تونس : الوضع دقيق .


فريد العليبي
2020 / 7 / 26 - 17:45     

الوضع دقيق والرؤية غائبة ، اللوحة قاتمة والليل بهيم زاحف ، والضباب كثيف. الجميع تقريبا موقن أنه أصبح غير قابل للتحمل ، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأخلاق . وبينما ينشغل تجار الأزمات باستثمار الانهيار لكسب الربح يبحث الشعب في تاريخه وجغرافيته عن منابع قوته، لكي تنتصب قامته مثل نخلة قادرة على السير في الدروب السهلة والوعرة .
حكومة حلمت بالبقاء خمس سنوات فماتت خلال أشهر قليلة ، رئيسها الذي اعتقد أن نهايتها بعيدة استيقظ ليجد أن أجلها قد حان ولم يبق الا وضعها في الكفن ، أحزاب النظام تتصارع على وراثتها ، و مناورات ومماحكات لا تنتهي فصولها في النهار الا لكي تنطلق مجددا في المساء ، تتحالف ثم تتخاصم، تتقارب ثم تتباعد ، تتضامن ثم تتقاتل .
برلمان ميت مثل جثة يتصارع الدود داخلها على ما بقي من لحمها المتعفن، وبعض ذئاب تنظر اليها بخبث ، فقد نهشتها ولم يعد لها فيها ما يُغري بمواصلة أكلها فقد اقتسمتها ولم يبق الا بعض لحم يكسو عظامها فاستعدت للمغادرة ، بينما يسمع في الأرجاء طنين ذباب .
رئاسة دولة تبحث بين الرفوف عن أسلحتها فتجدها في صواريخ جاهزة للانطلاق وعندما يتكلم ساكن قصرها عن المؤامرات الخفية، التي يتعانق في حبكها ونسج خيوطها أشرار الداخل والخارج ، تدرك أن الملفات التي أمامه خطيرة، والا ما تكلم بتلك العبارات ، يلومه بعضهم على عدم البوح بحقائقها ولكنه يضحك في سره ليقول إن وقت كشفها لم يجن بعد ، وأن الأهم من الإفصاح عنها هو افشالها واحباطها ، حتى لو كانت أحلاما أو أضغاثها ، سلاحه حتى الآن الدستور، ولكنه يحتفظ بأسلحة أخرى يمكنه الدستور نفسه منها ، وقد اختار في أحيان كثيرة ساحة تحذير السابحين في بحيراتها الراكدة باحات المؤسسة العسكرية ، وكان الجنود الواقفين قبالته يرددون تصميمهم على المواجهة ، بما يعنى أن معارك كبيرة على وشك أن تندلع.

شعب حزين و متعب ، تم وضع أعز ما فيه من قوة، ونعني شبابه على هامش التاريخ فتدافع بين أمواج البحر المتلاطمة للنجاة بجلده في برور أخرى ، وبين ميت في أعماق اليم وميت في غياهب سجن ، هناك بعض الناجين الذين تنتظر الدولة منهم بعد سنين مورد رزقها من العملة التي يصعب عليها الفوز بها .
يقول الحكام إن الوضع دقيق ، ولكن ليست هذه هي المرة الأولى التي يعبرون فيها عن ذلك ، فقد رددوا تلك الجملة مرارا وتكرارا ، كما أن حلولهم المقترحة لإصلاحه هي نفسها بين لحظة وأخرى من لحظاته ، مثل تكوين حكومة مصغرة ومحاربة الفساد ، واغلاق باب الانتداب في الوظيفة ، وتشجيع الاستثمار ودعم المؤسسات الصغرى والمتوسطة ، والاقتصاد التضامني وأخلقة السياسة ، والتوقيع على مواثيق الشرف ، ولكن دون نجاح يذكر.
يقول الشعب أيضا إن الوضع دقيق ، ولكن قواه الحية المغلولة يداها لها حلول أخرى، مثل تغير النظام السياسي والاقتصادي جملة وتفصيلا ، بقطع يد " الخارج " ويد " الداخل " الشريكين في الاستغلال ، بناء السيادة الوطنية وحمايتها وتوزيع الثروة بالعدل ، الاستثمار الوطني رئيسيا في الصناعة والفلاحة والصحة والتعليم والثقافة ، تصرخ دماء الشعب في عروقه مستعدا للموت لكى يعيش الوطن ويحقق تلك الآمال ، ويلعق جراحه ،ويتعافى جسده ، وتتجسد أحلامه في الحرية والعدل .
لقد جربت حلول الحكام فلم تأت بغير المزيد من المعضلات ، وبقي تجريب حلول الشعب ، ولكن التجربة في التاريخ غير التجربة في مخبر علم ، فهى تتعلق باستراجيا العمل ، وفق ما تفرضه موازين القوى ، قد تأتي تلك الحلول اليوم وقد تأتي غدا ، ولكن مجيئها لا ريب فيه ، ووقتها فإن تونس القادمة ستصبح حقيقة واقعة ليرقص الشعب..