توصيف عام للمشرق العربي المعاصر


عبدالله تركماني
2020 / 7 / 15 - 22:43     

يشغل المشرق العربي مكانة استراتيجية داخل العالم العربي، فهو يمثّل المسرح الرئيسي الذي جرت عليه أكثر التفاعلات الصراعية حدة وانتشاراً، وهو امتداد جغرافي كبير من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج العربي والحدود العربية مع إيران وتركيا، أي ما يسمى بالقسم الآسيوي من العالم العربي، وهو يضم منطقتين إقليميتين: أولهما، إقليم الهلال الخصيب (فلسطين، ولبنان، وسورية، والأردن، والعراق). وثانيهما، إقليم الخليج والجزيرة العربية (المملكة العربية السعودية، واليمن، والكويت، والبحرين، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، وعمان).
وتمتاز الحركة السكانية في المشرق العربي ببعض السمات التي تحددت بها في القرن التاسع عشر، واتضحت معالمها بعد تفكك الدولة العثمانية. فقد شهدت هذه المرحلة استمرار الروابط المتينة بين سكان المشرق العربي على اختلاف مناطقهم، في ظل وحدة سياسية هي "الرابطة العثمانية" التي كانت تتآكل من الداخل بمقدار ما تقترب من الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن العشرين.
لقد مرَّ المشرق العربي المعاصر بثلاث مراحل: أولاها (1919- 1949)، ومثّلت عصر الكفاح من أجل الاستقلال الوطني، وهي تشكل الخلفية التاريخية لواقع المشرق العربي المعاصر. وثانيتها (1950- 1991)، وبدأت بانهيار الحكم المدني وظهور عصر هيمنة العسكر على الحكم، وترسّخ " رأسمالية الدولة " في القطرين الرئيسيين في المشرق (سورية والعراق)، وما رافق ذلك من تغييب للحريات الديمقراطية ولدولة الحق والقانون. وثالثتها (1991 – 2020)، وبدأت بمؤشرات عن تفكك العراق ونهاية دوره، وانتهت بالكارثة السورية.
لقد شكلت بلاد الشام قطباً أساسياً للانبعاث العربي في القرن التاسع عشر، إذ " مكّنها انفتاحها على البحر الأبيض المتوسط من أن تدرك باكراً الخطر الإمبريالي ". ومن جهة أخـــرى، فإنّ سورية هي " ابن الشرق الأدنى المشاكس " و " موطـن الانشقاقات ".
ويبدو أنّ الجانب المأساوي في تجربة المشرق العربي المعاصر هو: أنّ طرح الأسئلة والبحث عن إجابات لها لا يتخذ شكل البحث الموضوعي الذي تتراكم نتائجه وإجاباته عبر تجارب الأجيال المتعاقبة، وإنما يطرح كل جيل هذه الأسئلة في فراغ تاريخي، بمعزل عن تجارب الأجيال التي سبقته. وهذا ما يمكن وصفه على النحو التالي " من الظاهرات المفجعة في الحياة العربية الحديثة أنّ البناء الفكري والاجتماعي لا يتراكم طبقة فوق طبقة، ومرحلة بعد أخرى، ليعلو ويتكامل، بل ترى كل جيل يُصاب بالخيبة من قناعات الجيل السابق ويضطر إلى هدمها وإعادة التجربة من نقطة البدء؟ ثم ما يلبث أن يُفْجَعَ بقناعاته ذاتها، فلا يسلّم شيئاً ثابتاً للجيل الذي يليه، غير مرارة التجربة ".
والسؤال الآن هو: أين يكمن الخلل؟ هل في مستوى البنى الداخلية لأقطار المشرق العربي؟ أم في مستوى التأثير الخارجي؟ أم في تداخل المستويين الداخلي والخارجي؟
إنّ الحقيقة التاريخية الكبرى هي أنّ المشرق العربي يمثّل نظاماً سياسياً وحضارياً مُخْتَرَقاً من قبل الدول الاستعمارية الكبرى. أما النصف الآخر من الحقيقة فيكمن في الأوضاع والقوى الاجتماعية التي سمحت لعلاقات التبعية أن تستمر.
ولم يبالغ الصديق حسام ميرو عندما كتب " إن المشرق العربي في حالة انهيار، وأننا أمام ثلاث دول (العراق وسورية ولبنان) تواجه خطر الاضمحلال الكياني، ليس فقط لكونها تعاني وطأة التدخلات الأجنبية المباشرة في قرارها السيادي؛ بل لأنها بعد سنوات من تلك التدخلات، تعاني اليوم هشاشة غير مسبوقة في بنى الدولة ومؤسساتها، حتى تكاد الدولة نفسها هي الغائب الأكبر عن المشهد ".
وفي الواقع فإنّ الدولة في أقطار المشرق العربي أقامت في داخلها بنى قامت بمهمتين متعارضتين: فقد فتتت مجتمعاتها بدل أن تدمجها، وأحيت القوى والمصالح ما قبل الوطنية، بدل أن تميتها.
إنّ الدارس للمشرق العربي المعاصر لابدَّ من أن يوصّف خصوصياته، فهو " عقدة تلاقي وتقاطع مجموع حضارات وثقافات محلية ومحيطية ". وهو " ساح تعاقب وتلاقي ديانات "، بكل ما تنطوي عليه من طوائف ومذاهب وشيع وفرق. وعلى المستوى الجيو- سياسي فإنّ المنطقة هي عقدة العقد في العالم، القديم والوسيط والحديث والمعاصر، وقد غدت بذلك " بقعة صراع دائمة للمشاريع السياسية المتباينة والأحلاف المتعارضة والطموحات المتناقضة ".
