تعاريف ومفاهيم أهم قضايا المسألة القومية (1)


عبدالله تركماني
2020 / 7 / 26 - 00:28     

الأمة: ظاهرة تاريخية، يمكن تجريدها على شكل عاملين محسوسين: طبيعي- بشري (الأرض وجماعة من البشر)، وثقافي (اللغة- الثقافة)، إضافة إلى عامل الصيرورة التاريخية التي تتحدد بالتطور الاقتصادي - الاجتماعي- السياسي. وهذه العوامل الثلاثة أساس معظم النظريات في الأمة، بغض النظر عن اهتمام كل نظرية بعامل من هذه العوامل، واعتباره العامل الأساسي في تكوين الأمة.
فما هي إذن" المجموعة من البشر" التي تشكل الأمة؟ إنها المجموعة البشرية التي تتميّز بأصل " إثني " واحد، رغم أنّ التطور البشري يجعل الاختلاط والتداخل بين المجموعات البشرية مسألة ممكنة. فلقد حدثت لدى الأمم المختلفة، لكن دون أن تفقد صلتها بأصلها، بل اكتسبت بعض السمات التي استفادت منها في حركة تطورها. وهنا تبرز اللغة كعامل تفاهم فيما بينها، وبالتالي تؤسس، في سياق تفاعلها مع الطبيعة، ثقافتها المشتركة. وهذا يوضح شيئاً من التداخل بين مفهوم الأمة ومفهوم الشعب(1).
وهكذا نلاحظ، أن المعنى الاصطلاحي للأمة يفيد بأنها جماعة من الناس يعيشون على أرض متصلة ينطقون بلسان واحد، كوّنوا تاريخيا حضارة مُشتَرَكة، ويرغبون في العيش معا لتحقيق الاستقلال والمصالح المشتركة.
ولكي تكوِّنَ مجموعة بشرية أمة يجب أن تحظى بالاستقرار، أي أن تغدو الأرض وسيلة الإنتاج الرئيسية. وإذا ما توفر هذا الشرط فإنّ الأمة يمكن أن تتكون في مراحل مختلفة من التطور التاريخي، كما أنّ الأمة يمكن أن تتفكك بفعل انهيار الدولة المركزية وتشكّل دويلات وإمارات ومناطق منعزلة، وذلك تحت تأثير عاملين: داخلي، يتمثل في انهيار البنى الاقتصادية والاجتماعية للدولة. وخارجي، يتمثل بقوى خارجية، طامعة بالمجال الجغرا – سياسي -اقتصادي للدولة، قادرة على التأثير في الوضع الداخلي. ولا شك بأنّ ذلك التفكك لا يعني، بحال من الأحوال، تصفية نهائية للأمة. إذ من الممكن أن تنهض الحركة القومية وتعيد توحيد الأمة، ثم أنّ إزالة بنى تأسست في مرحلة ما من تاريخ الأمة لا يفترض إزالة كل البناء الفوقي الذي تأسس على ضوئها.
ومن جهة أخرى، فإنّ الأمة الحقيقية لا يمكن تمييزها إلا بشكل استدلالي، مما يستوجب إيلاء اهتمام خاص لتغيّرات المفهوم، خاصة منذ القرن التاسع عشر. والمفاهيم متجذرة، اجتماعياً وتاريخياً وإقليمياً، ويجب متابعتها بلغة هذه الحقائق. لذا، فإنّ الأمة والظاهرات المرتبطة بها " يجب تحليلها في ضوء الشروط والمتطلبات السياسية والتقنية والإدارية والاقتصادية وغيرها ". فقد كان المعنى الأساسي للأمة، والمعلن بالشكل الأكثر تكراراً، سياسياً. فكان مرادفاً للشعب والدولة بمفهوم الثورتين الأمريكية والفرنسية. لقد كانت الأمة والدولة القومية، كما كان يراها أيديولوجيو عصر الليبرالية الظافرة (1830-1880)، جزءاً من الأيديولوجية الليبرالية بطريقتين (2):
1- لأنّ نشوء الأمم كان طوراً من أطوار التطور، أو الارتقاء البشري، من المجموعة الصغيرة إلى مجموعة أكبر، من العائلة إلى القبيلة إلى المنطقة إلى الأمة، فـ " إنّ الأمة مرحلة من التطور تم بلوغها في منتصف القرن التاسع عشر ". وكان الوجه الآخر لهذا المنظور الليبرالي " الأمة كارتقاء " من الناحية العملية "استيعاباً لمجتمعات وشعوب صغيرة في مجتمعات وشعوب أكبر ".
2- ارتبطت الأمة الحديثة ببقية الشعارات الليبرالية الكبيرة عن طريق الترافق الطويل أكثر مما ارتبطت بفعل الضرورة المنطقية، مثلما ارتبطت الحرية والمساواة بالأخوّة.
ولكنّ أيديولوجيي الليبرالية لم يبرزوا الحاجة الماسة للاقتصاد الرأسمالي إلى السوق القومية الموحدة، بل إلى التوسع الاستعماري لتأمين المواد الخام للصناعة الرأسمالية والأسواق لتصريف منتجاتها.
هكذا كان مفهوم الأمة، كما رآها المفكرون الليبراليون، وفي العصر الذي أصبح فيه أيضاً مبدأ القومية قضية كبرى في السياسة الدولية، يختلف عن المبدأ الويلسوني لتقرير المصير القومي، الذي هيمن على السجال الذي دار حول المسألة القومية منذ الحرب العالمية الأولى.
