تهديد استراتيجى على حدود مصر الغربية


محمد حسن خليل
2020 / 6 / 28 - 18:36     

هناك تهديد خطير للأمن القومى المصرى من جهة حدودها الغربية مع ليبيا بعدما نجحت الهجمات فى الشهور الثلاثة الأخيرة لقوات الوفاق فى طرابلس غرب ليبيا متحالفة مع الميليشيات الإسلامية ومدعومة بقوة من تركيا فى كسر هجوم اللواء خليفة حفتر على الغرب الليبى، والتمكن من استعادة العاصمة طرابلس بالكامل وكل الغرب الليبى، ووقوف الجيشين، جيش الشرق وجيش الغرب، على خط سرت فى الغرب – الجفرة فى الجنوب، فيما ينذر على الأغلب بمواجهة عسكرية قاسية.
ومكمن الخطورة فى هذا على مصر هو فى التزايد الخطير فى التواجد الإرهابى للجماعات المتأسلمة بكل تياراتها، وكذلك تركيا الداعمة والمحركة للكثير من تلك الجماعات، على حدودنا الغربية. وقد رأينا ما أحدثه انهيار الدولة فى ليبيا بعد عام 2011 من تحولها لمرتع للجماعات الإرهابية ودخول تلك الجماعات الواسع إلى مصر وبالذات فى سيناء.
والسياق التاريخى لهذا الخطر الاستراتيجى بدأ منذ تحالف الغرب مع الإسلاميين من أجل تفتيت الدول العربية وتجزئتها بما فيها مصر، والمزيد من إخضاعها بالكامل للغرب الاستعمارى. استغل هذا التحالف الثورات والانتفاضات العربية منذ عام 2011 فى الدفع بكل قواه بالإسلاميين للحكم. انتهت مرحلة هامة من هذا الصراع لصالح القوى المعادية للرجعية الإسلامية بثورة 30 يونيو 2013 فى مصر والتدخل الروسى فى سوريا فى سبتمبر 2015 الذى عكس اتجاه المعركة فيها لصالح النظام الذى يسعى لحماية سوريا من التفتت وللحفاظ على وحدتها، كما أدى التدخل الروسى إلى تخلى السعودية والخليج عن دعم الإرهابيين الإسلاميين فى سوريا. انحصر نفوذ الإسلام السياسى فى المنطقة أساسا فى تركيا وقطر والإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية المتطرفة الأخرى، مع نفوذ محدود ومتفرق داخل عدد من البلدان العربية الأخرى. وتلك التغيرات الأخيرة فى ليبيا تهدد بقاعدة جديدة قوية لتلك القوى على حدودنا وعلى مستقبل بلادنا.
وقدر ليبيا يشترك مع الدول العربية فى كونها منبع ثروات، فهى الدولة التاسعة عالميا من حيث احتياطى البترول وتقع فى قلب العالم وقريبة من أوروبا وتشكل تاريخيا مطمعا لها ثم لأمريكا. كما انها تتمييز جغرافيا وديموجرافيا بالمساحة الشاسعة، 1.8 مليون كيلومتر مربع حيث تحتل الترتيب الخامس عشر عالميا من حيث المساحة، ولكن مع ندرة عدد السكان الذين يبلغ عددهم حاليا حوالى ستة ملايين نسمة. لهذا فعنصر المساحة مع عنصر ندرة السكان يشكلان عنصر ضعف استراتيجى ويشكلان تحديا لبسط نفوذ الدولة على كل أرجائها فى مواجهة الفاتحين، والحفاظ على دولة موحدة.
