن الركون إليه ومنه أستمد كل الأنبياء رسالاتهم وأفكارهم هو دين آدم الذي تلقاه مباشرة من ربه، قد لا يكون بالوحي لأن لا دليل أن الله أرسل وحيا إلى آدم في كل النصوص، وإنما جاءت الصياغة بقال مخاطبا مثلا آدم والملائكة مرة وآدم وزوجه في موضع أخر ، هذا الحديث المباشر بين الله وملائكته وإبليس وآدم كان كما يبدو من صياغة النص حوارية لا وسيط فيها لا من الملائكة ولا من جبرائيل ولا عن طريق طرف ثالث لكون النص يخاطب الجميع والجميع أجاب وفهم وشارك في الحديث ، وهذا الحال نجده أيضا في كتب بني إسرائيل بتطابق في صورة الحوارية المباشرة بين الله وآدم وزوجه .
الخلاصة والختام الذي نستشفه من هذه السلسلة من الأفكار أن دين آدم هو الدين الأصلي (الأمة الواحدة) بعد أن غفر الله له ونزل الأرض لتنفيذ مشيئة الله، وأن ما أنقطع يوما في الأرض ولو تخلو منه أبدا وإنما تنقل عبر سلسلة من الرجال المؤمنون بها سواء أكان ذلك كان تلقيا مباشرا من السلسلة أو كان محفوظا ومدونا (فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)، وهكذا نجد أن مفهوم الحفظ الذي أشارت له آيات عدم التبديل والتغيير تكشف لنا قيمة ما حفظ وأنتقل من نبي إلى نبي حتى تم تدوينه بكتب وألواح أنتهاء بكتاب القرآن (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ )، الذي جمع كل ما خلفه وتوارثه الأنبياء بينهم ليقدم لنا نموذجا متكاملا عن دين آدم كما تلقاه من ربه (فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، أضيف له لاحقا حوادث وقصص تاريخية متعلقة بعلاقة الأنبياء وأقوامهم أو حتى أحداث تاريخية تشرح للمؤمن قيمة الحفاظ على هذه المواريث التي تناقلت عبر السلسلة المصطفاة والمجتباة .
فالكلمة التي تحدثنا عنها كانت الميثاق الأول بين الله وآدم تم بموجبها إرساء مفهوم الدين وتأسيسه، لذلك نجد النص الديني يتحدث دوما على أحترام هذا الميثاق وتقديسه (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) المائدة (7)، فتكون الكلمة والميثاق والسنة الأولى وحديث الله كلها تشكل في المضمون أصل الدين وأصوله، وهي تتعلق بآدم ومن ثم بعده الذرية التي أخذ عليها كل ذلك وهي لم تخلق بعد تعبيرا عن أرتباط آدم أبو الإنسان به وألتزامه به (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) الأعراف (172).