الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعيتها على الطبقة العاملة


عبد السلام أديب
2020 / 7 / 2 - 02:42     

استجابة لدعوة من طرف عدد من الرفاق الماركسيين اللينينيين على الصعيد الوطني بالمغرب، شاركت في مناقشة موضوع حول الوضع الاقتصادي العالمي وتداعياته على الطبقة العاملة في اطار ندوة رقمية مساء يوم السبت 13 يونيو 2020، من خلال الأرضية التالية، وهي الأرضية التي عرفت نقاشات عميقة تواصلت لعدة أيام، وفيما يلي مضمون الأرضية المطروحة مع إضافات مستخلصة من مضامين النقاشات الي أجريت حولها.

ولا تخفى أهمية هذا الموضوع انطلاقا من ما تعرفه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، المتأزمة بوضوح محليا وعالميا عمقتها جائحة كوفيد 19 مع بداية سنة 2020، وما تسعى اليه الامبريالية والبلدان التابعة بالموازاة مع ذلك من أهداف تسلطية فاشية فوقية بدعوى مكافحة الجائحة.
وتحاول الأنظمة الرأسمالية قاطبة عبر وسائل الاعلام ومسؤوليها الادعاء بأن الازمة الاقتصادية لسنة 2020 هي ذات مصدر خارج عن نطاق ميكانيزمات نمط الإنتاج الرأسمالي باعتبارها أزمة طارئة ناجمة أساسا عن جائحة كوفيد 19، وقد شاهدنا مدى مبالغة هذه الأنظمة وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية في نشر الرعب والخوف بين الناس عبر وسائل الاعلام التي ما فتئت منذ بداية سنة 2020 تمطرنا بأخبار ضحايا هذه الجائحة، وتءكد ان لا خلاص من دون لقاح يشمل كافة سكان المعمورة.

ويبدوا جليا اليوم، بان اكبر متضرر من هذه الجائحة والإجراءات المواكبة لها هي الطبقة العاملة التي فرض عليها في كل مكان ان تشتغل في شروط تفتقر لأدنى شروط السلامة الصحية، وقد رأينا في المغرب أعداد العاملات والعمال الذين أصيبوا داخل المعامل بها المرض في المدن الصناعية الرئيسية بالدار البيضاء وطنجة على الخصوص وكذا إصابات واسعة بين العمال والعاملات الزراعيات بمزارع انتاج الفراولة بمنطقة للاميمونة ناحية مدينة القنيطرة والتي تعود ملكيتها الى أحد المستثمرين الاسبان. كما تعرض عمال قطاعات أخرى للطرد بسبب العمل النقابي او حرموا من الاجر فظلت منذ بداية سنة 2020 معتصمة أمام مقرات العمل في احتجاج متواصل دون الالتفات الى مطالبها والمثال الصارخ هنا هم عمال الكابلاج بشركة امانور في مدن طنجة وتطوان والرباط والذين تعرضوا يوم 24 يونيو لقمع وحشي خلف عدة إصابات في صفوف العمال.

سأحاول من خلال هذه الأرضية أن اناقش في محور أول حول مصدر الأزمات الاقتصادية للرأسمالية المعولمة اليوم من وجهة نظر ماركسية وفي محور ثاني سأتناول تناقض القوانين الرأسمالية حسب دراسات كارل ماركس باعتبارها أساس استمرارية الازمات الرأسمالية ووقوف نمط الإنتاج الرأسمالي اليوم على حافة الانهيار الكامل وكونها الأساس المهيأ للأزمة الثورية وبالتالي للثورة الاشتراكية العالمية، وفي محور ثالث، سأتناول تداعيات الازمتين الصحية والاقتصادية على الطبقة العاملة وردود افعالها حاليا ومستقبلا.

فالأزمة الاقتصادية تشكل بدون شك لحظة اختناق نمط الإنتاج القائم وتوقف قدرته على إعادة انتاج نفسه من خلال عجزه عن الحفاظ على استمرار تطور قوى الإنتاج الممكنة من جهة والمحافظة على استمرار استقرار علاقات الإنتاج السائدة المختلة بين القوى الطبقية المهيمنة والطبقات المنتجة المضطهدة من جهة أخرى. ويبدو من خلال هذا التعريف المبسط للازمة الاقتصادية مدى تعقد الروابط الاجتماعية التي تشكل نمط الإنتاج القائم والتي تؤدي الى انفجار الازمة وبالتالي الى انفتاح الطريق امام تطورات اجتماعية ثورية قد تكتفي بإحداث تغييرات شكلية في آليات اشتغال نمط الإنتاج القائم، أو قد تصل درجة القضاء على هذا النمط بكامله وحلول نمط انتاج مختلف على أسس قوى انتاج وعلاقات انتاج جديدة.

أولا: في البدء كان الانقسام الطبقي والملكية الخاصة مصدرا لكل الازمات الاجتماعية اللاحقة:

علينا ان نتساءل هنا، من أجل تفكيك طبيعة الأزمات الاقتصادية لنمط الإنتاج الرأسمالي المعولم اليوم، عن اللحظة التاريخية التي انتجت علاقات التفاوت الطبقي والملكية الخاصة والعمل المأجور التي يسود بواسطتها نمط الإنتاج الرأسمالي اليوم، فهل هي لحظة إنسانية طبيعية أم هي وضعية غير طبيعية ترتبت نتيجة تحولات اجتماعية دياليكتيكية معينة؟

سنركز اجابتنا في هذا الاطار على ثلاث نقاط متوالية كما يلي:

التناقض الطبقي الموروث منذ 12 الف سنة قبل الميلاد ودور الملكية الخاصة في استدامة هذا التناقض؛

شكل صعود وانهيار الحضارات الطبقية وأنماط الإنتاج المتعاقبة حسب المادية التاريخية؛

مرحلتي صعود وانهيار نمط الإنتاج الرأسمالي.

1 – سيرورة تشكل الطبقات والملكية الخاصة والدول:

هناك الكثير من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين عملوا من خلال دراساتهم على رسم ملامح الحياة الاجتماعية في ظل الجماعات البدائية والتي تم تقسيمها الى مراحل متعاقبة، خاصة مرحلتي ما قبل التاريخ (ما يسمى بمرحلة الباليوليتيك) ثم المرحلة التاريخية التي تبدأ منذ حوالي 12 الف سنة قبل الميلاد، وقد واكبت هذه المرحلة التاريخية بعدة تحولات اقتصادية واجتماعية حتمت هذه المرحلة وتعرف عند علماء الاجتماع بالعصر الحجري الأعلى أو ما يسمى بالعصر النيوليتي والذي يمتد منذ حوالي 12 الف سنة الى حوالي 3 الاف سنة قبل الميلاد. وهو العصر الذي حدثت فيه ما سمى بالثورة الزراعية، فاكتشاف الزراعة وتشكيل خزانات كبرى للإنتاج الزراعي والمواد الغذائية كان مدخلا لظهور الطبقات والملكية الخاصة والاشكال الجنينية للدولة ووسيلة لاستغلال الأقوياء للضعفاء، بل شكلت هذه الفترة منطلق الصراعات والحروب التي لم تكن قائمة في عصر ما قبل التاريخ. فالطبيعة الإنسانية تختلف حسب الظروف الاجتماعية المادية للواقع الإنساني.

استند إذن الانقسام الإنساني في العصر النيوليتي وظهور الطبقات والدولة على أساس الملكية الخاصة للخزانات الغذائية التي وفرتها الثورة الزراعية، أي ملكية الأقوياء للمزارع ولخزانات المواد الغذائية مما جعلهم من جهة يتمكنون من تسخير قوة عمل افراد آخرين في الإنتاج لإعادة تشكيل تلك الخزانات وفي حماية الممتلكات الخاصة وحتى في تشكيل قوة عسكرية للإغارة على الجماعات الأخرى والسيطرة عليهم وتشغيلهم كعبيد في الإنتاج الزراعي، والعكس صحيح أي اغارة الجماعات التي لا تتوفر على مصادر الغذاء على مواقع تلك الخزانات وسلبها.