ولعل خلفية تاريخية سريعة لما حدث فى ليبيا توضح كيف حدث هذا التشابك فى تعقيد المشهد الليبى. شملت موجة المد القومى الناصرى فى العالم العربى ليبيا بانقلاب القذافى عام 1969 وإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، ومثل نظام القذافى نفس الازدواج فى كل النظم القومية فى العالم العربى: فمن ناحية عمل على التحرر السياسى والاقتصادى (النسبى) والعسكرى من الغرب الاستعمارى وحاول تحديث البنى الإنتاجية والدخول بدرجات متفاوتة فى التصنيع، ومن الناحية الأخرى تشكلت أنظمة استبدادية استبعدت الشعب من معادلة الحكم. وخصوصية ليبيا تتمثل فى ثرائها الشديد وقلة عدد سكانها كما أوضحنا، مما مكن نظام القذافى من تحقيق مستوى من الامتيازات الاجتماعية لجميع السكان فاق حتى امتيازات دولة الرفاه الاجتماعى فى أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية: فقد أصبح التعليم مجانيا بجميع مراحله حتى الدراسات العليا بالخارج، وكذلك العلاج، بل ومجانية السكن والكهرباء والمرافق لكل الشعب. ولهذا فليبيا من الدول ذات مؤشر التنمية البشرية العالية (0.869). لكل هذا انعدم وجود الفقر، بل وانعدم جود طبقة عاملة ليبية، حيث تعتمد على طبقة عاملة من مختلف البلدان الأجنبية ومن ضمنها مصر.
لكل هذا مسَّت موجة الثورات العربية ليبيا عام 2011 بشكل محدود تمثل فى انتفاضة فى بنى غازى وتجاوب محدود معها فى بعض المناطق. وشن القذافى حملة عسكرية لإخضاعها. هب الغرب الاستعمارى متحالفا مع تيارات الإسلام السياسى لانتهاز الفرصة لإعادة احتلال ليبيا، كلها، أو على الأقل قسم منها فى حال فرض تقسيمها عند عدم تمكنه من السيطرة عليها كلها، فكانت قرارات الأمم المتحدة بإنشاء منطقة حظر جوى، وتجاوز حلف الأطلنتى القرار بمعركة عسكرية ضخمة لاحتلال ليبيا، وهو ما انتهى على ما هو معروف من تمكن حلف الأطلنتى من احتلال ليبيا عسكريا، وانهيار الدولة الليبية، وبروز التفتت القبلى، كما وتحولت ليبيا إلى مرتع لمختلف تيارات الإسلام السياسى.
استولت القبائل وبعض الفصائل الإسلامية على الموارد الهائلة من الأسلحة المتاحة من مخازن نظام القذافى، وكذلك من الأسلحة الوافرة التى تم إسقاطها من قِبَل طائرات حلف الأطلنتى، حيث لم يكن الغرب واثقا من إمكانية سيطرته على ليبيا كلها، فقرر، وفقا لتكتيك الفوضى الخلاقة، إغراق ليبيا بالأسلحة خدمة لمخطط التفتيت والتقسيم.
تشكل أول مجلس تمثيلى منتخب فى ليبيا فى يوليو 2012، المؤتمر الوطنى العام، بأكثرية إخوانية تمثل 41% من الأعضاء، مثلما حدث فى دول الثورات والانتفاضات العربية التى تمت فيها انتخابات. بينما أتت الانتخابات الثانية، انتخابات مجلس النواب الليبى فى يونيو 2014 بتراجع الإسلاميين إلى نحو 20% من المجلس. رفض المؤتمر الوطنى العام ذو الأغلبية الإخوانية التنازل عن مواقعه ورفض دخول مجلس النواب الشرعى المنتخب إلى العاصمة طرابلس، مستندا إلى تحالف مع ميليشيات إسلامية ومؤيدا بقوة من الغرب. لجأ مجلس النواب الشرعى المنتخب إلى طبرق فى الشرق، ونشأ نزاع واضح بين الشرق والغرب.
