حورات(3)- إدغار موران: نواجه أزمة مركبة تقتضي مواجهة شاملة وتطوير أشكال جديدة من الوعي والتضامن*


عبد المجيد السخيري
2020 / 8 / 2 - 16:39     

هذا هو الحوار الثالث الذي نترجمه الذي أجرته جريدة لوموند مع الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، من بين سلسلة حوارات وأحاديث قدمها منذ بداية الأزمة الوبائية العالمية الراهنة، من خلاله يؤكد على جملة أفكار وقناعات ظل يدافع عنها لسنوات، كصاحب مشروع فلسفي ومثقف ملتزم على طريقته الخاصة. وبعض ما نقرأه في هذا الحوار تكرر في جميع ما قدمه حتى الآن من تصريحات وتحليلات للأزمة الراهنة، خاصة ما يتعلق بربط الجائحة بأزمة الرأسمالية وفشل النيوليبرالية الذريع.

نص الحوار:

-هل كان ممكنا التنبؤ بجائحة تعود لهذا النوع من فيروس كورونا؟

-إدغار موران: جميع مستقبليات القرن العشرين التي تنبأت بالمستقبل من خلال إسقاط التيارات العابرة للحاضر على المستقبل أصابها الانهيار. مع ذلك، ما نزال نتكهن بسنة 2025 و2050 بينما نحن لا نستطيع فهم سنة 2020. فلم تجد تجربة انفجارات اللا متوقع في التاريخ طريقها إلى الوعي. والحال أن حدوث ما لا يمكن التنبؤ به كان متوقعا، إنما ليس طبيعته. ومن ثم حكمتي الدائمة: " تحسَب ما لا يمكن تحسَبُه ".
إضافة إلى ذلك، فقد كنت من تلك الأقلية التي توقعت سلسلة كوارث متولدة عن الاندفاع المنفلت للعولمة التقنو-اقتصادية، بما في ذلك تلك الناجمة عن تدهور المحيط الحيوي وعن تدهور المجتمعات. لكنني لم أتوقع مطلقا الكارثة الفيروسية.
مع ذلك كان هناك متنبئ بهذه الكارثة: إنه بيل غيتس، عندم أعلن خلال مؤتمر في شهر أبريل 2012 أن الخطر المباشر المحدق بالبشرية لم يكن نوويا، وإنما خطرا صحيا. وكان قد رأى في وباء إيبولا، الذي تمت السيطرة عليه بسرعة لحسن الحظ، إيذانا بخطر عالمي لفيروس محتمل شديد العدوى. وقد عرض التدابير الوقائية الضرورية، بما في ذلك التجهيز الاستشفائي الملائم. غير أنه بالرغم من ذلك التحذير العمومي، لم يتم فعل أي شيء لا في الولايات المتحدة ولا في غيرها. ذلك أن الراحة الفكرية والعادة يكرهان الرسائل المزعجة.

-وكيف تفسرون عدم الاستعداد الفرنسي؟

-إدغار موران: في العديد من البلدان، بما فيها فرنسا، تركت الاستراتيجية الاقتصادية للتدفق الآني، التي حلت مكان استراتيجية التخزين، نظامنا الصحي محروما من الأقنعة، وأدوات الاختبار وأجهزة التنفس؛ وهذا أسهم، إضافة إلى ما قامت به العقيدة الليبرالية من إخضاع المستشفى لمنطق التجارة وتقليص امكانياته، في المسار الكارثي للوباء.

-في أي نوع من غير المتوقع تضعنا هذه الأزمة في مواجهته؟

-إدغار موران: يجلب لنا هذا البواء مهرجانا من اللايقينيات. فنحن لسنا على يقين من مصدر الفيروس: سوق يوهان غير الصحي أو مختبر مجاور، لا نعرف بعد الطفرات التي شهدها أو يمكن أن يشهدها الفيروس، في أثناء تفشيه. ولا ندري متى سيتراجع الوباء وما إذا كان الفيروس سيظل متوطنا. لا نعرف إلى متى وإلى أي مدى سيجعلنا الحجر الصحي نتحمل الموانع، القيود والتقنين. ولا ندري ماذا ستكون التبعات السياسية، والاقتصادية، الوطنية والعالمية للقيود التي فرضها الحجر. ولا نعرف ما إذا كان يتعين علينا انتظار الأسوء، الأفضل، أو الاثنين معا: إننا نسير نحو لا يقينيات جديدة.

