حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسألة الكردية في سورية (2)


عبدالله تركماني
2020 / 8 / 15 - 14:44     

2 - مفهوم " حق الشعوب في تقرير مصيرها " على صعيدي الممارسة السياسية والقانون الدولي
تنطلق الدراسة من المعنى الاصطلاحي للأمة الذي يفيد بأنها " جماعة من الناس يعيشون على أرض متصلة ينطقون بلسان واحد، يرغبون في العيش معًا لتحقيق الاستقلال والمصالح المشتركة ". ومن المفيد أن نلاحظ أنّ حقوق الأقليات القومية قد شكلت جانبًا هامًا من الجهود، التي بُذلت، منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى. حيث ساد الاعتقاد أنّ من حق كل أمة أن تكون لها دولة قومية واحدة مركزية، وأنّ كل دولة غير متجانسة قوميًا لابدَّ من أن تقر بحق كل قومية في الاستقلال الذاتي على الأقل.
وبقدر ما كانت تنمو في أوروبا صيغة الأمة - الدولة، ازداد اللجوء إلى الأقلية القومية. مما جعل مشكلة الأقليات القومية أحد أهم المشاكل التي طُرحت على العالم، خاصة بعد الحروب البلقانية (1911-1913) والحرب العالمية الأولى (1914 –1918).
على كل حال، فإنّ الشعوب الصغيرة التي كان حقها في السيادة وتقرير المصير مكفولًا، من الناحية النظرية، لم يكن من الناحية العملية مسموحًا لها، من قبل جيرانها الأكبر منها، بممارسة أي من هذه الحقوق. ففي الواقع، لم يشمل مبدأ الأمة والدولة القومية كل الأمم، صغيرها وكبيرها، وإنما كان ينطبق على بعض الأمم الكبيرة فقط.
إنّ الأهمية المتنامية للمسألة القومية قبيل الحرب العالمية الأولى لم تكن داخل الإمبراطوريتين النمساوية - المجرية والعثمانية فقط، بل " أصبحت قضية مهمة في السياسة الداخلية لأغلبية الدول الأوروبية. ففي المملكة البريطانية المتحدة لم تعد المسألة محصورة بالمشكلة الأيرلندية فقط، بل تفجّرت المصالح القومية الويلزية والاسكتلندية. وفي إسبانيا، طرحت النزعتان القوميتان الكاتالونية والباسكية نفسهما بقوة " (1).
لقد وصلت المسألة القومية إلى الذروة في مرحلة ما بين الحربين، فما كان ممكنا لمبدأ القوميات الأوروبي، الذي قامت عليه الدول - الأمم الجديدة، المتمخضة عن مساومات معاهدة فرساي في عام 1919، إلا أن يخلق مشكلة جديدة في العلاقات الدولية هي مشكلة " الأقليات القومية ". فحيثما طُبّق هذا المبدأ في المناطق المركّبة، إثنيًا ولغويًا ودينيًا، التي كانت تخضع للإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية - المجرية، مثل المناطق البلقانية والدانوبية في أوروبا والمناطق الآسيوية العربية والتركية، كانت الأمم والثقافات والهويات القومية ممتزجة ومتداخلة، بحيث يستحيل وضع خط للتقسيم فيما بينها، فالحدود السياسية لم تطابق الحدود القومية قط.
وهكذا، ما كان ممكنا لنموذج الدولة - الأمة، حيثما طُبّق في هذه المناطق، إلا أن يحوّل ملايين السكان إلى أقليات قومية، يجري تبادلها أو إرغامها على الاندماج أو محاولة إبادتها ثقافيًا وعرقيًا.
إنّ معظم الدول- الأمم الراهنة يتألف من شعب سائد وبقايا شعوب أُخضعَت وحُلّت ثقافتها في الدولة الجديدة. فـ " الفرق بين الدولة - الأمة الحديثة والدولة - الإمبراطورية القديمة ليس في حقيقة الأمر فرقًا جوهريًا فيما يتعلق بقوانين النشوء والتطور والانحلال، ولكنه قائم في إنكار الدول القومية، التي نشأت على إثر تفكك الإمبراطوريات الكونية السابقة، لطابع التعدد الأقوامي، وإكراهها الشعوب الصغيرة المُخضَعة والأقليات إلى التخلّي عن هويتها وتميّزها " (2).