تدخل الغرب وفى القلب منه انجلترا أولا وأمريكا ثانيا لإغاثة الغرب الليبى ذو الاتجاه الإسلامى، والذى من المفترض أنه فقد شرعيته بانتخاب مجلس النواب، ولإضفاء الشرعية على المؤتمر الوطنى العام الذى انتهت شرعيته. بدأت وساطات غربية مكوكية من أجل هذا الغرض حتى انتهى ذلك بما عرف بشرعية الصخيرات، وهى مدينة مغربية تم توقيع اتفاق فى ديسمبر 2015 فيها برعاية غربية. تم الادعاء بتمثيل هذا المؤتمر لكل الأطراف الليبية، إلا أن الإشراف الغربى على تشكيل ذلك المؤتمر جمع ممثلى الغرب إلى جانب عينة مختارة من مجلس نواب الشرق تتكون حصرا من العناصر الإخوانية التى تمثل أقلية مجلس النواب هذا دون تمثيل أى تيار آخر!
تمثل اتفاق الصخيرات بالاعتراف بحكومة الغرب ومؤتمرها الوطنى العام، وكذلك بمجلس النواب المنتخب باعتباره السلطة التشريعية العليا، والدعوة لحل سياسى يقوم على تشكيل حكومة وفاق وطنى بين الشرق والغرب، وعمل مجلس رئاسى يرأسه فايز السراج، ويعين خمسة نواب ومجلس وزراء ينال تأييد مجلس النواب فى الشرق، ويحكم لمدة عام واحد يمكن مده عاما آخر كحد أقصى يتم فيه وضع الدستور الليبى، وتنتهى ولاية تلك الحكومة سواء انجزت تلك المهام أم لا، وهو ما يعنى غياب أى شرعية قانونية لحكومة السراج الحالية لأنها لم تنل ثقة برلمان الشرق، ولم تضع الدستور، وكذلك انتهاء مدتها. سارع الغرب بالاعتراف بحكومة طرابلس باعتبارها الحكومة المعترف بها دوليا، وهذا طبيعى بعد الجهد الذى بذله فى دعم شرعية الإخوان والقوى الإسلامية الرجعية. رغم هذا اعترف الشرق أيضا بنتائج هذا المؤتمر رغم التناقض الجذرى بينهما بسبب ميزان القوى الذى لا يسمح لأى منهما بالانفراد بالسلطة. ولكن بالطبع يضمر كل طرف منهما تعديل ميزان القوى على الأرض لكى يحقق أهدافه. بالطبع لم تتحقق الوحدة الوطنية المزعومة لتناقض مواقف أطرافها كما سبق القول، ولكن المحصلة العملية على أرض الواقع لمؤتمر الصخيرات، والتى تعد مكسبا كبيرا بالنسبة للغرب، هى إعطاء قبلة الحياه للمؤتمر الوطنى بطرابلس فى الغرب ذو الأغلبية الإسلامية بعد أن انتهت شرعيته الانتخابية.
عانت مصر كثيرا طبعا من انهيار الدولة فى ليبيا واستغلال الميليشيات الإسلامية المدعومة غربيا بالذات من انجلترا، ومن تركيا وقطر، لفراغ القوة الناتج عن انهيار الدولة لتأسيس قواعد والاستيلاء على اسلحة، وعمل معسكرات التدريب. وانعكس هذا على الداخل المصرى فى صورة تصاعد شديد للإرهاب الإسلامى فى أعقاب نجاح ثورة 30 يونيو 2013 التى أطاحت بحكم الإخوان كما تبدى فى سيناء وفى الصحراء الغربية وفى المدن المصرية المختلفة.
لهذا فمصر صاحبة مصلحة قومية أساسية فى مكافحة تلك الميليشيات الإسلامية، والمتحالفة مع حكومة السراج، والعمل على إنقاذ ليبيا من التفتت الإقليمى وتحقيق وحدة التراب الليبى تحت سيطرة حكومة مركزية قوية لقطع الطريق على الجماعات والقوى المشبوهة تركيا وقطريا وإنجليزيا الداعمة للتفتيت الإقليمى.