-هل هذه الأزمة الصحية الكوكبية هي أزمة التعقيد؟

-إدغار موران: تتضاعف المعارف على نحو متسارع، وفجأة تفيض عن قدرتنا على الإحاطة بها، خاصة أنها تلقي أمامنا بتحدي التعقيد: كيف نجابه، ننتقي، وننظم هذه المعارف على نحو ملائم بربطها وإدراج اللايقين. فبالنسبة لي، هذا يكشف مرة أخر ى نقص نمط المعرفة الذي تم غرسه فينا، الذي يجعلنا نفصل ما لا ينفصل ونختزل إل عنصر واحد ما يشكل في الآن نفسه كلا واحدا ومتنوعا. وفي الواقع، أن التجلي الصاعق للاضطرابات التي نعاني منها هو أن كل ما كان يبدو منفصلا هو مترابط، طالما أن كارثة صحية تفاقم على نحو متسلسل مجموع كل ما هو انساني.
وإنه من المأساوي أن الفكر الطباقي والاختزالي يسود في حضارتنا ويملك زمام الأمور في السياسة وفي الاقتصاد. وهذا النقص الهائل أدى إلى أخطاء في التشخيص، والوقاية، كما إلى قرارات شاذة. وأضيف أن الهوس بالمردودية عند المسيطرين والقادة منا أدى إلى ادخارات مذنبة كما بالنسبة للمستشفيات والتخلي عن انتاج الأقنعة في فرنسا. وفي نظري، أن أوجه القصور في نمط التفكير ، المضافة إلى السيطرة الأكيدة لتعطش محموم للربح، مسؤولة عن كوارث بشرية لا تحصى ومنها تلك التي ظهرت منذ فبراير 2020.

-لقد كانت لدينا رؤية موحدة للعلم. والحال أن الجدالات المتعلقة بعلم الأوبئة والخلافات المتعلقة بالعلاجات تتزايد في أوساط العلم. فهل صار الطب الحيوي حقلا جديدا للمعركة؟

-إدغار موران: إنه لأكثر من الأمر المشروع أن يتم استدعاء العلم من قبل السلطات لمكافحة الوباء. والحال أن المواطنين، المطمئنين قبل كل شيء، خاصة مع العلاج المقترح من طرف البروفيسور راؤول Raoult، اكتشفوا بعدها آراء مختلفة بل ومتناقضة. وثم مواطنين على علم جيد اكتشفوا أن بعض كبار العلماء لهم علاقات مصالح مع الصناعة الصيدلانية التي لدى لوبياتها نفوذ في الوزارات والاعلام، وهي قادرة على إثارة حملات تسفيه للأفكار غير الممتثلة.
لنتذكر البروفيسور مونتانييه، الذي كان بمعية بعض الآخرين، وضد أحبار وصفوة العلم، هو مكتشف فيروس نقص المناعة البشرية، فيروس السيدا. إنها مناسبة لنفهم أن العلم ليس فهرسا للحقائق المطلقة( على خلاف الدين) ، وإنما أن نظرياته قابلة للتحلل تحت تأثير الاكتشافات الجديدة. فالنظريات المقبولة تسعى لأن تصبح معتقدات في المحافل الأكاديمية، وأن الخارجين عن المألوف، من باستور إلى آينشتاين مرورا بداروين ، كريك وواتسون، ومكتشفي اللولب المزدوج للحمض النووي، هم الذين يسهمون في تقدم العلم. ذلك أن الخلافات، وبعيدا عن أن تكون شذوذا، ضرورية لهذا التقدم. وزد على ذلك، فإن كل شيء، في المجهول، يتقدم عن طريق التجارب والأخطاء مثلما بالابتكارات غير العادية التي يساء فهمها ويتم رفضها قبل كل شيء. تلك هي المغامرة العلاجية ضد الفيروس. فثم علاجات يمكنها أن تظهر من حيث لا نكون نتوقعها.
لقد عصفت نزعة التخصص الفائق بالعلم، والتي هي بمثابة إغلاق وتجزيئ للمعارف المتخصصة بدلا من أن تكون نقطة تواصل فيما بينها. والباحثون المستقلون هم بالخصوص من أقاموا منذ بداية الوباء تعاونا يتوسع اليوم بين أخصائيي الأمراض المعدية والأطباء عبر العالم. فالعلم يحيا بالتواصل، وكل رقابة توقفه. وعليه يجب أن نتطلع إلى عظمة العلم المعاصر كما إلى نقط ضعفه في الوقت نفسه.

