الاقتصاد السياسي للمنظمات غير الحكومية


ناجح شاهين
2020 / 7 / 19 - 17:46     

الاقتصاد السياسي للمنظمات غير الحكومية المحلية
هناك ارتباط بنيوي للعمل "الأهلي" العربي عامة والفلسطيني خاصة بالأجندات العولمية التي لا تخفي هدفها في خلق شرائح طفيلية تابعة للمشروع الاستعماري الكوني. وهذه المسألة ما عادت –فيما نتوهم ونأمل على الأقل- قضية غامضة في حاجة إلى إيضاح، ولذلك نجد أن المشتغلين في المنظمات غير الحكومية أنفسهم يشرعون حديثهم في هذا الموضوع بلفت النظر أولاً إلى أنهم يدركون "النوايا" الشريرة للمول، ولكنهم بذكائهم ودهائهم الذي لا قبل للمولين به على ما يبدو، يستطيعون أن يخدعوه ويحولوا أمواله إلى اتجاه آخر يخدم فلسطين، والتنمية، والاستقلال، وبناء الوطن والمواطن فيما يخص الصحة والتعليم، والتزريع والتصنيع. غني عن البيان أن "المية بتكذب الغطاس" وأن ما أنجز في العقود الثلاثة الأخيرة ببركات التمويل هو فقط خلق شريحة واسعة من أنصار المشروع الاستعماري الكوني يتركزون في رام الله التي أصبحت حتى من وجهة نظر الكتاب المستشرقين المقيمين فيها تجسيداً للوهم والسراب والخضوع للآخر حد التماهي مثلما يشير عنوان رواية صدرت منذ عقد من الزمان تحت عنوان دال هو رام الله الشقراء. فيما يلي نريد أن نستعرض باختصار أداء المنظمة غير الحكومية بغرض تفحص تكوينها وثقافتها الداخلية ومقدار ما يميزها عن القطاع الخاص أو القطاع "العام" الفلسطيني. فإذا كانت تلك المنظمة التي تعيش بفضل التمويل القادم من جيوب وكالات التنمية العالمية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحكومات أشد الدول بطشاً ونفوذاً في الملعب الكوني لا تستطيع بحكم تبعيتها البنيوية إلا أن تكون "قواعد للآخر" مثلما يقول عنوان كتاب لعادل سمارة، فإنها قد لا تعدم ما يميزها من حيث النشاط، والمحتوى، وطرائق الممارسة التي تصبغ أداءها على الأرض. لذلك نقوم في هذه العجالة بتفحص انطباعي من حيث المبدأ لما يدور داخل دهاليز المنظمات غير الحكومية وأروقتها. ولعل أول ما يلفت النظر في المنظمات غير الحكومية –خصوصاً كبرياتها- هو الرواتب العالية التي يتمتع بها موظفوها، خصوصاً كبار موظفيها الذين يتربعون في مواقع مهمة تخص صنع القرار، أو –وهذا هو الأهم- يمتازون بأنهم مفاتيح التمويل، لأن صلاتهم بالممول الأجنبي على ما يرام. قد يجهل كثير من أبناء بلادي أن الفتيات والشبان القادمات والقادمين من شمال العالم يأتون لقضاء وقت ممتع، ومن أجل التغيير. كما أن بعضاً منهم يأتي وفي ذهنه بعض الأوهام الملتبسة عن العرب من النواحي الجنسية. ولا بد أن من يحسنون "تلبية" تطلعات "الشماليين" وتوقعاتهم وأحلامهم بتجربة شرقية تقترب من مستوى الأسطورة التي في رؤوسهم يحوزون الرضا كله. وهكذا يمكن لهم أن يحصلوا على المكافأة المتمثلة في "الفند" دون أن أخاف عدم الفهم، لأن لغة الأنجزة عممت الكثير من الكلمات الإنجليزية. هكذا إذن لا بد من وجود علاقات دافئة متعددة الأوجه بين طلائع العمل المجتمعي المحلي الذين يسعون إلى الاندماج في الطبقة الممولة في المستوى الكوني بمعرفتهم باللغة الإنجليزية من بين أمور أخرى، وبين أفراد وطواقم التمويل القادم من الشمال. ولا بد أن الكثير منهم بطبيعة الحال يستدخل بإخلاص لا نفاق فيه مفاهيم الديمقراطية الساحرة دون منازع، وحقوق الإنسان وقضايا المرأة، والتنمية، وبناء القدرات، والتسامح، وحقوق المهمشين والمثليين وغير ذلك من القيم الليبرالية التي تهدف مثلما أصبح معروفاً إلى استبدال قيم حرب التحرير، والاستقلال، وفك الارتباط والتبعية، وبناء اقتصاد مستقل معتمد على الذات في النواحي كلها. باختصار يتحول هؤلاء إلى أبواق لا تكل ولا تمل عن الدعوة إلى الليبرالية والاندماج