السودان من حكم الفونج الأفارقة إلى حكم الجلابه العرب..قرأة في كتاب عصر البطولة في السودان


الطيب عبد السلام
2020 / 8 / 4 - 10:53     

من دولة الفونج إلى دولة الجلابه
قرأة في كتاب جي سبولدينج : عصر البطولة في سنار

توجهت إلى هذا الكتاب ب أسئلتي الخاصة، و قد ألهمني الكثير جدا عبر سرده التأريخي المحقق من جهة و منهجيته التأريخيه المنفتحه من جهة أخرى.
أهم تلك الاسئلة كان سوأل " متى تحول السودان من أمة أفريقية إلى أمة عربية" ما الذي حدث لحظتها.
هذا الكتاب يذهب و بثقة إلى هناك طارحا فرضية جد مهمة، فرضية قابلة للتطبيق تأريخيا على كل المجتمعات التي إنتقلت من المجتمع الأمومي إلى المجتمع البطولي الرجولي.
و لذلك أسمى كتابه " عصر البطولة"، قبل المضي في تفتيح أزهار الكتاب،لا بد لنا من الإشارة إلى طبيعة المجتمعات الأمومية و هي مجتمعات العصر الحجري مجتمعات الطبيعه و سأختصر هنا في عبارات قليلة الأف الصفحات و الأزمنة.
فالمجتمعات التي تتوارث النسب عبر أمهاتها هي مجتمعات إقطاعية، مجتمعات نبلاء أي أرستقراطي واحد يحكم و يملك و الباقين" اطفال لديه"، و هذه المجتمعات كانت تكتسب التحالفات عبر الزيجات و التي يتم عبرها" عقد التحالفات بين الإقطاعيين"، بعكس مجتمعات الطبقى الوسطى و الرأسماليات التجاريه و وظائف المحاربين المعتمده على العنصر الذكري و الرؤية الرجولية للكون بوصفه " ميدان تنافس"، تصورات المجتمعات القديمة و بطبيعة الحال الأمومية للعالم كانت تصورات " تقدس الطبيعه" و ترى فيها كما ترى في المرأة " المانحة من تلقاء نفسها" و أن تدخل البشر في حياتها هو تدخل هامشي او مساعد..بالصلوات و القرابين التي هي في غنى عنها.
سودان ما قبل ١٧١٨ م، هو عصر إنتقال الوراثة الملكية عبر الأم لا الأب هو نفسه عالم العصر النيوليتي " الحجري الحديث" في تصوري، هو لا يختلف كثيرا عن مجتمع قبائل الدينكا في الجنوب اليوم ولا عن مجتمعات المايا و الإنكا قبل إكتشاف الإسبان لتلك الجهات و " ميلاد عصر البطولة في المايا".
جي سبولندج يتحدث و بإستفاضه و إنفتاح في هذه اللحظة المحورية الحساسة أي لحظة " إنتقال السودان من مجتمع أفريقي إقطاعي أمومي إلى مجتمع عربي مسلم بطولي"، و يتحدث عن ظهور الأليات الرجولية في تغيير الإقتصاد من إقتصاد ريعي جمعي إقطاعي وراثي إلى إقتصاد إكتسابي تجاري حربي تدافعي، بإعتبار أن الإقتصاد و بالتالي السلطة هما دينمو الواقع البشري و محدد مسار تطوره.
يذهب جي سبولندق انه بوفود رجال الدين المسلمين للسودان بترحيب من ملوك سنار بدأ هولاء يشكلون بنفوذهم طبقة منافسة لنبلاء الفونج، فظهرت طبقة " الفقرا" و منحهم ملوك الفونج الإقطاعات الواسعه
و ألتف الناس حولهم ينهلون من بحرهم.
هنا نشأت طبقة منافسه لنبلاء الفونج الذين توارثو نبالتهم عن طريق " امهاتهم" و إنتسابهم إلى "الاونساب"، و هنا لا بد من وقفة حول
" الأسطورة المكونة" لمجتمع الفونج، أي "مشروعية البداية" ، " ادم و حواء المجتمع" ، "روميو و روميلوس"، وهي قصة تلتقي تقريبا مع كل قصص العالم القديم و تحديدا اليونان حيث أن القصة الأساسية في المدن اليونانية أنها كانت حصيلة زواج بين عذراء ملكية و الإله " زيوس"، زيوس الفونج هنا كان عربي وافد رأى القوم فيه صلاحا فزوجوه " بنت السلطان" و منها إنتقل الملك إليه، و من بنات ذلك الرجل تسلسلت العائلة الملكية و أقربائهم من النبلاء، هؤلاء النبلاء الذين وجدوا أنفسهم مواجهين ب
" نبلاء دين" هذه المرة.