-إلى أي مدى يمكننا أن نستفيد من الأزمة؟

-إدغار موران: من خلال كتابي "حول الأزمة" (منشورات فلاماريون)، حاولت أن أبين أن الأزمة، فيما وراء ما تجلبه من عدم الاستقرار واللايقين، تتجلى من خلال فشل أشكال التنظيم بالنسبة لنظام، من أجل الحفاظ على استقراره، يكبح أو يكبت الانفلاتات (تغذية راجعة سلبية). فبمجرد ما لا تعود مقموعة، تصير هذه الانفلاتات (تغذية راجعة إيجابية) توجهات فاعلة تهدد أكثر فأكثر، إذا ما تطورت، بخلخلة وتعطيل النظام المأزوم. وفي النظم الحية وخاصة الاجتماعية منها، سيؤدي التطور الغالب للانفلاتات وقد صارت توجهات إلى تحولات، تراجعية أو تقدمية، بل وإلى ثورة.
تستثير الأزمة في مجتمع ما سيرورتين متناقضتين. الأولى تستنفر الخيال والابداع للبحث عن حلول جديدة. والثانية تتم إما بالبحث عن العودة إلى استقرار مضى، وإما بالتعلق بالعناية الإلهية، وكذلك بإدانة أو التضحية بالمذنب. وقد يكون هذا المذنب اقترف أخطاء تسببت في الأزمة، أو قد يكون مذنبا متخيلا، وكبش فداء وجبت تصفيته.
وبالفعل، تنتشر الأفكار المنفلتة والمهمشة بعجلة شديدة: العودة إلى السيادة، الدولة الراعية، الدفاع عن الخدمات العمومية ضد الخصخصة، إعادة التوطين، تفكيك العولمة، مناهضة النيوليبرالية، وضرورة سياسة جديدة. وثم أيديولوجيات وشخصيات يتم تعيينها كمذنبة.
ونرى أيضا، وفي ظل ضعف السلطات العمومية، ازدهارا لصور الخيال التضامني: الانتاج البديل لمواجهة نقص الأقنعة الذي تقوم به مقاولات متحولة أو صناعة حرفية، وتجمعات المنتجين المحليين، التوصيل المجاني إل المنازل، والمساعدات المتبادلة بين الجيران، تقديم وجبات مجانية للمشردين، رعاية الأطفال؛ علاوة على أن الحجر الصحي يحفز القدرات التنظيمية الذاتية من أجل معالجة فقدان حرية التنقل عن طريق القراءة، الموسيقي والأفلام. وبذلك يحفز الحجر الصحي على كل من الاستقلالية والابداعية.