في هذا السياق يمكن أن نشير إلى النقاط الأربع عشرة للرئيس الأميركي ويلسون، في 11 شباط/فبرير 1918، التي كانت موضوعًا رئيسيًا على جدول أعمال مؤتمر فرساي حيث قال " ينبغي أن يوضع حد لمقايضة الشعوب والأقاليم فيما بين الحكومات، وكأنها محض مال منقول أو محض قطع قابلة للمبادلة في لعبة، في اللعبة الكبيرة لتوازن القوى، تلك اللعبة التي فقدت اعتبارها من الآن فصاعدًا الى الأبد ". وفي الخطاب نفسه، قال " من الواجب أن تتأكد كل قومية محددة المعالم من أنّ صبواتها ستتحقق بقدر المستطاع، وعلى نحو يستبعد كل علّة جديدة أو قديمة للشقاق والخصام، مما ستترتب عليه في المستقبل أخطار جديدة على سلم أوروبا والعالم " (3). ولكنّ الحليفين البريطاني والفرنسي لم يهتما بها كثيرًا. لأنّ برنامج ويلسون كان يتضارب مع الديبلوماسية السرية لهما (اتفاقيات سايكس- بيكو حول اقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية في المشرق العربي).
لقد ساد الاعتقاد أنّ من حق كل أمة أن تكون لها دولة قومية واحدة مركزية، وأنّ كل دولة غير متجانسة قوميًا لابدَّ من أن تقرَّ بحق كل قومية في الاستقلال الذاتي على الأقل. وكان من نتائج انتشار هذا المبدأ أن عملت الأسر الحاكمة في الإمبراطوريات الأوروبية، التي تضم قوميات مختلفة، على تسييد قومية منها. ومن أمثلة ذلك، محاولة آل هبسبورغ فرض الطابع الألماني على مملكة كانت نواتها الأولى تاريخيًا مملكة بوهيميا ودوقية النمسا ثم المجر وأجزاء من إيطاليا والبلقان وبولونيا، تحت اسم " الإمبراطورية النمساوية – المجرية ". كما توهم العسكريون الأتراك أنّ إنقاذ " الرجل المريض " يكون بفرض الطابع التركي الكامل على الدولة العثمانية كلها.
على كل حال، فإنّ الشعوب الصغيرة التي كان حقها في السيادة وتقرير المصير مكفولًا، طبقًا لمبادئ ويلسون، لم يكن - من الناحية العملية - مسموحًا لها، من قبل جيرانها أو مستعمريها الأكبر والأقوى منها، بممارسة هذا الحق.
إنّ مساومات فرساي، عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، قد رسمت الحدود السياسية الجديدة في ضوء تقارير الخبراء عن المطابقة ما بين العرق واللغة، على أساس يجعل 3% فقط من مجموع سكان القارة الأوروبية خاضعين إلى حكم أجنبي. غير أنّ ما حدث، في الواقع، كان أفظع بكثير من هذا الرسم لحدود البشر على خرائط مؤتمر فرساي ومساراته. فبالرغم من أنّ بنود حماية الأقليات كانت موجودة في معاهدات سلام فرساي، وما جاء بعدها من مواثيق دولية، إلا أنها لم تُحترَم قط أمام هوَس القوميات وعبادة الدولة - الأمة كـ " إله جديد ".
أما لينين فقد بدأ بالدعوة إلى " حرية الضمير والمساواة بين جميع القوميات " في الإمبراطورية الروسية، ثم الدعوة إلى " المساواة التامة بين جميع المواطنين "، إلى " الاعتراف لجميع الأمم التي تتألف منها الإمبراطورية بحقها في تقرير مصيرها ". وصولًا إلى قوله، خلال نقاشه مع روزا لوكسمبوغ " من الواجب التمييز بين الاعتراف بحق تقرير المصير وبين تأييد المطالبة بتقرير المصير، فمن الواجب التمييز بين الحق وبين نتائجه العملية " (4).
أما على صعيد القانون الدولي، فإنَّ عصبة الأمم المتحدة قامت بشطب هذا الحق من مواد العصبة، بل ساعدت الدول المنتصرة على السيطرة على بعض شعوب العالم، وذلك لأنَّ الدول المنتصرة آنذاك كانت هي من تتولى حكم العصبة. وبعد ذلك عُقد مؤتمر دامبرتون أوكس عام 1944، الذي لم ينص صراحة على حق تقرير المصير، إلا أنه لم يُغفل الحق بشكل مطلق، بل ذكر مقترحات كحفظ السلام والأمن الدوليين، وحلّ المشاكل الإنسانية، ودفع العلاقات الودية بين الأمم. ومن ثمَّ عُقد مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945، الذي أدخل تعديلات ضخمة على مقترحات دامبرتون أوكس، وقد صُنّف حق تقرير المصير على أنَّه أحد مبادئ القانون الدوليّ الإلزامي. باعتباره حقًا مضمونًا لكل الشعوب على أساس المساواة بين الناس، لذلك كانت هناك صلة قوية ومباشرة بين مفهوم حق تقرير المصير بكل أشكاله، وبين مفهوم حقوق الإنسان كفرد أو جماعة عرقية أو ثقافية من جهة، والديمقراطية من جهة أخرى. وتتضح أهمية هذا الحق كونه يشكل الإطار العام الذي تندرج ضمنه الحقوق الأخرى، فكيف يمكن المطالبة بحقوق الإنسان الخاصة في إطار شعب فاقد لحقه في تقرير مصيره.
