لهيب المواجهة في ملحمة الحوض المنجمي*


مرتضى العبيدي
2020 / 7 / 7 - 17:04     

إن انتفاضة الحوض المنجمي لسنة 2008 حظيت بكم هائل من الكتابات التوثيقية والدراسات السوسيولوجية أوالسياسية، إلا أن هذه الكتابات لم تواكبها أعمال إبداعية تخلد شهداء الانتفاضة وأبطالها. فإذا استثنينا الشريط السينمائي "نعل بو الفسفاط" للمخرج الشاب سامي التليلي ورواية إبراهيم درغوثي "كلاب الجحيم"، فإننا لا نكاد نعثر على نصوص إبداعية تتعلق بها. فهل أن هذا السبب هو ما جعل الكاتب الهادي الزعراوي يعود الى "ملحمة الحوض المنجمي" هذه كما جاء في العنوان الفرعي لروايته الموسومة بـ "لهيب المواجهة" يستمد منها وهج الكتابة على دروب الإبداع؟
ولعل تسارع الأحداث في السنوات التي تلت هذه الأحداث والتي أدّت الى ما أصبح يُعرف عندنا بــ "ثورة الحرية والكرامة" هو الذي غطّى نوعا ما على تلك الانتفاضة البديعة. ولعل هذا بالذات هو ما حفز الكاتب على العودة بحماس إلى وقائعها يدوّنها خوفا عليها من الضياع والنسيان، أو لعله أراد أن يقول إنه لولا تلك لما كنت هذه.
والمعلوم عندنا أن الحوض المنجمي وأهله كانا مصدر إلهام لكثير من كبار كتاب بلادنا، إذ أن جزءا هاما من أحداث رائعة البشير خريّف "الدقلة في عراجينها"، يدور في هذه المنطقة بالذات، وكذلك الشأن بالنسبة لـ "يوم من أيام زمرا" رواية الأديب محمد صالح الجابري التي حصلت سنة 1966 على أعرق جائزة أدبية في زمانها أي "جائزة علي البلهوان" التي كانت تسندها بلدية تونس، والتي حوّلها المخرج علي العبيدي سنة 1997 إلى شريط سينمائي تحت عنوان "الرديف 1954"، أو رواية سابقة لإبراهيم الدرغوثي بعنوان "وراء السراب... قليلا" والتي خصصها بأكملها لقصّة اكتشاف الفسفاط وما رافقها من مآس، ومن نضالات خطّها عمال الداموس بدمائهم.
ذكرت هذا وأنا بصدد تقديم رواية الهادي الزعراوي لمحاولة تأصيلها ضمن سلالة عريقة في الأدب التونسي المعاصر، بربطها بما سبقها من إبداعات كان محورها المنجم وأهله. فأبناء المناجم من المبدعين يصرّون منذ سنين على الإقرار بوجود أدب مخصوص يمكن أن نطلق عليه تسمية "الأدب المنجمي"، بل إنهم يقيمون له الندوات والمهرجانات حتى دون الاتفاق على تعريف معيّن له. فمنهم من يعتبر الأدب المنجمي (شعرا ونثرا) هو كل ما يُكتب عن المناجم، أيّا كان كاتبه، ومنهم من يقصر هذا الصنف على ما يُبدعه أبناء المناجم دون سواهم. وهل يمكننا عندئذ تصنيف رواية "لهيب المواجهة" ضمن هذه الخانة؟
لكن الراوي في "لهيب المواجهة" ـ وهو الصحفي مهنة ـ وقبل أن ينتقل بنا إلى مدن الحوض المنجمي التي عرّف بها تعريفا دقيقا يليق بكتب الجغرافيا مكننا من معايشة جانب من واقع زنزانات الإيقاف والسجون. إذ أن الرواية تُفتتح على مشهد "بطلها" ملقى في أحد دهاليز مراكز الإيقاف في انتظار حصص الاستجواب والتعذيب التي لم يتوقف عليها الراوي طويلا، ولعلها أصبحت من المقاطع المألوفة منذ أن تحرّرت الأقلام من عقالها، واقتحم طيف من قدماء المساجين السياسيين نشر نصوص إبداعية صنفها النقاد ضمن "أدب السجون". بل لعل اعتقاله الذي جاء على خلفية تغطيته لأحداث الحوض المنجمي، جعله يتعجل الالتحاق بأرض المعركة لتغطية هذه الأحداث كشاهد عيان ولا كناقل أخبار عن بعد. فاستعجل الجزء الأول من الرواية وطوى في بضعة صفحات محنة سجنه واختار لها نهاية سعيدة إذ أن المحكمة ـ على غير عادتها ـ ستبرّؤه مما نُسب إليه من تهم، وتقتصر على إخضاعه للمراقبة الإدارية. فيجد نفسه مباشرة بعد خروجه من المحكمة داخل أول قطار متجه لمنطقة الحوض المنجمي، لتبدأ رحلته/معركته الحقيقية التي من أجلها كُتبت الرواية.
