-الاستبدال- و-المنتفك-/ وقفه ثانيه ب /6


عبدالامير الركابي
2020 / 7 / 10 - 17:07     

"الاستبدال" و"المنتفك"/ وقفة ثانية ب/6

يسقط العقل الأحادي وترسانة علومه تكرارا امام الظاهرة الرافدينية المجتمعية، ومن ثم الظاهرة المجتمعية عموما، بالاخص حين يتعلق الامر بمسالة الدولة وتعيين انماطها واشكال تجليها، بينما هو يصر لاسباب لاعلاقة لها بمايسمى ويكرر بمناسبة وبدونها "العلم"، على تكريس نمطه الأوحد، واساس مايقرر "علمويته"، وفي حين يتم التغاضي عن، وتجاهل خاصية الإنجاز الخارق قياسا للمكان ومساحته، او ديناميات تشكل الكيان الصعودي وخاصيات التوالي مقابل التشكل الأحادي النيلي يتم التوقف دون الانتقال للخاصية الأخرى، المجتمعية بغض النظر عن تكرار ووضوح تجليها، الامر الذي يترتب عليه خلق منظومة تفكرية بدائية لاترقى على الاطلاق لمستوى الظاهرة المجتمعية ومضمرها، وماتنطوي عليه مع كل مايترتب على ذلك من اثر شامل على مختلف قضايا الوجود والسيرورة وعملية التشكل البشري عبر المجتمعية ومآلها.
وسنذهب هنا الى ذكر بعض الأمثلة الدالة على تحكم القصور العقلي، مع الإصرار والقصد، يقول ثوركيلد جاكبسون: " وإذ غدت القرية مدينة، برز مافي الحضارة الجديدة من نمط سياسي، كانت السلطة السياسية العليا في يد مجلس عام يشترك فيه جميع الاحرار البالغين./ كلمة الاحرار هنا ماخوذة من النموذج الاغريقي/ وفي الفترات العادية كانت شؤون الحياة اليوميه تصرف بارشاد مجلس الشيوخ، اما في الازمات ـ في حالات الحرب مثلا ـ فكان بوسع المجلس العام ان يخول احد أعضائه السلطة المطلقة ويجعله ملكا. ولكن هذه الملكية منصب يتقلده صاحبه لزمن محدد، اذ ان المجلس الذي يخلق المنصب يستطيع أيضا ان يلغيه حال انتهاء الازمة"(1) ثم يعود في الصفحة التالية ليقول: "فحضارة مابين النهرين، كما قلنا انفا، اولت الكون بانه يشبه الدولة، ولكن أساس التاويل لم يكن الدولة كما عرفت في الازمنه التاريخيه، بل الدولة كما عرفت في عصر ماقبل التاريخ: الديمقراطية البدائية"(2) وينهي تقديره بالتالي : " ولذلك يسوغ لنا ان نفترض ان فكرة الدولة الكونية تبلورت في زمن مبكر جدا، عندما كانت الديمقراطية البدائية هي نمط االدولة الشائع ـ بل عندما تبلورت حضارة مابين النهرين نفسها"(3).
واهم مايجب الانتباه له في التقدير أعلاه ذهابه لادراج نمط "الدولة اللادولة" قسرا تحت جناح منظور الأحادية القهرية باسم "الديمقراطية البدائية" حيث نقف وقتها امام تدرجات من " البدائية" الى مايسمية الحضارية او النضج المجتمعي، مع مايتضمنه تعسف مفهومي كهذا من لي لعنق الوقائع بسبب العجز او عدم الرغبة، بينما يظل الاستغراب قائما ومثيرا لاهم سؤال واجب من نوع " لماذا لم ينظر لما هو قائم ومختلف على انه نمط او شكل اخر من اشكال التنظيم المجتمعي؟" في كتابي "ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ"(4) كنت قد اجتهدت متابعا تجليات تكرار ظهور مجتمع اللادولة الرافديني تكرارا، في الدورة الأولى، وفي الدورة العباسية الثانيه، باعتباره خاصية ثابته مابين كوراجينا والقرامطة والاسماعيليين، بما يعني ان مايسمى "الديمقراطية ىالبدائية"/ كما الشيوعية البدائية، لاوجود له كنموذج معمم على المجتمعات افتراضا من لدن علوم البحث في التاريخ المجتمعي وبداياته التاسيسية المعروفه.
ثمة نمط وشكل تنظيم مجتمع، ونوع دولة اخر، غير نموذج الدولة الأحادي المصري والشائع على أوسع نطاق نموذجا ومفهوما، وجد في مابين النهرين التي لم تعرف "الملوك" كما هم وكما عرفوا احاديا، وان اتخذوا أحيانا مثل تلك التسميات المضلله لشيوعها، وطغيان نوعها وتكرسه عبر الازمان، وهؤلاء ان وجدوا فهم سوف يوضعون في المكان الذي ينتسبون له في الرواية اللاحقة، خارج الأرض التي وجدوا فيها، حين كان الابراهيميون المبعدون من " ارضهم ونمط مجتمعهم"، يعبرون باصرارعن شكل الدولة والتنظيم الاجتماعي الاخر، ببناء" مملكة الله " مفهوميا خارج ارضها، ولنتخيل اليوم لوان جماعة من اوربا الحديثة كتب عليها ان تعيش مطرودة في مصر، ووجدت نفسها مضطرة للرضوخ لنمط مفاهيم ونوع حكم وجملة تنظيم مجتمعي كالمصري في القرن التاسع عشر على سبيل المثال، فالعبرانيون كانوا بالاحرى ابناء نمط ارقى وارسخ، ومغاير كليا، وجدوا انفسهم مضطرين للرضوخ لماهو ادنى ومن نوع مختلف كليا، ومجاف تماما:حيث يصل الحاكم الفرعون قمة االمثال الاصفى للملكية الفرعونيه/ الالهة، ماقد هيا كل الأسباب المحفزة على صياغة التوراة كشكل تعبير ذاتي في التاريخ البشري لنمط دولة، وجدت خارج ارضها بين الشام ومصر، يوم لم يكن الاستبدال النمطي قابلا، او حتى مطروحا باي شكل، ولا بايه صيغة للمعالجة، او المقاربة باية درجة كانت.