قبل العصر النيوليتي عاش الانسان البدائي لآلاف السنين في عصر ما قبل التاريخ الباليوليتي في جماعات متضامنة لا يعلوا أفرادها رتبة بعضها عن بعض، ويقوم أساس بقائها على استعمال على قوة عمل الجماعات في القنص والصيد وقطف الثمار وهي المصادر الأساسية لإعادة انتاج الحياة، حيث كانت قوة عمل الانسان جماعية وفي هذا الاطار صنع الانسان أدواته في الصيد والقنص وقطف الثمار وحماية النفس من اخطار الحيوانات المتوحشة. ويمكن العودة الى مصادر متخصصة عديدة في هذا المجال من بينها كتب كل من فردريك انجلز "اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" وموريس مورغان "المجتمع القديم" واندري لوروا كوران "الإشارة والكلام" للتوسع في تطور أوضاع حياة الانسان البدائي قبل ظهور الملكية الخاصة والطبقات والدولة. فقوة العمل كانت توظف بشكل جماعي لإعادة انتاج الحياة وحيت كان الجميع يستفيد من ثمار هذا الإنتاج.

لكن منذ ظهور الإنتاج الزراعي والملكية الخاصة والتفاوت الطبقي بدأ الأقوياء يستهدفون السيطرة على قوة العمل الانساني لإخضاعها للاستغلال أي ان الأقوياء بدأوا يستغلون قوة عمل الضعفاء عبر العنف لخدمة مصالحهم الخاصة وخاصة تطوير ومراكمة خزانات الأغذية وحراستها. وعلى أساس تملك قوة عمل الغير عبر الاستعباد وتوظيفها في تشييد مجد الطبقات الحاكمة تشكلت الدول والحضارات القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس والهند والصين، ... الخ.

2 – صعود وانهيار أنماط الإنتاج المتعاقبة:

الحقيقة التاريخية التي لا جدال حولها هي ان جميع الحضارات القديمة بدون استثناء تعرف مرحلة من الصعود والازدهار قبل ان تعرف مرحلة الانحطاط والاندثار، وقد سبق لابن خلدون ان استعرض في مقدمته أسباب قيام الدول وانهيارها في منطقة شمال افريقيا والتي أقامها على أساس نظريته السياسية حول العصبية القبلية والاصل الشريف والأيديولوجية الدينية، أما كارل ماركس فقد ذهب بعيدا في تفسير أسباب صعود وانهيار أنماط الإنتاج المتعاقبة والتي بنيت الحضارات القديمة على أساسها.

يقول كارل ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" ما يلي:

" عندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع علاقات الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه العلاقات التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية. فتعديل القاعدة الاقتصادية يجر في أذياله قلبا سريعا بدرجة أكثر أو أقل، لكل الصرح العلوي الهائل. وعند دراسة الانقلابات التي من هذا النوع يجب دائما أن نفرق بين القلب المادي الذي يحدث في علاقات الإنتاج الاقتصادية والتي يمكن تقريرها بدقة عالية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة واحدة الأشكال الأيديولوجية التي يدرك الناس في ظلها هذا الصراع ويجاهدون في سبيل فضه".

وتلخص مقولة كارل ماركس منهجيته المادية التاريخية وهي المنهجية التي أحدثت ثورة في العلوم الاجتماعية والتاريخية والسياسية والاقتصادية، وتمكننا هذه المنهجية من تحليل ما يحدث محليا وعالميا، في الزمان والمكان. كما تؤكد هذه المنهجية بأن جميع الحضارات المتعاقبة قامت على أنماط إنتاجية معينة تقوم على ركيزتين في تطورها. فهناك من جهة قوى الإنتاج أي الوسائل المادية الطبيعية والإنسانية والحيوانية والتكنولوجيات ومن جهة أخرى هناك علاقات الإنتاج أي طبيعة العلاقات الإنتاجية الطبقية بين من يملك ومن لا يملك. فصعود الحضارات تتم من خلال توازن قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وما تحققه من تراكم وتطور مادي على جميع الأصعدة، لكن هذا الصعود ينتهي حتما بتعفن علاقات الإنتاج وبانهيار التوازن بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، مما يكون له تأثير حتمي كبير على توقف عملية التراكم، وبالتالي يؤدي الى انهيار البناء الاجتماعي وكل ما تحقق من تراكم مادي واجتماعي على جميع الأصعدة، ففي هذه المرحلة من التعفن والانهيار الحضاري والتي تتزامن معها عادة، انتشار الحروب والاوبئة وتراجع اعداد السكان، وتبدأ مرحلة من الثورة الاجتماعية، التي تستمر الى حين انهيار الحضارة القائمة وقاعدتها الانتاجية وحلول أخرى مكانها.

ويقدم كارل ماركس في مقدمته المشار اليها أعلاه، اشكال صعود وانهيار الحضارات المتعاقبة التي قامت على تعاقب نمط انتاج الاستبداد الشرقي ونمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الاقطاعي والذي وصل اليوم الى نمط الإنتاج الرأسمالي. ومن خلال دراسة كل نمط انتاج على حدة تبرز اشكال تملك وسيطرة القوى المهيمنة على قوة العمل الإنساني، وأن تعفن اشكال السيطرة يؤدي الى تحلل النظام الاجتماعي القائم والى انهياره.

3 – صعود وانهيار نمط الإنتاج الرأسمالي:

إن ما جرى للأنماط الإنتاجية القديمة والحضارات السابقة نراه يحدث اليوم أيضا لنمط الإنتاج الرأسمالي وما يسمى بالحضارة الرأسمالية والتي لن تسلم من قانون الانهيار الحضاري التي عاشتها أنماط الإنتاجي السابقة. فنمط الإنتاج الرأسمالي الذي عرف بداياته الأولى في القرن الثالث عشر، تطور في ضل الانحطاط التدريجي لنمط الإنتاج الاقطاعي، الذي انتهي الى الانهيار التام في القرن الثامن عشر، وبالتالي هيمنة الرأسمالية الواسعة سياسيا واقتصاديا.

وقد عمل كارل ماركس لما يزيد عن عشرين سنة لفهم وتفكيك نمط الإنتاج الرأسمالي، فلسفيا وسياسيا واقتصاديا، وقدم لنا صورة واضحة عن القوانين المتناقضة التي تحكم أسلوب عمل هذا النمط، والتي قادت في مرحلة أولى منذ القرن الثالث عشر الى تطور الحضارة الرأسمالية، وهي القوانين التي قادت حتما في مرحلة ثانية منذ بداية القرن العشرين نحو تعفن هذه الحضارة وانحطاطها التدريجي الذي لا زلنا نعيش تمظهراتها الى اليوم، رغم كل المحاولات اليائسة لانقادها.

وقد قسم كارل ماركس في الفصل السادس من رأس المال الذي لم ينشر مع المجلد الأول، المراحل التي يمر منها نمط الإنتاج الرأسمالي . وقد وصف ماركس المرحلة الأولى التي تشهد صعود نمط الإنتاج الرأسمالي بمرحلة الهيمنة الشكلية لرأس المال على العمل، نظرا لأن رأس المال كان عليه ان يتعايش الى جانب الأنماط الإنتاجية السابقة التي دخل في صراع معها، لذلك لم تكن هيمنته على العمل كاملة بل شكلية فقط وحيث كانت الدولة الوطنية اداته الأساسية لهذه السيطرة. ومع بداية القرن العشرين وما سماه لينين بمرحلة الامبريالية كأعلى مراحل الرأسمالية، أصبح العالم بأكمله خاضعا لنمط الإنتاج الرأسمالي الامبريالي وهي المرحلة التي بدأت تتحقق فيها الهيمنة الفعلية على العمل، بل وهيمنة رأس المال المالي الدولي بشكل مطلق على كافة الدول التي فقدت شخصيتها المستقلة وتخضع لمصالح رأس المال والسلع الرأسمالية. وفي نفس الوقت التعمق التدريجي لتعفن نمط الإنتاج الرأسمالي من خلال التناقض الحاد المزمن بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وهو ما قاد الى حربين عالميتين وحوالي 130 حرب محلية منذ بداية القرن العشرين ذهبت بأرواح أزيد من 150 مليون نسمة أغلبها من القوى العاملة، كما صاحب تطور هذه المرحلة ثورات اجتماعية متواصلة شكلت الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 منطلقها ولا زالت متواصلة مع تزايد تعمق تناقضات النظام.

