المفهوم السوسيولوجي عند فريديناند تونيز


مالك ابوعليا
2020 / 6 / 26 - 14:11     

المقالة للماركسي السوفييتي ليونيد غريغوريفيتش ايونين*

ترجمة مالك أبوعليا

وُلِد فيرديناند تونيز عام 1855 في بلدة اولدنفورغ في دوقية شليسفيغ لدى عائلة فلاحية ميسورة. التحق عام 1872 بجامعة ستراسبورغ وأكمل دراسته الجامعية في توبينغن عام 1875 بأطروحته في علم اللغة الكلاسيكي.
شملت اهتماماته في وقتٍ لاحق مجالاً واسعاً من مسائل متنوعة في التخصصات الاجتماعية والعلمية. كرّس سنوات ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر لدراسة فلسفتي القرن الثامن عشر والتاسع عشر الاجتماعية. وكانت نتيجة هذا الجهد كتاباً عن هوبز نُشرَ عام 1896 وأُعيد طبعه بعد ذلك عدة مرات، وعدد من الأوراق حول ليبنتز وسبينوزا ونيتشه وسبنسر وماركس وغيرها. استمرت هذه الدراسات حتى وقتٍ لاحق. نُشِرَ كتابه (ماركس، حياته وأعماله) Marx, Leben und Lehre عام 1921. شجعته دراسته لهوبز على تكريس نفسه بالكامل لفلسفة التاريخ وفلسفة القانون. تمت صياغة مفهومه الخاص المُجتمع والجماعة Gemeinschaft und Geselhchaft الذي كُتِبَ عام 1881 بعنوانٍ فرعي (نظرية فلسفة الثقافة)، وأُعيد نشره عدة مرات بصيغة منقحة وموسعة. شكّل هذا العمل اساساً لمفهوم تونيز السوسيولوجي.
أظهر تونيز أيضاً، في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، اهتماماً بالاحصاءات الاجتماعية، ولا سيما مسائل الجريمة والفقر والانتحار. وما الى ذلك. بالاضافة الى عمله التجريبي، كان يشتغل ايضاً بانتظام في العمل النظري في مجال السوسيولوجيا، ويتضح هذا في كتابه: (الأخلاق) Die Sitte 1909، و(نقد الرأي العام) Kritik der öffentlichen Meinung 1922، و(المُلكية) Das Eigentum 1926 و(مُقدمة في السوسيولوجيا) Einführung in die Soziologie 1935.
على الرغم من اتساع نشاطه النظري والتجريبي، فقد اعتُرِفَ بتونيز في الأوساط الأكاديمية في وقتٍ متأخرٍ جداً. فقط في عام 1913 أصبح أستاذاً في جامعة كييل Kiel. أقى في عام 1910 خطاباً تمهيدياً في اجتماع فرانكفورت الذي أسس الجمعية السوسيولوجية الألمانية. انتُخِبَ عام 1921 رئيساً للجمعية، وتولى هذا المنصب حتى حلها النازيون في عام 1933. وبميله نحو السياسات الاشتراكية-الديمقراطية، دعم تونيز جمهورية فايمار. عارض الاشتراكية القومية، مُحذراً الجمهور من "خطر الانحدار الى البربرية"، وقام الغوغائيين النازيين بمهاجمته. ومات في كييل عام 1936.
جاء طرح تونيز للمسألة الأساسية في السوسيولوجيا من دراسته للتناقض الرئيسي في تطور الفكر الاجتماعي-الفلسفي في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر: أي تناقض المُقاربات العقلانية والتاريخية لأصل ووجود الدولة والقانون والمؤسسات الاجتماعية.
كان الاعتراف بحقوق الانسان الطبيعية سمةً مُميزةً لمؤيدي المُقاربة العقلانية، والذين استندوا على أفكار التنوير، وبالتالي اعترفوا بالسطلة المُطلقة للشعب والحق غير القابل للتصرف في سن قوانين عقلانية ونظام اجتماعي عقلاني يتوافق مع الطبيعة الانسانية. أما أنصار المُقاربة التاريخية الذي تم التعبير عنه بوضوح في أعمال المدرسة التاريخية للفلسفة، فقد أكدوا، على سبيل المثال، على أهمية المعايير التقليدية للتفاعل الانساني ومبادئه، وبالمثل، على الحاجة للوجود التاريخي لأشكال الدولة والتنظيم الحقوقي للحياة الاجتماعية.
نصب تونيز لنفسه هدف ربط النظرتين العقلانية والتاريخية معاً، والجمع بين مزايا المنهج العلمي العقلاني بالنظرة التاريخية للعالم الاجتماعي. كانت مصادر تونيز، أعمال فريدريك فون سافيني Friedrich von Savigny مؤسس مدرسة علم القانون التاريخي ((في المقام الأول الأفكار التي صاغها سافيني في كتابه الصغير والشهير جداً (حول دعوات عصرنا في التشريع والقانون)) Vom Beruf unserer Zeit für Gesetzgebung und Rechtswissenschaft)). وقانون هينري مين Henry Maine القديم (الذي انعكست فيه أفكار سافيني والتي وجد فيها تونيز، في مُعارضة للعقد والنظم الأساسية-الأساس المفاهيمي لتطوير المفاهيم الثنائية المتضادة التي تُحدد في النهاية المُحتوى الكامل لمفهومه الاجتماعي)، وأعمال لويس مورغان Lewis Morgan ويوهان جاكوب باشوفن Johann Jacob Bachofen وغيرهم من علماء الاثنوغرافيا والمؤرخين ورجال القانون في ذلك الوقت.
