العنصرية في ظل الرأسمالية!


توما حميد
2020 / 8 / 9 - 17:36     

المقدمة
لقد اثبت العلم، بشكل لا لبس فيه، تفاهة تبرير الظاهرة العنصرية ، باعتبارها التمييز بين الناس على أساس أن بعض الخصائص الموروثة تجعلهم أقل شأنا من مضطهديهم، من خلال الفروقات الجينية. اذ على الرغم من الاختلافات الفيزيائية الواضحة مثل لون البشرة وطول القامة والخ، لايوجد على المستوى الجيني اختلافات جوهرية بين البشر يمكن من خلالها تبرير العنصرية، بل حتى فصل البشر الى مجموعات مختلفة. اذ لايمكن، من الناحية الجينية، تقسيم البشر الى اعراق. فالاختلافات الجينية بين الافارقة انفسهم مثلا هي اكثر من الاختلافات بين الافارقة والاوربيين. كما ان اكثر من 85% من الاختلافات الجينية موجودة في كل مكان وبين كل "الاعراق". من جهة اخرى، ليس هناك اساس جيني يجعل الانسان عنصري، واستنادا الى المشاهدات التاريخية، ليست العنصرية جزءًا من الطبيعة البشرية، و أفضل دليل على ذلك هو أن العنصرية لم تكن موجودة في معظم تاريخ الجنس البشري.
لقد استخدمت الانظمة الطبقية كل اشكال الهرميات، بما فيها العنصرية، اي تقسيم البشر على اساس العرق، من اجل ادامة الاستغلال. رغم ان استعباد الاجانب و القمع والتمييز ضدهم في المجتمعات ما قبل الرأسمالية كان بشكل اساسي على اساس الدين ومعيار البربري- المتحضر، والنصر والخسارة في الحروب، الا ان القمع والتمييزعلى اساس العرق كان موجودا. اي ان العنصرية، هي ليست من اختراع الرأسمالية، كما يدعي الكثير من الماركسيين.
ولكن العوامل الثقافية والايديولوجية التي بررت نظرة امبراطوريات مجتمعات العبودية في العصور القديمة الى الاجانب على انهم اقل شأنا، وبالتالي، بررت حروب وغزوات ضد الشعوب التي اعتبرت اقل تقدما لا تفسر مفاهيم العنصرية في العصر الرأسمالي. فالعنصرية في العصر الرأسمالي هي ظاهرة حديثة.
لقد قامت الرأسمالية خاصة في بداية بزوغها بترسيخ مفاهيم "العرق" و "العنصرية" واعطائها معناها الحديث وترسيخها في الكثير من الاحيان في القوانين، وجعلها جزءاً من الأيديولوجية السائدة والدائمية للمجتمع. حولت الرأسمالية العنصرية الى ايدولوجية وظاهرة مؤسساتية لتبرير قمع واستغلال الغالبية العظمى من البشر، وخاصة ذوي البشرة غير البيضاء. ليست العنصرية مسالة عرضية بالنسبة للرأسمالية، بل برزت الرأسمالية كنظام يستند الى العنصرية. وكانت العنصرية واحدة من أليات سيادة الرأسمالي منذ البدايات الاولى للرأسمالية.
بدأت نشوء الراسمالية و عملية تراكم البدائي للرأسمال عبر السيطرة من خلال القوة على مصادر الثروة من ارض وماء ووقود، اي انتزاع الملكية وخلق قوة عاملة رخيصة في الدول الاوربية وانتزاع الملكية من السكان الاصليين في "العالم الجديد"، اي المستعمرات مثل امريكا واستراليا واستخدام عمل العبيد. ورافق بروز الرأسمالية نشوء الدولة القومية، واشتداد الاستعمار وتجارة العبيد من افريقيا. لقد ادت كل هذه الظواهر الى نمو الفكر العنصري والعنصرية والتمييز لا على اساس الدين والتقافة ومستوى التطور فحسب، بل على اساس العرق ايضا، بشكل قوي. ادت تجارة الرقيق من افريقيا بالذات و الاستعمار ومصادرة اراضي السكان الاصليين الى ظهور العنصرية كايدولوجيا لتبرير هذه الظواهر التي رافقها عنف وحشي.
وكان لتجارة العبيد والعبودية بالذات، من بين كل الظواهر الاخرى، دور اكبر في بروز العنصرية. العبودية كانت موجودة منذ اكثر من 1100 سنة ومورست داخل اوربا نفسها ضد اليهود والغجر ومجموعات سكانية اخرى، ولكن كان استخدام الرأسمالية المبكر للعبيد من السود لتزويد مزارع "العالم الجديد" بالعمال حدث هام في نشوء الرأسمالية، واصبح سبب رئيسي في بروز العنصرية وتحولها الى ايديولوجية راسخة، واسهم في جعل نظريات "العنصرية العلمية" اكثر تطورا وتكاملا. لعبت الدول القومية دورا حاسما في الجمع بين العنصرية و نمط الانتاج الراسمالي لزيادة الاستغلال.