ومنذ حلول الصحفي/الراوي بمدينة الرديف، يتحوّل السرد الى نوع من المتابعة اللصيقة للأحداث الجارية وخاصة منها فصول الكرّ والفرّ بين الأهالي المنتفضين ضدّ أوضاعهم المعيشية البائسة وأجهزة القمع التي سخرها النظام لإخماد لهيب انتفاضتهم وخاصة لمنعها من اجتياز حدود "القرية العجوز" حتى لا يسري مفعولها الى المدن المجاورة أو الى جهات أخرى لا تقل بؤسا عنها. ويحاكي هذا السرد المسترسل (لا تحتوي الرواية على فصول ولا حتى على أرقام تفصل بين أجزائها) استرسال الانتفاضة، مع بعض التقطعات يتنازل فيها الراوي عن عليائه ليفسح المجال لبعض الشخصيات للحديث عن هذا المظهر أو ذاك، أحاديث تمحورت حول ثنائية النعمة والنقمة في علاقة بالفسفاط: هذه الثروة المنهوبة منذ ما يزيد عن القرن، والتي كان من المفروض أن يعمّ من جرّائها خير كثير على منتجيها، إلا أنها لم تجرّ عليهم إلا الوبال رغم تغيّر المتحكمين فيها.
فالرواية في جوهرها سرد لما عاناه ويعانيه سكان المناجم من استغلال واضطهاد وقمع عنيف كلما هبوا للاحتجاج ضد الفقر والبطالة والتهميش، وخاصة المتعلق منه بانتفاضة 2008. لذلك عمد الراوي إلى نوع من العمل التوثيقي غير الغريب عليه كصحفي، إذ هو وثق جانبا من الانتهاكات المرتكبة بحق المواطنين بلغت حد القتل، فاستعاد ظروف اغتيال شباب الحوض المنجمي الذين سقطوا شهداء في تلك الملحمة، كما دوّن بدقة أسماء المناضلين الذين تعرّضوا للإيقاف والتعذيب والمحاكمة.
وبقدر ما كشفت الرواية مناورات النظام والمؤامرات التي حاكها لكسر شوكة المقاومة وفرض العزلة على المدينة، فإنها احتفت بروح التضامن والتآزر التي كانت قاسما مشتركا بين كل الأهالي، وهو ما مكنهم من الصمود في وجه الآلة القمعية لمدة ستة أشهر كاملة جلبت لهم تعاطف الأحرار في داخل البلاد و خارجها. ولعل اختيار الكاتب "صامد" اسما لبطله يندرج في سياق إعلاء قيمة الصمود هذه التي تميّز به حراك الحوض المنجمي ومناضلوه.
وإذا كان علينا تصنيف هذه الرواية ضمن خانة ما، فإنه يعسر إدراجها ضمن أدب السجون أو حتى ضمن الأدبي المنجمي... لكن يمكننا أن نؤكد دون تردد انتماءها إلى مجال أرحب هو أدب المقاومة.
* تقديم رواية "لهيب المواجهة" للأديب الهادي الزعراوي (تونس، جوان 2020)