سادت المدرسة التاريخية في الاقتصاد الوطني الفكر الاقتصادي لألمانيا في القرن التاسع عشر. أدى النزاع بين مدرسة شوملر التاريخية والرياضي والفيلسوف وعالم الاقتصاد كارل مينجير Karl Menger الذي تطور في نهاية القرن التاسع عشر، الى اضعاف تأثير التاريخانية لصالح الأساليب الاستنباطية التي أكد عليها مينجير، وبالتالي لصالح التفكير العقلاني المفاهيمي على العموم. اكتشف تونيز أساس المُقاربة العقلانية للحياة الاجتماعية في ارث فلسفة القرن السابع عشر الأوروبية، وعلى رأسها فلسفة هوبز وسبينوزا العقلانيتين.
صاغ تونيز في أحد أعماله الفلسفية التاريخية الأولى حول هوبز، المحتوى النظري للمفاهيم التي تكمن خلف نظريته السوسيولوجية. يمكن قراءه أهم فقرة في هذا العمل (الخاتمة)، من زاوية تطور أفكاره، على النحو التالي: استمد بعض أتباع هوبز الدعم منه من أجل مفهوم السيادة المُطلقة للارادة (المُجتمعية) Communal. في السياق التاريخي لذلك الوقت الذي يتفق مع وجود المُلكية المُطلقة. رفض آخرون هذه السلطة الجديدة التي طغت على كل شيءٍ آخر، انطلاقاً من المفاهيم المتفائلة حول طبيعة الانسان. لم يعتبروا أن (الكيانات الاجتماعي) Community بحد ذاته ضروريةً على الاطلاق، مُقترحين أنه يمكن تحقيق أكبر سعادة ممكنة للبشرية من خلال (مجتمع) Society نقي ودولة اجتماعيةSocial ، أي من خلال العلاقات الثنائية العادلة والمُلزمة والمحددة للأفراد مع بعضهم البعض. كان لوك أول ممثل ناجح للفكرة الأولى، الذي انتصر بشكلٍ اساسي من خلال رحلته في علم الاقتصاد السياسي اليافع. يكمن نظيره الحقيقي في الشكل الخارجي للدستورية الليبرالية(1).
طوّر تونيز باستمرار هذا المُقابلة لهذين النوعين من المجتمعات في عمله الصغير(نظرية الفلسفة الثقافية) الذي كُتِبَ كمقالة عام 1881، وهو عمل جلب له شُهرةً عالميةً لاحقاً. كانت فكرته الأساسية في هذا العمل هي وضع مفاهيم المُجتمع أو العلاقات والروابط المُشتركة، والعلاقات الاجتماعية مُقابل بعضها البعض. النوع الأول متجذر في العواطف والتعلّق والميول الذهنية وتُحافظ على تعريفها الذاتي بشكلٍ واعٍ بفضل التقاليد، وبشكلٍ غير واعٍ بسبب الروابط العاطفية ومن خلال التأثير الموحد للغة المُشتركة. يقول تونيز أنه يميز ثلاثة أنواع من العلاقات المُجتمعية Communal Relations: 1- العلاقات السُلالية (التي تؤخذ في المقام الأول كعلاقات دم طبيعية). 2- علاقات "الجوار" والتي تتميز بالعيش المُشترك وتتأصل في الحياة الزوجية والعائلية (بالمعنى الضيق)، لكن المفهوم كان له معنىً أوسع. 3- علاقات "الصداقة"، التي تستند الى ادراك القُرب الروحي والقرابة، لان هذا الادراك يفترض أو يعتمد على نوعٍ من التكاتف Togetherness (يكتسب اهميةً اجتماعيةً عندما يتم يتحقق على شكل انتماء ديني مُشترك أو ككيان اجتماعي Community)(2).
ان لدى العلاقات من النوع الثاني طابعٌ مختلف. كان مبدأ وأساس العلاقات الاجتماعية هو التبادل العقلاني، وتغيراً في مُلكية الأشياء، بحيث أن لها طبيعة مادية، وتتميز، بحكم طبيعة التبادل، بالتطلعات المتعاكسة والسعي المختلف للأطراف الداخلين في التبادل. تستند هذه العلاقات جزئياً على النوع المُجتمعي Communal الموصوف أعلاه، ولكن يمكنه أن يوجد أيضاً بين الأفراد المنفصلين والذين لا يعرف بعضهم البعض، حتى بين الأعداء، بسبب القرار الواعي الذي يأخذه الأفراد المُنخرطين في هذه العلاقة. يمكن لأنواع مختلفة من المجموعات والجماعيات والكيانات الاجتماعية Communities وحتى دولاً، أن تدخل في هذا النوع من العلاقات كأفراد. جادل تونيز بأن طبيعة هذه العلاقات والروابط تكمن في وعي فائدة وقيمة الشخص الذي يمتلكها أو قد يمتلكها شخص ما بالنسبة لشخصٍ آخرٍ يقوم بايجادها وادراكها. ونتيجةً لذلك، تمتلك هذه العلاقات بُنيةً عقلانية(3).
هذين النوعين من العلاقات والروابط-الاجتماعية Social والمُجتمعية Communal لم تُميز علاقات الناس ببعضهم وحسب، بل تصف ايضاً علاقة الشخص بالمجتمع. يسبق الكُل أجزاءه منطقياً، في الكيان الاجتماعي المعني Community. أما في المُجتمع Society، فعلى العكس تُشكل الأجزاء الكل. ان الفرق بين الكيان الاجتماعي Community والرابطة الاجتماعية والمجتمع Society هو الفرق بين روابط الأجزاء العضوية والميكانيكية التي تُشكل الكل الاجتماعي.