لقد كانت وحشية تجارة الرقيق من افريقيا مروعة للكثير من الناس ومعارضة لكل مفاهيم الانسان، لذلك دفع الرأسماليون وممثليهم بالعنصرية كايدولوجية لتبرير تلك الفظائع والمعاملة المروعة للسود، بعد تقسيم البشرية الى اعراق ووضع الافارقة في ادنى السلم، في وقت حدث فيه اكبر تراكم للثروة المادية التي شهدها العالم حتى ذلك الحين. وهكذا، لقد برزت العنصرية كايديولوجيا لتبرير واحدة من اكبر الجرائم في تاريخ البشرية، اي تجارة العبيد من السود، والتي كانت ركيزة اساسية لعملية التراكم البدائي، حيث تم استعباد الملايين للعمل في مزارع امريكا وجزر البحر الكاريبي.
واتخذت العنصرية ايضا كمبرر ايديولوجي لتبرير الهيمنة الغربية والاستعمارعلى بقية العالم، وادت الى بروز مفاهيم مثل "عبئ الرجل الابيض".
و قد اشتدت العنصرية ومحاولات تفسيرها علميا واثبات ان للاوربيين الحق في حكم الافارقة والاسيويين مع وصول الاستعمار الغربي الى ذروته في أواخر القرن التاسع عشر "التدافع لأفريقيا" وأجزاء من آسيا والمحيط الهادئ الذي تزامن مع صعود القومية في اوربا. ووصلت العنصرية الذروة في القرن العشرين مع وصول أنظمة عنصرية الى الحكم مثل المانيا النازية وتشديد القوانين العنصرية ( قوانين جيم كرو) في الجنوب الأمريكي التي دعمت العنصرية البيولوجية والعنصرية المستندة على الاصول الثقافية من خلال القانون.
ولكن تراجعت العنصرية بعد سقوط النازية وتبني الاعلان العالمي لحقوق الانسان في 1948، والالغاء التدريجي للقوانين العنصرية في الجنوب الامريكي. لكن بقت العنصرية في هذه المجتمعات حية حتى دون الدعم الكامل والصريح من الدولة والقانون، ولم تعد العنصرية تتطلب أيديولوجيا تتمحور حول مفهوم عدم المساواة البيولوجية. تعيد الرأسمالية انتاج العنصرية ويستمر التمييز من قبل المؤسسات والأفراد ضد أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم مختلفون عنصريًا. و لعبت سياسات صدام الحضارات والتعدد الثقافي والثقافة النسبية التي برزت بعد انهيار الكتلة الشرقية الى تقوية العنصرية وتشجيع التمييز ضد المهاجرين في العديد من البلدان الغربية على اساس "الاختلافات الثقافية" ولون البشرة.

العنصرية في وقتنا الحاضر.
كما تحدثنا، تقوم الرأسمالية في الوقت الحاضر بانتاج واعادة انتاج العنصرية، لانها مهمة من اجل التراكم الرأسمالي بحيث ترسخ ارتباط وثيق بين العنصرية والرأسمالية. فالعنصرية في وقتنا الحالي، ليست شئ من "الارث الماضي الاستعماري"، بل هي ضرورة انية لعدة اسباب:
1- تبرر العنصرية انتاج واعادة انتاج جيش احتياطي صناعي "فائض من العاملين" الحياتي لادامة نمط الانتاج الرأسمالي. إن وجود هذه المادة البشرية يسمح للرأس المال بتشغيلها واستغلالها خلال فترات النمو والتخلص، على الاقل من بعضها، في فترة الأزمة. لقد ساعد ابقاء جزء من الطبقة العاملة على هامش المجتمع الرأسمالي على اساس العرق (مثل السود في امريكا والمهاجرين في اوربا) وتحميلها كل الويلات الناتجة عن الازمات الدورية للرأسمال (فهم اول من يُسرح من العمل واخر من يُوظف)، البرجوازية على حماية جزء اخر من الطبقة العاملة التي تبدو مستفيدة من التقسيم الحالي (خاصة الرجال ذوي البشرة البيضاء) من تبعات هذه الازمات الى حد ما، وبالتالي كسب ولائها. اذ يستخدم العمال السود والمهاجرين، والى حد ما النساء في امريكا واوربا، لامتصاص الصدمات التاتجة من الازمات الاقتصادية. يعني هذا تقسيم الطبقة العاملة الى شريحة امنة واخرى غير امنة من تبعات الازمات الاقتصادية.
