لماذا خلق الله آدم؟


عباس علي العلي
2020 / 8 / 15 - 02:43     

هذا السؤال القديم الذي دار في عقل الإنسان الأول وإن كان بصيغ مختلفة كانه يدور حول محور واحد وحول قضية وحيدة، لماذا أنا موجود؟ لنترك هذا السؤال الآن ونذهب بخيالاتنا التأملية ومن خلال الصورة الدينية المطروحة لدينا عن عالم ما قبل خلق آدم، وبعيدا عن التوقيتات الزمنية ولا المكان، المهم أن نرسم صورة ذهنية عما كان يجري في عالم الله بدون الإنسان وقبله، الله والعرش والملائكة عالم بارد ليس فيه حركة وحركة مقابلة، الفعل كله ينطلق من القدرة الخارقة التي يتمتع بها الله فقط، وحتى حركة الملائكة أو العرش بأي صورة كانت مرتبطة بقوة الله، كان الوجود قطبيا واحدا بأتجاه واحد لا يخرج ولا يفعل بمعزل عن الله، هنا الله هو الفاعل فقط وكل الموجودات التي تحت قدرته هي المفعول به، هذه الصورة لا يمكنها بأي حال أن تنتج حركة ذاتية في الوجود ممكن لها أن تستمر وتتطور وتتحرك خارج فعل الله.
إذا ما كان يحصل تماما مثل ربط أجهزة كهربائية عديدة بمصدر واحد للطاقة دون أن يكون هناك بديل أخر، فكل شيء مرتبط بالمصدر الوحيد وبدون هذا الربط يكون حال الأجهزة حال السكون اللا منتج، فلا أحتمالية ممكنة أن نلحظ أي حركة أو فعل خارجه، حتى الحركة الجوهرية في تلك الأشياء لا تفعل ولا تؤثر في حركة الوجود، إذا يمكننا أعطاء الوصف الحقيقي أننا أمام موت وجودي تام ما لم يبحث له عن مصدر أخر للحركة، إذا علية الحركة هنا معلقة فقط على إرادة منفردة أو مصدر متحكم بالكلية، بمعنى أن الله هو الفاعل لكل شيء ولأي شيء وكل ما كان مجرد رد فعل سلبي لقوته، وحيث أن هذا الوضع ليس هو الموجب الذي يريده الله للمضي في مشروعه الوجودي فكان من الحتم المطابق لنظرية الخلق عنده أن يبعث الحياة فيه، الحياة هنا تعني الحركة الفعلية المنبعثة في الوجود من ذات الوجود لا من خارجه وإن كان السبب الأول لها الله بشكل مباشر أو غير مباشر.
وطبقا للنظرية الدينية التي بين أيدينا خلق الله نظاما أخر للوجود وقسمه لقسمين رئيسيين، الأول فاعل بما فيه والثاني مفعول لما فيه، بمعنى أنه قسم العالم الجديد لمجموعتين مختلفتين على أساس الحركة في الحياة ولكن جمع الأثنين في أطار واحد يضمن تفاعلهما وتشاركهما بإعادة نمذجة الحياة وفق قانون أخر، قانون أن لكل شيء علة مختلفة لكنهما جميعا من علة واحدة (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ)فصلت10، تماما مثل حالة حجر المغناطيس فهو يحمل الضدان داخل الكيان الواحد يعتمدان على وجود حجر أخر لبيان الفعل.
يمكن من خلال المثال البسيط الذي بين أيدينا نفهم لماذا أراد الله من هذا القانون الثنائي المزدوج أن يكون بعد أن كان قانونا أحاديا بسيطا لا ينتج حياة متحركة، فك الأرتباط إذا بين الفعل المباشر لله في كل الأشياء وجعل نسبة منها تخضع لقانون ونسبة أخرى تخضع لقانون هو القانون الأخير والثابت والذي حرك الوجود كله واخرجه من دائرة الثبات المطلق إلى دائرة الحركة والنماء والتطور، ومن هذه النقطة بدأ الوجود في حركته الأولى التي تعاظمت وأتسعت لتكون حياة حقيقية بمعنى أنها منتجة.
بدأت حركة الخلق الثانية التي كان هدفها الأول أن تخضع لحركة الخلق الأول وتتفاعل معها على أسس مغايرة، فالخلق الأول مجعول على عدم الفعل الذاتي فهي سلبية بكل معنى الدلالة، والخلق الثاني لا بد أن يكون مختلفا عن الأول ونقيضا له أي لا بد أن يكون إيجابيا لتتم عملية الحركة بينهما وتفعيلها على النحو الذي ولد الحركة التي نفهمها اليوم، لذا قال النص الديني (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) العبادة هنا ليس الطقوس وليست فقط الخضوع الكامل، العبادة تعني الأستجابة لدواعي الخلق بالعلة التي كانت، فخلق الله الجن والإنسان كوجه من أوجه الجذب والتنافر في عالمهم الخاص أولا كجزئيات وفي ومع العالم الثاني كنقيض نوعي.