-هل نشهد على انبثاق وعي حقيقي بالعصر الكوكبي؟

-إدغار موران: أتمنى أن يجعلنا الوباء الاستثنائي والمميت الذي نعيشه ندرك أننا ليس فقط أٌدخلنا إلى قلب مغامرة مذهلة للإنسانية، وإنما أيضا نحن نعيش في عالم لا يقيني ومأساوي على السواء. فالاعتقاد بأن المنافسة الحرة والنمو الاقتصادي هما من الحلول السحرية الاجتماعية الكونية يُخفي مأساة التاريخ البشري التي يعمقها هذا الاعتقاد.
إن الجنون المبتهج للنزعة بعد الإنسانية يحمل أسطورة الضرورة التاريخية للتقدم إلى ذروتها وكذلك ما يتعلق بتحكم الانسان ليس في الطبيعة فحسب، بل وأيضا في مصيره، من خلال التكهن بأن الانسان سيبلغ الخلود وسيتحكم في كل شيء بواسطة الذكاء الاصطناعي. والحال أننا لاعبون/ معلوب بنا، مالكون/ مملوكون، وأقوياء/ أغبياء. فإذا كنا نستطيع أن نؤخر الموت بسبب الشيخوخة، فإننا لن نستطيع أبدا إبعاد الحوادث المميتة حيث ستسحق أجسامنا، ولن نستطيع أبدا أن نتخلص من البكتيريات والفيروسات التي تتعدل بصورة ذاتية دون توقف لكي تقاوم العلاجات، والمضادات الحيوية، المضادات الفيروسية، واللقاحات.

-ألم تفاقم الجائحة الانطواء المحلي والإغلاق الجيو-سياسي؟

-إدغار موران: أطلق الوباء الفيروسي العالمي وفاقم، عندنا، أزمة صحية بشكل رهيب تسببت في أشكال من الحجر خانقة للاقتصاد، ومحولة لنمط حياة منفتح على الخارج إلى انطواء بداخل المنزل، ومأزما العولمة بصورة عنيفة. هذه الأخيرة كانت قد خلقت تبعية متبادلة لكن دون أن تكون التبعية المترابطة مصاحبة بالتضامن. والأسوء من ذلك، أنها أثارت، كرد فعل، أشكال من العزل الاثنية، القومية، والدينية تفاقمت في العقود الأولى من هذا القرن.
ومنذ ذلك الحين، انطوت الدول الوطنية على نفسها، لعدم وجود مؤسسات دولية وحتى أوروبية قادرة على التصرف على أساس التضامن بالفعل. وحتى أن جمهورية التشيك قامت باختطاف أقنعة كانت موجهة إلى إيطاليا، والولايات المتحدة قامت هي الأخرى بتحويل شحنة أقنعة صينية لفائدتها كانت موجهة في الأصل إلى فرنسا. لقد أطلقت الأزمة الصحية إذن دورة من الأزمات المتوالية. وهذه الأزمة المتعددة أو الأزمة الكبرى تمتد مما هو وجودي إلى ما هو سياسي مرورا بالاقتصاد، ومن الفردي إلى الكوكبي مرورا بالعائلات، الجهات، فالدول. وبالإجمال، فقد تسبب فيروس صغير في مدينة مغمورة بالصين في اضطراب العالم.