يصف تونيز وجود نوعين من الارادة دعاهما الارادة الجوهرية Wesenwille والارادة العشوائية Kürwille، وهما أساس نوعين من تنظيم الحياة الاجتماعية. كانت الارادة الجوهرية تعني ارادة الكُل، بمعنىً ما، التي تُحدد اي جانب من جوانب الحياة الاجتماعية مهما كان ضئيلاً. أما الارادة العشوائية فهي تُشير الى نوعٍ آخر من العوامل واضعاف الارادة الاجتماعية وانقسامها الى ارادات جزئية تتجمع ميكانيكياً في الحياة الاجتماعية بأكملها.
كانت الأهمية الكبيرة التي أولاها تونيز لمفهوم الارادة سبباً لمُعظم الباحثين لكي يصنفوا فكرته في قائمة الاتجاه السيكولوجي في السوسيولوجيا. لكن ليس لهذا ما يُبرره. بالكاد فهمَ تونيز الارادة كعامل نفسي صرف. على الرغم من أنه كان دائماً يكتب أنه لا يوجد سلوك انساني بدون ارادة، الا أنه كان مفهوماً مُجرداً جداً في فهمه يفتقر الى اي معنىً نفسيٍ مُباشر. كتب قائلاً: "بما أن كل الأفعال الذهنية تنطوي على التفكير، فانني أميّز بين الارادة التي تتضمن التفكير، والتفكير الذي يشمل الارادة"(4). عبّر عن هذا في مكانٍ آخر بشكلٍ أكثر تأكيداً، قائلاً أن الارادة تتحدد في ميزتها الانسانية بقوة التفكير الانساني(5). تساعدنا الفقرة اللاتينية التي وضعها سبينوزا على رأس قسمٍ من عمله الرئيسي (الارادة والتفكير هما أمرٌ واحد) Voluntas atque intellectus unum et idem sunt، والتي استمدها تونيز منه، على تفسير أصل وبذرة العقلانية لفكرته عن الارادة. ظهر طابع تونيز العقلاني في ترسيخ السوسيولوجيا في مُعالجته لسلوك الأفراد الاجتماعي. استخدم تونيز، لدن تحليله للسلوك الاجتماعي، التصنيف الذي استحدثه ماكس فيبر، والذي تم من خلاله تمييز الأنواع التالية من السلوك العقلاني: السلوك الموجه نحو الهدف، والسلوك الموجه نحو القيمة والسلوك المؤثر أو العاطفي والسلوك التقليدي(6). تتحقق الارادة العشوائية، برأي تونيز، في أول هذه الأشكال، بينما تتحقق الارادة الجوهرية في الثلاثة الأخرى (واحدة منها فقط هو الذي يفترض مُسبقاً العامل النفسي كمُحدد). وهكذا يكون العمل العقلاني للعقل هو المعيار للتمييز بين نوعي الارادة وربط نوعي البُنية الاجتماعية بهما. يقبع تحت تحليل تونيز الأساسي للسلوك الاجتماعي تحليل علاقة الوسائل بالغايات، اي تحليل العقلانية، في حين أن طبيعة الاجتماعي، تتحدد من خلال "ادراك الأفراد الذاتي" لأنفسهم وللآخرين كأعضاء للمجتمع. بما أن تونيز طابق الارادة بالعقل مُتخذاً طريق سبينوزا، فان هذا يعني بالنسبة له أن الدافع للحياة المُشتركة والتفاعل الاجتماعي و"التواصل" Socialising (مثل تشكّل الدولة عند هوبز) لم ينبع من التقليد الذي قدسته الكنيسة كما ادعت الفلسفة السياسية الرومانسية الرجعية، (وليس من الله كما ادعى خصوم هوبز والسكولاستيكيين) ولكن من العقل.
أظهر مذهب تونيز في أنواع الارادة موقفه المُعارض للرومانسية، وطموحه لتقديم تفسيرٍ عقلاني لطبيعة الحياة الاجتماعية.
ليس من قبيل الصدفة أن أطلق على عمله الرئيسي العنوان الفرعي (نظرية فلسفة الثقافة)-في الطبعة الأولى. اصبحت مفاهيم (المُجتمع) Society والمُجتمعي Community التي تطورت فيه هي الخطوة الأولى نحو تطوير مفهوم رسمي، وبمعنىً ما، تصميمي للسوسيولوجيا، والذي أطلق عليه هو اسم (السوسيولوجيا المحض)- والتي صار يُعاملها مؤرخي الفكر الاجتماعي لاحقاً على أنها السوسيولوجيا الرسمية واعتبروا تونيز مؤسساً لها.
حلل تونيز بالتفصيل، في أعماله الفلسفية التاريخية، المفاهيم التي طورها مفكروا القرن السابع عشر حول سمات وخصائص المعرفة الاجتماعية. اعتبر، على سبيل المثال، انه وفقاً لهوبز، يمكن لعلمٍ توضيحيٍ صرف أن يكون ممكناً حول: الأشياء الذهنية والمواضيع المُجردة (الهندسة)، وعن "الأجسام السياسية"، اي مبادئ المؤسسات الاجتماعية التي يُنتجها التفكير الانساني والذي لا يمكن ادراكه حسياً.هذه التعاليم نفسها تتخلل كتابات هوبز. مثلما كان هوبز وسبينوزا مقتنعين بالامكانيات غير المحدودة للتحرك الهندسي، اقترح تونيز ايضاً أن التمثل الرسمي لأشكال مختلفة من الحياة الاجتماعية، أشكال لا تتأثر بمصالح الأفراد وميولهم وأنانيتهم وأهداف الجماعات والطبقات، من شأنه أن يساعدهم في تحقيق المعرفة الاجتماعية الشاملة ذات الأهمية العامة. لذا ايضاً ظهرت كلمة (نظرية)، في عنوان كتابه الفرعي السابق ذكره، كتأكيد على أهمية التفكير المفاهيمي البنّاء في معارضة القوة المتزايدة للاتجاهات التجريبية واللاعقلانية.