نبلاء الإسلام هؤلاء كما يقول سبولدنج بنظرتهم الإسلامية التي تنتسب إلى الرجال و بالرجال جعلت نبلاء "الأفخاذ الملكية" في وضع حرج فهم في نظر العامة المتمذهبة لرجال الدين " مشكوك في مشروعية سلطتهم"، فنبلاء الدين "صححوا" للناس دينهم عبر " و ادعوهم لا بائهم ذلك أقسط عند الله"، فأخترع النبلاء لهم اباء و اجدادا عرب و توقفوا عن المنادة بالنسبة إلى إسم الأم و تحولوا للتسمي
و المناداة بإسم الأب.
هذا الضغط الإجتماعي صاحبه ضغط سياسي بظهور " أمراء الحرب" و الذين يعرفهم سبولدنج بأنهم " كانوا تجارا و فُقرا، و زعماء قبائل بدوية أدركوا إمكانات النظام الجديد و أنه يتيح لهم فرصا غير مسبوقة ليركزوا السلطة و الثروة في أيديهم، فلم يتوانو في إستغلال الفرصة لخدمة مصالحهم الشخصية على حساب مصالح الحكومة المركزية و أقتضى برنامجهم الذي نفذوه على مراحل القضاء على النظام القديم و أعتمد النجاح في ذلك على القوة العسكرية لذا جاز لنا أن نسميهم أمراء الحرب "
ص ١٨٥، ص ١٨٦.
هذا التنافس الذي جلبه "الجلابه" و " اولياء الله" و "مرتزقة الحروب" و بعد أن كسر شوكة النبلاء سرعان ما حاق بالملوك أنفسهم و تتوج ذلك في إنقلاب الوزير " محمد ابوليكيلك" سنة ١٧٦٢م، و سيادة وزراء الهمج و بقاء السلطان الفونجي " محض ذكرى عزيزة لعالم الأمومة الأفل".
إزاء هذا الوضع إضطر الفونج إلى البحث عن أسطورة بديلة مؤسسة ف أكتشفوا فجاءة " قرابتهم مع الأمويين" و بدأ النبلاء يمنحون العطايا للنسابين فكم من نبيل إسمه " كدناب" إكتشف أن جده إسمه " هشام بن مروان"، هذه كلها مجاراة منهم للطبقة الوسطى الناشئة التي بدأت تتمرد على " أمومة النبلاء" و تبحث عن طرق معاش غير إنعام " اولي الأمر"، فدخلوا إلى معية أمراء الحرب و إنتقلوا مع قوافل التجار و " جربوا حظوظهم"، يريد سبولدنج القول بإنه بإنفتاح سودان العصور الوسطى على الإسلام فإنه إنفتح كذلك على " عالم الإسلام" المتحرك عكس مجتمع الفونج الساكن..من المجتمع الإقطاعي إلى مجتمع الطبقة الوسطى.
ف الإسلام لم يدخل ك " فقه" و حسب بل دخل كنظام إقتصادي و نظام إجتماعي أخرج العالم الفونجي من عالم الجمع و الإلتقاط إلى عالم الزراعة و التجاره و الحرب و الإنتاج.
و سبولدنج هنا بقدر ما هو غارق في تأريخ التأريخ فقد وضع يده على كشف تأريخي مهم، اي إنتقال المجتمعات من " عبادة عشتار" إلى "عبادة الواحد القهار"، يضع يده على التمفصل الإنساني كله.. أي اللحظة التأريخية التي خرج فيها التأريخ الإنساني من مجتمع الإلتقاط و الجمع و إنتظار المنح من الطبيعة إلى مجتمعات التدوين و الزراعه و عصر الحديد..مجتمعات متحكمة في الطبيعه لا خائفه متوجسه منها.
