من مفكرة سجين بحريني عن غزو الكويت ( 2 )


رضي السماك
2020 / 8 / 16 - 20:09     

* العشرة أيام الأولى من الاحتلال :
خلال الأيام العشرة الأولى من احتلال الجيش العراقي للكويت ، و مع توالي نشرات الأخبار الشحيحة والمقتضبة التي كان يقرأها علينا "راصدنا الأخباري " الرفيق أحمد الذكير من وريقة حصاد ما أمكنه تدوينه من جهاز الراديو "الترانزستور" المتناهي الصغر ؛ أستفقتُ شيئاً فشئ من صدمة خبر الغزو المهول الذي اجتاحتني وزلزل كياني ما أن سمعته ورفاقي في المرة الأولى ( اليوم الثاني للغزو ) ؛ فبعيد استماعنا لنشرة اليوم التالي ( الثالث من أيام الغزو ) دخلتُ مجدداً في دوامة من التفكير العميق ، وفقدت السيطرة على شرودي الذهني أينما كُنت ؛ وأستبد بي القلق الشديد حول المستقبل المظلم البالغ الخطورة الذي ينتظر المنطقة جراء مغامرة صدام ، وبخاصة بعدما أيقنت بأنه فعلها حقاً ، ؛ وأن لا مفر من التسليم بها، وإن بدت لي الواقعة واحدة من أغرب مغامرات صدام حسين الخارجية المتهورة حينئذ والتي حتى كبار المحللين السياسيين في العالم لا يتوقعون حدوثها بالشكل المباغت الذي تمت تمت به حتى في الخيال .
وبعد إسبوع تقريباً من الغزو ؛ وتحديداً في التاسع من اغسطس ، وقع أمر غريب أثار فضولنا الممزوج بالدهشة والذهول ؛ فبينما نحن جالسين على عادتنا اليومية - بعد الغزو - نتبادل الآراء والتكهنات حول مستجداته داخل إحدى زنزاناتنا ، ونهفهف بقطع من ورق الكراتين لتجفيف العرق الذي يخرج متدفقاً بغزارة من مسامات أجسادنا بلا توقف ، ( وهذه الحالة المزرية يعاني منها نزلاء سجون البحرين -سياسيون وغير سياسيين - طوال شهور صيف البحرين الستة من مايو حتى نهاية اكتوبر ، وأشدها خلال يوليو وأغسطس وسبتمبر منذ عشرات السنين ) ؛ أقول بينما نحن كذلك فوجئنا بمناداة أحد السجانين على رفيقنا " الراصد الاخباري " الذكير ، لاستدعائه من قِبل إدارة السجن على أن القلق انتابنا أكثر بعد أن طال وقت استدعائه ! وعلى إثر عودته وعلامات الحزن الشديد تظلل وجهه ؛ صدمنا بخبر وفاة المرحوم والده ؛ وبعد مواساته بالعناق ، روى لنا الرفيق كيف قرأ -رغم فجيعته - على وجوه معظم جمهرة المشيعين في المقبرة التي ووري فيها جثمان المرحوم والده الثرى وجوماً غريباً لم يشاهده في حياته قط -على حد تعبيره - على أي جمهرة مشيعين ، وأن هذا الوجوم كما أدركه في الحال إثر تمعنه السريع الخاطف في وجوههم لم يكن حزناً جراء وفاة والده ، سيما وأن أكثرهم لا يمتون صلة بعائلته ، بل كان ذا دلالات لا تخطئها العين تعبّر بقوة عن مشاعر الصدمة التي اجتاحت شعبنا البحريني من هول الحدث المباغت المتمثل في جريمة احتلال الكويت ؛ وإقدام الدكتاتور سريعاً وبلا تردد بشطب كيان دولة وشعب جار شقيق تربطه به أوثق العلاقات على الصعيدين الشعبي والرسمي ، ولن يعرف كنه ومتانة ووشائج هذه العلاقة بين البلدين إلا من أدرك قوة العلاقة بين توأمين .
