من الأوتوماتون إلى الإنسان: الثورة التكنولوجية المنتظَرة


محمد عبد الشفيع عيسى
2020 / 7 / 26 - 20:46     

أسماءٌ و أفعالٌ فرضتها الجائحة الوبائية الراهنة، و صِرْنا نتداولها في الخطاب دون أن نحاول البحث في "الماورائيات" الثقافية المتنوعة، و منها: التباعد الاجتماعي، التباعد الجسدي، "العمل من البيت"، التعلم من بُعد و التعليم الإلكتروني، "الإدارة بدون أوراق"، المنصات الرقمية، اللقاح والعلاج، المصل والدواء، الإصابات والوفاة (المرض و الموت.!)، أجهزة التنفس الاصطناعي وأسرّة العناية المركزة، العزل الذاتي، المستشفيات والصيدليات، الرقابة على الدواء (من حيث النوعية والسعر) و البحوث الدوائية، الروبوت، الذكاء الاصطناعي... و هلمّ جرّا. خليط مزدحم من الكلمات، الألفاظ والدلالات، يتأرجح بين اللغة والحياة.
ونتلفّت من حولنا فنجد هباء كثيرا مع ما يسمونه "الهلع": خوف من غد و من الموت الفجائي، والسلوك "العبثي"على مستوى الأفراد و الحشود، و جلّ ما يأمله الحكام والمحكومون الآن هو استعادة (الماضي الجميل..!)..هذا الماضي الذي لم يمض عليه دهر أو عشرات السنين، ولكنها شهور و ربما أسابيع. ماضٍ حافل رغم ذاك بالفوضى، بما فيها من ظلم معمّم و مأساة، وحروب بلا نهاية، وهجرة قسرية وتهجير، ولهاث من أجل كسرة خبز لملايين الناس، ولكنها الحياة التي يشوبها شعور (جميل) بالنهاية الوشيكة للعالم (على أيدي الليبراليين الجدد)، على وقع تدهور البيئة الطبيعية-الاجتماعية، والمحيط الحيوي، وطغيان الشمس على الأرض مع أمل في "المريخ".!، و تدافُعٌ في كل اتجاه بدون محاولة البحث عن معنى، ولكنه تسابق من أجل السبق على الضروريات والطيبات؛ فإلى أين المصير..؟
هكذا تنهار أحلام صنعتها و روّجتها ثقافة خيمت علينا و على آبائنا وأجدادنا مئات السنين، منذ أشرق فجر العصر الحديث (مطلع القرن السادس عشر) بوعده المراوغ من أجل "التقدم"؛ فإذا به تقدم (مادي) لقلة من العالم على حساب الكثرة الكاثرة، عن طريق الاستعمار والحرب والظلم الاجتماعي المقيم. هذا هو عالم العصر الحديث، عالم "النظام الكوني"- عالم الرأسمال باختصار.
و هذه التكنولوجيا المتقدمة قرينة الحداثة والتصنيع، ماذا جنينا منها في نهاية الأمر؟ سارت دون هُدى، لا يرشدها أحد، تمضي بقوة قصورها الذاتي دون ان يُعنى أحد بالتوقف والتبيّن: أين نحن و إلى اين المسير؟
وكيف نسأل أو نتساءل وقد أوْكلنا أمرنا إلى ما لايرحم: منطق التكاثر، المالي والسكاني و الإسكاني، و قانون الربح، وتعظيم العوائد للمالك الخاص، والدول الضعيفة المستأثرة بحماية الأقوياء.
وهذا ما جنيناه في الأخير: وباء جائح، ومرض دون وقاية متوفرة او علاج ناجز، حيث مدارس دون تعليم، ومبانٍ اسشتفائية، إن وُجدت، دون إصحاح. و لا يلتقي إنسان بإنسان. هكذا حقق الوباء النبوءة، فأصبح التباعد الاجتماعي والجسدي، والحضَر الممزق المعزول، شفاءً من السقم، وهذا ما كانت هيّأت له بالفعل "التكنولوجيا المتقدمة للمعلومات والاتصالات"، حيث تجميع "البيانات الكبيرة الضخمة" لتسهل السيطرة من الحكومات على الناس، وحيث يحل الكائن الآلي (الروبوت) محل الإنسان (الحقيقي)؛ وحيث يزدهر عالم قائم على وسائط التواصل الاجتماعي دون اتصال بلحم ودم؛ وتشيع "الإعلاميات" و "الحواسيب" و "الحسّاسات" و "إدارة الأشياء من بُعد"، و يحلّ الذكاء المصنوع محل الذكاء المطبوع. يحلّ الصوت الساري عبر الأسلاك محل النطق الحيّ و المطبوع الورقي الصقيل. وتؤدّى الأعمال بالحد الأدنى من التدخل البشري المباشر، وتدار الحكومات "إلكترونيا" دون أُناس تخفيفا للزحام وكسبا للوقت في عالم المال و في "عصر السرعة". هذا عالم الآلة، ولو "الآلة المفكرة"؛ الآلة التي تتعلم فتُعلّم، عالم الآلية- "الأوتوماتية" أو (الأوتوميشن)، "الأوتوماتون" أو الآلة المسيّرة ذاتيا بطريقة "التحكم الأوتوماتيكي"، إن صح التعبير.