سبولدنج نظر لتاريخ الفونج بإعتباره تأريخ إنتقالي بين السودان الأفريقي الى السودان العربي، فشرح الصراعات الداخلية التي حدثت بين الملكيين أي الفونج و مستوزريهم في" المشيخات =الولايات" و بين الصاعدين طبقيا اي الوزراء و قادة الجند و رجال الدين و التجار، و في ضوء هذه الأطروحة فهم تأريخ الفونج في قرونه الثلاثة،اي أنه كان توترا بين قطب
" السودان القديم" و قطب " السودان العربي الحديث" و قد عضد ذلك بسرده للوقائع الحربية التي جرت بين الفونج من جهة و بين الصاعدين " وزراء الهمج" و إن كان لدي و لدى سبولندج تحفظا على هذه التسميه.
بدأ الإنقلاب لصالح " وراثة السلطة بالنسب الأبوي" مع السلطان نول سنة ١٧١٨ الذي وصل إلى السلطة عبر خؤولته للسلطان و إلى هنا يبدو " الأمر طبيعيا" لكن ما فعله نول أنه نقل السلطة إلى ولده بادي الرابع حيث أسقطه إنقلاب وزير الهمج سنة ١٧٦٢، و الذي سيشكل إمتداد موضوعيا لمشروعية الوراثة للسلطة عبر الأب.
تحدث سبولدنج ايضا عن مآل سلطة الهمج بإعتبارها " شربت من ذات الكأس" فهاهم قادة جنودهم ينقلبون عليهم و يجعلونهم دمى في أيديهم فتتحول مهنة الوزير إلى " وظيفة شرفية" -حيث سيتحولون إلى صور عزيزة على الجدران كتذكار لزمن " الأباء الأبطال"-، و يتولون هم السلطة الحقيقية، اي قتل الأب الذي قتل الأم، حيث سنجد أنفسنا في نهاية دولة سنار في خضم " حرب أهلية شاملة" بين الوزراء و وزراء الوزراء و بقايا الملكيين "الأم،الأب،الإبن" ما يقابل توزيعة" الإقطاعيين،الطبقة الرأسمالية الصاعدة، عسكر الطبقة الرأسمالية الصاعدة". إضافة إلى شيوخ الأقاليم الثائرين و المنقسمين هم بدورهم على أنفسهم، و المنخرطين في شبكة معقدة من التحالفات مع الملكيين و الوزراء و وزراء الوزراء.
لدرجة يتوه حتى سبولدنج في تتبعها حتى كاد أن يرسم شجرة ل " الاورلياونات" كما فعل ماركيز في نهاية روايته مئة عام من العزلة...فهي قد " جاطت" في السرد التأريخي كما "جاطت" ايضا في الواقع.. لكن برغم ذلك تظل فكرة سبولدينج واضحة و ممسك بها لإن الرجل ليس مهموما بسرد التأريخ بقدر ما هو مهموم ب فهم " سياقه" و المكنيزمات المحركة له.
هذا الكتاب الثر افادني في دقة معلومته و إنفتاحه المنهجي على العوامل النفسية و الدينية و لم أجد فيه ما قاله سبولندج بخجل " أنه كتاب بنيوي"، بالعكس لم أجد أي بنيوية بل وجدت تاريخا شديد النبض و " متكامل الرؤى"، و لم أحس لديه بإستعلاء المؤرخ الأوربي بل رجل سوداني أصيل يأكل ويكة الجماعة و يشرب مريستهم..فكتب تاريخه و كأنه واحد منهم.
كما أن سبولدنج تأنى في سرد و تفصيل الأحداث الصغيرة " المايكرو تاريخ" على عكس كاتب الشونة الذي وجدته " بجري جري" في سرد تاريخ السودان بين القرن الخامس عشر إلى حين الفتح التركي، ساردا الأحداث على طريقة المؤرخين العرب القدامى في سرد الأحداث و الأسماء دون التأني في سرد حدث مفتاحي يضئ لك بقية سرده، و دون أن يفتح الأقواس و يضع التساؤلات، فكاتب الشونة كان مشغولا ب سرد السير و الأخبار لا الأخبار نفسها.
بالتأكيد إن للكتاب " اوجه أخرى" غير أنني توجهت إليه بسوألي الخاص و قد كان كريما في إضاءة ذلك السوأل.