نظام التوازن (المكوناتي) الطائفي: المضمون والمخاطر


ثائر سالم
2020 / 6 / 30 - 15:37     

انخفاض حدة التوتر الطائفي، في بعض البلدان التي شهدت سابقا توترا وصراعا طائفيا داميا، و تقييد الاتجاهات الطائفية المتطرفة العلنية، التي سادت فترة فيها، والتآكل الذي حصل في القاعدة الاجتماعية لهذا الصراع، بعد افتضاح حقيقة المشروع الطائفي للغالبية الشعبية، وفشل سياساته ( الاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، هو تطور مهم. ولكنه تطور ونجاح ظل محدودا، وارجو ان لايكون مؤقتا. فخطر العودة الى المسار الطائفي، يبقى قائما مابقي الطابع الطائفي للنظام السياسي، القوى السياسية الطائفية، المكشوفة او المستترة، والتي استثمرت في المشروع الطائفي،  لازالت هي من تمسك بالحصة الاكبر، او الجزء الاهم، من قرار السياسة  والاقتصاد والامن، وفي مؤسسات الدولة المختلفة، التنفيذية والتشريعية.

لقد اكمل النظام  الطائفي بنية النظام السياسي والدولة،  على اسس طائفية، الا ان استمرار فشل السياسات العامة الاقتصادية والسياسة والاجتماعية. وبقدر ماخلق ذلك ارضية ولادة  قوى التمرد والاحتجاج على المشروع الطائفي، فانه سيدفع في ذات الوقت، بقوى المشروع الطائفي للتشبث بفكرة التوازن المكوناتي، كاهم مرتكزات هذا النظام . وهذا بالذات ما سيبقى بيئة حاضنة للمشروع وملائمة لخطر العودة الى الاستعانة بالورقة الطائفية في اوقات اشتداد الصراع الاجتماعي الطبقي تحديدا. كما يحصل اليوم في هذه البلدان.
ففكرة وسياسة التوافق الطائفي وثقافة التوازن المكوناتي، التي تتحكم بالنظام السياسي والدولة في هذه البلدان، هي اهم واوضح اسس هذا النظام، والتي ستبقى على علاقة تناقض مع اي مشروع حقيقي  للتحول الديموقراطي.

التهديد بالطائفية، او التلويح  بخطر عودتها، بشكل مباشر او غير مباشر، عبر الدفع بشعارات طائفية صريحة في مواجهة حراك شعبي مطلبي غير طائفي، او عبر  ممارسات ومواقف سياسية، داخلية واقليمية ودولية، مشكوك في اهدافها وتوقيتاتها، كاعادة بعض وجوه مرحلة الصراع الطائفي، (*) الى المشهد السياسي في ظل حالة الاستعصاء الحالية، وبدعم من دول اقليمية ، رعت دائما المشروع الطائفي، ومن قوى سياسية محلية لها ادوارها وهويتها الطائفية المعروفة ، يضعنا امام  استخلاصين:

الاول. ان حماية مفهوم التوازن المكوناتي او الطائفي، واعادة الحياة لهذا التوازن،  هو اساس حماية النظام والاسس الطائفية التي يقوم عليها.  فاعادة رموز سياسية ، لعبت سابقا دورا هاما في مسرحية هذا التوازن المطلوب ، يمكن ان يساهم في اعادة الحياة لهذا النمط السياسي الذي، ثبت فشله وبات مرفوضا شعبيا. وكل هذه النخب هي ذات تمثيل طبقي واحد، هو البرجوازية بفئاتها واشكالها الهامشية والطفيلية المرتبطة عضويا بالنظام ااراسمالي العالمي.  وهي تقف اليوم في مواجهة تحالف اجتماعي طبقي شعبي،  يتسع باضطراد ، عبرت عنه حركة احتجاج وحراك شعبي متنامي. انهما معسكران متناقضان في المصالح والاهداف، السياسية والاقتصادية وفي رؤاهم الفكرية، نظرا لاختلاف تكوينهما الاجتماعي الطبقي، ومواقعهم من السلطة والقرار.

ثانيا. لقد تجاوز الشعب وحركته المعارضة والاحتجاجية، المنظومة الطائفية، كسياسة وثقافة ونظام حكم، رغم انها لازالت تحتفظ بقاعدة اجتماعية، خلقتها ووفرت الحماية لها، و لازالت تدافع عن بقائها. وهي في اغلبها تتكون من جماعات اجتماعية ، فئات وطبقات ، تم افسادها بصفقات فساد، ورشوات، او عبر امتيازات ورواتب خيالية غير منطقية، وبذرائع مختلفة.