ظهرت فى الشرق قوة جديدة واعدة معادية للميليشيات الإسلامية وتعمل على الدفاع عن وحدة ليبيا متمثلة فى إعادة بناء الجيش الوطنى بقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الفريق ثم المشير حفتر فيما بعد، والذى حظى بدعم مجلس نواب الشرق الذى عينه قائدا للجيش. دعمت مصر حفتر بالطبع بكل قواها. أخذ كل طرف يقوى مواقعه وتحالفاته من أجل حسم ميزان القوى على الأرض لصالحه. ومستقبل الصراع فى ليبيا منذ ذلك الحين وحتى الآن ومستقبلا يتحدد، لا بمواعظ الحل السياسى والتوفيق بين الأطراف المتناقضة المصالح جذريا، بل بتغيرات ميزان القوى على الأرض بين تلك القوى.
ومن المتغيرات الهامة فى ميزان القوى ما حدث بعد تراجع داعش أمام القوات الروسية فى سوريا وتراجعها فى العراق أمام الجيش العراقى فى العراق، وبدت نهاية دولة خلافته المزعومة فى الأفق، قام بتسفير 6 من أبرز قادته إلى ليبيا لإنشاء مركز جديد له أواخر 2015 وأوائل 2016. ويجدر الإشارة إلى أن كل تلك التحركات وثيقة الصلة بتركيا التى تعمل منذ عام 2011 كمكتب تنسيق عالمى لتوزيع الميليشيات الإسلامية الإرهابية على العالم وتركيزها فى أماكن الاحتياج، كما حدث عندما قامت بإدخال أكثر من مائة ألف مقاتل من الميليشيات إلى سوريا من حدودها معها، وهى قوة تفوق عدد الجيش السورى، فى أعقاب ثورات عام 2011. كما أن تركيا هى التى يخرج إليها المقاتلون من داعش والإخوان وجبهة النصرة (خليفة القاعدة) عندما تضيق بهم السبل فى سوريا، لكى تقوم تركيا بتوجيههم حسب المخططات الدولية إلى الفلبين، وبورما (والاثنين نكاية فى الصين)، والأهم فى سياقنا هذا إلى ليبيا، بالذات على نطاق واسع جدا فيما بعد كما سيأتى.
اتجه جيش حفتر إلى نجاحات متوالية بدعم مصرى إماراتى وروسى (التى ألقت بثقلها وراء حفتر منذ ديسمبر 2016)، فنجح فى السيطرة على بنى غازى وتحريرها من الميليشيات الإسلامية فى يوليو 2017. اشترك الفريقان فى ظل المساحة الواسعة وندرة السكان وقلة عدد القوات العسكرية، لجأوا إلى التماس الدعم فى التحالفات الداخلية (السياسية والقبلية) والخارجية. تحالف حفتر مع بعض القبائل، وكذلك مع الميليشيات السلفية فى مواجهة الميليشيات الإسلامية المتطرفة، وتوسع تدريجيا فى تحالفاته بحيث شملت ميليشيات الجنجاويد التى تحولت فيما بعد إلى قوات التدخل السريع السودانية، كذلك بالتدريج دخل فى حلفائه ميليشيات روسية خاصة معروفة باسم فاجنر.
أما الغرب فبدت خريطة تحالفاته تمزقها الخلافات، فطرابلس بها 12 ميليشيا كبيرة على الأقل، قبلية وسياسية- إسلامية، ورغم تحالفها مع حكومة السراج، إلا أن هذا التحالف لم يستبعد الخلافات والاشتباكات العسكرية ومهاجمة وزارات للسراج واحتلالها. كما أن ميليشيات داعش التى تمركزت فى البداية فى الجنوب الشرقى، قد تمكنت من احتلال سرت، وعندما طردها حفتر منها انتقل 5000 مسلح داعشى إلى طرابلس.