التبعي بالعالم الذي تمثله على الرغم من أن ذلك يتم في الأعم الأغلب بدون وعي، أو إذا توخينا الدقة بدرجة من "سوء النية" إذا شئنا استعارة مفهوم سارتر: إنهم يدركون على نحو غامض أنه قد يكون وراء الأكمة ما وراءها، ولكنهم يستسهلون "تطنيش" مخاوفهم انطلاقاً من الخيرات التي ُتغدق عليهم في مقابل احتمال غامض بأن يكون ما يعملون ضاراً ببلادهم وأبناء شعبهم وأمتهم. ولا بد أن السفر والترحال والفنادق سبعة نجوم وصحبة الشقراوات الحسان هو غيض من فيض فيما يخص جنة الممولين التي تنفتح لأشخاص سبق لهم معاناة الاعتقال وشظف العيش والحرمان بأشكاله. ولعل ما يزيد من إخلاص منظمات الأنجزة أن القائمين عليها لا يتمتعون في الأعم الأغلب بالكثير من الموهبة أو التدريب الذي يسمح لهم بالحلم بأية فرصة عمل تشبه من قريب أو بعيد وظيفتهم المريحة ذات الدخل العالي والامتيازات الكبيرة. وهذا يذكر بموظفين وموظفات كبار في القطاع "العام" لا يؤدون مهمة من أي نوع مفيد ولكنهم يتلقون بدورهم رواتب وسفريات وامتيازات لا يحلم بها عالم فيزياء نووية في دولة عملاقة مثل الصين الشعبية. هكذا يتشكل الولاء للاستعمار العالمي على أسس راسخة لا يمكن أن تهتز، بل يمكن أن يهتز في سبيلها أي انتماء أو ولاء آخر سواء أكان وطنياً أو قومياً أو أخلاقياً أو عقائدياً. لا جرم أن هذه الصورة لا بد أن تقود مراكز النفوذ في الأنجزة إلى تعيين أقاربهم السياسيين أو العشائريين في الوظائف المتاحة في منظمتهم. وذلك يحقق هدفين في آن معاً: أولاً الأقربون أولى بالمعروف، ثانياً يتم درء خطر الفضيحة بأن يأتي أحد من خارج "الجماعة/العصبة" فيكتشف عبث الممارسة التي يخفيها الخطاب الأيديولوجي والإعلامي –المدفوع الأجر غالباً- عن نشاطات عظيمة ستغير وجه الوطن والمواطن في ميادين التنمية الزراعية، والصناعية، وتدريب قدرات الشباب، ورفع الوعي العام، وحقوق الإنسان، والضغط والمناصرة من أجل القضايا الاجتماعية الحساسة...الخ. غني عن القول إن الفقاعة الإعلانية/الإعلامية الكبيرة تسد الأفق محاولة ستر عورة الواقع الفعلي الذي يسود فيه أمران لا ثالث لهما: القضم المتواصل لفلسطين حتى تكاد أن تختفي، والتآكل المتواصل للإنتاج حتى يؤول إلى الصفر. أما عنوان البلاد وسياستها واقتصادها فهو على وجه التعيين: تنفيذ المخطط المعد بدقة في عالم الشمال سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وقبض الريع/الثمن لقاء ذلك. في هذا الإطار نظن أنه ليس من المفاجئ أن نسمع قعقعة دون أن نرى طحيناً، كما أن "الطبيعي" أن نجد انهماكاً منقطع النظير بالتغطية الإعلامية لأفعال لا وجود لها. ولا ضير من بعض البيروقراطية التي تستهلك الوقت في أي شيء، أي شيء: البحث في كيفية إغلاق المؤسسة أو فتحها، طرق استخدام السيارات التابعة للمؤسسة، نوعية الأطعمة والأشربة الواجب تقديمها ضيافة في هذا النشاط أو ذاك، كيفية الحصول على فواتير وسندات قبض تغطي أنشطة في الميزانية دون أن تكون موجودة، وغير ذلك. هنا بالطبع لا بد من تثمين قدرات الموظف أو الموظفة "المبدعين" في هذه المجالات. لكن يظل المجال الأهم في كل مؤسسة هو كيفية إقناع الممول بتقديم "الفند". وهنا تبرز أهمية القطاع الذي يقوم بكتابة "البروبوزال"، فهذا هو روح المؤسسة على الحقيقة، ولا بد أن كثيراً من المؤسسات تخضع فعلياً للنفوذ والهيمنة التامة للشخص الذي يحضر التمويل. ومن اللطيف بالفعل أن هذه الظاهرة قد امتدت لتصل الجامعات الفلسطينية من قبيل بيرزيت وأبوديس وغيرهما، فالوطن كله أصبح وحدة واحدة من منظمات الأنجزة مع اختلاف أسمائها ما بين قطاع عام، ومؤسسات أهلية، ومؤسسات غير حكومية... الخ. هل يوجد هنا أية أهمية لطبيعة النشاط المنفذ على الأرض؟ الإجابة بينة بذاتها: المهم هو الحصول على التمويل، ولذلك يستحسن أن يكون مدى ما تقوم به المؤسسة طيفاً واسعاً يحيط بكل شيء ممكن، من قبيل التنمية، وحقوق الإنسان، وتدريب الباحثات والباحثين، والصحة، والمرأة...الخ. هذا مفيد جداً في تيسير حصول المؤسسة على أكبر جزء ممكن من كعكعة التمويل التي يتنافس عليها الكثير من الأكلة. هناك بالطبع أكثر من مؤسسة أنجزة "عملاقة" تعمل في كل شيء، وتتلقى التمويل من المصادر الممولة كلها. ولا يمنع أن يكون هناك أنشطة أو مشاريع تناقض بعضها بعضاً لأن المهم في النهاية هو تدفق التمويل بأكبر قدر ممكن، كأننا في مواجهة مؤسسة استثمارية رأسمالية عادية. كانت إحدى المؤسسات المحلية تعمل في مجال تدريب الباحثات والباحثين بإجمالي يصل إلى نصف مليون دولار سنوياً. وفي هذا السياق كانت تدرب ما يربو على ثلاثين شخصاً في مهارات البحث سنوياً. كان برنامجاً طويلاً يمتد لسنة كاملة. في السنة الخامسة احتاجت المؤسسة إلى شخص لتوظيفه في دائرة الأبحاث، ولكن المؤسسة لم تستطع أن تجد أحداً ممن دربتهم يصلح للمهمة. ولعل ما زاد الطين بلة هو وجود خبير أجنبي في البحث أراد التحقق من امتلاك طالب الوظيفة للمهارات الأساس في البحث، وكانت النتيجة أن المؤسسة ظلت بدون باحث مدة عشرة شهور إلى أن اهتدت إلى شخص من خارج الدائرة التي دربتها والتي تزيد على المائة. عدم الفاعلية مثلما لاحظنا في المثال السابق هي القاعدة في عمل منظمات الأنجزة. ولنتذكر أن ذلك لا يظهر في التقييم والمتابعة و"الأوديت". بالعكس يظهر أن أهداف التدريب قد تحققت ما بين رضا المتدربين، والمدربين، والمؤسسة، والممول القادم من الشمال، وشركة التقييم والأوديت. أما في واقع الحال فإن ما تحقق هو ربط مائة شاب وشابة جدد بعجلة التمويل الأجنبي وأجنداته الهادفة إلى تقويض ما تبقى من خميرة تصلح لبناء هذا الوطن التعس. أحياناً تصل الأمور حد السخرية السوداء المريرة: في العام 2003 كان الوطن يئن تحت وطأة دبابات شارون الجاثمة على صدر مراكز المدن في رام الله ونابلس والخليل وجنين المثخنة بالجراح. كان هناك نشاطات واسعة من المقرر أن ينفذها أحد المراكز وتغطي عشرات الآلاف من الدولارات. ما حدث هو أن شيئاً من التدريب والبرامج الأخرى لم يتحقق بسبب الظروف الأمنية، ولكن كل شخص يعمل في تلك المشاريع تلقى نصيبه المالي، وكُتبت تقارير تصف النجاح في تحقيق الأهداف. ولم يعترض أحد أو ينبس ببنت شفة. وهذا يذكرنا بالوجه الآخر للموضوع: في العام نفسه حقق أبناء الضفة الغربية أعلى مستوى من العلامات في امتحان الثانوية العامة، وفي حينه كتب أحمد حرب من جامعة بيرزيت مقالاً ساخراً يقول شيئاً من قبيل إننا بهذا الشكل نثبت لشارون أنه لا يستطيع منعنا من صنع المعجزات العلمية والأكاديمية حتى عندما تكون الجامعات والمدارس مغلقة. وهذا ما تكرر هذا العام في سياق الإغلاق المتصل بكورونا.
لا جرم أن منظمات الأنجزة لا تهدف إلا إلى بقائها حية ترزق، تترعرع وتتوسع مالياً وبيروقراطياً بما يضمن لرؤسائها وملاكها وكبار موظفيها من محدودي الذكاء والانتماء والعطاء أن يواصلوا الحياة في بحبوحة من العيش قد يحسدهم عليها أبناء الشعوب العربية المجاورة الذين يفترض أنهم يعيشون حياة طبيعية لا احتلال فيها، ولا اجتياحات يومية. لذلك تواصل المظمات الأهلية أنشطتها التنموية والتوعوية في الاقتصاد والمرأة وحقوق الإنسان والديمقرطية مع دفع المجتمع بدرجة أو بأخرى بعيداً عن التسيس باعتبار أننا في مرحلة البناء بعد أن أنجزنا الدولة. بالطبع يواصل الاحتلال في هذه الأثناء عمله لتطهير فلسطين. لكن ما أهمية ذلك؟ أعتقد أن خبراء الأنجزة يمكن أن يواصلوا عملهم على نحو أكبر وأعمق وأوسع في حال تجمعنا في خيام في البصرة أو المفرق أو حتى في كندا واستراليا.