الامر الذي ماتزال المناسبات تاتي وكانها تريد تقريب العقل من مهمة اجلائه، والافصاح عن مكنونه الفاصل والانقلابي المغير لكل أسس منظومة التفكير والحكم المعتمدة الى الان، في النظر الى، وتقييم الظاهرة المجتمعية، بحيث تسنى الذهاب مؤخرا لاكتشاف نبوة عشرة من " ملوك" العراق السومري (5) ليصدر كتاب هو " اول دراسة علمية تكشف لغز حقيقة عشرة من الإباء المؤسسين للبشرية والذين درجنا على اعتبارهم كلهم او بعضهم من الأنبياء وهم ( ادم، شيت، انوش، قينان، مهلالئيل، يارد، اخنوخ/ادريس/ متوشالح،لامك، نوح) ونتوصل الى انهم عشرة ملوك سومريين، حكموا مدنا رافدينيه معروفه، لكن التوراة حولتهم من ملوك الى اباء/ انبياء، بدا بهم ظهور الانسان على وجه الأرض " (6) ولن نتوقع بالطبع من ويكيبيديا وغوغل ان لايكرروا الأسطوانة القصورية الانكارية المشروخة ذاتها، بالتفصح والقول"لكن التوراة حولتهم من ملوك الى اباء/ انبياء" فنحن مرة أخرى امام مفهومين ومنطقين، ونمطي ممارسة وتعبير عن الذات متباينين، احدهما تسنت له، لابل واوجبت اشتراطات الوجود وقوانينه، غلبته الى حين، نموذجا ومفهوما.
كانت ارض سومر وظلت وماتزال، مجتمع دولة استحالة التحقق ارضويا، تسبغ عليه الصفاة من خارجه وبما يناقضه بنية وتكوينا، يكرس ذلك او مثل هذا المنحى، تغلب مؤقت طويل، لنمط احادي مخالف، على مستوى المعمورة، له امتداد داخل الكيانية الازدواجية العراقية، وان هو تحور، او ظل يتحول باستمرار، كي يكتسب خاصياته الضرورية المحتمه بحكم الازدواج.
يترتب على استحالة التحقق الارضوي ضمن الازدواج اضطرار عملي وواقعي، يتحول مع الزمن الى نهج مقابل ضمن اشتراطات ماقبل الإفصاح الذاتي، الامر الذي يستغرق قرونا تمتد موازية زمن الغلبة والهيمنة الأحادية، يلجا ابانها المجتمع الذي لاينتج دولة منفصلة من داخله، والمتوافق مع اشتراطات "العيش على حافة الفناء"لنوع من الممارسة، قد توحي بالتطابق مع النموذج الشائع، ان لم تتحول فعليا الى مايشيع الاندراج تحت هذا البند، ذلك هو تكتيك الاستبدال، حيث يلجا مجتمع استحالة الدولة لاصطناع أنواع من الرمزيات، او اشكال "القيادة" الشكلية المنتقصه، وغير الفعاله على مستوى "السلطة" كما الحال في الأنبياء / الملوك المنوه عنهم، والذين يجري اكتشافهم اليوم، او أولئك الذين ينسبون الى مايسمى "الديمقراطية البدائية" اعتباطا وقصدا قصوريا.
ولايفرق هنا ودائما بين شكلين من تجليات "الدولة" في ارض الرافدين: الأحادية/ الازدواجية الإمبراطورية، والاستبدالية المنتمية الى "اللادولة" المشاعية الأولى في اعلى الرافدين جغرافيا وحتما، والثانية الادنى جنوبا. الامر الذي عاد وتكرر اليوم وابان الدورة الحالية الثالثة منذ القرن السادس عشر، مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في الأرض ذاتها التي ظهر فيها اول تشكل مجتمعي سماوي متعذر على التجسد الارضوي في التاريخ.
ـ يتبع ـ
"الاستبدال" و"المنتفك"/ وقفه ثانية ج/ 7
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) "ماقبل الفلسفة/ الانسان في مغامرته الفكرية الأولى"/ هـ فرانكفورت، هـ .ا. فرانكفورت، جون. أ. ولسون، ثوركيلد جاكبسون/ ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربيه للدراسات والنشر ـ بيروت ـ ط2 1980/ ص.149
(2) نفس المصدر ص 150 .
(3) نفس المصدر ص 150.
(4) " ارضوتوبيا العراق وانقلاب التاريخ/ عبدالامير الركابي/ دار الانتشار العربي/ بيروت ـ 2008 .
(5) كتاب "انبياء سومريون"/ خزعل الماجدي/ المركز الثقافي للكتاب والنشر والتوزيع.
(6) وبكيبيديا "غوغل"/ انبياء سومريون.