وداعا للإنسان إذن، فكيف نسترد الإنسان؟
كيف نعود سيرتنا الأولى فنستعيد التكنولوجيا من قبضة العلم الذي هو بلا إنسان، وغن شئت فقل: كيف نعيد "أنسنة" العلم والتكنولوجيا جميعا، بدءً من نقطة البداية، أي الفكرة المفكِّرة، إن صح التعبير، بدءً من "اللامادي" ذهابا إلى "المادي" بالتأكيد، ولكن دون أن انفعل الضدّ و نسير في الطريق العكسي كما نسير على غير هدى.
من علم المادة والسرعة القصوى، عالم الفيزياء والكيمياء والميكانيكا، إلى عالم البيولوجيا الجزيئية البشرية وعالم البحث في الدماغ "المخ"، انطلاقا من الاجتماعيات و الإنسانيات و الآداب والفنون، من شغاف الوجدان الرفيع، حيث الروح..!
قد أكلنا وشربنا من هذا العلم –حتى "العلم الكبير"، ومن هذه التكنولوجيا-حتى "التكنولوجيا المتقدمة للمعلومات والاتصالات"، وشبعنا وقد امتلأت البطون و"الرؤوس" إلى حدود التخمة الباطنة والظاهرة، و (ضحكوا علينا..!) عشرت السنين، حين صدّعوا رؤوسنا بحديث (علمي) متقن الصياغة ومعسول، عن الثورات الصناعية والتكنولوجية المتسارعة والمتلاحقة. وهكذا من الثورة الصناعية الأولى في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر، الى الثورة الثانية في خواتيم التاسع عشر وبواكير العشرين، إلى الثالثة أعقاب الحرب العالمية الثانية ثم أواخر السبعينات من القرن المنصرم والثمانينات حتى التسعينات؛ و اخيرا أكملوا (تصديع رؤوسنا) بحديث متقن علميا ومنمق بلاغيا حول "الثورة الصناعية الرابعة". هذه الثورة التي قالوا عنها وقلنا إن جوهرها "الأتمتة الرقمية"، ومجالها الفسيح تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، و أدواتها الأجهزة الحساسة و الروبوت، وجهاز دورتها الدموية نظام الذكاءالاصطناعي، و مستقبلها في "إنترنت الأشياء"..!
هكذا قالوا و قلنا، ونحن من بينهم؛ وإذا بالجائحة الوبائية تكشف المستور فيتكشف ضعف المنظومات المبنية على مهل خلال السنين لصروح العلم وبنايات التكنولوجيا و عمائر العمران، فنعرف أنه لا أحد من العمالقة، عمالقة "الحرب والسلام" و "التنمية البشرية ومكافحة الفقر"..! كان بمستطاعه أن يكتشف حقيقة المرض و وسائل الوقاية والعلاج، و إذا بالفيروس غير المستكشف يفتك بأرواح الشعوب، و إليه ينظرون و ينتظرون.
هل بالغنا في القول، وهل جنحنا إلى بلاغة القول دون فصل الخطاب..؟ لا ليس ذاك. فقد سال من الأقلام- ومن قلمي- حبر غزير، حول ما ينتظرنا وما يجب ان نتهيأ له في مقبل الأيام من عالم العلم والتكنولوجيا، والثورة الصناعية القادمة، حتى خامسة منتظرة، ولو من خلال بناء "سلاسل الإمداد و العرض و القيمة" إقليمية وعربية قومية، وإفريقية، حتى لا نقع فريسة "التطور غير المتكافيء"..! وما كنا ندري أننا كنا مصابين بما يشبه العماء الفكري، او لعله ضرب من ضروب ما يقرب من "غيبوبة فكرية"، أحادية البُعد.
إنه بدلا من الاستغراق في مادة البيانات والمعلومات و "اقتصاد المعرفة".!، والذكاء "المؤتمت" و إدارة الناس والأشياء من بُعد، ينبغي استشراف عالم جديد، وعصر جديد..! عالم يتمركز حول الإنسان و ليس حول "الأوتوماتون"؛ عالم وعصر كفيلان بالتوجه نحو غَناء الروح و وإصحاح الجسد، والتفتح الحيوي، وتعددية الأبعاد..! نحو العناية بعلم الأمراض، واستعادة زخم أبحاث "الجينوم البشري"- التي توقفت طوال العشرين سنة الماضية- و علوم الجينات والوراثة والزراعة، العلوم "الأحيائية". ذلك للحدّ من طغيان "الهندسات" وبناء السيارات ومعدات النقل و "المركبات ذات المحركات" والمباني الخرسانية العالية. و لتحل اللقاحات والأدوية المستخرجة من النباتات ومن أبحاث البيولوجيا الجزيئية محل الكيماويات و صناعة الأدوية الحالية.
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ..