-ما هي الخطوط العريضة لهذا الانفجار العالمي؟

-إدغار موران: بوصفها أزمة كوكبية، فهي تقدم الدليل على المصير المشترك لجميع البشر في ارتباط لا ينفصم عن المصير الإيكولوجي -الحيوي للكوكب الأرضي؛ وفي الوقت ذاته تزيد من حدة أزمة البشرية التي لا تنجح في أن تتشكل على صورة الانسانية. وبوصفها أزمة اقتصادية، فهي تخلخل المعتقدات المتصلبة المتحكمة في الاقتصاد وتهدد بأن تتفاقم إلى فوضى عارمة وعجز في مستقبلنا. وبوصفها أزمة وطنية، فهي تكشف نواقص سياسة آثرت الرأسمال على حساب العمل، وضحت بالوقاية والاحتياط من أجل الزيادة في المردودية والتنافسية. وكأزمة اجتماعية، فهي تسلط الضوء على اللامساواة بين أولئك الذين يعيشون في مساكن صغيرة تعج بالأطفال والوالدين، وأولئك الذين تمكنوا من الهرب إلى إقامتهم الثانية بالمناطق الخضراء.
وباعتبارها أزمة حضارية، فهي تدفعنا لأن نتمثل جوانب الضعف في التضامن والتسمم الاستهلاكي الذي طورتها حضارتنا، وتدعونا إلى التفكير من أجل سياسة للحضارة ( سياسة للحضارة، بالاشتراك مع سمير ناير، آرليا 1997). وكأزمة فكرية، يتوجب أن تكشف لنا الثقب الأسود الهائل في ذكائنا، والذي يحجب عنا التعقيدات الجلية في الواقع.
وبوصفها أزمة وجودية، فهي تدفعنا إلى التساؤل حول نمط حياتنا، وحول احتياجاتنا الحقيقية، وتطلعاتنا الحقيقية المقنَعة في اغترابات الحياة اليومية، وإلى أن نميز بين التسلية الباسكالية الذي تبعدنا عن حقائقنا والسعادة التي نجدها في القراءة، الاستماع أو مشاهدة روائع تجعلنا نرى مصيرنا الانساني بوضوح. وإنها على الخصوص، كان ينبغي أن تفتح عقولنا الحبيسة منذ زمن بعيد للمباشر، الثانوي والتافه، على ما هو أساسي: الحب والصداقة من أجل التفتح الفردي، الجماعة وتضامن ال"أنا" في ال"نحن"، ومصير البشرية حيث يشكل كل واحد منها جسيما منها. وإجمالا، يتوجب أن يعزز الحجر الفيزيقي تحرير العقول.

-ماذا يعني الحجر الصحي؟ وكيف تعيشه؟

-إدغار موران: إن تجربة الحجر المنزلي الدائم المفروض على أمة ما هي تجربة لا تصدق. فالعزل في "غيتو" وارسو سمح لسكانه بالجولان داخل أرجاءه. إنما كان العزل في “الغيتو” يٌحضَر للموت والحجر الذي نعيشه هو دفاع عن الحياة.
لقد تحملته في شروط بامتيازات، شقة بطابق أرضي لها حديقة حيث أمكنني الاستمتاع بقدوم الربيع تحت الشمس، رعاية فائقة من صباح، زوجتي، معززا بجيران طيبين يقومون بالتسوق من أجلنا، و على تواصل مع أقاربي، أحبائي، وأصدقائي، مطلوبا من قبل الصحافة، الإذاعة والتلفزيون لتقديم تشخيصي، وهو ما أمكنني القيام به عبر السكايب. لكني أعلم، ومن البداية، أن الذين يسكنون بأعداد كبيرة في مساكن ضيقة يتحملون الاكتظاظ على مضض، وأن الوحدانيين وخصوصا المشردين هم ضحايا الحجر الصحي.

-وما هي الآثار التي يمكن أن تترتب عن حجر ممدد؟

-إدغار موران: أعلم أن حجرا صحيا دائما سيعاش كعائق أكثر فأكثر. فلا يمكن لأشرطة الفيديو أن تعوض لوقت طويل ارتياد السينما، ولا يمكن للوحات الإلكترونية أن تعوض على نحو مستديم زيارة المكتبات. كما أن منصات "سكايب" و"زوم" لا تقدم شيئا بالنسبة للاتصال الجسدي، ولطنين الكأس التي نشرب. ولا يعوض الطعام المنزلي، على الرغم من جودته، الرغبة في ارتياد المطعم. ولن تلغي الأفلام الوثائقية شغف الذهاب إلى عين المكان لمشاهدة المناظر الطبيعية، المدن والمتاحف، ولن تنزع مني الرغبة في زيارة إيطاليا واسبانيا. فإن الحد مما هو أساسي يفسح أيضا للتعطش لما لا لزوم له.
أتمنى أن تخفف تجربة الحجر الصحي من هوس الترحال الملزم، والهروب إلى بانكوك من أجل جلب ذكريات لتروى للأصدقاء، وأتمنى أن تساهم في تقليص النزعة الاستهلاكية أي التسمم الاستهلاكي والخضوع للتحريض الاشهاري، لفائدة الأطعمة الصحية واللذيذة، والمنتجات المستدامة وغير المستعملة لمرة واحدة. لكن الأمر يتطلب تحفيزات أخرى وأشكال جديدة من الوعي لكي تُدشن ثورة في هذا الميدان. ومع ذلك، هناك أمل في أن بتسارع التطور البطيء الذي بدأ.

