الهم الإنساني والرمز في شاعرية ريم البياتي


شاهر أحمد نصر
2020 / 7 / 19 - 14:17     

لحظة انبلاج الفجر، عندما يصحو الكون، وتبدأ الحساسين تغريدها، لحظة صفاء النفس، اذ تأخذ خيوط الفجر تمحو عتمة الليل، لحظة من أحلى لحظات العمر؛ لحظة لا تنسى...
منظر الثريا المتلألئة في ليل تشريني صاف وسط كورس من النجوم المتلألئة في كبد السماء؛ لوحة من أحلى اللوحات الكون؛ لوحة لا تنسى...
ولادة شاعرة - بل ولادة ثريا الشعر الأصيل - في رحاب بلادي، لحظة، ولوحة لا تقل شأناً، ولا جمالاً عن لحظة انبلاج الفجر ليغمر الكون ضياءً وإلفة...
حينما أقرأ قصائد الشاعرة ريم البياتي أتذكر أجمل اللوحات وأبدعها... يغمرني هذا الشعور لمّا أقرأ أشعارها في ديواني: "هذيان الحطب"، و"شوك السنابل" المطبوعين عامي 2019، و 2020 على التوالي، وديوانها "مزامير الوجع " قيد الطباعة في الهيئة العامة للكتاب في وزارة الثقافة بدمشق، وديوانها "لتلك الوجوه أصلي" قيد الطباعة، أيضاً، في اتحاد الكتاب العرب بدمشق؛ فضلاً عن قصائد تنشرها في صفحتها الإلكترونية، وقصائد لم تنشر بعد، وقد شرفتني بقراءتها...
لغة الشاعرة فصيحة سلسة عذبة تذكرنا حلاوتها، وجذالتها، بأسلوب السهل الممتنع:
"القلب ساح للسلام..
وديار أسراب اليمام..
فإذا وصلت دياره عند المغيب...
فترفّقي لا تُفزعيه...
وعلى يديه..
حطي بصمت، واقرئيه
مني لعينيه السلام..."
(هذيان الحطب. ص14)
الشعر عموماً وسيلة من الوسائل التي تعيننا على الحياة، وفي السعي الاجتماعي، والفردي، للسمو بإنسانية الإنسان... والشعر يحبب الحياة إلينا، ويدفعنا إلى الدفاع عنها بالتفاعل مع الآخر... قصائد ريم البياتي أنموذج فتان في هذا السياق، يغتني بالرموز التي تبعده عن اللغة التقريرية المباشرة، وعن طلاسم وشعوذة مستسهلي قرض الشعر، في الوقت نفسه:
"تركوا عناوين الدروب الموحشات
على يدي...
فمددتها للنحل...
أشعلت الشموع على شبابيك الغياب
لعلّها...
تُهدي سفائنهم شراع النور
في ليل طويل...
(هذيان الحطب. ص30 )
الشاعرة مسكونة بهموم الناس والوطن... جريئة في وضع إصبعها على الجرح، عند البحث في أغوار هزيمة تكبلنا، بدءاً بتكبيل إرث قديم ضاغط، وليس انتهاء بتلك القيود التي تكبل حريتنا:
"آخر الناجين من خَرَفِ العشيرة
قال إنّ المخبر السري مزروع ببابي
فنزعت الجلد...
عرّيتُ كتابي...
لم أجد إلا بقاياي القديمة...
وقصيدا أحمر العينين من زمن الهزيمة."
(هذيان الحطب. ص47)
الهمّ الفلسطيني يطغى على وجدان شاعرتنا، ولا نبالغ إن قلنا إنّ شاعرتنا تعدّ قضية الشعب العربي الفلسطيني قضيتها الأساسية، وهي كإنسان مرهفة الإحساس تعيش معاناة هذا الشعب بكل جوارحها: وهل يوجد إنسان ضميره حيّ، لا تهزّه معاناة هذا الشعب؟ فتخلد الشاعرة في قصائدها ذكرى الثائرين في سبيل الحرية والكرامة:
"في السفح أسراب الجراد،
وقمح أمي
ما يزال على البيادرْ،
وأنا أحبُّ القمح في عيني
أمي .... والضفائرْ،
وأحبُّ أن أعدو بهذا الكون
أحيانا كطائرْ.
