هل مازلتَ شيوعياً يا صديقي؟


عبدالرزاق دحنون
2020 / 7 / 30 - 21:03     

أرسلت لي صديقة قديمة آشورية من أيام الدراسة الجامعية في حلب الشهباء-وهي مهجَّرة الآن من ريف مدينة القامشلي في الشمال السوري، وتعيش اليوم في إحدى الدول الاسكندنافية مع باقي أفراد أسرتها حياة مستقرة- رسالة طويلة عابرة للقارات عبر البريد الإلكتروني قالت فيها: هل مازلتَ شيوعياً يا صديقي؟ لم أفهم مغزى السؤال أول الأمر، وحين أدركتُ ما ترمي إليه اكتشفتُ بأنني ما زلتُ أرتدي بلوزة حمراء عليها صورة جيفارا المشهورة في كل أنحاء العالم. وضعت كفي على جبيني، حرارتي عادية، 37 درجة مئوية، هل عليَّ أن أخلع ردائي الأحمر الذي يحمل صورة جيفارا لأكون شخصاً عادياً من عامة الخلق. يا سيدتي هل هذا الرداء "بطل زيَّه" صار عتيقاً، مهلهلاً، لا يليق بعصرنا الحديث؟ ربما كان الخوف، أو الرغبة بتجنّب المواجهة مع رفاق الدرب هو ما يدفعني إلى الاحتفاظ بآرائي لنفسي والتكتم بشأنها. نعم، يمكنك القول يا صديقتي بأنني مازلتُ حتى اليوم أُحاول أن أكون شيوعياً جيداً.

كنت قد تعرفت إليها في جامعة حلب في مقصف كلية الطب البشري حيث كنا مجموعة من الشباب والصبايا نشرب القهوة ونُناقش قصة كنتُ قد قدمتها للمشاركة في المهرجان الأدبي السنوي في كلية الآداب وأنا ابن المعهد الطبي -قسم تخدير وإنعاش، والقصة بعنوان "مقطع من أوبرا البعوض الطائر" بقيت مع أوراقي في مكتبتي بمدينة إدلب ولم أكن قد عملت لها نسخة إلكترونية مع العديد من القصص الأخرى المنشورة وغير المنشورة. رحلنا عن مدينة إدلب على عجل وتركنا ما يوجع القلب خلفنا. المهم، كانت القصة تحاول أن تنتقد السلطة السياسية بعنف ولكن برمزية وتعمية شديدة والدليل على نجاحي في التعمية أنها قُبلت في المهرجان الأدبي. بمعنى مرت من مقص الرقيب. ثمَّ ألقيتها بصوتي على مدرج كلية الآداب في جامعة حلب في عام 1984وكان في لجنة التحكيم يومها الكاتبان السوريان وليد معماري ونبيل سليمان.

في تلك الأيام كانت البلد لم تخرج بعد من اضطرابات سياسية عارمة شهدت عنفاً عسكرياً غير مسبوق قُتل فيه الآلاف وفقد الآلاف واعتقل الآلاف من جميع التيارات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. لذلك كانت عين السلطة تراقب القصائد العمودية وقصائد التفعيلة والقصائد الحرة والقصص الطويلة والقصص القصيرة والقصص القصيرة جداً والروايات والمقالات والمذكرات والمسرحيات والأغنيات والأفلام واللوحات ما كان طازجاً منها وما بات. وفي شتاء ذلك العام الماطر جاء الشيخ إمام إلى سورية قادماً من لبنان بعد أن أحيا العديد من الحفلات الغنائية في الذكرى الستين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني1924-1984 ليمطرنا بأغانيه التي تخرجك عن طورك فتخرج في مظاهرة تهتف فيها بما تيسر من هتافات ضد أنظمة الحكم المستبدة.