-ماذا سيكون، وفق رؤيتكم، ما يسمى "عالم الما بعد" ؟

-إدغار موران: أولا وقبل شيء ما الذي سنحتفظ به، نحن المواطنون، وما الذي ستحتفظ به السلطات العمومية من تجربة الحجر الصحي؟ هل جزء فقط؟ هل كل شيء سيتم نسيانه، فقدانه أو فلكرته؟ إن ما يبدو مرجحا للغاية هو أن انتشار الرقمي، الذي تضخم بسبب الحجر( العمل عن بعد، اللقاءات عن بعد، سكايب، والاستعمال الكثيف للإنترنيت)، سيستمر بأوجهه السلبية والايجابية التي ليس من شأن هذا الحوار أن يعرض لها.
لنتحدث عن ما هو أساسي. هل سيكون الخروج من الحجر بداية للخروج من الأزمة الكبرى أو من تفاقمها؟ فقاعة أم كآبة؟ أزمة اقتصادية هائلة؟ أزمة غذائية عالمية؟ مواصلة العولمة أو تراجع ذاتي لها؟
ماذا سيكون مستقبل العولمة؟ هل ستستعيد النيوليبرالية المهتزة زمام القيادة؟ هل ستقاوم الأمم العملاقة بشكل أكبر من الماضي؟ وهل ستزداد النزاعات المسلحة حدة، بعدما خفت إلى حد ما إبان الأزمة؟ هل سيكون ثم زخم دولي إنقاذي من التعاون؟ هل سنشهد نوعا من التقدم السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي كما حدث في فترة وجيزة بعد الحرب العالمية الثانية؟ هل ستمتد وتتقوى يقظة التضامن التي تولدت إبان الحجر، ليس فقط بالنسبة للأطباء والممرضين، بل حتى بالنسبة لآخر الحبل، من عمال النظافة، الأمناء المستودعون، الموزعون، الذين من دونهم لم نكن لنستطيع البقاء على قيد الحياة بينما أمكننا الاستغناء عن المديف( نقابة الباطرونا الفرنسية المعروفة ب"حركة المقاولات بفرنسا"-المترجم) و عن الكاك 40( مؤشر البورصة الرئيسي لبورصة باريس_ المترجم)؟ هل سيتوسع نطاق الممارسات التضامنية الكثيرة والمتناثرة لما قبل الوباء؟ هل سيستأنف المتحررون من الحجر الدورة المضبوطة، المتسارعة، الأنانية، والاستهلاكية؟ أم ستكون ثم انطلاقة جديدة لحياة الود والمحبة نحو حضارة حيث يتكشف شعر الحياة، وحيث تزهر "أنا" في ال"نحن"؟
لا ندري ما إذا كانت السلوكيات والأفكار التجديدية، بعد الحجر، ستشهد انطلاقتها، وبالأحرى ستُثوَر السياسة والاقتصاد، أم أن النظام المهتز سينهض من جديد.
بوسعنا أن نخشى بشدة التراجع المعمم الذي حدث قبل ذلك خلال العشرين سنة الأولى من هذا القرن( أزمة الديمقراطية، انتصار الفساد والديماغوجية، الأنظمة السلطوية الجديدة، مد القوميات، كراهية الأجانب، والعنصرية).
كل هذه التراجعات (بتعبير أفضل أشكال الركود) هي مرجحة طالما لم يظهر النهج الجديد السياسي - الإيكولوجي- الاقتصادي- الاجتماعي المرشد بنزعة انسانية مُجدَدة. ومن شأن هذا الأخير أن يضاعف الإصلاحات الحقيقية، التي ليست بتخفيضات للميزانية، وإنما هي إصلاحات للحضارة، والمجتمع، ومرتبطة بإصلاحات الحياة.
وإن من شأن هذا النهج( كما أشرت إلى ذلك في كتابي "النهج") أن يجمع بين شروط متناقضة: "العولمة" (لأجل كل ما هو تعاون) و "تفكيك العولمة” (من أجل إنجاز استقلالية غذائية ذاتية وصحية وإنقاذ الأراضي من التصحر)؛ "النمو" (اقتصاد الحاجيات الأساسية، وما هو مستدام، الزراعة الطبيعية أو ما هو بيولوجي) و" اللانمو" (اقتصاد ما هو تافه، وما هو وهمي، والمستعمل لمرة واحدة)؛ "التنمية"(كل ما يحقق الرفاهية، الصحة، والحرية)، و"الن" (في أشكال التضامن الأهلي).