كان المطلب الأساسي لأساليب المنهجية العقلانية هو تجسيد الظاهرة الاجتماعية بمعنى ضمان تحقيق بحث صارم منطقياً، وتحقيق المعرفة ذات الأهمية العامة. كانت أدوات التجسيد هي التجريد والأمثلة Idealization وانشاء الأنماط المثالية Ideal. لم يتم اضفاء صفة الاطلاق على الأنماط التي تم الحصول عليها، ولم يتم نسب الواقع لها، بل على العكس، تم تطبيق المفاهيم "المقياسية" على واقع الحياة الاجتماعية الحي، مما أتاح فُرصاً لدراسة سوسيولوجية مناسبة لها. هذه النقطة مهمة بشكلٍ خاص، لان تونيز في تأكيده على استحالة تطابق المفاهيم المبنية مع الواقع التجريبي، كان يحاول أن يضع السوسيولوجيا على خطوطٍ علمية، وكان يكسر التقاليد القديمة للفلسفة-التاريخية التعسفية ذات الطابع التأملي.
وهكذا أصبح التجريد مبدأً اساسياً لعلم الاجتماع. من الواضح أن هذه المقاربة كانت موجهة ضد المدرسة التاريخية والتجريبية الذاتية لفلسفة الحياة. ومن الواضح ايضاً ان اعادة احياء العقلانية من هذا النوع يمكن ان تؤدي الى اعادة فكرة قانون الطبيعة التنويري، وبالتالي، تجاهل التاريخ والتطور.
لكن تونيز، مع ذلك، تجنب هذا الخطر. كانت النقطة، هي أن الأمثلة الابتدائية التي بُنيت عليها سوسيولوجيته تضمنت مفهومين مُجردين وليس مفهوماً واحداً (كما هو الحال، على سبيل المثال، مع هوبز ولوك أو مفكري التنوير الآخرين). كان اساس تفكيره السوسيولوجي هو مبدأ التضاد المفاهيمي: بما أن أي تمظهر للارادة الاجتماعية هو في نفس الوقت ظاهرة للارادة والعقل والفكر، كذلك، فان اي تشكيل اجتماعي يحتوي في نفس الوقت على ميزاتٍ للمجتمع Society والكيان الاجتماعي Community.
وهكذا صار الشكلين السابق ذكرهما هما المعيار الرئيسي لتصنيف الأشكال الاجتماعية. سعى تونيز بشكلٍ عام لوضع نظام متطور ومنظم لهذه المعايير. تم تقسيم أشكال الحياة الاجتماعية الى ثلاثة أنواع: 1- العلاقات الاجتماعية. 2- المجموعات. 3- المؤسسات أو الروابط الاجتماعية. لم توجد العلاقات الاجتماعية فقط عندما شعر بها الأفراد أو أدركوها على هذا النحو، ولكن ايضاً عندما تم ادراك ضرورتها. لقد وُجِدَت عند ذلك الحد الذي نشأت منها حقوق والتزامات الطرفين. بكلماتٍ أخرى، كانت العلاقات الاجتماعية ذات طابع موضوعي.
ان مجموع العلاقات الاجتماعية بين طرفين أو أكثر هو "دائرة اجتماعية" والتي هي مرحلة انتقالية من العلاقات الى المجموعة. تشكلت المجموعة عندما اعتُبِرَت-بوعي- الرابطة بين الأفراد ضروريةً بينهم من أجل الوصول الى هدفٍ معين. علاوةً على ذلك، يُسمى اي شكل اجتماعي رابطة أو مؤسسة عندما يمتلك تنظيماً داخلياً، اي عندما يؤدي بعض الأفراد وظائف معينة داخلها، فان أفعالهم هي وظائف للمؤسسة أو الرابطة.
يتداخل التقسيم الى العلاقات والمجموعات والروابط بتصنيف العلاقات الانسانية بمعيار "الهيمنة-الشراكة". عندها فقط يتم تقسيم الأنواع التي تم الحصول عليها من خلال التصنيف على المعيار الأعم "اجتماعي Social- مُجتمعي Communal". كان لتصنيف تونيز للمعايير الاجتماعية نفس الطابع المُعقّد تماماً. تم تقسيمها الى: 1- معايير النظام الاجتماعي Social Order. 2- المعايير القانونية. 3- المعيير الأخلاقية. كانت الأولى عبارةً عن مجموعة من القواعد الأكثر عموميةً تستند أساساً الى اتفاقٍ أو ميثاقٍ عام. تتحدد معايير النظام Order بالقوة المعيارية للحقائق. ينشأ القانون، بالنسبة له، عن طريق التشريع الرسمي. تتأسس الأخلاق عن طريق الدين أو الرأي العام. وتنقسم كل هذه المعايير القياسية الى معايير اجتماعية Social ومعايير مُجتمعية Communal. أما الاختلافات فان لها طابع نموذجي Ideal-Typical أو تحليلي. ولا يمكن ايجاد المعايير بشكلها الصرف في الواقع. تتكون الأنظمة المعيارية لجميع الأشكال الاجتماعية، دون استثناء، من مجموع المعايير والقوانين والأخلاق.
ان تصنيف تونيز للقيم الاجتماعية أقل تعقيداً من ذلك.