نامي قليلاً
كي ألمَّ الحبَّ
من عينيكِ،
من أميّ ،
ومن برد المخيم والجياعْ،
وألَقِّمُ القدر (المحتم)
بالضياع..."
(لــ: ثائر الحماد – مزامير الوجع. ص168)
دلال المغربية مثال آخر من أمثلة ذروة كفاح الشعوب في سبيل الحرية والكرامة والقيم الإنسانية النبيلة، حين تشارك المرأة شعبها في نضاله في وجه من لا يأبهون لتلك القيم... ها هي ذي شاعرتنا تحييها بقصيدة مليئة بالصور، والمشاعر، والأحاسيس الإنسانية النبيلة الصادقة:
"باسم ما يربو على عشرين مليونا
من الاوتاد
دُقّتْ
في ثنايا الخاصرةْ،
باسم من مرّوا بصمتٍ
يعبرونَ الموت من حيفا
ودرب عاثرةْ،
باسم سكينٍ تهاوتْ
حين نام القوم
فوق الحنجرةْ،
باسم من ظلوا هنالكَ
يحرسونَ العشبَ
كي تأتي الظباء الثائرةْ،
باسمهم
جاءت دلالْ."
(لكلّ نساء العرب– مزامير الوجع. ص190)
للعراق مكانة خاصة في وجدان وشعر ريم البياتي - كيف لا، وهي: (يسرى رجب مصطفى) التي اختارت لنفسها لقب (ريم البياتي) - ينم عن شغفها بالعراق والعراقيين... تتعدد المواضيع والقصائد التي تعالج فيها هموم الشعب العراقي، وشجونه... نقدم مثالاً على ذلك مقطعاً من قصيدة "قرآن النخل" في مطلع ديوان "مزامير الوجع":
"كيف النهرُ يسيرُ يميناً
والأمواجُ تصيرُ مَرارْ ؟
يا( شدّةَ ) ريحانٍ ..
يومَ أتيتَ... وكان النبع يؤم شفاه الظمأ،
وكنتَ الملح الراعف شوكاً في حدق الصبّارْ .
أعطني كفّكَ قرآنَ النخلِ
أُرتّلُ بعضَ الآياتِ ،
فالضوءُ شحيحٌ، يا عبدَ الجبارْ ،
وذاكَ القارئُ ضلَّ السطرَ ،
وبدّلَ وجهَ الكوثر بالعسكرْ ،
وكلانا في فكِّ الموتِ القادمِ حطبا ،
وربوعُ الديرةِ في الصوبين
أوارٌ.... وأوارْ ".
( قرآن النخل – مزامير الوجع. ص5)
يتلازم وجع الشاعرة مع وجع الإنسان المقهور... بسطاء الناس المقهورون هم أهلها، وحياتهم ملح قصائدها، تعيش معهم معاناتهم، وتنقلها لنا في صور معبرة، ولغة فريدة تميز شاعرتنا وحدها، نابعة من أعماق المأساة، تمتاز في جوهرها بصدق مشاعرها، وأحاسيسها:
"يا عبدَ الزهرا* ،
يا بنَ صباحُ الخير ،
ويا بنَ الوجعِ الزاحفِ فينا كالشلالْ،
ما ظلَّ على الشفتين كلام
كي نلقيهِ وبعضَ سؤالْ.
يا بن الموّالِ الطالعِ من أرحام النخلِ،
كلُّ سيوفُ الرِدّة ِتحتالْ لتحتطبَ الموّالْ،
أيظنُّ السدُّ بأن الماءَ يخاصمُ جذرَ النخلِ،
وعبدَ الزهرا ذاك الشيبةُ
يذوي عطشاً،
والتاريخُ يُعيدُ مُصابَ الآلْ،
الوقتُ غبارٌ والأنصابُ تمدُّ السيفَ،
وكفُّ النخاس يمدُّ القُربةَ للأنواء،
وشفاهُ العطشِ المالح
تلعنُ أوزارَ الأغلالْ.
(عبد الزهرا: رجل من البصرة، حمل صورة ولده الشهيد، وخرج يطالب بالحياة الكريمة.)