على كل حال، فإنّ الشعوب الصغيرة التي كان حقها في السيادة وتقرير المصير مكفولاً طبقاً لمبادئ ويلسون، لم يكن - من الناحية العملية - مسموحاً لها، من قبل جيرانها أو مستعمريها الأكبر والأقوى منها، بممارسة هذا الحق. لذا، من الضروري أن نضع في اعتبارنا أنّ بناء الأمة، مهما يكن مركزيا بالنسبة لتاريخ القرن التاسع عشر، كان ينطبق على بعض الأمم فقط.
ولذلك فإنّ معظم الدول - الأمم الراهنة يتألف من شعب سائد وبقايا شعوب أُخضعَت وحُلّت ثقافتها في الدولة الجديدة. فـ " الفرق بين الدولة - الأمة الحديثة والدولة - الامبراطورية القديمة ليس في حقيقة الأمر فرقاً جوهرياً فيما يتعلق بقوانين النشوء والتطور والانحلال. ولكنه قائم في إنكار الدول القومية، التي نشأت على إثر تفكك الإمبراطوريات الكونية السابقة، لطابع التعدد الأقوامي، وإكراهها الشعوب الصغيرة المُخضَعة والأقليات إلى التخلّي عن هويتها وتميّزها "(3).
كما أنّ الدارس لمعاني وأبعاد الأمة لابدَّ أن يميّز بين مرحلة الدولة -الأمة، التي كانت فيها الأسبقية للدولة على الأمة، ومرحلة الأمة - الدولة، حيث كانت فيها الأسبقية للأمة على الدولة. وفي كلتا الحالتين فإنّ الأمة تشير مباشرة إلى " سلطة الدولة القومية "، وعلى هذا فـ " إنّ تكوّنَ الأمة ونشوءها هو تكوّنُ الشعب ... مضافاً إليه عملية بناء الدولة وتكوّنُ السلطة. فالأمة ليست مجرد الشعب بل الشعب مضافاً إليه سلطة الدولة القومية أو مبرر قيام هذه السلطة على الأقل" (4).
فبالرغم من أهمية العوامل الطبيعية والثقافية والصيرورة التاريخية في تكوّن الأمم، فإنّ العنصر الأساسي لهذا التكوّن يكمن - أساساً وأولاً - في الشعب، باعتباره علاقة اجتماعية وسياسية، أي مركز ومكانة ووظيفة، تحددها العلاقة القائمة بين الشعب وسلطة الدولة القومية، وبمعنى آخر هو العلاقة بين الدولة والمجتمع. إنّ الذي ينقل الشعوب من حالة التشتت السياسي إلى حالة الوحدة، هي تلك العلاقة التي تعطيها قيمة وتجعل الدولة تجسيداً لها ولهذه القيمة. أي تلك العلاقة التي تجعلها تجد تعبيرها وتنظيمها وتحقيقها لذاتها في الدولة، لا تلك التي تجعل من تحقيق الدولة نفياً لها وتنكيلاً بها.
وطبقاً للمفاهيم التي ذكرناها، فإنّ الأمة العربية " موجودة بالإمكان، لا موجودة بالفعل "(5). فلماذا الأمة العربية موجودة بالإمكان وليست موجودة بالفعل؟ هنا لابدَّ من طرح ثلاثة جوانب: أولها، يتعلق بتكوّن الأمم، ودرجة " النضج " التي تسمح بذلك. وثانيها، يتعلق بدرجة التطور الاقتصادي -الاجتماعي التي تؤسس لنضج تكوّن الأمم، وبالتالي تفرض تحقيق الوحدة القومية. وثالثها، يتعلق بالأسباب التي جعلت تأسيس دول وطنية/قطرية ممكناً.
ولكن ثمة رؤيتين عربيتين مختلفتين لمفهوم الأمة (6): أُولاهما، تلك التي تنظر إلى الأمة بالمعنى التقليدي (الأمة = الملة)، تلك التي تنظر إليها بوصفها عملية استعادة للماضي، الذي يُختزَل إلى لغة مقدسة، أو تاريخ مُؤَقنَم ومُنتَقى ومُجَزّأ، أو إلى " جوهر " عربي ميتافيزيقي محلّق فوق التاريخ، والمتجسد في رسالة خالدة.
وثانيتهما، تلك التي تنظر إلى المشروع القومي في منحى عصري ومستقبلي، ليس همُّه استعادة الماضي، بل بناء المستقبل على ضوء الخبرات التاريخية للماضي، وعلى أسس الحاضر، وتعيد الاعتبار إلى دور الدولة القومية في بناء الأمة وتطويرها، ولا تحصر دور الدولة في مجرد تتويج المسار القومي.
والواضح أنه لا يمكن للأمة أن تستكمل وجودها بالفعل إلا بالدولة، فالدول طــوال تاريخ الإنسانية إما خلقت الأمة تماماً أو أطّرت قدراتها أو أعطتها مقوّماتها.
1- كيلة، سلامة: العرب ومسألة الأمة، الطبعة الأولى - بيروت، دار الفارابي -1989، ص 21.
2 - هوبسباوم، إريك: الأمم والنزعة القومية، ترجمة: عدنان حسن، الطبعة الأولى - دمشق، دار المدى للثقافة والنشر-1999، ص ص44-47.
3 - د. غليون، برهان: بيان من أجل الديمقراطية، الجزائر- دار بوشان للنشر- 1990، ص 53.
4 - د. زيادة، معن (مشرف): بحوث في الفكر القومي العربي، الطبعة الأولى - بيروت، معهد الإنماء العربي -1983، ص 22-23.
5 - مرقص، الياس: نقد العقلانية العربية، الطبعة الأولى - دمشق، دار الحصاد للنشر والتوزيع-1997، ص 436.
6 - الجباعي، أحمد: (أطروحات أولية حول تجديد الفكر القومي)، عن مجلة المستقبل العربي – بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد (163)- أيلول/سبتمبر 1992، ص 89-90.