ولكن قبل أن يخلق الجن والإنس كان لا بد أن يخلق المحرك الذاتي للوجود الجديد، هذا المحرك الذي يمنح الوجود المادي المجرد الطاقة اللازمة للعمل الذاتي كي يؤمن له حرية الحركة دون الرجوع الدائم لمصدر الحركة الأول فخلق (العقل) الذي هو أيضا نقيضا للبنيان المادي في الشكل والجوهر والماهية، فشهدنا سلسلة من المخلوقات التي تتركب من جزئيات تتبع نظاما واحدا هو نظام النقيضين أو المتضادين، قانون الجذب والنفور وصولا للمادة الأولى التي تعمل بنفس النظام وتعكس بالضرورة شكل العالم بمجمله، خالق ومخلوق محرك ومتحرك أول وأخر قديم وجديد وهكذا تمت عملية هندسة ونمذجة العالم من جديد (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)13 البروج.
البدء والإعادة هو كان منهج الله لبث الحياة في الوجود وليس شيئا أخر إذا أراد أن يعبد بمعنى أن يعرف كما هو أو يعرف من خلال النظام والقانون الجديد الذي فيه سر قوله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) الأنبياء 16، فالعلية هنا ليست عبثية ولا مصادفة ولا ترف خارج معنى الحركة الذاتية المنتجة والتي تشكل بمجموعها الحركة المولية الكونية المطلقة، هذا الربط بين الكلي والجزئي وبين الجزئي والجزئي مع الكلي والكلي ترجمة لقانون واحد هو قانون الجذب والتنافر، قد يقول متسائل هل القانون هذا قانون واحد أم قانونان، الحقيقة أنه قانون واحد بوجهين، بمعنى أن قانون الجذب ليس بالضرورة ينتج قانون التنافر وبالعكس، ولو أعتمدنا أحدهم ليس بالإمكان تصور الثاني كمفهوم معاكس، أي أن وجود الجذب ليس كافيا لوحده لوجود ضروري لقانون التنافر، فكل منهما يعمل بطريقة خاصة ولكن جمعهما معا يعطي طريقة عمل متكاملة صالحة لولادة الحركة.
إذا كان خلق الجن والإنسان هو نهاية القانون الأول وبداية القانون الحركي للوجود وبدون هذا الخلق لا يمكن أن نشهد حياة حقيقية منتجة، بمعنى لو أن الله خلق كل الموجودات الكونية ولم يخلق الجن والإنس لم تكن هناك حياة حقيقية على الأقل في جانبها الإيجابي الذي يعني الحرية في التعاطي مع القوة الفارطة في كل شيء، هذا ليس أفتراضا نظريا بقدر ما هو واقع منطقي، فالند الحقيقي لعالم الطاعة المطلقة في الوجود هما الجن والإنسان بأعتبارهما الكائنين المكلفين فقط، فلا كائن مكلف بالإرادة غيرهما لذا قال (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون).
ولأجل أن يجعل ذلك ممكنا لا بد من وضع تمهيدات أسية لهذه العبادة وقواعد تمهد لمكونات خلق هذه الكائنات لتعمل بالشكل الصحيح، فلكي يخلق الجن لا بد من خلق النار والنار طاقة والطاقة تحتاج للحركة الذاتية التي تنتج أسبابه الذاتية، وهذا لا بد من العودة لأساس الأصغر المتناهي الذي بوجوده يكون ذلك ممكنا وهو جذر المادة الأول وهي الذرة، نفس الحال حتى يخلق الإنسان والموجودات الحياتية عليه أن يرجع لخلق الماء بأعتبار أن (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فلا بد أن يخلق الماء والماء معروف مكون من ذرتي هيدروجين متحدة بذرة أوكسجين واحدة بقاعدة الجذب والتنافر، نزولا إلى الذرة الأساس التي فيها تتجلى بشكل واضح قوة القانون جذب وتنافر لتكون الحركة الجوهرية الأولى، لولا ضرورة خلق الجن والأنس لم ترجع سلسلة الخلق والجعل إلى الذرة الأولى وقانونها الفيزيائي الأساس (الجذب والتنافر).
هذه السلسلة من العلل والأسباب والحيثيات والنتائج تبين لنا لماذا خلق الله الإنسان وما هو السر الذي يكمن وراء هذا الخلق، حتى الجن مرتبط أيضا بخلق الإنسان والعكس صحيح، فكلاهما نقيض للأخر ومختلف نوعي وماهوي كامل، حتى في قضية الخلق الأول عندما اراد الله أن يخلق الإنسان لم يعترض أي كائن على الإرادة الربانية سوى الجن (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الأعراف 12، ونحن نعلم أن إبليس كان من الجان وليس من الملائكة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ )الكهف 50.