وتؤكد قوانين نمط الإنتاج الرأسمالي المتناقضة التي ابرزتها دراسات كارل ماركس حتمية الازمة العميقة لهذا النظام التي تدفع نحو الأزمة الثورية والى الثورة البروليتاريا العالمية.

ثانيا: تناقض القوانين الرأسمالية:

هناك قوانين متعددة تحكم عمل نمط الإنتاج الرأسمالي الذي هو قبل كل شيء عبارة عن روابط اقتصادية واجتماعية وقانونية وسياسية طبقية معينة موروثة، تطورت نحو اشكالها الاستبدادية الجديدة منذ القرن الثالث عشر، كإرث تاريخي عن الأنظمة الطبقية البائدة السابقة التي كان آخرها نمط الانتاج الاقطاعي. وتقوم هذه القوانين بالضرورة على قانون الملكية الخاصة الذي يضمن استمرار تشكل العلاقات الطبقية والهيمنة على قمة العمل الإنساني وعلى الاكراه المادي والايديولوجي الذي تمارسه الدولة كأداة طبقية قمعية لضمان استمرار اغتراب الطبقات المحكومة واستغلال قوة عملها.

من بين القوانين الرأسمالية الأساسية التي تناولها كارل ماركس في تحليله لكيفية اشتغال نمط الإنتاج الرأسمالي هناك ثلاث قوانين أساسية ذات مفعول اقتصادي واجتماعي حركي، تشكل القلب النابض لهذا النظام واساس تطوره، كما تشكل سبب تعفنه واقباره عند بلوغ ازماته مرحلة متقدمة.
وتتمثل هذه القوانين الثلاثة في قانون القيمة-العمل وقانون التراكم وقانون اتجاه معدل الربح نحو الانهيار. ودون الدخول في التفاصيل التي عرضها كارل ماركس في مؤلفاته الشهيرة حول رأس المال، سأتناول في ما يلي دينامية هذه القوانين والنتائج التي تسفر عنها والتي تفسر لنا تاريخ النظام الرأسمالي بأكمله وكذلك مصيره المحتوم، كما تفسر لنا أيضا ما حدث في ظل الأنماط الإنتاجية الطبقية السابقة التي انتهت الى الانهيار

أ – قانون القيمة-العمل

يؤكد كارل ماركس في رسالته الى كوغلمان في 11 يوليوز 1868 على أن "كل طفل يعرف أن أمة تتوقف عن العمل، لن أقول لسنة واحدة، بل حتى لأسابيع قليلة، سوف تفنى. وان كل طفل يعرف أيضا أن كتل المنتجات المقابلة للحاجات المختلفة تتطلب کتلا مختلفة ومحددة كميا من العمل الاجمالي للمجتمع... ان العلم يستقیم بالضبط في البرهان على الكيفية التي يؤكد بها قانون القيمة نفسه" .

نفهم من خلال هذه المقولة لكارل ماركس على ان العمل بشكله العام المجرد هو أساس الحياة، بمعنى انه بدون عمل منتج لشروط استمرار الحياة لا يمكن تأمين متطلبات الحياة الإنسانية من تغذية وسكن وحياة متوازنة. وتدفعنا هذه المقولة الماركسية التي لا يمكن دحضها الى اليقين بأن قيمة انتاج الحياة الانسانية هي العمل المنتج. ورغم تطرق المدارس الاقتصادية لدى الفيزيوقراط والكلاسيكي وخاصة مع آدم سميت وريكاردو لمفهوم القيمة العمل، الا ان الامر اقتصر على الوصف السطحي الحسابي، ولم يأخذ المفهوم طابعه الاجتماعي الجدلي الحقيقي الا مع كارل ماركس الذي اعتبر ان تحديد قيمة أي شيء يتم من خلال احتساب الزمن الضروري المنفق في انتاجه أو ما أسماه بكمية العمل الضرورية اجتماعيا لإنتاجه . وتتميز قيمة أي شيء بقيمته الضرورية الاستعمالية لاستمرار الحياة الإنسانية وتلبية حاجياته الكثيرة والمتعددة. ومنذ ضهور الملكية الخاصة والطبقات والتحكم في قوة عمل الغير ظهرت الصفة الثانية للقيمة وهي القيمة التبادلية، فعلى أساس المتاجرة في هذه القيم التبادلية تتشكل الثروات وتتقوى الطبقات وتتشكل الدول وتقاد الحروب العدوانية.

ويجب الانتباه هنا الى مدى أهمية قانون القيمة - العمل في التحليل الماركسي، حيث يجعلنا نستخلص أن كافة الأشياء مهما اختلفت هي وليدة العمل الإنساني المغترب والذي تسيطر عليه قوى طبقية وتحوله الى قيمة رأسمالية مستلبة. ويمكننا في ظل النظام الرأسمالي ان نميز القيمة الرأسمالية لأي منتوج من خلال توزيع القيم على المكونات الأساسية التي تشكله حيث نميز بين ثلاث قيم تختزنها جميع السلع المصنعة والتي يمكن التعبير عنها بالرموز الثلاثة التالية:

C+V+PL

وذلك على أساس أن:

C = تشكل قيمة وسائل الإنتاج المادية والتقنية أو ما يسميه ماركس برأس المال الثابت أو رأس المال الميت، لأنها تختزن عملا إنسانيا سابقا؛

V = تشكل قيمة قوة العمل الإنساني المستخدمة في الإنتاج أو ما يسميه ماركس برأس المال المتغير أو رأس المال الحي، وتشكل هذه القيمة الأجر الحقيقي المدفوع للعامل، والذي يضمن له المحافظة على قوة عمله؛

PL = تشكل قيمة العمل الإنساني الزائد وهي قيمة عمل العامل التي يستولي عليها الرأسمالي بعد أن يدفع للعامل أجره، وهو ما يسميه ماركس بفائض القيمة.

وتجدر الإشارة هنا الى أن رأس المال الثابت C الذي يتكون من تكنولوجيات ومواد وآلات وحاجيات مادية للإنتاج تختزن هي أيضا عملا إنسانيا سابقا، أصبح مجمدا في تلك المواد والأدوات والتكنولوجيات، وتساهم في تسريع وزيادة نسبة الإنتاج النهائي. اذن فالمكونات الثلاث للقيمة هي في حقيقتها وليدة العمل الإنساني بالكامل سواء كان عملا ميتا سابقا او عملا حيا مباشرا. وهذا ما يعبر عنه بقانون القيمة العمل.

ب – قانون التراكم

يؤدي التنافس بين الرأسماليين الى قيام كل رأسمالي بإجبار العمال على الاستمرار في زيادة نسبة منتجات عملهم الحي من أجل مراكمة المزيد من فوائض القيمة ومن الأرباح، وفي حالة عدم تحقق فوائض قيمة وارباح عالية فسيؤدي ذلك خسارة الشركة في منافسة الشركات المماثلة والاضطرار الى توقيف الإنتاج وبالتالي الى طرد العمال. فقانون التراكم تفرضه ضرورة الاستمرار في تحقيق الأرباح في سوق يسيطر عليه قانون المنافسة.