كان سيكون لكل هذه البُنى النموذجية المتشعبة التفصيلية طابع لاتاريخي ومجرد الى حدٍ كبير لو لم يتم تقسيم كل الأشكال المميزة الى تمظهرات اجتماعية Social ومُجتمعية Communal. جعل تطبيق هذا المبدأ على تحليل الظواهر الاجتماعية الملموسة، من الممكن، التعرف على ظواهر التطور التاريخي والتعبير عنها، وكان هذا هو الأهمية التطبيقية لهذه التصنيفات بشكلٍ عام ولمفاهيم الاجتماعي والمُجتمعي بشكلٍ خاص.
دعا تونيز الى تحليل الظواهر الاجتماعية من وجهة نظر تطور السوسيولوجيا التطبيقية. تعامل بعض أتباعه مع السوسيولوجيا التطبيقية كفلسفة علمية للتاريخ. أما هو، فقد قام بالأصل بتعريف أهدافها بشكلٍ أكثر تواضعاً، قائلاً أنه في حين أن السوسيولوجيا المحض تقتصر على فهم ووصف الواقع الساكن، في حالة الثبات، فان السوسيولوجيا التطبيقية تتعامل معه بشكلٍ ديناميكي، معتبرةً اياه في حركته(7). بالنسبة الى تونيز، صار مبدأ التضاد المفاهيمي منهجاً للسوسيولوجيا التطبيقية. تطور التفاعل الدياليكتيكي للارادة والعقل الذي يكمن في أساس العلاقات الاجتماعية، وفقاً له، باتجاه هيمنة العقل، أي أن التطور الاجتماعي صار عملية تزايد العقلانية فيه.
هذا حدد اتجاه التطور الاجتماعي: من الكيان الاجتماعي Community الى المجتمع Society. اعتقد تونيز، أن تشكل العقلانية، هو تشكل المجتمع Society، والذي تطور جزئياً وفقاً لتطور الكيان الاجتماعي Community، باعتباره الشكل الأولي، أو على الأقل، الأقدم، للعيش المُشترك. من هذه الزاوية، قام بتحليل ديناميكيات تطور البُنى الاجتماعية من مُختلف الأنواع، مُستخدماً مواد وقائعية كثيرة، ودرس المسائل الاجتماعية للمجتمع المُعاصر بحيث يوضح وصفته النظرية بالأمثلة، أي تطبيق نمط الحُجج الكامنة في هذه المُقاربة لتحليل اي وضعية تاريخية وتطور الحياة الاجتماعية ككل، على الأقل بقدر ما انتقل هذا التطور من الكيانات الاجتماعية Communal الى الأشكال الاجتماعية Social. كانت هذه هي الطريقة التي عالج بها تونيز المسألة الرئيسية لعمله السوسيولوجي، والتي طرحها نفس سياق التطور الايديولوجي في القرن التاسع عشر، أي مسألة تركيب الجوانب الايجابية للاتجاهين العقلاني والرومانسي. انعكست احصائيات وديناميكيات الحياة الاجتماعية، والبُنى الميكانيكية والعضوية لـ"الأجسام" الاجتماعية، والمقاربات التاريخية والعقلانية في دراسة المجتمع، انعكست في في سوسيولوجيته (التطبيقية والصرف). ساهمت سوسيولوجيا تونيز في السير خطةً الى الأمام من التأملات السوسيو-فلسفية التي ميزت الفترة السابقة، الى سوسيولوجيا موضوعية علمية خالية من المواقف القيمية والتوجهات السياسية، وخالية من الاتجاه الأخلاقوي المتأصل في فلسفة التاريخ. توجه طابع فلسفة تونيز "العلمية" الى صورة معينة للعلم، وهي الصورة التي صنعها الوضعيين. لقد ضمّن، في انجازات مفهومه السوسيولوجي: 1- الموضوعية 2- الميل الطبيعاني المتأصل و3- استقلاليتها عن المقدمات القِيَمية والممارسة الاجتماعية العملية.
افترضت حرية العلم في الفهم الوضعي لها، التحرر من السياسة. طرح تونيز مسألة علاقة السوسيولوجيا والسياسة بشكلٍ واسعٍ على العموم، كمسألة للعلاقة بين النظرية الاجتماعية والممارسة الاجتماعية، أو بلغة بعض الكتاب الأحدث، المعرفة والمصلحة. ليس تجنب الحكم القِيَمي، تبعاً له، رفضاً لدراسة القيم الاجتماعية. على العكس من ذلك، فان الدراسة السوسيولوجية والعلمية والموضوعية للقيم يمكنها أن تُقدم للسياسة أساساً موثوقاً به وتُطوّر اشكالاً جوهرية من النشاط السياسي. يجب اظهار الأمور بطريقة علمية للحصول على تأثيرات معينة، ولكن هناك عدد من العلوم لا تحتوي على مثل هذه الميزات. انها بالنسبة له، ليست علماً بحق(8). ان السياسة هي واحدة من هذه المِهَن او الفنون التي توظف البيانات التي توفرها لها العلوم. ان الفرق بينها هو أن العلم يجعل من القيم موضوعاً لدراستها، ولكن السياسة تجعل منها أساساً للنشاط. يقول تونيز، انه من الضار بل غير ذي صلة من وجهة النظر العلمية، أن تكون النتيجة "مرغوبةً" أم لا بالنسبة للمُراقب. أما المُمارس فانه ينطلق مما هو مرغوب أو مُراد، أنه يكافح من أجل تلك النتيجة، وهو يريد أن يعرف ما اذا كان من الممكن بشكلٍ عام معرفة النتيجة بتأكيدٍ علمي. يتعامل العالِم مع الأسباب والنتائج. الشخص العلمي يريد أن يعرف فقط، أما الشخص العملي يريد أن يفعل ويتصرف(9).