فخلق الجن كان بداية أولية وضرورية لخلق الإنسان وسببا لنشوء حالة التنافر والتناقض من جهة الماهية والطبع والجذب من ناحية الوظيفة والنتيجة، وكما قلنا أن سلسلة المخلوقات التي صنعت وجعلت خارج نطاق الخلق التمهيدي الأول السلبي كلها كانت مقدمات لخلق المادة ثم خلق الجن ثم خلق الإنسان أخيرا ليكتمل نظام الحياة في وجهها الباقي اليوم والذي لا ينتفي ولا يتغير ولكنه يتحول على قاعدة البدء والإعادة في كل مرة، من هنا علل الدين خلق الإنسان وخلق كل هذه المجموعة من الكائنات بما يفسر سبب قول النص الديني بالتسخير الكلي له (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)إبراهيم 33، وكذلك (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية13، فالتسخير ليس عبثا ولا تكريما بدون سبب ولا هو منه تفضيلية بمعزل عن الأسباب، الجواب (لقوم يتفكرون) فعلة التسخير هنا مرتبطة بالعقل والتفكر والتدبر وفي هذا الاتجاه تحديدا.
إذن الخلق الجديد والقانون الجديد والحياة الجديدة التي بدأها الله بخلق المادة بقانونها الأساس الجذب والتنافر، وصولا لخلق الإنسان بالنهاية كلها مرتبطة بقضية خلق العقل وعلة هذا الخلق، الذي جعل منه النقيض للطاعة السلبية التي تمثلت بشكل جوهري في الملائكة كنموذج مناقض ومضاد له، بمعنى هناك خلق على شكل روبورت إلهي يفعل بالتوجيه ومرتبط بالطاقة مه الله في أداء الحركة، والعقل الذي يمثل الفعل الحركي الذاتي المعبر عن وجوده بما فيه من قوة تنطلق من الذات أولا وإن كان المخلوقان الملائكة والعقل يعملان في كيان واحد تماما كما يعمل حجر المغناطيس، لا يمكن أن يظهر قانون التنافر والجذب إلا بوجود حجرين متشابهين يحتويان نفس القيم لكنهما يشكلان بمفردهما ومجموعهما شكل وجوهر الحركة المطلوبة من الله.
النهاية التي نصل بها في البحث هذا أنه لولا خلق الإنسان بعد سلسلة من الاحداث الخلقية والجعلية، لم تكن هناك حياة ولا وجود متحرك ولا مادة منتجة ولا زمن ولا مكان، فخلق الإنسان كان هو المحور التي يكتمل فيه وعليه شكل الوجود الحالي، وهذا ليس تخريفا ولا تبريرا ولا إدعاء بلا سند ولا حجة، ولكنه الملخص النهائي من إرادة خلق الوجود بكل تفاصيله كما بينا، قد يرى البعض أن خلق الله جاء متأخرا في النتيجة كان أمرا طبيعيا مع هذه السلسلة من الاسباب والعلل التي ذكرتها ولكن ليس هو العلة الأساسية، فالحيوان والنبات والهواء والجن والملائكة كلهم مخلوقون لتكوين شكل شبكة الوجود التي في مجملها تنفذ إرادة الله منها ما هو كرها ومنها ما هو طوعا، وأن حصر الموضوع بالإنسان وتحديدا بالعقل أمر مبالغ به.
الجواب طالما أننا قلنا أن الله خلق الإنسان كأخر المخلوقات حسب النص الديني ولم يخلق شيء بعده، هذا يعني وصل لخاتمة النهاية المطلوبة، ونحن نعرف أن أي تجربة بسيطة تبدأ من فكرة تحديد الهدف وتنتهي في تحقيق الغاية النهائية، فبتحقق خلق الإنسان بالشكل وعلى الشكل الأخير تحققت هذه الفكرة وأنتهت، بمعنى أن السلسلة من الأحداث والوسائل والمناهج والسب كلها كانت مسخرة لتحقيق غاية بما فيها سلسلة المخلوقات التي سبقت خلق الإنسان، ولو كان خلق الإنسان من ضمن السلسلة لا فرق بينه وبين أي كائن أخر فعلينا أن نتوقع بل نجزم بوجود خلق بعد خلق الإنسان وهذا ما لم يحدث لحد اللحظة، وبالتالي ووفقا للفهم الديني والواقعي أن الإنسان وتحديدا الإنسان ذو العقل هو سر كينونة وصيرورة وسيرورة الوجود.