ولكنّ تحليل الخصوصيات الإثنية والدينية تبدو مهمة معرفية ضرورية لا غنى عنها، فالخصوصيات هي مشكلة وإشكالية بسبب طبيعتهـا أولاً، ثم بفعل التوظيف الاستعماري الناجح لها ثانياً. وفي الحقيقة " ليست المسألة إذن مسألة أقليات، بل هي مسألة ألاعيب جيوبوليتيكية ".
ففي سورية ولبنان، رفضت فرنسا، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، جمع جبل لبنان في حدوده القديمة، في القرن الثامن عشر (المتضمنة البقاع وولاية صيدا) وسورية في دولة واحدة. بل أعلنت، في سنة 1920، دولة لبنان الكبير، التي تشمل مرفأ طرابلس في الشمال وسهل عكّار الخصيب الذي تسكنه أكثرية إسلامية. فيما كانت تتوجه في سورية نحو فيدرالية دويلات هشّة، منها دويلتان ذاتا قاعدة طائفية صريحة، دويلة العلويين ودويلة الدروز.
وفي سياق الحديث عن مشكلة الأقليات في المشرق العربي يبدو من المفيد الإشارة إلى " أنّ علمنة السياسة جزء من عملية عقلنة وتحديث المجتمع "، وهذا يعني أنّ الشرط الأول والحاسم لحل مشكلة الأقليات هو تحديث الفكر، واعتبار العلمنة " هي الجانب السياسي من سيرورة عقلنة المجتمع على صعيد الثقافة والفكر والأيديولوجيا. أي أنّ العلمنة تبدأ بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية صعوداً إلى المؤسسات السياسية ".
إنّ إحدى السمات الأساسية في المشرق العربي المعاصر تكمن في بروز تبدّلات جذرية في البنى الاقتصادية والاجتماعية، دون أن تترافق تلك التبدّلات مع تغيير نوعي في البنى السياسية التي حافظت على الكثير من مظاهر الجمود والتحجر. مما يستوجب إعادة قراءة تفاصيل المشروع التحديثي، وتجديد مضمونه وشكله، على ضوء التحديات الراهنة.
لقد ترافق طرح الفيديرالية في المشرق العربي بالحديث عن التكوين الفسيفسائي للتركيب السكاني في المنطقة، وهو تركيب متنوع في بناه القومية والدينية والطائفية، مما يفسح في المجال أمام تأسيس كيانات على تلك الأسس، يمكن جمعها في إطار كيان فيديرالي جامع، يكون محصلة تفاهمات بين الكيانات الداخلة فيه. فبعد أن تغيّر العالم من حول النخبة الثقافية والسياسية في المجالين العربي والإقليمي، وتغيّرت الظروف الداخلية والخارجية، وصارت بلدان المشرق في دائرة تحديات جديدة وشديدة التعقيد، فإنها شرعت في إعادة النظر في كثير من مسلماتها وأنماط تفكيرها وطرائق عملها وعلاقاتها، وإطلاق أفكار وآليات جديدة باتجاه مشروع مستقبلي لبلدانها وللمنطقة، يتجاوز حمى الانقسامات والصراعات، وقد تكون الأنظمة اللامركزية، بما فيها النظام الفيديرالي، أحد خيارات المشروع. لكن الأهم من ذلك كله، أن لا تذهب هذه النخب إلى فرض أية خيارات على شعوبها بالقوة، وخاصة بقوة المحتل الأجنبي.
ففي ظل العولمة، بكل تجلياتها الاقتصادية والثقافية والسياسية، يمكن للنظام الفيديرالي أن يتشكل في أي من الصورتين: التمزق الكامل أو التوحد الكامل.
وفي هذا السياق، ثمة احتمالان ينضجان في واقعنا الراهن: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، تتيح انتقالاً تدريجياً وآمناً نحو وضع بديل، نقبله جميعاً لأنه من اختيارنا، واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا من أزمتنا الراهنة إلى حال مفتوح على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما بديلان تاريخيان للواقع المشرقي الحالي، يمثل أولهما فرصة وثانيهما كارثة. ولكي يُرجَّحَ احتمال الفرصة فلندرك أنّ الدولة المركزية واحتكار القرار السياسي والإداري لم يعودا ممكنين في ظل عالم يتجه نحو اللامركزية وتوسيع دائرة المشاركة واحترام الخصوصيات.
وفي السياق نفسه، يفترض أن تمثل الأقليات القومية والدينية عاملاً ذا بعد إيجابي، إذ يمكن أن تضيف تنوّعاً يضيف إلى مجتمعاتنا ويجعلها أكثر ثراء ثقافياً وتسامحاً وانفتاحاً. في كل الأحوال فإنّ التعايش والاندماج يقتضي تسليماً من جميع مكوّنات مجتمعاتنا بضرورة إشاعة روح التسامح وقيم التعايش، وهذا يوجب على الأقليات ألا تتقدم بمطالب لا تستطيع الأكثرية قبولها. كما أنّ للحكومات دوراً أكثر أهمية، إذ إنّ عليها أن تتيح تكافؤ الفرص الإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميّزها بسبب انتمائها العقائدي أو الاجتماعي أو السياسي، كما يتوجب على الحكومات صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية عبر مؤسسات وقوانين دستورية تؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الجميع وتطوير النظام السياسي وإرساء متطلبات الديمقراطية فيه.