كانت اطروحة تحرير العلم من السياسة موجهة أيضاً ضد الفلسفة السياسية للرومانسية، التي كانت تُبرربوعي وتصميم الاجراءات السياسية للأنظمة الرجعية في أوروبا.
ولكن بفصله العلم عن السياسية، لم يُحاول تونيز، بأي حالٍ من الأحوال فصل السياسة عن العلم. كان يطمح الى جعل السياسة "علمية"، ولم يكن يرغب في اقامة جدار لا يمكن تجاوزه بين نوعي النشاط. كما يتضح من النقاشات التي أُشير اليها أعلاه، فان الموقف الادراكي للعالِم والمُمارس الذي وصفه تونيز، كان في حقيقة الأمر وصفاً لموقفين ادراكيين مختلفين لنفس الشخص، الذي يبرز مرةً كسياسي ومرةً كسوسيولوجي. لم يكن هذا النوع من الوصف مُصادفة، ويمكن أن يكون مرتبطاً بتونيز نفسه، لانه (وفقاً لشهادة معاصريه) فانه قد جمع ميزات هدوء العالم وشغف السياسي الدستوري والمصلح الاجتماعي والديمقراطي. توافق نشاط تونيز العملي كسياسي، والتوجهات والأهداف والوسائل التي اختارها للعمل الاجتماعي، مع المبادئ الرئيسية لنظريته الاجتماعية.
أدت فرضية ازدياد العقلانية أثناء التطور الاجتماعي، الذي تمت صياغتها في سياق السوسيولوجيا التجريبية، بطبيعة الحال، الى الحاجة الى الكفاح من أجل الديمقراطية ضد التحيزات الطبقية والاقطاعية لانه اعتبر تنوير وتعليم البروليتاريا مرحلةً ضروريةً بعد التنوير البرجوازي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. شارك تونيز بنشاط في الحركة الاشتراكية الديمقراطية والحركة العمالية، ودالفع عن حرية التعبير والحق في تشكيل النقابات، وجاء لدعم المُضربين خلال اضراب كييل Kiel الشهير 1896-1897. استمر نشاطه السوسيولوجي لأكثر من 50 عاماً، وعكست أفكاره النظرية سمات التغيرات الاجتماعية التي كانت تحدث في ألمانيا في مطلع القرن العشرين.
نتجت هذه التغيرات عن طريق تعزيز الرأسمالية في ألمانيا وانتقالها الى المرحلة الامبريالية من التطور الرأسمالي. بينما كانت هذه العملية تسير بوتيرةٍ أبطأ في القارة منها في المملكة المتحدة، التي قامت بثورتها البرجوازية في القرن السابع عشر، استمرت التحولات بشكلٍ أبطأ في ألمانيا، التي كانت أكثر منطقة أوروبية تخلفاً حتى ذلك الحين. أدى التشرذم الاقليمي، وغياب الدولة الراسخة، والحفاظ على البقايا الاقطاعية والطائفية الى اعاقة تطور الامبريالية الألمانية، التي بدأت تتطور بنشاط فقط في سبعينيات ووثمانينيات القرن التاسع عشر.
رَسَم تونيز في المفاهيم الأساسية لسوسيولوجيته، باعتماده على أعمال الاثنولوجيين الانجليز والألمان والقانونيين والطلاب السياسيين، المعالم الأساسية للتغيرات في المجالات الاجتماعية المتعلقة بالقانون الدستوري والمعايير القيمية النموذجية لفترة الانتقال هذه.
لم يُبرز تونيز الأساس المادي لهذه التغيرات، بسبب فهمه المثالي لطبيعة العمليات الاجتماعية ذاتها. ادعى أن العامل الفكري هو المحدد للتغيرات، وبالتالي العقل هو العنصر الديناميكي في أي تطورٍ ثقافي كما هو الحال في التطور الروحي للفرد. هذا يعني أنه، اي العقل، يحدد سلوك الأفراد وتفكيرهم الى حدٍ كبير، وكذلك سلوك الأفراد الذين يشكلون مجموعاتٍ وروابط في نشاطهم المُشترك وارادتهم المُشتركة(10). هذا النوع من مُعالجة العملية الاجتماعية، استبعد بشكلٍ طبيعي اي امكانية لمعرفة العمليات الاجتماعية والاقتصادية الكامنة وراء التغيرات التاريخية.
كان تونيز على دراية جيدة بأعمال ماركس التي تُحلل نمط الانتاج الرأسمالي. علاوةً على ذلك، كان لاهتمامه بالماركسية طابعاً ثابتاً ومُستقراً. بناءاً على اعترافه الخاص، اثارت قراءة الجزء الأول من رأس المال، اهتمامه بشكلٍ كبير في مسألة "أزمة الثقافة"، وهو يُضيف، أنه على الرغم من ذلك، ليس لدى الماركسية تأثيراً مُباشراً على تطور أفكاره الخاصة.
في الواقع، لم تُثبت استنتاجات ماركس المبدئية على أنها غريبة على تونيز وحسب، بل وأيضاً طرحه للمسائل. في احدى ورقاته، حدد تونيز جوهر نظرية ماركس عن المُجتمع بأنها نظرية عن العوامل مُجردة، أي أن الواقع الاجتماعي كان تفاعلاً بين ثلاثة عوامل عامة جداً (الاقتصاد، السياسة، الروح)، ويتطور كلٌ منها بشكلٍ مستقلٍ عن الآخرين، ولكن الحياة الاقتصادية كانت عاملاً أكثر استقلاليةً نسبياً. هذا النوع الدوغمائي من التقسيم الى عوامل ومتغيرات، مثل الفكرة المُجردة عن "الحياة الاقتصادية" هو أمر غريب عن روح الماركسية.