ويقضي قانون التراكم الرأسمالي بأن تدفع المنافسة كل رأسمالي فردي إلى زيادة إنتاجية العمل، بمعنى الاجتهاد في تخفيض تكاليف الإنتاج من أجور العمال (رأس المال الحي) وتكاليف رأس المال الثابت من تكنولوجيات وآلات ومواد وأدوات تستعمل في الإنتاج.

ترتبت المئات من الأزمات الدورية للرأسمالية منذ نشأتها نتيجة انخفاض معدل فائض القيمة وبالتالي معدل الربح من جهة و بسبب عدم القدرة على بيع وتصريف كافة المنتجات المعروضة في السوق نظرا لضعف القدرة الشرائية لدى المستهلكين الذين تتكون غالبيتهم من الطبقة العاملة. وقد قادت هذه الحقيقة الرأسماليين الى الاستعانة بجهاز الدولة لتطوير التجارة الخارجية لتصريف ذلك الفائض من المنتجات وأيضا الى قيادة حملات استعمارية من اجل الحصول على مواد أولية بأسعار منخفضة وعلى يد عاملة رخيصة في المستعمرات لتقليص كلفة الإنتاج وعلى أسواق تصريف الإنتاج الزائد. فقانون التراكم يقف إذن وراء الحملات الاستعمارية ووراء ظهور الامبريالية، ويقف أيضا وراء الحروب المتعددة للرأسمالية.

و يدفع قانون التراكم الرأسماليين الى انفاق المزيد من أرباحهم على وسائل الإنتاج المتطورة كالتكنولوجيات لرفع كمية المنتجات وتقليص كلفتها حتى تكتسب قوة تنافسية في السوق، وحيث تميل نسبة قيمة وسائل الإنتاج(رأس المال الثابت) مقارنة بقيمة قوة العمل (رأس المال المتغير) نحو الارتفاع. لكن، مهما ارتفعت قيمة الرأسمال الثابت مقارنة بقيمة رأس المال المتغير، الا انها لا تنتج بحد ذاتها الا فائض قيمة محدود بحدود نسبة رأس المال الحي أي عدد العمال، لأن قوة العمل الحي هو وحده من ينتج فائض القيمة.

إن التوسع في مكونات التركيب العضوي للسلع الرأسمالية يتم لصالح رأس المال الثابت على المدى الطويل بالدرجة الأولى على حساب رأس المال المتغير لذلك يقضي قانون التراكم والتوسع الاقتصادي الرأسمالي بارتفاع كتلة الأرباح وبانخفاض معدل الربح على المدى الطويل . ويمكن التمييز هنا كما قال كارل ماركس بين فائض القيمة المطلق الذي يتحقق في ظل هيمنة نسبة رأس المال المتغير على حساب نسبة رأس المال الثابت في انتاج السلع، وفائض القيمة النسبي، عندما تصبح نسبة رأس المال الثابت أكبر من نسبة رأس المال المتغير. ففائض القيمة النسبي يتحقق نتيجة الاستعمال المكتف للتكنولوجيات لانتاج سريع وواسع للإنتاج وتصريفه على المستوى العالمي. ففي ظل الهيمنة الشكلية للرأس المال على العمل كانت الرأسمالية تنتج فائض القيمة المطلق وفي ظل الهيمنة الفعلية للرأسمال على العمل أصبحت الرأسمالية تنتج فائض القيمة النسبي. وتتميز المرحلة الثانية بانخفاض معدل الربح رغم كثلة الأرباح المحققة نتيجة الإنتاج السريع والواسع.


ويؤدي قانون التراكم الى ميل تدريجي نحو تزايد اعداد العاطلين عن العمل بسبب تزايد الاعتماد على التكنولوجيا والآلات ضمن مكونات التركيب العضوي لرأس المال. علما أن التكنولوجيا ووسائل الإنتاج تساهم في تزايد إنتاجية العمال حتى مع تراجع أعدادهم. كما تخلق التكنولوجيات والآلات وظائف جديدة وتقضي على وظائف قديمة وتسريح المزيد من العمال. ويؤدي هذا الانقلاب في التركيب العضوي في رأس المال الى تحكم الرأسماليين في تنظيم الحركة العامة للأجور بشكل حصري من خلال توسيع الجيش الاحتياطي الصناعي نتيجة كثرة العطالة ويتوافق ذلك مع التناوب الدوري للدورة الصناعية. ويمكن تلخيص نتائج قانون التراكم في ما يلي:

1 - يرتفع معدل تزايد رأس المال الثابت على حساب رأس المال المتغير c/v مع مرور الوقت. وهذا يعني تزايد مركزة وتركيز رأس المال، كما يبين درجة استغلال العمال وارتفاع معدل فائض القيمة.

2 - ارتفاع معدل رأس المال الثابت c/v يخلق جيش عمل احتياطي: البطالة التكنولوجية.

3 - تزايد حجم الجيش الاحتياطي للعمل بشكل دوري مع تزايد قوة التراكم.

كما يؤدي تناقض قانون العمل - القيمة مع قانون التراكم الى عدة نتائج من بينها:

1 - ظهور قانون حتمي ثالث: وهو قانون ميل معدل الربح إلى الانخفاض.

2 – يتأكد بالضرورة أن القانون الأول (العمل – القيمة) هو المصدر الأساسي للقيمة.

3 - يؤكد القانون الثاني (التراكم) أن الرأسماليين يراكمون المزيد من رؤوس الأموال مع الزمن، ويأخذ ذلك شكل زيادة أسرع في قيمة وسائل الإنتاج على حساب قيمة قوة العمل، أي زيادة هذه الحصة في التركيب العضوي لرأس المال.

ج – قانون اتجاه معدل الربح الى الانهيار :

يقول كارل ماركس في الصفحة 704 الصيغة الفرنسية من كتابه الغروندريس حول قانون اتجاه معدل الربح الى الانهيار أنه " أهم قانون في الاقتصاد السياسي الحديث وأهمها لفهم أصعب العلاقات. فهو أهم قانون من الناحية التاريخية. وهذا القانون لم يتم إدراكه من قبل على الإطلاق".

يحسب معدل الربح على أساس المعادلة التالية: pl/(c+v)

فالرأسمالي يبدأ باستعمال رأس المال للاستثمار في وسائل الإنتاج (رأس المال الثابت) والمواد الخام (رأس المال المتداول) = وتسمى برأس المال الثابت (c)

ثم يقوم الرأسمالي بدفع الأجور مسبقا للقوى العاملة لإنتاج السلع. لكن هذه القوة العاملة تنتج قيمة أكبر مما تحصل عليه من أجور، لذا فهي تشكل رأس المال المتغير (v).

ومعلوم أن القوة العاملة تنتج سلعًا تحتوي على فائض قيمة تزيد عن قيمتها المخصصة لدفع الأجور، وهو ما يسمى بفائض القيمة (pl)

يتمثل يتمثل قانون الربح الرأسمالي في قسمة فائض القيمة على رأس المال الثابت زائد رأس المال المتغير pl/c+v

وينجح معدل الربح إذا ارتفعت نسبة رأس المال الثابت على حساب رأس المال المتغير c/v بشكل أسرع من نسبة تزايد فائض القيمة على حساب رأس المال المتغير pl/v

لكن هناك ميول مضادة أشار اليها ماركس تحدث عندما يفوق في بعض الأحيان معدل فائض القيمة الزيادة في حصة رأس المال الثابت في التركيب العضوي لرأس المال - ولكن ليس إلى الأبد.

ويؤدي انخفاض تكلفة التكنولوجيا الجديدة في بعض الأحيان إلى انخفاض في حصة رأس المال الثابت في التركيب العضوي لرأس المال، فتنخفض تركيبة القيمة، ولكن ليس في معظم الأوقات.