ان تاخر  الطبقات الشعبية والمسحوقة في ادراك حقيقة المشروع الطائفي الطبقية وتعبيره عن مصالح القوى الموجهة له والمرتبطة به، هو ماسهل تمرير المشروع الطائفي، وجعل منها وقود صراعه. وهذا الادراك بجب ان يستكمل ايضا بفهم مغزى تمسك القوى السياسية الطائفية، بفكرة التوازن الطائفي واهميته في تحقيق وحدة البرجوازية الطبقية. ان الوقوع في فخ الطائفية، لم يكن ممكنا لولا تدني مستوى الوعي الاجتماعي العام والوعي الطبقي تحديدا.
ان المصالح الطبقية للبرجوازية، وحرصها على هيمنتها الطبقية وحماية مصالحها الاقتصادية، هي ما تحدد خياراتها السياسية. فتفجير الصراع الطائفي، في هذه البلدان او تشجيعه، بشكل مباشر او غير مباشر، من قبل، راس المال العالمي والاقليمي،  هو في النهاية تعبير عن، هيمنة النظام الراسمالي  ووحدة المصالح الطبقية للراسمالية العالمية، في المراكز والتوابع.

وان مصالح الراسمالية المحلية ، كجزء مكون في النظام الراسمالي العالمي، هي في علاقة الارتباط والتبعية هذه، التي تتحقق من خلالها فقط، مصالحها كطبقة،  وتحظى بدعم وحماية الخارج لها، ودعم القوى الاجتماعية والسياسية، المرتبطة بها في الداخل. ولذا فهي لاتجد مصلحة لها في تطور راسمالي وطني، لا يوفر لها هذه الشروط. و ستبقى تعرقل هذا الطريق، ما امكنها ذلك، ومها كانت التداعيات السلبية له، على مستقبل البلد، اقتصاديا وسياسيا.

لقد تمكن الكثير من قادة النظام السياسي الجديد، في ظل الخدعة الطائفية، من تغير وضعهم الطبقي، وان يصبحوا جزء عضويا من الطبقة الراسمالية(كومبرادور ووكلاء شركات واصحاب بنوك، وراسماليون طفيليون - فاسدون وسراق ومرتشون). كما ان افساد فئات مهمشة، وعاطلة عن العمل، بصفقات فساد وسرقة للمال العام، او بانواع من الرشا(  صفقات فساد ورواتب ومكافآت غير منطقية) ، بذرائع شتى( الخدمة الجهادية، رفع الحيف عن المناضلين او السجناء السياسين، اضافة الى تعدد الامتيازات والرواتب الخيالية، حتى للمقيمين منهم في الخارج او اوربا، ولديهم دخل مستقر وكل مقومات الحياة الكريمة _ التي يفتقر للحد الادنى منها، جمهور واسع من المحرومين من الطبقات والفئات الشعبية) ، هي ما شكلت الجزء الاخر من القاعدة الاجتماعية لهذا النظام الطائفي. وهي ذاتها المستفيدة من الفساد والاهدار والتصرف غير المسؤول بالمال العام، وسرقة دخل البلد وناتجه القومي.
ان استفحال الفساد وشيوعه واتساع ظاهرة الاهدار في المال العام، هو احد الملامح الاساسية  للتجربة الطائفية. وكانت احد مظاهر الوقاحة في غياب العدالة والانصاف ، وانعدام المسؤولية في النظام السياسي وعمل الدولة. وشكلت في النهاية اعاقة جدية  لمشروع الاصلاح الجدي المطلوب.
لقد افضت هذه العملية الى احداث تغيير في الوضع الطبقي لهذه الفئات والى تغيير في البنية الطبقية والاجتماعية للمجتمع، وتركت اثرها على لوحة الصراع الطبقي وموازين القوى فيه. وهي اليوم احد قوى الاعاقة الجدية لاستقرار فاعلية اصطفاف اجتماعي واسع ، من اجل الاصلاح او التغيير، وتوفير متطلبات التنمية ودرجة من العدالة الاجتماعية.


استخلاصات
١. ان عدم امتلاك الطبقات الكادحة احزابا سياسية مستقلة، تعبر عن مصالحها الطبقية، وضعف احزابها و لاسباب موضوعية غالبا، جعل هذه الطبقات، موضوعيا، تابعة لهيمنة البرجوازية الطبقية، ايديولوجيا وسياسيا اضافة الى هيمنها الاقتصادية. وان هذه التبعية الطبقية للبرجوازية، فكرا وسياسة وتنظيما سياسيا ، هي ماتسهل على البرجوازية ادخال هذه الطبقات في نفق الطائفية، واستخدامها ادوات في صراع لا مصلحة لها فيه كالصراع الطائفي. وهو مايساعد ايضا البرجوازية على الحفاظ على وحدتها الطبقية ووحدة مصالحها ، واستمرار هيمنتها  الطبقية السياسية.