كانت صديقتي الآشورية تطرح أسئلة غاية في الجرأة والعفوية وتريد مني إجابة واضحة وصريحة. وأنتَ في تلك الأيام لا تأمن حتى الجدران التي لها آذان. وفيما بعد صارت القضية أعوص مع الآذان التي لها جدران، وهذه حالة أصعب في المعالجة. المهم، كانت تريد أن تفهم في دقائق معدودة ما الذي يميز الشيوعي عن غيره من الخلق؟

يا سيدتي الشيوعي لا يتميَّّز عن الخلق، وهو لا يريد أن يمتاز عنهم، الكل عيال الله، ومن خلال مسيرتي الطويلة مع الفكر الشيوعي ورموزه أميل إلى رأي المفكر الماركسي العراقي هادي العلوي وخاصة ما جاء في كتابه المهم "مدارات صوفية" تجدين في الكتاب مطارح كثيرة لحرية الفكر وذهابه في حقول معرفية فسيحة واسعة من التراث الفكري العربي والإسلامي والعالمي. يقول في تقديم كتابه: "جاء كتاب مدارات صوفية-تراث الثورة المشاعية في الشرق- في مجمله لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي. بل إن الشيوعية لا صلة لها بالفكر بل هي ليست من الثقافة في شيء بل إن أسوأ غرارات الشيوعيين هم المثقفون"

هل يحتاج كلام هادي العلوي إلى تفسير؟ أعتقد ذلك، لأن هذه الطريقة في التفكير صادمة، بمعنى جسورة، ولا تُساير السائد والمألوف، فقد كان أغلب فراسان الشيوعية الأوائل من المثقفين؟ يا سيدتي الشيوعية أو المشاعية كما فهمتها واحدة من أنضج أفكار كارل ماركس وفلسفته والتي سعت كي تقترب من حلم البشر في العدل الاجتماعي والسلطة البسيطة الخالية من أجهزة القمع والتي يُدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم. أليس مُدهشاً للفكر البشري أن يطرح ماركس وأنجلز -نظرياً على الأقل-اضمحلال الدولة في العهد الشيوعي؟ هي فكرة غاية في الثورية تمخض عنها رأي ماركس في الدولة والتي هي هيئة للسيادة الطبقية، تمارس عملها وبسط نفوذها من خلال مؤسسات الجيش والأمن والمخابرات والشرطة، وهذه الهيئات وجدت في الأساس لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى. لذلك يؤكد أنجلز بأن الدولة في المرحلة الشيوعية لا عمل لها وستذهب إلى حيث يجب أن تكون في متحف العاديات إلى جانب المغزل اليدوي والفأس البرونزية.

عدتُ إلى هادي العلوي حيث يؤكد بأن كلمة "شيوعية" اشتُقتْ في العربية على المصدر الصناعي من الشيوع، وهو الفعل الازم للفعل المتعدي إشاعة، وأدى هذا الاشتقاق المستحدث إلى أوهام كثيرة ضارة، حيث اعتقد الكثير من الناس أن الشيوعية بدعة من بدع العصر الحديث جاءتنا من الغرب، والاسم قد يكون حديثاً والمسمى قديماً، ولا ملازمة بين الاسم والمسمى لأن الاسم متغير وجذر الفعل ثابت.

شيوعية أو مشاعية أو تسبيل، هي اسماء مترادفة لمسمى واحد. والمشاعية بالتعريف الاقتصادي تضاد الملكية فالمشاع لا يُملك ويتشكل تاريخ الشرق من الصراع بين المشاعية والتملك. والتسبيل عند أهل الشرق يعني وضع المال، أو ما يَنُوب عنه، في السبيل، الذي هو الطريق، أو جعله في سبيل الله، أي توزيعه على عباد الله. والمصطلح أورده فيلسوف المعرة بقوله في اللزوميات:

ففرق مالك الجم
وخل الأرض تسبيلا

وماء السبيل مرفق عام يُقدم ماء الشرب مجاناً للناس وهو من أشكال المشاعيَّة في الشرق. وقد ذكر الباحث والمؤرخ السوري فايز قوصرة في كتابه "من إبلا إلى إدلب" أحد عشر سبيلاً في مدينة إدلب في الشمال السوري تتوزع في حاراتها حين كان الماء عزيزاً في منتصف القرن الثامن عشر.

