محاولة اخرى لتحليل تجربة عبد الكريم قاسم وحركة 14 تموز


عواد احمد صالح
2020 / 7 / 14 - 20:43     

في البدء من حق اي شخص ان يمجد الزعيم عبد الكريم قاسم ويجعل تجربته نموذجا " للوطنية والنزاهة" ويعتبرها تجربة تحررية وفقا لرؤيته وتقييمه الشخصي وان يدافع عنها ورأيه في ذلك محترما .. لكن لايمكن للشيوعيين والماركسيين الذين يفترض انهم يستخدمون المنهج الجدلي ونظرية الصراع الطبقي ان يمجدوا تجربة قاسم ليل نهار ويكونوا ملكيين اكثر من الملك.
ان الوطنية البرجوازية الصغيرة شيء والشيوعية ونظرية الصراع الطبقي التي تعني بحساب مصالح العمال والكادحين والمحرومين شيئا آخر تماما ،
كانت (ثورة) عبد الكريم قاسم وحركة الضباط الاحرار في 14 تموز 1958 تسعى وراء برنامج ( وطني تحرري ) وضعه العسكر الذين قادوا الانقلاب والذين كانوا يمثلون ميول سياسية مختلفة وسرعان ما اختلفوا فيما بينهم وفقا لميولهم القومية او اليسارية او الوطنية التي تمثل انعكاسا لصراع الطبقات الاجتماعية في العراق وضغط الأوضاع السياسية الاقليمية والدولية خاصة الصراع بين المعسكرين السوفييتي والغربي انذاك .
لقد قيم البعض من الاطراف المحسوبة على اليسار ( ثورة 14 تموز) بانها ( وطنية ديمقراطية تحررية ) اي برجوازية . ولم يكن عبد الكريم قاسم في اي لحظة من لحظات حياته ديمقراطيا او شيوعيا ولا اشتراكيا ..فهو جنرال وطني يشبه تشيان كاي شك في الثورة الصينية ويشبه مصدق في ايران مع فارق العوامل السياسية والظرف التاريخي فكل هؤلاء كانوا ينزعون الى التخلص من الهيمنة الاستعمارية وتحقيق الاستقلال الوطني . ان النجاح والاخفاق كانا من مسؤولية هؤلاء الزعماء كما كان تاثير الصراع بين المعسكرين السوفييتي والغربي مؤثرا بنفس الاتجاه . فقد سارعت الامبريالية الأميركية للتأمر على مصدق وقاسم بسب نزوعهما التحرري والوطني وابتعادهما عن الأحلاف الاستعمارية والتبعية ورغبتهما في تأميم الثروة النفطية مما شكل تهديدا مباشرا لمصالح الشركات الاحتكارية ..
ان إخفاق حركة 14 تموز وحكم عبد الكريم قاسم وسقوطها بعد اربع سنوات يتحمل جزءً من مسؤوليته الاتحاد السوفييتي انذاك والحزب الشيوعي العراقي الذي كان اقوى الاحزاب بدون منازع اذ انه بقي ذيلا لنظام عبد الكريم قاسم ودافع عنه مرارا وتكرارا تحت ضغط الموقف السوفييتي الذي قيمه بانه نظام وطني ، ولم يجرؤ الحزب على اخذ السلطة منه في ظرف تاريخي كان فيه يمتلك قاعدة اجتماعية جماهيرية واسعة وتنظيم عسكري لم يتوفر حتى للبلاشفة اثناء ثورة اكتوبر عام 1917 .وذلك بسبب تعليمات القيادة السوفييتية في عهد خروتشوف التي لم تكن ترغب في احداث خلل او صراع ضمن سياسة التوازن الدولي والحرب الباردة مع الغرب واميركا .
ان تحليل الطابع السياسي لنظام قاسم يجب ان يأخذ بنظر الاعتبار طبيعته الطبقية ( البرجوازية الصغيرة الوطنية ) المتذبذبة في المواقف والسياسات وان يأخذ بالتالي نقدا لأفعاله الايجابية والسلبية فمثلا تسبب قانون الإصلاح الزراعي رغم انه قام بتحرير عشرات الالاف من الفلاحين من نير الإقطاع بأكبر كارثة هي هجرة الفلاحين من الأرياف الى المدن وخاصة مدينة بغداد سكنوا في هوامش المدن مما كان سببا في فوضى اقتصادية واجتماعية ونقلت اخلاق القرية المتخلفة الى المدينة المتحضرة ..مازال العراق حتى هذه اللحظة يعاني من نتائج تلك الهجرة واثارها السلبية المدمرة .. هذا اضافة الى ان القانون ونتيجة للارتجالية والعشوائية لم يقدم حلا او بديلا عمليا للمسألة الزراعية في العراق يمكن ان يجنب البلد الفوضى الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت .
ان التقييم الماركسي لتجربة عبد الكريم قاسم التي لم تدم سوى فترة قصيرة جدا اربع سنوات ، لا بد ان يتضمن تحليل دور وشخصية عبد الكريم قاسم البرجوازي الصغير القلقة من جهة ومعاينة الصراع الاجتماعي والطبقي من جهة اخرى . كان عبد الكريم قاسم حاكما فرديا (قاسميا ) اي انه ينتمي لذاته وتصوراته الشخصية فقط وحاول ايجاد نوع من التوازنات في الصراعات السياسية المحتدمة بين القوميين العرب بمختلف مسمياتهم وبين الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يعاني من الصراعات الداخلية في قيادته فقد حاول أضعاف الجميع من اجل ان يتسنى له تكريس حكمه الفردي والديكتاتوري ...
ولم يكن قاسم يملك تصورا واضحا عن كيفية إدارة الحكم والاستمرار فيه فمارس سلوكا بونابرتيا وحاول التحليق فوق صراع الطبقات وسمى نفسه (ابن الشعب البار)، (والزعيم الامين ) واعتمد على حاشية من العسكر المقربين له كانوا من جملة الاسباب التي ادت الى سقوط نظامه السهل والسريع . .وقد اخفق الزعيم في ممارسة سياسة التوازنات الداخلية وحساب تاثير الظرف الاقليمي والدولي محاولا الهروب من الصراع السياسي والاجتماعي العميق الذي كان يضرب المجتمع العراقي حينها . فإضافة الى اعدامة قادة النظام الملكي فقد جرت محاكمات المهداوي الشهيرة ضد عدد من المعارضين السياسيين الذين صدر الحكم باعدامهم وبذلك كرس نظام قاسم عهدا مديدا من ارهاب الدولة والاعدامات التي غدت تقليدا سياسيا متواصلا مارسته الحكومات المتعاقبة في العراق حتى هذه اللحظة ..
ان الصراع الطبقي في المجتمع العراقي كان معبرا عنه بصراع الاحزاب السياسية وزعمائها وهم ممثلو الطبقات الاجتماعية المختلفة والمتصارعة وكان صراعا محتدما .... قوى البرجوازية الكبيرة وبقايا الإقطاع مقابل تطلعات الطبقة العاملة والجماهير الشعبية نحو امتلاك السلطة السياسية ..كان هذا الصراع واضحا وبارزا بعد ان قدم نظام قاسم كل ما في جعبته من ( انجازات وأفعال محدودة وذات طابع برجوازي ) ووصل الى طريق مسدود في اخر ايام حكمه ، اما ان تاخذ الطبقة العاملة والجماهير الكادحة التي يقودها الحزب الشيوعي السلطة او ان الثورة المضادة البعثية الفاشية المدعومة من المخابرات الاميركية وبعض دول المحيط الاقليمي كانت امر حتميا .
ان هذا التحليل ينطلق من معاينة ظروف الصراع الذاتية والموضوعية والظرف الدولي المحيط بحكم عبد الكريم قاسم وشخصيته لذلك اعتقد ان على كل المحسوبين على اليسار والشيوعية الكف عن المبالغة في تمجيد ثورة عبد الكريم قاسم وشخصيته في كل مناسبة وعقد المقارنات والمفاضلة بين حكمه وحكم الأنظمة التي سبقته او التي جاءت بعده وبدلا من ذلك دراستها دراسة محايدة لاستلهام الدروس والعبر منها والعمل الجاد من اجل تحقيق نظام افضل ينبع من تهيئة الاوضاع والظروف للثورة الاشتراكية في العراق .
لقد دفع الحزب الشيوعي العراقي بعد انقلاب 8 شباط البعثي عام 1963 ثمنا باهظا الاف الضحايا والمعتقلين واعدمت قيادة سلام عادل وزج المئات في ماعرف بقطار الموت كسبب ونتيجة لانجراره الذيلي وراء حكم الزعيم وعدم تحسبه للثورة المضادة التي كانت نذرها تلوح في الافق السياسي والاجتماعي في العراق وبالاحرى عدم اخذ زمام المبادرة لاستلام السلطة السياسية وقطع الطريق على القوى المضادة للثورة ..
إن الجدل الدائر والمستمر حول عبد الكريم قاسم وتجربته يجب إن يبتعد عن العواطف والمزاج الشخصي والحب والكره في سبيل ارساء تقاليد سياسية واجتماعية قائمة على النقد والنقد الذاتي والرؤية الموضوعية خاصة للذين يدعون الانتساب الى الماركسية او اليسار .