استمر تقدم حفتر وجيشه الممثل لبرلمان الشرق، مجلس النواب، فى التمدد عسكريا على حساب الغرب، فتمكن من السيطرة، سواء عسكريا أو عن طريق التحالفات، على جبل نفوسة غرب طرابلس وبه بلدات الزنتان وشعانة وغيرها. ثم أعلن حفتر عن تقدمه من شرق ليبيا لغربها باتجاه الهلال النفطى، وهو الهلال الساحلى الممتد فى قسم من المسافة الفاصلة بين بنى غازى شرقا وطرابلس غربا، والذى يحتوى على 60% من النفط الليبى وأهم موانئ تصديره. ونجح حفتر فى القضاء على مراكز الميليشيات وإتمام السيطرة على الهلال النفطى فى يونيو 2018. استفز تقدمه نحو امتيازات النفط الغربية الدول الأوروبية، إلا أنه نجح بمناورة سياسية فى امتصاص ذلك السخط وتحويله لصالحه عندما أعلن عن تسليمه حقول النفط لمؤسسة النفط فى الغرب ضامنا لمصالح الغرب، ولكن ببقاء قواته فى تلك المنطقة "لحراسة أبار النفط من الميليشيات المسلحة الإخوانية والقبلية" كما قال. تواصلت انتصارات حفتر أيضا فى جنوب ليبيا رغم جيوب الميليشيات الإسلامية فى تلك المنطقة.
وتمكن حفتر من الوصول إلى مدينة سرت التى تمثل رأس الهلال النفطى ونهايته الغربية، وذلك فى 6 يناير من العام الحالى 2020. عندما وجد حفتر أنه يوشك على الوصول إلى طرابلس من جهة الشرق بالإضافة إلى تحالفاته مع قبائل وبلدات جبل نفوسة فى الغرب، بل وتمكنه من احتلال قاعدة الوطية الجوية، أعلن حفتر عن بدء معركة طرابلس فى 14 إبريل عام 2019. وفى أعقابها مباشرة فى آخر إبريل 2019 اتصل الرئيس الأمريكى ترامب بحفتر وقابله وأعلن تأييده له.
بالطبع لم يستطع الغرب وحكومة طرابلس وجيشها الصمت وانتظار نهايته، لذا لجأ إلى تحالف خيانى واضح لمصالح الشعب الليبى مع تركيا أردوجان. تم توقيع معاهدات بين أردوجان والسراج فى نوفمبر 2019. تتعلق تلك المعاهدات أولا برسم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا فى البحر المتوسط، وعلى حساب دول شرق المتوسط الأخرى مثل قبرص واليونان ومصر، بالدعوى التركية الكاذبة حول الجرف القارى التركى. كما نصت المعاهدات على حق تركيا حتى فى التنقيب عن البترول فى المناطق الساحلية الليبية، والمقابل لكل تلك التنازلات هو تعهد تركى بحماية طرابلس من السقوط فى يد حفتر.
بدأ الدعم التركى المكثف لحكومة السراج فى الغرب الليبى بنقل مقاتلى الجبهات الإسلامية من تركيا إلى ليبيا، حتى وصل عدد القوات الإسلامية التى تم نقلها، فى بعض التقديرات، إلى سبعة عشر ألف جندى! كما نقلت تركيا إليها أسلحة متقدمة وطائرات بدون طيار وغيرها. وأخذ البرلمان التركى قرارا فى يناير 2020 يتيح للرئيس إردوجان إرسال قوات ومستشارين عسكريين إلى ليبيا.
ساهم كل هذا فى تعديل ميزان القوى لغير صالح وجيش الشرق الليبى، وبدأ جيش الغرب هجوما مضادا على قوات الشرق وحفتر بدءا من إبريل 2020. أدى هذا الهجوم المضاد إلى سيطرة الغرب على غرب ليبيا بالكامل بالاستيلاء على جبل نفوسة ومدنه المختلفة والوصول بنفوذ حكومة السراج إلى الحدود التونسية، وتمكنت من استعادة قاعدة الوطية الاستراتيجية فى 18 مايو، وأخيرا تمكنت من استعادة مطار طرابلس وبسطت سيطرتها على مطار ومدينة طرابلس نهائيا فى 3 يونيو، وانطلقت باتجاه الشرق الليبى.