(نساج القاع– مزامير الوجع. ص119)
إنّ أي إنسان طبيعي لا بدّ أن يتأثر من أعماقه بمأساة الشعب اليمني، فما بالك بشاعرة مرهفة الإحساس... لقد شغلت مأساة الشعب اليميني، ومعاناة أطفاله حيزاً هاماً من شعر ريم البياتي:
"لا تسأليني موعداً أعطيته في الصيف
قبل النومْ.
لا تسأليني كيف مرُّ الوقت في عُرفِ الضحى
كيف استفاق اليومْ.
تلك العصافير التي يصحو على ضحكاتها
صبح الهوى
سكتت ونامت في شباك الموت.
وانقطع الكلامْ."
( عصافير ضحيان– مزامير الوجع. ص15)
وتزداد التساؤلات، صدقاً وشفافية، عن أسباب كلّ ذلك العلقم الذي صبّ على، أبناء بلقيس، أهلنا في اليمن:
"آه ياآزالْ أين اليومَ أروى؟
أين تلك الروحُ في حصن مسارْ؟
أين ثلاّ؟
أين ابراهيمَ ربّانُ المدارْ؟
أين من كانوا خيوط َ العقدِ
أزرارَ الإزارْ؟
يا بني قحطانَ، في تلك
الرواسي الشامخاتْ،
كيف أصبحتمْ سُكارى؟
ثم أمسيتمْ مواتْ؟
لا يموتُ الجذرُ في قاعٍ
سقاهُ اللهُ من ماءٍ زلالْ
ثم يحيا العلقمُ المعجونُ
في ماءِ الوبالْ."
(آزال: من أسماء صنعاء. أروى: ملكة يمنية. حصن مسار: عاصمة أروى. ثلا: بلدة الرئيس اليمني الأسبق ابراهيم الحمدي. إبراهيم: الرئيس اليمني الأسبق ابراهيم الحمدي.)
(فستان بلقيس – مزامير الوجع. ص18)
تتوحد الشعوب في آهاتها، وفي صمتها، وفي نضالها في سبيل الحرية والكرامة، ولقمة العيش الكريمة... تصور شاعرتنا هذه الحالة التي تنذر ببركان، وتحذر من خطأ الاستهانة به:
"لا تستهينوا بالجياعِ وصمتِهمْ،
قد يصنعونَ الخبزَ في أحلامهمْ،
فابقوا على قبضاتِكم
فوقَ المعابرْ،
لا تأمنوا الريح،
فقدْ تلقي لهمْ
حطباً وتنوراً وبعضَ القمحِ
في أحداقِ عابرْ."
(في الشِّعب1 – مزامير الوجع. ص196)
هناك قصائد تتغلغل في أعماق النفس البشرية كنسغ الحياة... تهزّ الوجدان، وتلهب الروح وتغذيها، كما ينعش الأكسجين والهواء الروح... قصائد ريم البياتي تسمو في فنيتها إلى هذا المقام:
"ما ذنب قلبي إن ترفّق واستضاف مواكبا..
كانت تصلي للسلامْ؟
الحبّ مثل موائد الفقراء يكبرُ ..
كلّما صَغُرَ الجناةُ،
وناءَ بالشعر الشعورْ..
كقصيدةٍ سمراء
تُمسك خصرها...
والأرض مازالت تدورْ.
فلمَنْ تقصُّ أصابع القدمين..
كي يقف الطريقْ،
ولمَنْ تقايض بؤبؤ العينين
أحجار العقيق؟
دعْ للستائر لونها...
واترك شبابيك الحكاية للرواة.
من ألف عام والحكاية عاقر،
وأنا كرملٍ نام في (حضن الأبدْ)."
(حضن الأبدْ – شوك السنابل. ص34)
يترافق كل هذا الجمال والأحاسيس الصادقة مع لمحة حزن في شعر ريم البياتي، ربّما تركت قسوة الحياة التي مرّت بها شاعرتنا بصماتها على كيانها وخيالها:
"كشلال
يدب الحزن في قيعان
ذاكرتي
على صخرٍ
تحجَّر نصفه العلوي
في رئتي،
وغاص النصف
في ذاتي وأوردتي...
(كالحزن – مزامير الوجع. ص231)
هذا لم يمنعها من الإبداع في حقول الحياة المتنوعة، بما فيها العاطفية...