والحال إذا ما أمعن المرء جيداً بتؤدة لحظة صفائه الذهني : وتذكّر جيداً ما يعرفه عن نمط الشخصية التي يمثلها صدام حسين -كشخصية دكتاتورية سيكوباتية - ستزول عنه في الحال صدمة ذهوله ودهشته من جريمته النكراء المفاجئة التي هزت العالم بأسره ؛ لا المنطقة العربية فحسب ، إذ ليس مستغرباً من قائد دموي مستبد الإقدام على تلك الجريمة النكراء ، سيما وأن له سوابق في ارتكاب سلسلة من الجرائم البشعة الداخلية بحق شعبه في الداخل ؛ بدءاً من زجه عشرات الألوف من خيرة أبناء شعبه الشرفاء وقواه الوطنية والديمقراطية في غياهب المعتقلات ، ناهيك عن قتل الآلاف منهم - تعذيباً أو إصابتهم بعاهات وأمراض مستديمة - جراء ذلك ، ومن ضمنهم المناضلون الوطنيون والمثقفون والعلماء والفنانون والمبدعون ؛ بل ومن بينهم آلاف الأرياء العاديين ، إلى ارتكابه - بدم بارد - مئات المذابح والتصفيات والإبادات الجماعية البشعة والتي كان أكثرها فظاظةً وبشاعةً رش أهالي إحدى مدن بلاده " حلبچة " بالسلاح الكيماوي المحرم دولياً ؛ وتشريد وتهجير ملايين الابرياء بعائلاتهم إلى خارج حدود وطنهم، هذا غير الذين تمكنوا من الفرار بجلودهم الى خارج الحدود سراً واختاروا المنافي في شتات الأرض كاجراءات تحوطية استباقية من الفتك المتوقع بهم من قِبل أحهزته الاستخبارية ، وانتهاءً بمغامرته العسكرية مع ايران بافتعال حرب عبثية معها استمرت ثماني سنوات بالتمام ( 1980 - 1988 ) لتأكل الأخضر واليابس من بشر وزرع وعمران ، محيلة بلك بلاده إلى دمار شامل وركام ؛ وحاصدةً أرواح الملايين من القتلى والمصابين والمفقودين ، ناهيك عما خلفته جريمة هذه المغامرة العسكرية من ملايين الأيتام والامهات الثكالى ، وازدياد بؤس العراقيين بؤساً ، وارتفاع نسبة العاطلين منهم بعد سنوات طويلة من الحرب العجاف التي استنزفت الاقتصاد العراقي شر استنزاف . وبالتالي لا غرابة إذن إذا ما داعبت مخيلته المريضة بجنون العظمة - بعد خروجه من تلك الحرب مهزوما ذليلاً - لتراوده أحلام الرغبة المحمومة مجدداً بالبحث عن مغامرة اخرى تعوضه عن فشل مغامرته العسكرية مع إيران بعد عامين فقط من انتهائها والتي كان يحلم من خلالها الظهور بمظهر بطل الاُمة العربية القومي الذي لا ينازعه قائد عربي آخر ويشق له غبار على امتداد العالم العربي بطوله وعرضه . وبالتالي فمن البدهي أن من يحتقر شعبه ويتجرد من مشاعر الأحساس بالمسؤولية الوطنية العليا عن أمن وسلامة شعبه ورفاهه حاضراً ومستقبلا ؛ ألا يتورع البتة عن ارتكاب مغامرة حرب طائشة جديدة بحق شعب ووطن عربي مجاور لوطنه ، ومن ثم يقوم بمسح خريطته السياسية لتصبح في لمح البصر أثراً بعد عين على خريطة العالم بكل بساطة إرضاءً لنزواته ، ضارباً بذلك المبادئ والقوانين الدولية بعرض الحائط ؛ ومنها حسن الجوار بين الدول ، واحترام سياداتها واستقلالها ، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ؛ فما بالك وأنه قام فوق كل ذلك باغتصاب مجمل مساحة أراضيها بالقوة العسكرية الباطشة ، معلناً ضمها إلى بلاده على خلاف إرادة الشعبين الكويتي والعراقي .