وقرأتُ في كتاب "نزهة الأنام في محاسن الشام" للعلامة عبد الله بن محمد البدري الذي عاش في القرن الرابع عشر أن أصحاب البساتين في غوطة دمشق كانوا يضعون الفواكه في أجران حجرية ضخمة على أبواب البساتين ومن يحتاج من أبناء السبيل يأخذ منها حاجته. وفي البساتين من يزرع أشجاراً للفقراء يعرفونها بالتكرار وغالباً ما تُزرع على تخوم الدروب ليتناولها الدَّرابة. وكان جدي عثمان دحنون-رحمه الله- والذي ظلَّ فلاحاً مرابعاً بلا أرض، حيث رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في الشمال السوري في ستينات القرن العشرين مُدعياً بأن هذه الأرض مَكْس، فهي حرام، في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنَّة" مع ذلك ظلَّ يحمل من حصته من ثمر التين والعنب وخضار الصيف إلى بيوت الفقراء والمساكين.

على الشيوعيين أن يستلهموا من هذه الأفكار ما يتناسب مع عصرنا الحالي ليستطيعوا الاندماج في واقعهم الاجتماعي المعيش. بمعنى أن يكون حضورهم في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية غالباً على الحكي السياسي، وحتى لا تقتصر فعالياتهم على العمل الأيديولوجي في الأحزاب والذي تهرب الخلق منه هروب السليم من الجربان. وأظن بأن على الشيوعيين تجديد طرق العمل بين الناس، وأحسبها بادرة طيبة أن يكون للشيوعيين مطاعم شعبية في الأحياء الفقيرة، بسيطة في شكلها، مجانية في تعاملها مع الخلق، منتشرة في أرجاء البلاد، يجلس على موائدها من يشاء، ليأكل ما يشاء، كما يشاء، دون حسيب أو رقيب. وإطعام الجياع مهمة جليلة تستحق من الشيوعيين العمل عليها في كفاحهم اليومي. ما أجمل أن يدخل الفقير الجائع مطعماً نظيفاً يُقدم وجبة أكل بسيطة مشبعة، من ثمَّ يخرج حاملاً بيده جريدة ترفع شعار المطرقة والمنجل. هل يمكننا كشيوعيين تحقيق هذه الحلم؟ لأنني أعتقد بأن الشيوعي عنده وجدان وضمير وشجاعة وقيم وأخلاق وإيمان. وهو في الأصل "مناضل اجتماعي" لا تحكمه السياسة بل يحكمه الضمير والوجدان. ولينظر كل شيوعي إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذا الزمن الأغبر والذي من المفترض -من كل شيوعي- أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم.

أذكر حادثة تعود بالزمن إلى عام 1934 عندما كان الجيش الأحمر للعمال والفلاحين الصينين يقوم بتحرك استراتيجي كبير، من مقاطعة جيانغشي في الجنوب إلى الشمال، في مسيرته الشهيرة التي قطع فيها 12500 كم. مرَّ الجيش الأحمر بمقاطعة هونان وأقام بعض أفراده في بيوت الفلاحين. عندما غادروا هذه البيوت قَطَعَ كل فرد من الجيش الأحمر لحافه إلى جزئين، أخذ جزءاً، وقدم الجزء الآخر للفلاحين الفقراء. بعد خمسين عاماً على تلك الحادثة، زار أحد الصحفيين هذه المقاطعة، حيث حكى الفلاحون هناك له هذه القصة، وقالوا: الشيوعيون هم أولئك الذين قطعوا ألحفتهم لتقديم نصفها للفقراء.

ترمي الشيوعية يا صديقتي-في التصور النهائي- لإنهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية لجميع البشر، وتمكين الحرية والديمقراطية من العمل في مفاصل المجتمع، وتصفية دور الدولة الاستبدادي والتي هي -أي الدولة- من الأساس أداة للهيمنة والقمع الطبقي، والدولة في العموم-من خلال مؤسساتها القمعية- هي سلطة غاشمة تفرض القهر والجوع والذل على الخلق أو العامة أو الرعاع أو الطبقة العاملة في المعامل والمزارع، بحيث لا ترحم ولا تترك الخلق لرحمه الله. الشيوعية تستند في رؤيتها وطريقة عملها إلى الوقائع، وتُشدد على الموضوعية، لأن الواقع أشياء عنيدة على حدِّ تعبير لينين، وبالتالي تحاول أن تجذب وتقود جماهير غفيرة إلى الحراك السياسي للخلاص نهائياً من عبودية رأس المال ورتق فتقه الذي يتمثل في هذا الفارق الكبير بين الأغنياء والفقراء على كوكب الأرض.