حاول جيش الغرب المدعوم بكثافة تركيا وكذلك من قبل الميليشيات الإسلامية، حاول التقدم لاحتلال سرت كمفتاح للهلال النفطى الاستراتيجى، إلى أن جيش حفتر وحلفائه تمكنوا من صدهم وإيقافهم. وتتشكل الآن معالم مواجهة استراتيجية تصطف فيها القوى المحلية والإقليمية والدولية، وتتناقض فيها المواقف جذريا.
استضافت مصر كل من المشير حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وأعلن الرئيس السيسى مبادرة سياسية لتحقيق وقف إطلاق النار وإجراء مفاوضات لحل الأزمة سياسيا. وأعلن أن خط سرت- الجفرة خط أحمر ملمحا بقوة إلى أنه سيتدخل عسكريا لوقفه، وحشد الجيش المصرى على الحدود الليبية وخطب فيه فى استعراض للقوة ضم وزير الدفاع وقادة الأسلحة. وبالطبع من حق مصر أن تخشى على أمنها الاستراتيجى من اقتراب الإرهاب الإسلامى التركى من حدودها وقد جربت ذلك قبلا منذ عام 2013 ورأت مخاطره، وكذلك تكفى إعلانات تركيا عن أطماعها فى استعادة الخلافة العثمانية التى تعنى استعادة الاحتلال للدول العربية أو ما تستطيعه منها.
فى المقابل رفض كل من إردوجان وحكومة السراج وقف إطلاق النار وأعلنوا صراحة عن أن شرط وقف إطلاق النار هو انسحاب جيش حفتر من سرت والجفرة! وأعلنوا استعدادهم صراحة لمواصلة العملية العسكرية. بالطبع يسيل لعاب إردوجان على مناطق النفط الغنية فى القوس النفطى الساحلى بدءا من سرت، وله السوابق المعروفة فى سرقة النفط فى كل من سوريا والعراق سواءً مباشرة بنفسه أو عن طريق تسويق النفط المهرب بواسطة داعش والإسلاميين من هذين البلدين بأقل من نصف ثمنه لداعش ومثله لتركيا! ما هى نقاط القوة والضعف فى هذا المعسكر؟
أولا الجيش التركى هو الجيش الأقوى الثامن عالميا والثانى فى الدول الداخلة فى حلف شمال الأطلنتى. ثانيا الاقتصاد التركى هو الاقتصاد السابع عشر عالميا، وبالتالى فتركيا عضو فى مجموعة الدول العشرين الغنية فى العالم. ولا ننسى طبعا التمويل القطرى لكل من تركيا والإرهابيين الإسلاميين وتأييدها السياسى لهم. وغيرت أمريكا موقفها إلى تأييد تكتيك إردوجان بعد تحقيق انتصاراته ورأت أن مصلحتها تكمن فى سيطرته وتحجيم أو إنهاء النفوذ الروسى فى المنطقة، وقد تبدى هذا فى زيارة قائد اللواء الأمريكى فى أفريقيا، أفريكوم، لطرابلس ودعوته إلى الحل السياسى ووقف إطلاق النار عند خط وقف إطلاق النار الاستراتيجى الذى يقع شرق سرت والجفرة! كما تؤيد تكتيك الشرق أيضا انجلترا حاضنة الإرهاب الإسلامى أمس واليوم وغدا. أما رئيسا وحكومتا تونس والجزائر فتبديان ميلا إلى الإسلاميين وتتزاوران مع تركيا بعد نجاح الرئيسين قيس بن سعيد فى تونس وتبون فى الجزائر، وذلك فى إطار الدعوة العلنية لهما لتأييد وقف إطلاق النار والسعى للتسوية السياسية.