يمكن الرجوع الى المجلد الثالث من رأس المال الفصول 13 و14 و15 للإذلاع على تفاصيل قانون ميل معدل الربح الى الانهيار.

في ما يلي رسم بياني يبين مدى ميل معدل الربح نحو التدهور تاريخيا انطلاقا من أواسط القرن التاسع عشر:

المصدر: اقتباس شخصي من ملاحق دراسة مايكل روبرتس، حول الركود الطويل، الصفحات 274-275، وأيضا من دراسة الأرجنتيني إستيبان مايتو التالي:

https://thenextrecession.files.wordpress.com/2014/04/maito-esteban-the-historical-transience-of-capital-the-downward-tren-in-the-rate-of-profit-since-xix-century.pdf


ثالثا: سيرورة أزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي في ظل جائحة كوفيد 19

يعمل المسؤولون السياسيون اليوم قاطبة على محاولة اقناعنا عبر مختلف وسائل الاعلام بان الازمة الصحية لكوفيد 19 هي من تقف وراء الازمتين المالية واقتصادية لسنة 2020. ولقد تسببت جائحة كوفيد 19 فعلا في صدمة عنيفة لنظام اقتصادي مريض أصلا بسبب تدهور معدل الربح، حيث تم الإعلان عن مؤشرات الازمة منذ شهر أكتوبر 2019 في تقارير صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE، معتبرة أن هذا الاقتصاد كان يقف على حافة الازمة، وكان لا ينتظر سوى شرارة خفيفة لكي تندلع وتنتشر عبر العالم.

فقد توقع خبراء هذه المؤسسات حدوث ركود في هونغ كونغ بسبب تضرر صناعات السياحة والتجزئة نتيجة الاضطرابات السياسية، كما أكدوا على تعمق الانكماش الذي تعرفه بريطانيا لأول مرة منذ سنة 2012. وتوقعوا بان ألمانيا وهي الاقتصاد الأكبر في الاتحاد الأوروبي على وشك الغرق في الركود بسبب تراجع قطاع التصنيع وضعف مبيعات السيارات في جميع انحاء العالم.

كما تم اعتبار إيطاليا وهي رابع أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، في حالة ركود منذ سنة 2018 وتواجه اليوم صعوبات اقتصادية مستمرة بسبب انخفاض الإنتاجية وارتفاع معدلات البطالة والديون الكبيرة والاضطرابات السياسية. اما الاقتصاد الصيني الذي يشكل ثاني أكبر اقتصاد في العالم فقد استمر في التباطؤ في خضم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فتوقع صندوق النقد الدولي ان ينمو بنسبة 5,8 % فقط لثاني في سنة 2020.

كما رأت هذه المؤسسات بان كثير من بلدان البريكس BRICS والميست MIST وغيرها من البلدان المصنفة صاعدة وخاصة تركيا والأرجنتين وايران والمكسيك والبرازيل من بين الاقتصاديات التي توجد تحت ضغط الركود بسبب تدهور معدل الربح الناجم عن الإنتاج الزائد.

تبين توقعات صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2019 وتوقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE في نونبر 2019 مدى انحدار معدلات النمو السنوية بسبب تأثير قانون ميل معدل الربح نحو الانخفاض على حجم الإنتاج الصناعي وانحسار التجارة في ظل تضخم الإنتاج الزائد من رؤوس الأموال ووسائل الإنتاج، مما يندر بكارثة اقتصادية تتجاوز في عنفها ازمة 1929. علما ان هذه التوقعات جاءت قبل سنة 2020 أي قبل ظهور جائحة كورونا، وهذا ما لن ترغب الحكومات الرأسمالية الامبريالية بحدوثه، لذلك عليها ان تبحث عن أي عوامة تتعلق بها. من هنا نفهم الحملة الإعلامية المضللة الهادفة الى اعتبار أن ازمة كوفيد19 كانت هي السبب في الازمة الاقتصادية الرأسمالية الحالية وبالتالي استبعاد أي تشكيك في ميكانيزمات اشتغال نمط الإنتاج الرأسمالي.

ولم تكن فقط وسائل الاعلام وممثلي الحكومات الرأسمالية هي من يدافع عن هذه الاطروحة، بل انظمت اليها العديد من الأطراف الأخرى على المستويين المحلي والعالمي، حتى من بين الأحزاب التي تدعي الاشتراكية والشيوعية، وأيضا ما يسمى بأحزاب الخضر والعديد من ما يسمى بممثلي المجتمع المدني من نقابات ومنظمات حقوقية ونسائية ..الخ. فالجميع وظف آلياته الايديولوجية لحماية نمط الإنتاج الرأسمالي من الانهيار.

فما هي الآن أهم مؤشرات الأزمة خلال سنة 2020؟

في بداية سنة 2020، كان وباء كوفيد19 محصورًا بشكل أساسي في الصين، ثم انتشر بسرعة كبيرة نحو بقية بلدان العالم. مصدر الوباء مدينة صينية تدعى يوهان، عاصمة منطقة هوبي، وتشكل مركزا مهما لشبكة النقل والامداد في قلب الصين، وهي منطقة متطورة جدا، وتوجد على مفترق طرق اليانغتسي (وهو أطول نهر آسيوي) ومحور الطريق بين الشمال والجنوب من هونغ كونغ الى بكين. وقد أدى انتشار الوباء بهذه المنطقة الى إيقاف جزء كبير من الإنتاج ونقل البضائع والتجارة خلال أشهر يناير وفبراير ومارس، ليس داخل الصين وحدها وانما مع مختلف بلدان العالم مما احدث اخلالا في العرض والطلب العالميين. وقد سجل الاقتصاد الصيني نتيجة لذلك أول انخفاض في الإنتاج الصناعي منذ 30 سنة: ناقص 13,5 % في عام واحد. يبين الشكل التالي مدى التراجع الحاصل في جميع القطاعات المشكلة للناتج الداخلي الإجمالي في الصين سنة 2020 مقارنة مع سنة 2019:

وتجدر الإشارة الى أنه منذ سنة 1990، أصبح للإنتاج الصيني دور مركزي في التقسيم الدولي للعمل، خاصة في مجال تجميع السلع المصنعة وقطع الغيار، فكان لهذا التوقف تأثير فوري: فقد أحدث "صدمة في العرض" على انتاج العالم بأسره بالنسبة لصناعات الدول الرأسمالية المتقدمة والتي هي في حاجة الى المكونات والمنتجات المصنعة الصينية، كما أحدث "صدمة الطلب" بالنسبة للدول المنتجة للمواد الخام والتي تعتبر الصين أكبر مستهلك لها. هذا التباطؤ في الإنتاج والحجر الصحي المتزامن أحدث بعد ذلك بالطبع ونتيجة له انخفاض في طلب العائلات وهو ما عمق الركود.
للقضاء على هذه الأزمة الصحية، وضعت العديد من البلدان تدابير احتواء لتشجيع الناس على الحد من التفاعلات الجسدية. تسببت هذه الإجراءات البعدية (حظر الأحداث العامة، إغلاق المدارس، والأعمال التجارية غير الضرورية والحدود) في تعميق الأزمة الاقتصادية. كما قيدت هذه القيود في الواقع إنفاق الوكلاء والتجارة بين البلدان، مما تسبب في صدمة طلب انتشرت في النسيج الإنتاجي للعالم بأسره.

وتسبب هذا الوضع في تدهور حاد في سوق العمل، تم استيعابه في العديد من البلدان بشكل رئيسي من خلال اعتماد تدابير البطالة الجزئية. بالإضافة إلى الدخل البديل، اتخذت الحكومات أيضًا العديد من التدابير لدعم التدفق النقدي للشركات ووفرت الأمن لقروضها؛ علاوة على ذلك، أصبح مفروضا عليها الزيادة في نفقاتها الصحية. على الرغم من أن السياسة المالية لكل دولة أصبحت مجبرة على تخفيف العواقب الاقتصادية والاجتماعية للأزمة، فقد تم دفع الأبناك المركزية الى تخفيض معدلات الفائدة الخالية من المخاطر ونشرت الترسانة مرة أخرى تدابير غير تقليدية.