يعتبر جميع العمال في ظل الرأسمالية مضطهدين ، لكن بعض العمال يواجهون مزيدًا من القمع بسبب التمييز الإضافي مثل العنصرية، التحيز الجنسي ، رهاب المثلية الجنسية ، الأفكار المعادية للمهاجرين وما إلى ذلك. بالمقارنة مع الشرائح الاخرى، أن العمال البيض في المجتمع الغربي مثلا كانوا على الاقل لحد ازمة كوفيد -19 يتلقون بعض المزايا، وهذه المزايا هي مهمة لادامة العنصرية. إذا لم يحصلوا على بعض المزايا - ومعها الوهم بأن النظام يعمل لصالحهم - فعندئذ لن تكون العنصرية فعالة في تقسيم العمال الى عمال بيض وسود وعمال من السكان الاصليين والمهاجرين.
2-كما ان العنصرية مهمة لتشديد الاستغلال على شريحة معينة على اساس العرق و"الاختلافات الثقافية". في عام 2016 ، كان متوسط صافي الثروة للأسر البيضاء من اصول غير الإسبانية في امريكا 143.600 دولار، بينما كان متوسط صافي الثروة للأسر السوداء 12,920 دولارًا. وتشير الإحصائيات التي لا تعد ولا تحصى إلى أن السود لديهم أكثر الوظائف خطورة وهشاشة، ويتقاضون أجوراً أقل بكثير من العمال البيض حتى لو كانوا يقومون بالعمل ذاته. تمكن العنصرية ارباب العمل من دفع اجور اقل للعمال السود، ورميهم في الشارع عندما تنتفي الحاجة الى خدماتهم اي تكثيف الاستغلالهم.
3- تبرر العنصرية تحويل شريحة من الطبقة العاملة الى كبش فداء مناسب لتفسير البطالة ونقص السكن والرعاية الصحية وكل مشكلة أخرى تثيرها الأزمة الرأسمالية. ان معاداة المهاجرين والسود هي طريقة مفيدة لتحويل الانظار عن المشاكل الحقيقية التي تواجه البشرية في ظل الرأسمالية.
4- استخدمت العنصرية ايضا للتفرقة وشق صف الطبقة العاملة وتقسيمها الى معسكرين "متعاديين": الابيض والاسود، المواطن الاصلي والمهاجر، وتحريض قسم منها ضد القسم الآخر مما يجبرها على تقديم تنازلات والخضوع لإملاءات رأس المال، وبالتالي خفض الاجور والظروف المعيشية للطبقة العاملة ككل. ان زيادة مستويات استغلال العامل الاسود، وخاصة من النساء والعامل المهاجر، يخلق ضغط على كل الطبقة العاملة. إن قدرة أصحاب العمل على استخدام العنصرية لتبرير دفع أجور اقل للعمال السود والمهاجرين يضع ضغط نحو الاسفل على أجور جميع العمال. وبالتالي يرى العامل ذو البشرة البيضاء في العامل الاسود والعاطل عن العمل والمهاجر منافس وعدو يساهم في خفض الاجور ومستوى المعيشة، وهذا العداء هو الذي يساهم في ادامة العنصرية. .
واحيانا يستخدم ارباب العمل في العديد من البلدان الصناعية العمال من مختلف الجنسيات والأعراق ضد بعضهم البعض لكسر الإضرابات، ومهاجمة أجور وظروف جميع العمال، وهي امور تؤدي الى نمو العنصرية حيث تدفع العمال الى لوم زملائهم العمال بدلاً من ارباب العمل.
يلعب الاعلام دور كبيرا في تخليد العنصرية وبالتالي ادامة وتخليد الانشقاق في صفوف الطبقة العاملة والعداوة بين شرائحها المختلفة. اذ يساهم بشكل مكثف وفعال في خلق وعي كاذب، والذي هو انعكاس لايدولوجية الطبقة الحاكمة التي تتستر على حقيقة الواقع المادي وتفسره بشكل سطحي ومخادع واستناداً الى المظاهر والمعلومات السطحية والتي تتفادى اي نقد للنظام نفسه والاستغلال وغياب المساواة. فمثلا ان "العبيد" من السود و معظم موجات المهاجرين لم تاتي عن شكل موجات غزو، بل تم استيرادها نتيجة حاجة الرأسمالي في اوقات النمو الى الايدي العاملة وخاصة الايدي العاملة الرخصية، ولكن هذه الحقيقة تغيب عن الخطاب ويتم التركيز على سرقة المهاجرين لفرص العمل والهجرة غير الشرعية الخ.
