الماركسية فلسفة حزب وفلسفة طبقة


خليل اندراوس
2020 / 7 / 19 - 09:52     

يحتاج حزب الطبقة العاملة – الحزب الشيوعي إلى فلسفة ثورية للطبقة العاملة وهذه الفلسفة هي المادية الجدلية.

نقصد بالفلسفة تفسيرنا الأكثر عمومية لطبيعة العالم ولمكان البشرية ومصيرها فيه، أي نظرتنا العامة للعالم، فهم قدماء الاغريق، وكان بينهم أعظم من عرف التاريخ من مفكرين – من فلسفة حب المعرفة، ذاك هو المعنى الدقيق لكلمة "فيلوسوفيا التي اشتقت منها كلمة فلسفة وتعني كلمة معرفة "معرفة العالم والانسان"، وكثيرًا ما تدل "الفلسفة" على معان مختلفة نظرًا لاختلاف وجهات النظر نحو العالم، بيد أن معناها الدائم هو أنّها "نظرة عامة إلى العالم، تمدّنا بقاعدة السلوك"، نرى من ذلك أن نظرتنا إلى العالم (أي الفلسفة) مسألة ذات أهمية أساسية، لأن تعارض نظرتين يؤدي إلى نتائج عملية متعارضة.



فمثلًا فلاسفة القرن الثامن عشر أرادوا تغيير المجتمع لأنهم كانوا في ذلك الوقت يعبرون عن مصالح الطبقة البرجوازية ومطامحها، حيث كانت الطبقة البرجوازية آنذاك طبقة ثورية تناضل ضد الاقطاع. أما فلاسفة القرن التاسع عشر فكانوا يعبرون عن مصالح هذه الطبقة البرجوازية بعد أن تخلّت عن ثورتها ضد الاقطاع ووصلت الى السلطة وتحولت إلى طبقة محافظة تخشى صعود طبقة العمال الثورية.

فهي ترى أن لا شيء يجب تغييره في مجتمع يحتفظ لها، أي للطبقة البرجوازية، بنصيب الأسد في السلطة وتراكم رأس مالها. ولقد قام الفلاسفة بتبرير مثل هذه المصالح حينما شغلوا الناس عن كل محاولة تهدف إلى تغيير المجتمع، مثال ذلك الوضعيون وزعيمهم أوجست كومت الذي يرى فيه الكثيرون في المجتمع البرجوازي الرأسمالي "مصلحًا" اجتماعيًا، ومن مواقفه اعتقاده بأن حكم الطبقة البرجوازية أبدي، بالإضافة إلى ذلك فلسفته الاجتماعية التي تتجاهل قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وجدلية هذه العلاقات.



واما التلفيقيون وزعيمهم فيكتور كوزين فقد كانوا فلاسفة الطبقة البرجوازية الرسميين، وبرروا اضطهاد طبقة العمال ولا سيما مجازر حزيران عام 1848 في فرنسا باسم "الحق" و"الجمال" و"الخير" و"العدالة" الخ.

ومقابل هذه الفلسفة جاءت الماركسية وطرحت فلسفتها المادية التاريخية الجدلية حيث كتب ماركس وانجلز "ان تاريخ جميع المجتمعات إلى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ النضال بين الطبقات، فالحر والعبد والنبيل والعامي، والسيد الاقطاعي والقن والمعلم (عضو كامل الحقوق في الحرفة، معلم في داخل المشغل لا رئيسه، ملاحظة انجلز للطبعة الانجليزية سنة 1888) والصانع، أي أن المضطهِدين والمضطهَدين، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة، تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائمًا إما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره، وإما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا، (نعني بالبرجوازية طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الانتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور، ونعني بالبروليتاريا طبقة العمال، الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أيّة وسائل انتاج فيضطرون بالتالي إلى بيع قوة عملهم لكي يعيشوا (ملاحظة انجلز للطبعة الانجليزية عام 1888)، اما المجتمع البرجوازي الحديث الذي ولد من أحشاء المجتمع الاقطاعي، فإنه لم يقض على التناقضات بين الطبقات بل أقام طبقات جديدة وظروفًا جديدة للاضطهاد وأشكالًا جديدة للنضال بدلا من القديمة.



"الا ان الذي يميز عصرنا الحاضر، عصر البرجوازية هو انه جعل التناقضات الطبقية أكثر بساطة: فان المجتمع اخذ في الانقسام أكثر فأكثر، الى معسكرين فسيحين متعاديين، الى طبقتين كبيرتين متعارضتين – هما البرجوازية والبروليتاريا". (ماركس انجلز بصدد الثورة الاشتراكية – مجموعة ص 58).

"إن الشرط الأساسي للوجود والسيادة بالنسبة للطبقة البرجوازية هو تكديس الثروة في أيدي بعض الأفراد وتكوين الرأسمال وانمائه، وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور، والعمل المأجور يرتكز، بصورة مطلقة على تزاحم العمال فيما بينهم ورقي الصناعة الذي ليست البرجوازية الا خادمًا منفعلًا له ومقسورًا على خدمته يستعيض عن انعزال العمال الناتج عن تزاحمهم، باتحاد ثوري بواسطة الجمعيات. وهكذا ينتزع تقدم الصناعة الكبرى من تحت أقدام البرجوازية، نفس الأسس التي شادت عليها نظام انتاجها وتملكها، ان البرجوازية تنتج قبل كل شيء حفاري قبريها، فسقوطها وانتصار البروليتاريا كلاهما أمر محتوم لا مناص منه" (ماركس انجلز بصدد الثورة الاشتراكية مجموعة ص 70).