منذ أواخر شهر فبراير 2020 ومع انتشار وباء كوفيد 19 خارج الصين، بدأت الحكومات الرأسمالية في تنفيذ سياسات احتواء السكان نظرا لان بنياتها الصحية التحتية غير قادرة على استيعاب عدد المصابين، عبر إجراءات صارمة للحجر الصحي في جميع أنحاء العالم انطلاقا من شهر مارس، مما أوقف بشكل كامل دينامية قوى الإنتاج العالمية ومسالك التبادل التجاري وهو ما غير النموذج الاقتصادي القائم بشكل جذري. مع اعتماد حملة إرهابية إعلامية قوية حول مخاطر جائحة كوفيد 19 وتنبؤات تداعيات إجراءات الحجر الصحي على النشاط الاقتصادي.

ويبدوا ان سياسة تدبير الازمة الاقتصادية العالمية لانهيار معدل الربح قد وجدت في جائحة كوفيد 19 ملجأ للتغطية على حقيقة الازمة المنبثقة عن تناقض ميكانيزماتها الداخلية واللجوء بالتالي الى تدمير الإنتاج الزائد والرأسمال الوهمي المتضخم عبر آلية التوقيف الشامل لحركية الانتاج الرأسمالي. وقد سبق لكارل ماركس أن تحدث عن لجوء البرجوازية الى مثل هذه الآلية عند حدوث ازمة عميقة تهدد بانهيار رأسمالي كامل بسبب انهيار معدل الربح، حيث أشار ماركس في مخطوطه الغروندريس الصفحة 704 الطبعة الفرنسية الى ما يلي:

" ستؤدي تناقضات (نمط الإنتاج الرأسمالي) إلى انفجارات، ونوبات كارثية، وأزمات، فمن خلال التعليق المؤقت للعمل وتدمير جزء كبير من رأس المال، يعود هذا الأخير بالعنف إلى مستوى يمكن فيه استئناف مساره. تؤدي هذه التناقضات، بالطبع، إلى انفجارات، وإلى أزمات يؤدي فيها الإلغاء المؤقت لجميع الأعمال، وتدمير جزء كبير من رأس المال، إلى جر هذا الأخير بالعنف إلى النقطة التي يستطيع فيها استغلال القدرة الإنتاجية القصوى دون أن تؤدي إلى الانتحار. ومع ذلك، فإن هذه الكوارث الدورية محكوم عليها بتكرار نفسها على نطاق أوسع وتؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة العنيفة برأس المال".

وفقًا للتقويم المعتاد، نشرت المعاهد الإحصائية حسابات الربع الأول في نهاية شهر أبريل 2020. كما حددت تطور المؤشرات الفصلية، والت تعكس أرقام نمو الناتج الداخلي الإجمالي بالفعل، في نسختها المؤقتة، الآثار الاقتصادية للحجر الصحي خلال الأسبوعين الأخيرين من الربع الأول من السنة. من بين الدول الصناعية الكبيرة التي نشرت حساباتها الأولى حتى الآن، تبدو الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أقل تأثراً من الدول الأوروبية، وبين الدول الأوروبية، يظهر سقوط القوي للناتج الداخلي الإجمالي لفرنسا وإيطاليا وإسبانيا (أنظر الشكل رقم 3).

بدأت عملية مراجعة الحسابات للربع الأول من عام 2020 بعد شهر واحد من نشر نسختها الأولية. حيث تم تعديل انكماش الناتج المحلي الإجمالي الفرنسي، المقدر مبدئيًا بـ -5.8٪ في 30 أبريل، والذي وضع فرنسا في أسفل المجموعة، وتم تعديله إلى -5.3٪ وفقًا للتقدير الثاني الذي صدر في 29 مايو. بشكل متماثل، قامت إيطاليا، التي نشرت انكماشًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة -4.8 ٪ في نسختها المؤقتة في نهاية أبريل، وتعديلها إلى -5.3 ٪ في 29 مايو. في النهاية، في نهاية مايو، سجلت فرنسا وإيطاليا أداءً متساوًا في الربع الأول من سنة 2020.

يبين الشكل رقم 4 التالي مدى الانهيار الذي عرفه الإنتاج الصناعي والخدمات العالميين سنة 2020 بالمقارنة مع ازمة 2008:

إذن، فالاقتصاد العالمي كان يوجد في حالة سيئة جدا عندما اجتاحه وباء كوفيد 19 بالإضافة إلى حدوث تغيرات في العديد من المعايير مقارنة بتلك التي كانت سائدة خلال أزمة 2008، فالأمر لا يتعلق فقط بانحراف الأدوات النقدية، وفقدان كفاءة تدخلات البنوك المركزية والحجم الضخم للغاية للديون العامة كما تدعي الآلة الدعائية البرجوازية، بل يتعلق الأمر أيضا بعجز تدخل البرجوازية العالمية. في عام 2009، توقف تعمق الركود العالمي وتراجع الإنتاج والتجارة نسبيا بسبب استثمارات البنية التحتية الضخمة التي قامت بها الصين. أما في عام 2020، فلم يعد وضع الصين يتيح لها امكانية القيام بذلك. فبشكل متناقض، في الواقع، أصبحت الصين في الوقت نفسه في الموقع الرئيسي للتراكم العالمي المفرط والبلد الذي ضربته على الفور العواقب الاقتصادية للوباء. ومن حيث العلاقات الدولية، فإن النظام التعاوني النسبي بين الدول لعام 2009 والذي شهد إنشاء مجموعة العشرين، قد أفسح المجال بعد ذلك أمام التنافس التجاري المكثف والزيادة الكبيرة في الحمائية التي تتحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية الرئيسية عنها. وأخيرًا، أدت مدة اثني عشر عامًا إضافية من استغلال الموارد الأساسية إلى زيادة أسعار المواد الخام الأساسية تحت تأثير ندرة الموارد المعدنية وتدهور التربة، بينما بدأت انعكاسات الاحترار العالمي بالوصول إلى جميع البلدان.

رابعا: مأزق سياسات تدبير أزمة مع انهيار معدل الربح وانعكاساتها على الطبقة العاملة

إذا كان أصل الأزمة يكمن في الانهيار التدريجي لمعدل الربح وتراجع معدل فائض القيمة بالموازاة مع تضخم رأس المال النقدي نتيجة تطور الاستدانة الهائلة منذ ازمة سنة 2008، وما واكبها من مضاربات مالية، جعلت رأس المال الوهمي يشكل فقاعة هائلة كان من المنتظر انفجارها سنة 2020 حسب اغلب المراقبين، فإن انفجار الازمة يشكل بحد ذاته نتيجة حتمية لهذا التناقض.

ومع ظهور الازمة الصحية لجائحة كرونا في الصين وإجراءات الحجر الصحي لازيد من 60 مليون صيني وما حققه ذلك من توقيف شامل للعرض والطلب الدوليين بسبب ذلك، فان الرأسمال المالي العالمي وجد في التجربة الصينية ملجأ فعالا لتحقيق العديد من الأهداف، يمكن تعداد بعضها فيما يلي:

1 – توقيف عملية تسارع الإنتاج بكافة فروعه لبضعة شهور، عبر فرض إجراءات الحجر الصحي داخل كافة الدول تقريبا، الشيء الذي يحقق ايقافا هائلا للعرض الدولي بالموازاة مع الطلب الدولي، والعمل بالتالي على استهلاك كبير لرأس المال الوهمي المتضخم من خلال اتاحة الاستدانة على كافة المستويات؛

2 – اتاحة الفرصة لمختلف الشركات، بدعوى الانقاد ومكافحة الأزمة، بإجراء تسريحات هائلة وسط الطبقة العاملة بمختلف مستوياتها، وهو ما يخفف من مستوى كتلة الأجور مقابل حجم رأس المال الثابت المتآكل؛

3 – إعادة تثمين السياسات المالية والنقدية بما يتماشى مع التدمير الهائل لرأس المال النقدي وتحضير مصادر تمويل جديدة كرأس مال انتاجي بعد انتهاء الحجر الصحي؛

4 – توحيد جزء هائل من رأس المال الوهمي نحو إعادة انتاج ترسانة الأسلحة غير المنتجة.