و لمنْ يستريب فيما نقول هنا، أنقل إليه فقرات من دراسة كنا كتبناها منذ عشرين سنة بالتمام، عنوانها :(( العولمة المقيّدة للتكنولوجيا: مثال صناعة الأدوية بالتطبيق على حالة جمهورية مصر العربية)) و تمّ تقديم ملخصها ضمن "تقرير التنمية البشرية" المصري عام 2000، و نشرت كاملة بعد ذك في كتابنا ((الاقتصاد السياسي للعولمة والتكنولوجيا، نحو رؤية جديدة، الدار العالمية للكتاب، بيروت، 2004، ص ص 87-135)). في هذه الدراسة كنا نظن أن المسار العالمي للعلم والتكنولوجيا في صناعة الدواء يمكن ان يتجه اتجاها جديدا، غير الذي حدث بالفعل والذي فرضه للأسف منطق الربح لشركات الدواء عابرة الجنسيات وحكوماتها (حكومات الحرب و السلام !)، حيث فاجأتْهم وفاجأتنا "فيروسات كورونا"، و بقينا أمامها عاجزين، عرايا أو أشباه عرايا، و كأننا لم ننفق موارد الكون على ذلك العلم وتلك التكنولوجيا.!
في الدراسة المذكورة قلنا (بحسن نية شديد..!) ما يلي (ص ص 92-93 من المرجع المذكور):
(( لعل أكثر ما يثير الاهتمام فى مجال تكنولوجيا علوم الحياة فى السنوات القليلة الأخيرة هى التكنولوجيا المرتبطة بالبيولوجيا الجزيئية وخاصة جزىء "الدنا DNA. وكان مشروع الطاقم الوراثى البشرى "الجينوم البشرى"، وما يزال، أهم معالم الاهتمام العالمى، خاصة الأمريكي، بالتكنولوجيا الحيوية، سعياً إلى فك الشفرة الوراثية الكائنة فى مائة ألف جين داخل الخيط أو الحبل المحتوى على نحو ثلاثة بلايين من "الفصوص" البيولوجية فى "الدنا". وقد أعلن فى أمريكا في العام 2000 عن النجاح فى الفك المبدئى للخريطة الوراثية للإنسان، على أن يتم العمل التفصيلى خلال السنوات التالية.
وتتفرع عن ثورة البيولوجيا الجزيئية والطاقم الوراثى ثلاثة قضايا رئيسية سوف تشكل محور العمل التكنولوجى فى العقد القادم: الهندسة التفصيلية للجينوم البشرى ورسم خريطته الوراثية الكاملة؛ العلاج بالجينات؛ وأخيرا الاستنساخ. ومن هذه المحاور تتحدد معالم الثورة العلاجية والدوائية القادمة، بواسطة:
1-التقدم الجذرى فى"علم الأمراض" انطلاقاً من "هندسة" الجينوم ورسم خريطته الكاملة.
2-السيطرة على حركة الخلايا الحية بعلاجات مستحدثة تختلف فى الجوهر عن العقاقير السائدة "الكيماويات". 3-استخدام تقنيات الاستنساخ على مستوى الخلية و العضو المعين في الجسم، من أجل تحضير "أجسام مضادة" تفيد فى بعض الحالات المرضية.
ومن المتفق عليه أن ثورة الأحياء الدقيقة تشكل أهم مصادر التطور فى صناعة الدواء فى الأعوام المقبلة، باعتبارها مصدر إلهام لثورة موازية فى الطب الوقائى والعلاجى معاً، ومن ثم ثورة "صيدلانية" كاملة ... و لا يمكن تنفيذ هذه الثورة بدون قبول تحدى تكنولوجيا المعلومات المتقدمة والقائمة على "المعلوماتية" أى معالجة المعلومات باستخدام الحاسبات والشبكات. ويتطلب ذلك موارد بشرية ومادية هائلة، تكرسها سياسات علمية وتكنولوجية موجهة نحو أولوية علوم الحياة متضافرة مع تكنولوجيا المعلومات. وقد توفرت هذه المتطلبات الضرورية بدرجة كافية لدى الولايات المتحدة الأمريكية واحتلت موقع الصدارة فى عالم "التكنولوجيا العالية" على الصعيد العالمي - العولمي. وكما يقول أحد الخبراء: "الولايات المتحدة هى القائد فى مجال "البيوتكنولوجى" بلا منازع، وسيسهم مشروع الجينوم فى تأكيد احتفاظها بقيادة العالم .... ولكن السؤال الجوهرى هو: إلى أى مدى يمكن أن تستغل هذه القيادة؟".
. وبعد هذه الثورة التكنولوجية المركبة:علوم الحياة – المعلوماتية، فإن تقدم البحث والتطوير سوف يمس القطاع الدوائى فى جميع مراحل صناعة الأدوية ومن مختلف جوانبها)).
انتهى الاقتباس مما كتبته قبل عشرين عاما. ونظن أن أيّاً من تلك الوعود "الأحيائية" في مجال العقاقير لم يتحقق، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا لشيء إلاّ لأنّ أولويات "الرأسمال" الربحية الخاصة في مجال الثورة التكنولوجية، لا تبرر ذلك الجهد "الإنسانيّ" الكبير..!