الشعر إن كان شعراً وثبة في الهواء، طيران في الفضاء، والشعر الحقيقي هو الذي ينبع من القلب، والشاعر الحقيقي هو الذي يسجل خفقات هذا القلب ولا سيما عندما تهزه عواصف العواطف:
"مذْ قلتَ ليْ يوماً أحبُّك، يا فتاةْ،
طافتْ شوارِعُنا العتيقةُ ياسمينْ...
طارَ اليمامُ على الضفاف من الشمالِ وفي اليمينْ،
ونسيتُ جرحي من سنينِ الغابرينْ،
وحلمتُ أني أعبرُ الطرقاتِ مثلَ العاشقين؛
لا صوتُ يُفزعني ولا خوفٌ دفينْ،
لا شارعٌ في ضفتيِه بدا الخرابْ،
لا دمعةٌ فوق القناطرِ لا اضطرابْ،
وحلمتُ أنّ الحبَّ لبلابٌ
يعرِّشُ فوق واجهةِ الخرابْ،
أتراهُ يحملني الخيالُ الى السرابْ ؟
*****
مذْ قلتَ لي يوماً أحبُّك، يا فتاةْ،
جاءَ الربيعُ وكنتُ أحسبُ لا يجيْء،
وغدوتَ شريانَ القصيدِ ومقلةَ الفجرِ المضيْء،
ورأيتُ عشتارَ الحياةِ تعودُ في المقلِ الكئيبةْ،
وتمدُّ كفًّا تمسحُ الأرضَ الجديبةْ،
فيعودُ يجريْ في وتينِ الأرضِ نهرُ البيلسانْ".
(نهر البيلسان – مزامير الوجع. ص185)
ذات مرة سألت أمير شعراء الرثاء عبد المعين الملوحي، كيف تحل ملكة الشعر على الشعراء، فأجابني: هناك في وادي النضارة (منطقة جبلية بين محافظتي طرطوس وحمص، حيث تقع قلعة الحصن) نبع اسمه نبع الفوار، تختفي المياه منه فترة، ثم تعود لتتدفق بغزارة، لدرجة أنّه يغمر ما حوله، هكذا تحل ملكة الشعر... لكي تكتمل عملية الإبداع، ينبغي أن يترافق الإلهام مع مخزون لغوي وثقافي كبير، فضلاً عن الحالة التي تهزّ الشاعر لتتدفق ينابيعه، وقد ذكر أمير شعراء الرثاء عبد المعين الملوحي، مثالاً على ذلك، لمّا قال ارتجالاً:
وصاحب قال لي - والكأس مترعة - وظلّ يقرأ كالنشوان أبياتــــــي
هذا هو الشعر هزتنا روائعـــــه فقلت - والصدق عندي بعض عاداتي -
لا لست أحسن لا شعراً ولا خطبـــاً إني أسجل ما تمليه مأســـــاتي
أما ريم البياتي فتقول في لحظة الإلهام: "قوم عبقر يزورونني"... وعند زيارتهم لها تتفرغ لاستقبالهم - فتغلق النت، على سبيل المثال - لأنّ "قوم عبقر يمرون بسرعة"؛ فشاعرتنا ليست من شعراء الصنعة، إنما قصيدتها بنت داخلها تفرض نفسها عليها، وهي لا تفتعل أو تزوق، إنما تقدم ما يتدفق داخلها شعراً :
"لو حزم الشعراء نهارات الشعرِ أمتعة رحيل.
هل كان العطر سيعرف أردية العشاق بدون دليل؟
هل كان الحرف يظلّ أسيراً..
بين جنون الفكرة والتأويل؟
لوكان الكون بلا أشعارٍ..
كيف سيوقظ اسمك جفني ،
كي لا أغفل أن الكون جميل؟"
(ماذا لو – شوك السنابل. ص48)
إذاً، الشعر نوع من الإلهام ، من الوحي ، في الأوقات المناسبة، إنما ليس معنى ذلك أن ينتظر الأديب الوحي، بل معناه أن يعمل من الصباح إلى المساء - كما يقول غوته - ليكون أديباً حقاً... والاستعداد في الوقت نفسه لاستقبال الإلهام حين يهبط عليه الإلهام... شاعرتنا مثلها مثل الشعراء الأصيلين الذين يأتيهم الشعر، ويفرض نفسه عليهم، فالشعر إلهام قبل أن يكون تدريباً أو عملاً...