ويمكن معاينة تفاصيل هذه الأهداف من خلال برامج مراجعة مختلف ميزانيات الدول ومبالغ الاعتمادات المالية الهائلة المعلنة والمرصودة لدعم الشركات الرأسمالية لتعويضها على فقدان الأرباح، وأيضا من خلال اغماض العين عن التسريحات الكبيرة للطبقة العاملة.

لكن وقع هذه السياسات سيكون كارثيا لا محالة على جدلية قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج مما يزيد من حدة تناقضاتها ويعمق من درجة تعفن النظام الرأسمالي ككل. ويمكن استخلاص عدد من بؤر التعفن الذي تؤدي اليه هذه السياسات من خلال ما يلي:

1 – مأزق المضاربة المالية وفتح المجال من جديد لتضخم رأس المال الوهمي:

منذ أزمة 2008، عرفت ظاهرة المضاربة في الأسواق المالية ارتفاعا مهولا، وفي سنة 2019 أعلنت مؤشرات البورصات الأمريكية عن تحقيقها لأكبر نسب من الأرباح، نتيجة لهذه المضاربات، والتي لم تسجل منذ عدة سنوات، كما عرفت مؤشرات البورصات الاوربية نفس الارتفاع، فالشركات الفرنسية مثلا حققت من وراء المضاربات المالية في البورصات أزيد من 60 مليار أورو، وهو أعلى مبلغ تحقق للمساهمين منذ أزمة 2008. كما ضخت عائدات المضاربة المالية سيولة هائلة في صناديق الاستثمار كما هو الشأن بالنسبة لصندوق الاستثمار الأمريكي المعروف ببلاك روك وأيضا في صناديق مضارباتية أخرى. في سنة 2019 وزعت هذه الصناديق المضارباتية على زبائنها ثلاث أضعاف من الأرباح مقارنة مع سنة 2018. وقد حقق صندوق الاستثمار بلاك روك لوحده من خلال المضاربة 5 مليار دولار . ومعلوم ان المضاربة المالية تعني انتاج أرباح نقدية خارج العملية الإنتاجية الحقيقية وفقا لقانون القيمة العمل، وهو ما يضاعف من حجم رأس المال الوهمي مقابل رأس المال الناجم عن الإنتاج الحقيقي.

2 – مأزق الإنتاج الحقيقي وقانون القيمة – العمل:

يشهد واقع الاقتصاد الحقيقي، في مجال انتاج السلع والخدمات وأيضا في كافة الاستثمارات الانتاجية، انتكاسة كبيرة نتيجة ما تعرفه من تراجع في معدلات الربح بفعل هيمنة رأس المال الثابت على رأس المال المتغير وتراجع معدل فائض القيمة نتيجة لذلك، رغم كتلة الأرباح نتيجة الإنتاج الزائد والتجارة المعولمة. وقد عرفت الاقتصاديات الرأسمالية الرئيسية العظمى تباطآ وجمودا في نمو القطاعات الإنتاجية نتيجة لذلك، فخلال سنة 2019 الى بداية سنة 2020 وقبل انتشار جائحة كرونا عملت المنظمات الرأسمالية الدولية الرئيسية مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCDE وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ... الخ على مراجعة توقعاتها حول النمو، وقد توقعت ال OCDE تراجعا في النمو سنة 2020 بنسب أكبر مما حدث في أزمة 2008. هذا التفاوت الحاصل بين رأس المال المالي والمضاربة في البورصات من جهة وبين رأس المال المنتج الحقيقي للثروات من جهة أخرى يفضح نسبيا مدى التناقض الحقيقي للنظام الرأسمالي العالمي، وهوما قاد فعلا لأزمة 2020، ومن المتوقع ان تتواصل نتائجه مستقبلا.

سبق لكارل ماركس أن أكد على أن النظام الرأسمالي لا ينتج السلع من أجل اشباع الحاجيات الإنسانية، كما لا يتم انتاج ما يكفي من وسائل الإنتاج من معامل وآليات الى غير ذلك من أجل توفير العمل للسكان القادرين على العمل، بل على العكس من ذلك لا يستهدف الإنتاج الرأسمالي ما يكفي للاستجابة للحاجيات الإنسانية ويظهر ذلك جيدا في انتشار المجاعات والنقص الهائل في التغذية. علما أن الإنتاج الهائل لوسائل الإنتاج من رأس المال الثابت على حساب رأس المال المتغير يزيد من حدوث البطالة وسوء التشغيل وانتشار الفقر.

3 – مأزق التناقض بين الإنتاج الزائد وامكانيات تصريفه:

تتعمق الأزمة في ظل التناقض القائم بين الإنتاج الزائد من وسائل الإنتاج ومنتجات مقارنة مع إمكانية تصريف كامل لتلك المنتجات. على الرغم من أن وسائل الإنتاج من شأنها تحقيق استثمارات جديدة الا انها غير قادرة على خلق أرباح جديدة وتراكم رأسمالي متواصل نظرا لحدة التناقض القائم.

ومعلوم أن الأسواق التي من شأنها تحقيق أرباح عالية تتقلص تدريجيا امام الإنتاج الزائد غير القابل للتصريف، بسبب مفعول قانون المنافسة والتراكم بين الرأسماليين المضطرين لحماية سلعهم وحصصهم في السوق وخلق أسواق جديدة عن طريق ابتلاع أو تدمير المنافسين. وفي هذا الاطار يلجأ الرأسماليون الى تقليص كلفة الإنتاج خاصة كلفة رأس المال المتغير أي العمل (الأجور) بمعنى تقليص قيمة قوة العمل والذي يقلص بنفس المناسبة من القوة الشرائية لدى العمال وبالتالي قدرتهم على الاستهلاك. ويتم ذلك عن طريق تشغيل العمال لمدة أطول أو عن طريق تقليص أعدادهم والهجوم تدريجيا مرة أخرى على كافة مكتسباتهم التي حققوها بواسطة نضالات مريرة، بالموازاة مع تفكيك الحماية الاجتماعية وأنظمة التقاعد وخوصصة المدارس والمستشفيات والمرافق العمومية وإلغاء الاتفاقات الجماعية وفرض مرونة قوانين الشغل.

4 – مأزق الانفاق العسكري كاستثمارات غير منتجة:

لا يستهدف الانفاق العسكري الدفاع فقط عن أسواق الإمبرياليات الرأسمالية أو لغزو أسواق جديدة أو ردع المنافسين كما تفعل الولايات المتحدة الامريكية، ولكن أيضا مصدرا أساسيا لتحقيق كتلة الأرباح من خلال فرض مشترياتها على الدول التابعة. ويعيش قطاع الجيش والتسلح دائما على التضخيم المصطنع لطلب الدولة حيث يشكل سوقا مصطنعا لصناعة الارباح. فهو لا ينتج أية ثروات، بل يشكل قوة تدميرية للثروات القائمة لدى الغير(أنظر نتائج العدوان على العراق مثلا) كما يمتص رؤوس الأموال الوهمية التي لا تذهب نحو انتاج ثروات جديدة أو التي تستجيب لحاجيات السكان.