لذلك على كل شيوعي وعلى كل حزب ماركسي أن يعمل على تكوين أفكار ثورية جديدة، تتفاعل مع الحاضر، وتحمل في طياتها الثقة وتخلو من اليأس، تدعو إلى النضال والكفاح الثوري القومي الطبقي، الطبقي القومي، فالأممي الحقيقي في النهاية هو القومي الحقيقي، والقومي الحقيقي هو الأممي الحقيقي، ولا تشير إلى اليأس والاستسلام، وهذه الأفكار الثورية ليست مسألة ثانوية بالنسبة للطبقة العاملة بل هي مسألة حياة أو موت لأن الطبقة العاملة لن تتحرر من الاضطهاد الطبقي إلّا اذا كانت لديها فكرة عن العالم، فلسفة عن العالم تمكنها من تغييره فعلًا.

"كان انجلز يقول في معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه الشهير ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما هو مرشد للعمل". "وإذ يغيب هذا المظهر عن بالنا، نجعل من الماركسية شيئًا وحيد الطرف عديم الشكل شيئًا جامدًا لا حياة فيه، ونقرع الماركسية من روحها الحية وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك" (لينين بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي ص 4).



وهكذا يروي لنا الكاتب العظيم صديق لينين مكسيم غوركي في روايته "الأم" كيف أن امرأة مسنّة، أيام القيصرية الروسية كانت تعيش مستسلمة يائسة فاذا بها تنقلب ثائرة لأنها فهمت بفضل ابنها، وهو بطل مناضل من أبطال الثورة، مصدر آلام الشعب وأدركت أنّه يمكن القضاء على هذه الآلام، ولهذا لن تكون دراسة الفلسفة الماركسية جهدا لا طائل تحته للذين يأبون الاستسلام لأن النظرة الموضوعية الجدلية المادية التاريخية للعالم هي التي تمدهم بأسباب النضال الثوري، وليس هناك نضال مظفر بدون فلسفة علمية مادية جدلية صادقة.

وهنا أذكر ما قاله لينين "ليس من حركة ثورية بدون فلسفة ثورية" وأشكال النضال مختلفة، منها النضال من اجل المساواة والحريات الديمقراطية ومن أجل مكافحة الفقر، من أجل الخبز، من أجل الحقوق القومية ومن أجل السلام، وأشكال النضال هذه تكون مرتبطة جدليًا تاريخيًا بالنضال الطبقي في المجتمع الرأسمالي.

لذلك واجب علينا أن ندرس الفلسفة الماركسية لضرورة عملية، من أجل النضال الثوري الطبقي والقومي ومن أجل السلام وحرية الإنسان ومن أجل مجتمع المستقبل، المجتمع الشيوعي – مملكة الحرية على الارض.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي تحدثت خدمة طبقة رأس المال عن نهاية الاشتراكية وحتى عن نهاية التاريخ، وتحدث هؤلاء عن حقبة جديدة من السلام والرخاء والديمقراطية وحقوق الإنسان، وذلك بفضل معجزات السوق الحرة وعولمة الرأسمالية.

ولكن ما نراه الآن في عالمنا من أزمات اقتصادية وحروب واضطهاد للشعوب واضطهاد للطبقة العاملة، أظهر الوجه الحقيقي للرأسمالية الامبريالية المتوحشة، تجار دم الشعوب من أجل مصالح طبقة رأس المال، فهذا النظام لا يستحق أن يعيش لكنه يرفض أن يموت كذلك، وهذا هو التفسير الحقيقي للحروب والإرهاب والعنف والعنصرية، والموت التي هي السمات الرئيسية للعصر الامبريالي الذي نعيش فيه الآن.



لكننا أيضًا نشهد ولادة مجتمع جديد في الصين ونشهد صمود شعوب مثل إيران وفنزويلا، ونشهد فشل المؤامرة على سوريا وصمود شعب اليمن، وصمود محور المقاومة، وهذا يعطينا الأمل بولادة عصر جديد، عالم جديد يبدأ بتحرر شعوب الشرق وبولادة قوة جديدة على مستوى عالمي هي الطبقة العاملة الثورية تعمل على تثوير وتجديد المشروع الاشتراكي، وتعميق الازمة العامة للرأسمالية الامبريالية والقادرة على أن تغدو خالقة المجتمع الجديد. و"فقط مادية ماركس الفلسفية الجدلية هي دليل البروليتاريا للطريق الواجب سلوكه من أجل الخروج من العبودية الفكرية التي كانت تتخبط فيها حتى ذاك جميع الطبقات المظلومة" (لينين بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي ص 19-20)، "وعلى أنقاض المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية يبرز مجتمع جديد تكون حرية التطور والتقدم لكل عضو فيه شرطًا لحرية التطور والتقدّم لجميع الأعضاء" (نفس المصدر ص 80)، و"أزيلوا استثمار الانسان للإنسان، تزيلوا استثمار أمة لأخرى، وعندما يزول تناحر الطبقات في قلب كل أمة يزول في الوقت نفسه العداء والحقد بين الأمم" (نفس المصدر ص 77)، ويحل السلام بين الأمم.

وفي النهاية كل الأحزاب الشيوعية في عصرنا الحالي وخاصة في العالم العربي وأيضًا هنا، تناضل في ظروف سياسية اجتماعية طبقية قومية صعبة ومتأزمة، لذلك يجب التنديد بأي انحراف معين، فكل انحراف فردي فئوي انعزال تكتلي، يجب إبرازه والتنديد به. وفي هذه الظروف يجب علينا أن نتلاحم في كل واحد.

** مراجع المقال

ماركس انجلز – بصدد الثورة الاشتراكية – مجموعة
لينين – بعض خصائص تطور الماركسية التاريخي
أصول الفلسفة الماركسية – تأليف جورج بوليتزر
مدخل إلى المادية الجدلية – موريس كورنفورث