٢. ان الراسمالية كطبقة ونظام اقتصادي سياسي، عالميا ومحليا، تستطيع التعايش، مع الايديولوجية الدينية، والطائفية ماداما لايشكلان، تهديدا للنظام الراسمالي العالمي ، ولمصالح الراسمالية المحلية المرتبطة به ، والمعبرة عن مصالحه. وستبقى مصلحة هذه البرجوازية المحلية، مع اعادة انتاح هذا الارتباط والتبعية وتجديدهما المستمر . ونظام التمثيل الطائفي، يظل شكلا ونظاما مناسبا، للراسمالية المحلية والدولية ،مادام قادرا على حماية  تجديد علاقة التبعية هذه. حتى وان كان ثمن هذا التجديد هو تجديد للازمات السياسية والاقتصادية والايديولوجية ، الناجمة عن هذه التبعية.

٣.  التاويل الطائفي للعقيدة الدينية، لايعني تماثلهما. فاذا كانت القراءة الدينية العامة، ذات منخى انساني اخلاقي عام. فان الايديولوحية الطائفية، لايمكن ان تتجاوز طابع التعصب او العنصرية فيها حتى وان حاولت ابقائها خفية. فهي قراءة ومشروع يقوم على ميل لتعصب عقائدي وتمييز عنصري خفي او معلن.

٤. مشروع التوازن الطائفي او (السلم الاهلي) ، الذي يطرحه المشروع السياسي الطائفي، لايلغي طابعه الطائفي،بل يكرسه. لانه اصلا يقوم على فكرة، تقسيم المجتمع الى طوائف ومكونات، لا الى مجتمعات فيها جماعات اجتماعية متساوية الحقوق والقيمة، توحدها  مصالحها الطبقية التي لا تنسجم مع معيار التمييز بينها على اسس طائفية. وثانيا ان هذا التوازن هو افتراض غير واقعي. لانه لابد وان يقوم  على هيمنة وسيادة طائفة ما. اي هو قائم على قبول توازن اللاتوازن. حتى بين برجوازيات الطوائف، رغم حاجته الى  وحرصه على حماية الوحدة الطبقية للبرجوازية وسيادتها الطبقية. (لاحظ الحالة اللبنانية والعراقية نموذجا معاصرا). فالقوى البرجوازية  الحاكمة المختلفة طائفيا والموحدة طبقيا، تقيم (ديموقراطية) تجدد من خلالها سيطرتها الطبقية. واستمرارها بتقاسم مراكز السلطة وغنائم الاقتصاد وثروة البلد،  واشغال البلد بصراعات تستدرج اليها، الطبقات الشعبية ،  هو تعبير عن هذه السيادة الطبقية لهذه البرجوازيات ذات الاصول الطائفية المتباينة.

ه. فالطائفية وطابعها العنصري الخفي هي الشكل الرجعي لهذه الهيمنة الايديولوجية الطبقية للبرجوازية. وهي سلاحها الاساسي في هذه الهيمنة. ان مايمنع الانتقال من الطابع الخفي للعنصرية الى الطابع العلني، هو ان هذا الانتقال يهدد  استقرار النظام القائم الذي تريده البرجوازية من كل الطوائف، وعلى هذا التوازن الطائفي، الذي تريده السائدة منها.


(*) بغض النظر عن شرعية ومصداقية الاتهامات، او مشروعية ومنطقية الحق الشخصي في العدالة ، الا ان طريقة العودة التي تمت او تلك التي ستتم، والاطراف المشرفة عليها ، والتوقيت الزمني والية التصحيح،  القضائي والحكومي، تضع علامات استفهام على هذه الخطوة. فالية التصحيح القانونية المدعاة ، كان المفترض بها،  ان تبدأ بتصحيح اوضاع مواطنين عاديين كثر، وعدت الحكومة ذاتها مرارا، باطلاق سراح اولا المحكوم ببراءتهم واعادة محاكمة اخرين، يعتقد ببراءة) الكثير منهم، قضوا في السجون سنوات طويلة، قبل ان يتم البدء بتسوية ملفات شخصيات، كانت جزء اساسيا من مرحلة الاحتقان الطائفي. ان تعزيز مسار العدالة القضائية، بهذا المنهج الذي جرى تجريبه ، مرات عدة ومع شخصيات اخرى ، والاستمرار  بذات الصفقات، يؤكد طبيعة الهدف المطلوب، الا وهو الحفاظ على نظام التوازن الطائفي في مواجهة مشروع المواطنة والصراع الاجتماعي الطبقي، الذي يتصاعد جراء تفاقم مظاهر التفاوت والظلم الاجتماعي، وبات يهدد مصالح البرجوازيات الحاكمة. والاختباء خلف اليافطة الطائفية، لم يعد ممكنا. فتلك لعبة انكشفت للاغلبية الشعبية المتضررة من هذا المسار الفاشل.