ثورتا يوليو وتموز .. انقلاب أم ثورة ؟


رضي السماك
2020 / 7 / 24 - 23:52     

مرت خلال الشهر الجاري على التوالي الذكرى الثامنة والستين على ثورة 23 يوليو / تموز 1952 تموز المصرية بقيادة الزعيم الوطني القومي جمال عبد الناصر ، والذكرى الثانية والستين على ثورة 14 تموز / يوليو 1958 العراقية ؛ وفي كل عام مع حلول ذكرى هذين الحدثين التاريخيين الكبيرين يتجدد الجدل حول الموقف منهما ، وعما إذا كانت كلتاهما ثورة أم " إنقلاب " . واللافت في جدل هذا العام أنه جرى أكثر اتساعاً واحتداما داخل العراق مقارنة بمصر فيما يتعلق بثورة 14 تموز العراقية .
ومع أن تغيير النظام في كلا البلدين جرى من خلال الانقلاب العسكري ، إلا أنه من الإجحاف بمكان تشبيهما بأي من الانقلابات العسكرية العربية الاخرى التي كان وراؤها مطامح شخصية للإنقلابيين ؛ ذلك بأن ثورتي يوليو / تموز المصرية والعراقية كانت كلتاهما تمثل تطلعات الشعبين المصري والعراقي في التحرر وتحقيق الاستقلال الوطني الناجز والتخلص من النظامين الملكيين الفاسدين العميلين للاستعمار الإنجليزي . ويشكل ذينك " الإنقلابين " تتويجاً لنضالات جماهيرية طويلة ضد النظامين والاستعمار . وبفضلهما حقق كلا البلدين العربيين إستقلالهما التام غير المنقوص وسيادتهما الوطنية الكاملة ، وتحررا من الوصاية الإنجليزية التي كانت تكبل إرادة النظامين السابقين ، وبفضل هذين " الإنقلابين " تحققت إصلاحات وتحولات إجتماعية جذرية لصالح شعبيهما ، وبخاصة الطبقات الفقيرة ( الطبقة العاملة والفلاحون على الأخص ) وذوي الدخل المحدود ، ولولا هذه الإنجازات الملموسة لما حقق قائداهما - ناصر وقاسم - شعبية جماهيرية لا ينكرها إلا جاحد مكابر أو ذو أفق سياسي ضيق . بهذا المعنى يكتسب كلا " الانقلابين " عن جدارة صفة " الثورة " ، ولا يغير من هذه الصفة الأخطاء القاتلة التي وقع فيها زعيما الثورتين والتي مكنت قوى الثورة المضادة من الإجهاز على مكاسبهما ؛ فبإعدام قاسم على أيدي الإنقلابيين البعثيين بدار الاذاعة في شباط الأسود عام 1963 أنتهت ثورة 14 تموز ، وبوفاة عبد الناصر المفاجئة عام 1970 أنتهت ثورة يوليو .
ويُعد تغييب الديمقراطية ونزعة التفرد بالحكم والقرارارات السياسية لدى القائدين هو الخطأ الرئيسي الجسيم التي تندرج تحته جميع الأخطاء القاتلة ، فعبد الناصر وحتى بعد هزيمة جيشه في حزيران / يونيو من 1967 أمام العدو الاسرائيلي التي أودت بحياته بعد ثلاث سنوات من الهزيمة فقط ؛ لم يستطع الاتعاظ من أسباب الهزيمة المشار إليها ومن ثم أهمية التخلص من نزعة الانفراد في الحكم والقرارات السياسية المصيرية ؛ بل البطش بالنشطاء اليساريين إذا ما اقتضى الأمر لمجرد الشبهة أو لاختلافهم في الرأي مع آرائه ومواقفه السياسية مهما صغرت أهميتها . وعبد الكريم قاسم من جهته مع أنه يُحسب له بأنه كان أقل عداءً لليسار العراقي وعلى وجه الخصوص الحزب الشيوعي العراقي الذي اختار بعض الكفاءات من كوادره في حكومته ؛ إلا أنه طبيعته كان شكاكاً في اليسار ولم تتسم مواقفه من الشيوعيين بالثبات الدائم ؛ فظلت سياسته متأرجحة ، وسرعان ما أبعد تلك الكوادر من حكومته ، مما سهل أن يكون لقمة سائغة للإنقلابيين الذين أنقضوا بإنقلابهم الفاشي الدموي أوائل 1963 جراء عدم اعتماده على حلفاء شرفاء موثوقين من القوى اليسارية والديمقراطية ، مع العلم هي التي تصدت بصدورها العارية لمحاولة احباط الانقلاب ، وقدمت في هذه المقاومة الباسلة تضحيات هائلة .
ومن المفارقات المأساوية التي أفضت إلى النهاية المبكرة لكلتا الثورتين وقلما تناولها في تقديرنا الكتّاب الشيوعيون في الأقطار الثلاثة ، العامل المتمثل في صدامهما في تلك الفترة التاريخية الحرجة ، فقد انكشف تورط عبد الناصر في دعم الانقلابيين في انقلاب 8 شباط الأسود في العراق ، إذ كان يطمح أن يسير قاسم منصاعاً في ركابه بدمج العراق في الوحدة الاندماجية المرتجلة التي تمت بين بلاده و سوريا في شباط / فبراير عام 1958 بدون قيد أوشرط ، وهو حدث لم يشارك فيه قاسم ؛ إذ تم قبل بضعة أشهر من نجاح ثورة تموز العراقية بعدئذ بقيادته . كما كان قاسم يرفض هذا الاسلوب الأوامري الفرضي للوحدة ، ووقف معه في ذلك الشيوعيون الذين كانوا يطرحون طرحاً بديلاً أكثر واقعية يتمثل في الاتحاد الفيدرالي مع العراق بديلا عن الوحدة الإندماجية الفورية ؛ دون مراعاة خصائص التركيبة السكانية المتفاوتة للبلدان الثلاث ؛ وكذلك تفاوت التطور الاقتصادي والاجتماعي فيما بينها . وإن كان في تقديرنا حتى " الاتحاد الفيدرالي " معرضاً للانهيار ما لم يقم على اُسس ديمقراطية بعد دمقرطة الأنظمة الثلاثة . وللأسف فإن تدني الوعي الشعبي بأهمية الديمقراطية يتحمل نصيباً أيضاً في مسؤولية تأييد الوحدة ، حيث كانت تطغي حينذاك على على وعي الشعوب العربية مهام التحرر الوطني والشعارات القومية أكثر من الوعي بأهمية ربطها بالحقوق الدستورية والديمقراطية . والحق ما كانت الثورتان لتفشلا لو أن قيادتي الثورتين تعاونتا بالاستناد على التحالف مع اليسار والشيوعيين وسائر القوى الوطنية والديمقراطية الشريفة الحقة، ولو أنهما وضعتا خطة واضحة المعالم بنية صادقة لارساء تظام ديمقراطي دستوري تعددي يقوم على فصل السلطات والتعددية السياسية وكفالة الحريات العامة ، ولما تمكنت قوى الثورة المضادة التي قفزت على السلطة من القضاء على ما تحقق من مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية مهمة .