وقد جاء تأكيد ميثاق الأمم المتحدة على هذا الحق في المادة 55 بإعلانها " رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريتين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب بان يكون لكل منها تقرير مصيرها ".
كما أكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق تقرير المصير حيث ورد في المادة 1 للفقرة 1 " لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير ولها استنادًا إلى هذا الحق أن تقرر بحرية كيانها السياسي وأن تواصل بحرية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ".
وفي ميثاق الأمم المتحدة تضمنت الفقرة 2 من المادة الأولى أهداف الأمم المتحدة ومنها " إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام ".
لقد استطاعت حركات التحرر الوطنية اتخاذ الشرعية في نضالها من مبدأ تقرير المصير ضد الاستعمار الأجنبي، بعد أن اكتسب هذا الحق قوته من ميثاق الأمم المتحدة ليصبح أحد أهم المبادئ القانونية الدولية. وبسبب هذا الحق استطاعت شعوب العالم إقامة دول خاصة بها بعد تحررها من الاستعمار.
ولكن قيّد القانون الدولي هذا الحق بعدة قيود، حتى لا يؤدي إلى تفتيت الدول وزعزعة سيادتها، فلو أنّ كل الأقليات في الدول ستقول بأنّ لها لغة وتاريخ مشتركًا كأقلية، وبالتالي تطالب بالانفصال عن الدولة الأم، فإنّ هذا يعني تفتيت الدول. وعليه، يمكن القول إنّ الحق في تقرير المصير محصور في حالتين: أولاهما، حالة الشعوب الخاضعة للاستعمار أو الاحتلال، حيث بموجب هذا الحق يكون لها الحق بالتخلص من الاحتلال الأجنبي أو التمييز العنصري وأن تحكم نفسها بنفسها. وثانيتهما، حالة الأقليات التي تتعرض إلى الاضطهاد أو التمييز العنصري الممنهج من قبل الدولة.
وقد أدى إضفاء الشرعية على مبدأ تقرير المصير الوطني منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى زيادة عدد النزاعات داخل الدول، حيث سعت المجموعات الصغيرة الفرعية إلى نيل حق تقرير المصير والانفصال الكامل، وأصبحت نزاعاتهم مع المجموعات الأخرى والدولة المسيطرة عنيفة.
ورغم ما حاز عليه حق تقرير المصير من قوة، ورغم القرارات الدولية الصادرة بصدد هذا الحق، إلا أنه ظل محط خلاف كبير بين الباحثين والقانونيين في كيفية تنفيذ القرارات ذات الصلة بتقرير المصير، وأشكال تطبيقه في مختلف أنحاء العالم.
لكن من المؤكد أنه يصعب، في وقتنا الحالي، تناول مشاكل تطور المجتمعات والجماعات البشرية على أساس الإشكالية القومية الكلاسيكية فحسب. فليس من الممكن فهم مصائر الأمم والشعوب من خارج الإشكالية العالمية، وتيارات العولمة القوية التي تسندها. ومن المفيد أن نلاحظ أنّ كتّابًا أوروبيين في تسعينيات القرن العشرين، بعد تفكك دول أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، أقروا بضرورة التمييز بين الحركة الأيديولوجية للنزعة القومية والظاهرة الأعرض للهوية القومية، بحيث لا يمكن فهم قوة وجاذبية القومية، كقوة سياسية، دون تأسيس التحليل على منظور أعرض، يكون محوره الهوية القومية، باعتبارها ظاهرة ثقافية جماعية.
ولكن يجب التمييز بين حق تقرير المصير والحركات الانفصالية التي تدعو إلى الانفصال عن الدولة الأم، وعلى الرغم من استناد الحركات الوطنية إلى حق تقرير المصير في نضالها، إلا أنها في بعض الأحيان كانت مدفوعة بعدائها للنظام السياسي الحاكم، كما أنها قد تحمل أجندات سياسية خارجية، تهدف إلى زعزعة أمن الدولة ونظام الحكم فيها أكثر من كونها مجموعة عرقية مستضعفة تريد التحرر. ومن الجدير بالذكر أنَّ الأمم المتحدة لم تقبل عضوية أيّ دولة انفصلت عن الدولة الأم دون إرادتها.

1 - إريك هوبسباوم: الأمم والنزعة القومية، ترجمة: عدنان حسن، دار المدى للثقافة والنشر – ط1 دمشق 1999، ص 109.
2 - برهان غليون: بيان من أجل الديمقراطية، دار بوشان للنشر- الجزائر 1990، ص 53. 3 - أوردها علي المحجوبي: النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، دار سراس للنشر – تونس ط1 1999، ص 167.
4 - جورج طرابيشي: الماركسية والمسألة القومية، دار الآداب – بيروت ط1 1969، ص ص 112 - 133.