ولقد بلغ بدكتاتور العراق حداً من الاستخفاف بالحقوق الثابتة لجارة بلاده الكويت ؛ الدولة المستقلة ذات السيادة ، أن أعلنها جمهورية ونصّب الضابط الكويتي العقيد علاء حسين رئيساً عليها ، لكن سرعان ما عاد وأعلن بعد بضعة أيام إلحاقها بالعراق وتصنيفها كمحافظة من محافظات العراق ( المحافظة التاسعة عشر ) ليزداد سخط العالم العربي والعالم بأسره عليه وعلى نظامه .
وبهذا فقد كان واضحاً لنا خلال العشرة الأيام الأولى من الحرب في ضوء ما تلقيناه من أخبار شحيحة من مراسلنا أو " الراصد الأخباري " الرفيق الذكير انقسام العالم العربي إلى محورين رئيسيين من أزمة الاحتلال الصدامي للكويت : قسم مؤيد - يخفي تعاطفه العلني - مع مغامرة صدام محاولاً تبريرها أوالمراوغة دون إدانة نظام صدام ومطالبته الصريحة القوية بالانسحاب الفوري -بلا قيد أو شرط - عن كامل الأراضي الكويتية ، وأبرز ممثلي هذا المحور كل من : الاردن ، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، واليمن بقيادة رئيسها الراحل علي صالح ، وقسم معارض بشدة للمغامرة ومن أبرز ممثليه دول مجلس التعاون وعلى رأسها السعودية ، ومصر وسوريا والمغرب وقيادة الحزب الاشتراكي الحاكم في اليمن الجنوبي السابق قبل اندماجه مع اليمن الشمالي ، ودول عربية اخرى . وقد انعكست هذه المواقف على الملاسنات والمصادمات الكلامية الحادة التي تفجرت القمة العربية في القاهرة بعد أيام قليلة من الغزو . أما على على المستوى الدولي فكانت الولايات المتحدة في مقدمة المنددين بالنظام العراقي بشدة والمهددين بطرد قواته المحتلة بالقوة مالم تنسحب فوراً بلا شروط . على أن الانقسامات على الساحة الدولية - وبخاصة بين القوى الكبرى - حول الأزمة بدت لنا أقل حدةً من الساحة العربية ؛ لاسيما في ضوء تضعضغ قوة الاتحاد السوفييتي حينذاك على الساحة الدولية عشية انهياره ، وهو كما نعلم القطب الثاني في النظام العالمي الثنائي القطبية الذي انتهى بذلك الانهيار التراجيدي للاتحاد السوفييتي في العام التالي من الغزو عام 1991 .
وما عدا ذلك ؛ فيمكنني الاستنتاج ؛ بناء على تحليلي الخاص للتقارير الأخبارية الشحيحة التي كنا نستمع إليها من راصدنا الإعلامي والتي كان يستقيها بدوره يومياً من " بي بي سي " ، أنه بانقضاء العشرة أيام الأولى على الغزو في الثاني من اغسطس / آب 1990 حتى عشية حرب التحالف الدولي على قوات صدام في الكويت ، أواسط يناير / كانون الثاني 1991 ، كانت المواقف الدولية -على تناقضاتها وتبايناتها بحدة- قد حُسمت تجاه سلطة الاحتلال ؛ سواء بالتأييد لها ولقائدها الدكتاتور صدام حسين ، أو بمعارضتها ، أو " بين بين " ، وظلت هذه المواقف - كما هي تقريباً - تراوح مكانها حتى عشية شن التحالف الدولي حربه على قوات الاحتلال في أواسط يناير / كانون الأول من عام 1991 . ولعله من المناسب في الحلقة القادمة التذكير بأهم المواقف العربية والدولية والقرارات الصادرة عن الامم المتحدة ، كما دونتها يوماً بيوم من داخل السجن ، منذ بداية اجتياح القوات العراقية الأراضي الكويتية في أوائل أغسطس / آب 1990 ؛ حتى نهاية حملة التحالف الدولي العسكرية على تلك القوات وطردها من الكويت في أواخر فبراير / شباط 1991 ، والتي أعقبها بعد مضي ثلاثة أسابيع قرار السلطات البحرينية بالإفراج عنا جميعاً .