بعدم ادراكه الروح الدياليكتيكية وكلية الماركسية، وضع تونيز مراراً ماركس رأس المال مُقابل ماركس البيان الشيوعي وعارضهما معاً. تكشف هذه المُقابلة المُقامة بالروح البرجوازية الليبرالية، عن مدى خطأ أفكار تونيز عن الحركة العمالية وايديولوجيتها. فام تونيز في النهاية بتققيم الماركسية على أنها "تفسير زائف بلا شك"(11).
قلل رفض تونيز رؤية الأنماط المادية في أساس الحياة الاجتماعية، وعدم قبوله مسألة الصراع الطبقي كعامل ديناميكي لتطور وتغير القانون الدستوري ومجالات القِيَم في المجتمع، كل هذا قلل الى حدٍ كبير أهمية أفكاره السوسيولوجية. هذا هو السبب في أن مصدر وجود المُجتمع والكيان الاجتماعي كأشكال أساسية للحياة الانسانية المُشتركة ظل بشكل أساسي بدون توضيح. من أين أتت الارادة الجوهرية Wesenwille التي عززت الأفراد بعضهم ببعض ووحدتهم في حياتهم المُشتركة كلها؟ كيف أدى التفاعل الميكانيكي للأفراد الى وحدة او كلية أو كيان اجتماعي معين، بالنظر الى همينة الارادة العشوائية Kürwille؟ ما هي، على العموم، العوامل التي شككلت هذه الكُلية في كل حالة مُحددة؟(12). تخلص الماركسية الى أن الارادة الجماعية تجسّد ارادة الطبقة السائدة في المجتمع، والتي تُحدد بُنية وأشكال المظاهر الملموسة للتفاعلات البشرية. ومع ذلك، وضع تونيز تعريفاتٍ تفصيلية، وأعطى أوصافاً ظرفية للكيان الاجتماعي والمُجتمع، لكنه أثبت عدم قدرته على الكشف عن طبيعة الارادة، أي قوة السلطة الاجتماعية وقوة الكل الاجتماعي على الفرد المُنفصل في كل حالة محددة. ظل كلا المفهومين الأساسيين لسوسيولوجيته كمُقدمتين بديهيتين، بدلاً من كونهما مُستخلصين من تحليل واقع الحياة الاجتماعية.
كان هذا الغياب بالاهتمام بالواقع، وقبل كل شيء، واقع التفاعلات والصراعات وتعارض مصالح الفئات الاجتماعية والطبقات، هو الذي تسبب في أحد أوجه قصور تونيز في تصنيفه للمجتمع، ووصفه الناقص للكيان الاجتماعي. لقد صوّر العلاقات الاجتماعية داخل الكيان الاجتماعي كعلاقات اتفاق وتفاهم مُتبادل وصداقة وتعاون وود روحي وما الى ذلك. وتجاهل كل شيء "سلبي" بالمعنى العاطفي، وتجاهل العلاقات ذات الطابع الصراعي. أشار ر. كونيغ عن حق الى أن تونيز رفض رؤية عناصر الاكراه في الكيان الاجتماعي. في الواقع، لقد رسم صورةً مؤمثلةً غير تاريخية للكيان الاجتماعي، واضعاً صورةً تتضمن أفكاراً أخلاقية وايديولوجية معينة بدلاً من رسم الواقع المتناقض المُعقد للعلاقات داخل الكيان الاجتماعي.
كانت هذه الفكرة الأساسية هي السبب في الطابع المُتناقض لمغزى مذهب تونيز السياسي.
كانت هناك نتيجة أُخرى لتجاهل الصراعات والتناقضات في الحياة الاجتماعية، اي الطابع الشكلي والمتافيزيقي لتصنيفات تونيز المعقدة والمتشابكة. لم تكن هذه بحد ذاتها غايةً لتونيز، بالطبع، لقد خدمت لأغراض الدراسة التفصيلية لعملية التغير التاريخي التي تحدث على مستوياتٍ مختلفة وفي مُختلف مجالات الحياة. حاول هو نفسه اضفاء الطابع الرسمي على المعرفة السوسيولوجية والعثور على نظامٍ عالميٍ من الخصائص القابلة للتطبيق على تحليل المجالات الأكثر تنوعاً في حياة المُجتمع، بغض النظر عن محتوى الموضوع. صارت أفكار تونيز، بطرح المسألة على هذا الشكل، تحتوي على تناقض داخلي عميق. لقد كان الطابع الشكلي لتصنيف تونيز وغياب معيار تحديد انماط العلاقات والمجموعات الرئيسية، مُفيداً فقط لوصف عمليات التغيير التي تحدث بالفعل، مُستثنيةً امكانية تطوير تفسيرات سوسيولوجية للتاريخ بوسائلها. وبعبارة أُخرى، فان هذه التصنيفات تتحول حتماً الى اصطلاحات ولغة اصطلاحية لا يمكنها أن توفر معرفة "جوهرية" عن الواقع قيد البحث.
وبالتالي، لا يمكن لنظام تونيز السوسيولوجي أن يكون بمثابة تفسيرٍ لعمليات التطور التاريخي.