نقرأ القصائد فنسافر مع الصور، والأفكار، والرموز، والأنغام الغنية والممتعة، التي توحي أنّها أتت هكذا ببساطة، إنما، في الحقيقة، هي نتيجة جهد كبير، وتراكم تجارب، وخبرة، ومعرفة ومعلومات ثرية تختزنها ذاكرة شاعرتنا ويتردد صداها في خيالها ولا شعورها، وتفصح عنه في لغة تزيدها الرموز قوة وجاذبية، وتدفع عقل القارئ ليحلق معها ولتسمو روحه بعيداً بعيداً، ويبدو استخدامها للرمز جلياً في جميع الشواهد التي أوردناها أعلاه، ويزداد استخدام الشاعرة للرمز وضوحاً لما تقول:
"الليل حوذّي يجرّ الخيل قسرا
فوق أرصفة عتيقة،
والصبح يفقأ عينه
فيموت تحت الجسر
حوذيّ الحقيقي."
كما نتعرف إلى توظيفها الرمز بمهارة في قصيدة "رؤيا":
"رأيتُ كما لا يرى النائمون
كأنّ الصباح مسافة قيظٍ
وتلك العصافير
نامت في غيظٍ
وصار الزمان لجام الخيولِ
وساق الزمان غدت مقصلةْ
فتلك المراعي أراجيح شوك
تطير بحلمي إلى الآخرة،
فهل يستطيل الزمان
وخصر المكان إلى دائرة؟"
(رؤيا – شوك السنابل. ص99)
يقول محمد سليم الجندي في كتابه (الجامع في أخبار أبي العلاء) " زعم بعض العلماء إلى أنّ الشعراء المتقدمين ما تركوا باباً من أبواب الشعر إلاّ ولجوه، ولا غرضاً من أغراضه إلاّ وقد تناولوه وافتتنوا به، ويلخص آراءهم في هذا الموضع قول بعضهم : ما ترك الأول للآخر شيئاً... ذهب المحققون من المتقدمين والمتأخرين إلى أنّ الشعر بحر لا ينكش ومعين لا ينضب، وأنّ المعاني الشعرية لا تحدّ، ولا تنفد، والصور الخيالية لا تنقطع مادتها، ولا تنحصر أشكالها"... ريم البياتي شاعرة من أهم الشاعرات في الوطن العربي في الهزيع الأول من الألفية الثالثة، تؤكد هذا القول في أشعارها ذات الطاقة الخيالية التي لا تحدّ أشكالها:
"ما همني
لو دارت الدنيا على كعبٍ
وأيقظني الذهول
ما دمتَ تُقرضني يديكَ
لتستريح من الغياب أناملي
وتدور تتبعني العصور."
****
"حاولت أن أنسى
فهل ينسى المحبّ ويستريح
قلْ لي
وهل يغفو على ملحٍ جريحْ
وهل اليمام يطير إلا ...
كي يلمّ العطر
من كونٍ لعينيكَ فسيح
وهل الفرات*
إذا مددت يديك تمسح دمعه
إلا ويلثمُ...
مثلما الفقراء تلثم كفّ
فاديها المسيحْ
وهل الجنان**ينام
إن سهر الكلام
إلاّ..
ليخبرَ عن نداكَ
ويكتم الاسم الصريح"
(* الفرات: جاءت هنا كناية عن الماء. ** الجنان: القلب.)
ترينا جولتنا هذه في تلك الدوحة الغناء من شعر ريم البياتي أنّ الركن الأساسي في طريقة شاعرتنا هو التأكيد على الصدق، مع الاهتمام بالتعابير واللوحات الجمالية، على أن لا تصل إلى زخارف معزولة عن الواقع، أو ممالأة لأهل الرياء، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، حتى الأحاسيس الجياشة نراها تتلازم في شعرها مع شغفها بالحقيقة الموضوعية... الأصل عند شاعرتنا هو في جمال اللغة، وسلامة التعبير وجودة الصياغة التي يكسوها الفكر الأصيل والصور المعبرة، والمعنى الجميل والمفيد، وليس اللغو أو الهذر... فضلاً عن أنّ الصور والمعاني الأنيقة، وأسلوبها الرشيق الجميل تزيد أشعارها رونقاً وجمالاً...
طرطوس 7/7/2020