وقد بلغ الانفاق العسكري الرأسمالي العالمي سنة 2019 اعلى مراتبه منذ 2008، بمبلغ وصل الى 1800 مليار دولار استفردت الولايات المتحدة الأمريكية بإنفاق ثلثه، كما طالب دونالد ترامب الكونغرس بتخصيص مبلغ 750 مليار دولار إضافية كإنفاق عسكري في ميزانية سنة 2020 مقابل تقليص الميزانية المخصصة لمرافق الصحة والتعليم. ونلاحظ اليوم نتائج تقليص اعتمادات الصحة في الولايات المتحدة مع انتشار جائحة كوفيد 19 .

5 – مأزق استخدامات المديونية التي ترفع من حجم رأس المال الوهمي:

من بين الاستثمارات غير المنتجة هناك مجال استخدامات المديونية، فقد انفجرت المديونية مباشرة عقب ازمة 2008 في اطار سياسات تذبير الأزمة، نتيجة مخططات المساعدة المفتوحة لإيقاف حدة افلاسات الرأسماليين. ويمكن التمييز هنا بين الأشكال التالية من المديونيات:

فهناك أولا مديونية الدولة التي انفجرت بسبب مخططاتها لتقديم الدعم للابناك ومؤسسات التأمين والمضاربين الذين كانوا مهددين بالانهيار عقب ازمة 2008 وغدت هذه المديونة الحاجة الى الاستدانة باستمرار بالتوازي مع تراجع مداخيل الدولة بسبب الهدايا الضريبية للشركات الرأسمالية لتعويضها عن معدلات الربح المتدنية.

بالنسبة للبلدان التي تسمى بالناشئة فان القلق تزايد عشية انتشار جائحة كوفيد 19 حول مدى قدرتها على سداد مديونيتها السابقة في ظل التشاؤم حول مستقبل نسب نمو في هذه البلدان في ظل الانخفاض العام لمعدلات الأرباح، وبطبيعة الحال أصبحت هذه الآفاق في ظل جائحة كوفيد 19 أكثر تشاؤمية.

هناك ثانيا مديونية المقاولات التي انفجرت بحدة، لكن لماذا تضخمت مديونية المقاولات؟ فقد كانت نسبة النمو ضعيفة نسبيا في جميع الاقتصاديات الرأسمالية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما يؤكد على ان تلك المديونية لم توجه نحو الزيادة في نسب النمو أي نحو الإنتاج الحقيقي للثروات. فقد سجل مؤشر الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوة رأسمالية في العالم في نهاية سنة 2019، ادنى مستوياته منذ ازمة 2008 وكان من الممكن ان ينخفض أكثر ان لم تتم التغطية على هذا الانخفاض بزيادة الطلب على الانفاق العسكري للدولة في شهر دجنبر 2019.

هناك ثالثا قطاع الخدمات الذي عرف نفس التراجع في النمو نتيجة تراجع انشطته منذ أزيد من ثلاث سنوات وهو ما جعله يلجأ بكثافة نحو الاستدانة لمعالجة التراجع الحاصل، لكن كيف كانت تستخدم عوائد هذه المديونية؟ الحقيقة هي انها لم تستخدم في مجال انتاج ثروات جديدة، فقد استعملت هذه المديونية أساسا في عمليات المضاربة المالية من اجل إرضاء حاملي الأسهم، حيث وجهت على الخصوص نحو عمليات إعادة شراء الأسهم لدعم حامليها في انتاج رأس المال النقدي بمعنى رأس المال الوهمي، فالمقاولات التي قامت بهذه العمليات عرفت زيادات في قيمتها في البورصة ليس عبر تحقيق انتاج أكبر أو اكتشاف تقنيات جديدة في الانتاج، ولكن عبر عمليات مصطنعة وطفيلية خالصة، ومن اجل ذلك يتمكنون بسهولة من ايجاد القروض اللازمة.

هناك رابعا مديونية الاسر، والتي شكلت مصدر قلق كبير لدى العديد من الخبراء والمحللين قبل جائحة كوفيد 19، خاصة في الولايات المتحدة الامريكية وأوروبا، ولكن الأمر تعمق أكثر ونحن نرى اليوم أزيد من 40 مليون عاطل في الولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من 35 مليون شخص عاطل جزئيا في أوروبا وهناك أكثر من 13 مليون عاطل في فرنسا وحدها دون الحديث عن التسريحات القادمة واغلاق مناصب الشغل والتي تم الإعلان عنها في الكثير من الشركات.

إن هذا الانفجار في المديونية لم يكن ممكنا الا عبر سياسات الابناك المركزية. فخلال ازمة 2008 ومن اجل تفادي انهيار النظام المالي وتحفيز الانطلاقة الاقتصادية، قامت الأبناك المركزية بضخ أموال ضخمة بشكل شبه مجاني في الشبكة المالية. وإذا كانت هذه العمليات تتخذ في الماضي طابعا مؤقتا لاحتواء الازمات المالية، الا انها أصبحت منذ عشر سنوات ذات طابع هيكلي دائم، وبنتائج ضعيفة على مستوى استعادة انتاج الثروات.

لكن النتيجة تختلف بالنسبة للأسواق المالية والمضاربين وحجم انتاج رأس المال النقدي. فانطلاقا من ان القروض أصبحت تمنح مجانا أصبح من السهل تبرير تمويل أي شيء وبأية طريقة، هكذا تظهر فقاعات مالية وعقارية وتحت كافة الاشكال الأخرى الممكنة أي تضخم انتاج رأس المال الوهمي، والذي ينتهي دائما الى انهيارات اقتصادية هائلة تذهب الطبقة العاملة ضحيتها.

تلك هي تناقضات الاقتصاد العالمي وتداعياته على الطبقة العاملة في ظل انتشار جائحة كوفيد 19 التي عملت على تعميقها. وتؤكد هذه الوضعية ما قاله ماركس: "في ظل تطور قوى الإنتاج نصل الى مرحلة تصبح فيها قوى الإنتاج وقنوات التداول كارثية على علاقات الإنتاج والوجود، وحيث تتحول قوى الانتاج من تكنولوجات وآلات وأموال عبارة عن قوى تدميرية ". فقد رأينا كيف يستخدم الرأسماليون رؤوس الأموال المقترضة التي تحول نحو المضاربة وكيف تسخرها الأبناك المركزية لاتاحة القروض السخية بدون انتقاء.

بالنسبة للتكنولوجيات ووسائل الإنتاج والآليات التي اتخذت اليوم اشكال من الأتمتة والروبوتيك والرقمنة، فاذا كانت هذه الاليات تشكل من جهة تقدما تقنيا هائلا، الا انها من جهة أخرى تشكل في اطار علاقات الإنتاج القائمة عوامل تدميرية لقوى الإنتاج ولعلاقات الإنتاج على السواء. فيتم اغلاق وحدات إنتاجية وتسريح عمالها، ونقل وحدات إنتاجية أخرى الى الخارج حيث اليد العاملة الرهيصة والمزيد من تدمير مناصب الشغل وإعادة هيكلة العملية الإنتاجية على المستوى العالمي نحو المزيد من الهشاشة وتقليص قيمة قوة العمل مع تدمير المرافق العمومية خاصة قطاع التعليم العمومي وتدمير العلاقة بين الانسان وبيئته من خلال المزيد من التلوث وانبعاث الغازات السامة والاحترار العالمي والتدهور الجسدي والنفسي لحياة العمال وتهديد سلامة العمال ونهب الثروات والاستعمال الفوضوي للموارد الطبيعية.

تحتوي هذه الأرضية على عدد من الأشكال البيانية والجداول التي لا تظهر في صفحتي على الحوار المتمدن، لذلك يمكن تنزيل الموضوع كاملا من الرابط التالي:

الأزمة الاقتصادية العالمية وتداعيتها على الطبقة العاملة – عبد السلام أديب.pdf