-لعلكم على معرفة بالأسئلة الكانطية: ماذا يمكنني أن أعرف؟ ما الذي يجب علي فعله؟ ماذا يُسمح لي بأن آمل؟ ما الإنسان؟ -، التي كانت وما تزال أسئلة حياتنا. ما هو الموفق الأخلاقي الذي يجب أن نتبناه لمواجهة غير المتوقع؟

-إدغار موران: سيكون ما بعد الوباء مغامرة غير يقينية حيث ستتطور قوى الأسوء وقوى الأفضل، وهذه الأخيرة ما تزال ضعيفة ومشتتة. وليكن في علمنا أخيرا أن الأسوأ ليس مؤكدا، وأن غير المرجح يمكن أن يحدث، وأنه، في خضم الصراع الملتهب بين العدوين غير المنفصلين وهما "إيروس" و "تاناتوس"، من الصحي والمنغم الانحياز إلى صف “إيروس".

-والدتكم، لونا، كانت قد أصيبت بدورها بالأنفلونزا الإسبانية. وتسعى صدمة ما قبل الولادة التي افتتحتم بها كتابكم الأخير إلى أن تبين أنها منحتكم قوة الحياة، وقدرة استثنائية لمقاومة الموت. هل مازلتم تشعرون بهذا التدفق الحيوي حتى في قلب هذه الأزمة العالمية؟

-إدغار موران: تسببت الإنفلونزا الإسبانية لأمي في تلف على مستوى القلب والنصيحة الطبية بعدم الإنجاب. وقامت بمحاولتين للإجهاض، الثانية فشلت، لكن الطفل ولد شبه ميت اختناقا، الاختناق بالحبل السري. ربما اكتسبت في رحم أمي قوى المقاومة التي ظلت معي طوال حياتي، لكني لم أتمكن من البقاء على قيد الحياة سوى بمساعدة الآخر، الطبيب الاختصاصي الذي صفعني لمدة نصف ساعة قبل أن أطلق صرختي الأولى، وبعد ذلك الحظ أثناء المقاومة، المستشفى (التهاب الكبد، السل)، وصباح، رفيقتي وزوجتي. صحيح أن "التدفق الحيوي" لم يفارقني؛ بل إنه ازداد قوة خلال هذه الأزمة العالمية. فكل أزمة تحفزني، وهذه الأزمة، الهائلة، تحفزني بشكل مذهل.

*العنوان من اقتراح المترجم.

المصدر:

Edgar Morin : « Cette crise nous pousse à nous interroger sur notre mode de vie, sur nos vrais besoins masqués dans les aliénations du quotidien », Propos recueillis par Nicolas Truong Publié le 19 avril 2020, Le Monde.

الرابط:

https://www.lemonde.fr/idees/article/2020/04/19/edgar-morin-la-crise-due-au-coronavirus-devrait-ouvrir-nos-esprits-depuis-longtemps-confines-sur-l-immediat_6037066_3232.html