من جهة اخرى، تستخدم ظواهر معينة حقيقية عن المهاجرين والامريكيين الافارقة مثل كونهم افقر ويسكنون مساكن واحياء اسوا، ومدارسهم ادنى مستوى، ولديهم نط حياة اقل صحي واعمارهم اقصر لخلق صورة غير صحيحة عنهم مثل كونهم من عرق ادنى، او كسالى لايحبون العمل او يحبون التخلف، بدلا من البحث في الظروف الموضوعية التي تؤدي بهم الى العيش في ظروف اسوأ .
ويتم التغاضي عن حقيقة ان الحفاظ على مدى هائل من التفاوت في الثروة، والبطالة وغياب برامج الرعاية الاجتماعية وضعف التعليم تؤدي الى نمو الامراض الاجتماعية مثل معدلات عالية من الجريمة والمخدرات والانتحار، وتتطلب قوة بوليسية ضخمة وعنيفة، ويتم التركيز على العنف المتبادل بين الشرطة و السود او المهاجرين.
النضال ضد العنصرية
أن الرأسمالية نظام مثل بقية الانظمة الطبقية يقوم على استغلال الاغلبية من قبل اقلية وعلى عدم المساواة الصارخة، لذا يحتاج الى تقسيم صفوف الأغلبية على اسس مختلفة مثل لون البشرة والجنس ومكان الولادة واللغة. العنصرية هي احدى اسس تقسيم الاغلبية اي الطبقة العاملة . توظف العنصرية كوسيلة تجعل من العمال الذين لديهم مصالح مشتركة اعداء بسبب أفكار ذاتية ، قومية وعنصرية .
العنصرية هي ليست صفة من صفات الطبيعة البشرية، وليست فكرة نشات من العدم منفصلة عن اسسها المادية، اي ان العنصرية كايديولوجية لا تسبق الظروف المادية والاجتماعية، بل هي انعكاس لها، وبدورها، تساهم في صياغة الظروف المادية للانسان والمجتمع. ان الاضطهاد العنصري للمهاجرين والسود هو تعبير للاضطهاد الاقتصادي ويعزز الاضطهاد العنصري من الاستغلال الاقتصادي وبالعكس.
ولدت العنصرية من العلاقات المادية التي شكلتها الرأسمالية والاستغلال الاقتصادي الذي يحدث في ظل هذا النظام. فالبنية المادية والاقتصادية للمجتمع هي التي تؤدي إلى ظهور مجموعة من الأفكار والأيديولوجيات لتبرير وشرح والمساعدة في إدامة هذا النظام. العنصرية هي واحدة من تلك الأيديولوجيات. استخدمت العنصرية في ظل النظام الراسمالي لتبرير حقائق اقتصادية مثل حاجة المستعمرات الى العمال، وبالتالي، الى تجارة العبيد لتلبية هذ الحاجة وتبرير ازمة الرأسمالية في المانيا من خلال تحويل اليهود والزنوج الخ الى كبش الفداء.
من جهة اخرى، نوكد ان نظام اقتصادي يستند الى الاستغلال لابد ان يستخدم ايديولوجيات لتفسر هذا الاستغلال، بما فيها العنصرية. ولذلك لم نجد راسمالية غير عنصرية لحد الان، و لايمكن انهاء العنصرية بشكل نهائي مع الابقاء على ألرأسمالية. انهاء العنصرية يحتاج الى انهاء عدم المساواة الذي يستحيل تحت النظام الرأسمالي. يجب ان نتذكر بان العنصرية هي ليست ظاهرة مقتصرة على المجتمعات الغربية، بل هي ظاهرة موجوة في كل المجتمعات الرأسمالية بما فيها المجتمع العراقي.
ان النضال ضد العنصرية هو نضال ضد الظروف المادية التي تعيد انتاجها والنضال من اجل المساواة، اكثر ما هو نضال على مستوى الافكار .هذا يعني ان النضال ضد العنصرية في وقتنا الحاضر هو نضال ضد الراسمالية وهو جزء من نضال الطبقة العاملة من اجل تحسين وضعها وبناء المجتمع الاشتراكي، ولكن يجب ان لايؤجل الى ان يتم تحقيق الثورة الاشتراكية.
يجب ان يكون الحزب الشيوعي العمالي وسيلة للنضال ضد كل اشكال الاضطهاد بما فيه الاضطهاد العنصري. والظروف اليوم مواتية لمثل هذا النضال اذ لايوجد جزء كبير من الطبقة العاملة بمنأى من الازمة الاقتصادية الحالية.