أما عناصر ضعف هذا المعسكر فتتبدى فى الموقف الأوروبى، حيث رأينا النداء المشترك لكل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا لاحترام وقف إطلاق النار على الخطوط الحالية والبحث فى الحل السياسى ورفض إطلاق النار. رغم هذا الموقف الأوروبى فهناك تفاوتات بين مواقف كل من الدول الأوروبية الثلاث داخل هذا التكتيك، حيث فرنسا تتزعم المجابهة السياسية لإردوجان وتدعو لموقف من الاتحاد الأوروبى ضده، بينما تمسك إيطاليا بالعصا من المنتصف. بالطبع فى خلفية كل طرف طريقته فى الحفاظ على مصالحه البترولية التى تتفاوت مناطقها وحلفاؤها فيها. وبالطبع من عناصر الضعف الاستراتيجية أيضا فى هذا المعسكر خطوط الإمداد الطويلة بين تركيا وليبيا.
ومن أهم عناصر الضعف الأخرى لمعسكر تركيا- السراج اهتزاز وضع إردوجان الداخلى فى ظل أزمته الاقتصادية الطاحنة وضعف وتدهور الليرة التركية رغم الودائع والدعم القطرى! وكذل نرى قوة المعارضة ضده وضد حزب العدالة والتنمية الحاكم، سواء من قِبَل المعارضة المدنية، أو من قبل الجمهور المحتج على الديكتاتورية، أو من قبل الأكراد، أو من قبل الانشقاقات فى حزبه نفسه. ولا ننسى عنصر الضعف الاستراتيجى فى جيشه نفسه الذى تعرض لموجات تطهير واعتقالات هائلة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة ضده صيف عام 2018، والتى مازالت مستمرة حتى الآن.
فى المقابل فمعسكر الشرق يتمتع بالقوة السياسية وسط شعبه ووسط الكثير من القبائل كنتيجة لدفاعه عن وحدة التراب الليبى ورفض النفوذ التركى ونفوذ الميليشيات الإسلامية المسلحة. ولهذا لجيش حلفاء دوليين على رأسهم روسيا وفرنسا، وحلفاء إقليميين منهم الإمارات والخليج (ما عدا قطر بالطبع). ولكن بالطبع أهم هؤلاء الحلفاء هم مصر، التى لا تدافع عن مصالح الشعب الليبى الشقيق وحدها بل تدافع عن أمنها القومى كما سبق وأوضحنا. ومصر فى ميزان القوى الاستراتيجى تملك عناصر قوة لاشك فيها: فجيشها تراوح ترتيبه عالميا بين العاشر والثانى عشر، وهو جيش متمرس خاض حروبا كثيرة ويتمتع بجنود وضباط متفانين ومخلصين وذوى كفاءة قتالية عالية.
كما أن غالبية الشعب المصرى تقف مؤيدة لمنع المعسكر الإخوانى الإسلامى التركى من تهديد أمنها القومى. وكل القوى السياسية المصرية بما فيها القوى السياسية والتقدمية التى أبدت مواقفها حتى الآن تؤيد التصدى للمخطط التركى الاستعمارى الدنئ. إلا أن نذر المعركة الخطيرة التى يوجد احتمال كبير لنشوبها تفرض على مصر تجميع كل عناصر قوتها ومواجهة عناصر ضعفها لتتمكن من مواجهة تلك المحنة. ولا يتأتى ذلك طبعا بدون تعبئة الشعب عن طريق فتح مجالات حرية التعبير له وحل مشاكل الاحتقان الداخلى وإطلاق سراح سجناء الرأى ماعدا الإرهابيين. كما أنه من المهم تجاوز عناصر الضعف والهشاشة فى الوضع الاقتصادى سواء بتعبئة الفائض المصرى لمواجهة العبئ المشترك للتنمية وكذلك للمواجهة بإلقاء الأعباء الرئيسية فى ذلك على الأغنياء عن طريق الضرائب التصاعدية، مع توفير الحدود الدنيا لمصالح الشعب فى هذه الضائقة الاقتصادية الخانقة.
للشعب المصرى طاقات خلاقة، وقد واجه الكثير من المحن فى حياته بشجاعة وصلابة، وإن تعبئة قواه كلها ومواجهة عناصر ضعفه والاستناد إلى نواحى قوته لهو خير ضمانة للانتصار فى تلك المواجهة.
دكتور محمد حسن خليل
القاهرة فى 28 يونيو 2020