لم يظل تصنيف "الكيان الاجتماعي Community- المجتمع Society" أداةً مُحايدةً ايديولوجياً لوصف العمليات الاجتماعية. ومع ذلك، حاول تونيز التأكيد على الطابع القِيَمي المُحادي لأفكاره، وانفصالها عن الفلسفة والتاريخ والسياسة وعلم الأخلاق. اما المحتوى الفعلي لأعماله فقد كان سبباً عند العديد من العلماء لتفسير تحليله للتطور من الكيانات الاجتماعية Communal الى المُجتمع Social كفلسفة تاريخ مخفية، كايديولوجيا لتدمير الثقافة ذات معنىً سياسي رجعي مُحدد تماماً. أثبت هذا التفسير أنه ممكن، في الواقع، بسبب مثالية تونيز في تفسيره العلاقات الاجتماعية في الكيانات، الموصوفة أعلاه.
كان تونيز سوسيولوجي وقف عند حد فترتين من السوسيولوجيا البرجوازية. قام بتشكيل احدى جوانب أعماله في القرن التاسع عشر، كما أشار سعيه لتطوير "فلسفة التاريخ كسوسيولوجيا" والسعي لخلق توليف ثقافي-تاريخي واسع ونظرية ميكانيكية للمعرفة الاجتماعية، وبغياب التمايز الصارم في نظريته عن الأفكار الاجتماعية، وأفكار التشريع القانوني والدراسات الدستورية. ومن جهةٍ أُخرى، طرح عدد من الأفكار التي تم تطويرها بشكلٍ أكبر في السوسيولوجيا الغربية غير الماركسية في القرن العشرين. كانت هذه في المقام الأول فكرة البنية التحليلية للسوسيولوجيا (تحليلي على عكس التاريخي)، والتي شهدت على ادراكها (اي ادراك السوسيولوجيا) كعلم، وسعيها للعثور على مكانٍ ونهجٍ خاصٍ لها في مقاربتها للمجتمع. كان تونيز واحداً من أوائل العلماء غير الماركسيين الذين يطرحون مسألة البُنية الاجتماعية، والتي أصبحت تُعتبر، منذ ذلك الحين، على وجه التحديد، مسألةً سوسيولوجية تُطرح بنمط خاص. تم تناول فكرة تطوير سوسيولوجيا رسمية تقوم بتحليل موضوعها الخاص بغض النظر عن محتواها، من قِبَل سوسيولوجي بارز آخر في مطلع القرن العشرين، جورج زيميل Georg Simmel، وطور هذه الفكرة لاحقاً فون ويز von Wiese والفريد فيركانت Alfred Vierkandt وعدد آخر من السوسيولوجيين.
علاوةً على ذلك، كانت احدى الجوانب الأساسية لسوسيولوجيا تونيز هي نظريتته الطبيعانية في المعرفة الاجتماعية والتي قامت أنواع أخرى من السوسيولوجيا بتطويرها في القرن العشرين.
ومع ذلك، فان الشيء الرئيسي الذي تركه للسوسيولوجيا الحديثة في الغرب هو فكرة التمييز بين نوعين من العلاقات والروابط الاجتماعية، المتجسدة في مفاهيم الكيان الاجتماعي Community والمُجتمع Society. تناول اميل دوركهايم هذه الأفكار، الذي ميّز المُجتمع بالتضامن "العضوي" والتضامن "الميكانيكي". تم تطبيق هذا التصنيف في شكلٍ اعيدت صياغته بشكلٍ مناسب، ولا يزال يتم استخدامه من قِبَل العديد من السوسيولوجيين والفلاسفة والمؤرخين الغربيين، لتفسير الصراع الرئيسي للتطور التاريخي المُعاصر.

*وُلِدَ ليونيد ليونيد غريغوريفيتش ايونين عام 1945. تخرج من معهد الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية، ودرس وتخرج من مدرسة معهد البحث السوسيولوجي التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية في أعوام 1970-1975، دافع عام 1982 عن اطروحته لدرجة الدكتور في الفلسفة بعنوان "تشكّل وتطور الاتجاه المُعادي للوضعية في السوسيولوجيا البرجوازية في القرنين التاسع عشر والعشرين". عَمِلَ في معهد السوسيولوجيا التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية كباحث من عام 1973-1988. ركّز ايونين بحثه في المفاهيم المُعادية للوضعية في السوسيولوجيا (ديلتاي، زيميل، فيبر وتونيز). واشترك مع ايغور كون واوسيبوف ودافيدوف وآخرين بدراسة منهجية لمفاهيم السوسيولوجيا الغربية.

1- See Ferdinand Tönnies. Studien zur Philosophie und Gesellschaftslehre im 17. Jahrhundert. Edited by E. G. Jacoby (Frommann-Holzboog, Stuttgart, 1975), p 240
2- See Ferdinand Tönnies. Die Entstehung meiner Begriff Gemeinschaft und Gesellschaft. In: Kölner Zeitschrift für Soziologie und Sozialpsychologie, 1955, 7, 3: 464
3- Ibid
4- Ferdinand Tönnies. Community and Association. Translated by Charles Loomis (Routledge & Kegan Paul, London, 1955), p 119
5- See Ferdinand Tönnies. Einführung in die Soziologie (Ferdinand Enke Verlag, Stuttgart, 1981), p 6
6- Max Weber. The Theory of Social and Economic Organisation. Translated by A. M. Henderson and Talcott Parsons (OUP, New York, 1947). See also: Lewis A. Coser. Masters of Sociological Thought (Harcourt Brace Jovanovich, New York, 1977), pp 217-218
7- See Ferdinand Tönnies. Einführung in die Soziologie, p 316
8- See Ferdinand Tönnies. Soziologische Studien und Kritiken, Vol. 1 (Verlag von Gustav Fischer, Jena, 1925), p 305
9- Ibid, p 305
10- Ferdinand Tönnies. Art. cit., pp 464-465
11- Ferdinand Tönnies. Einführung in die Soziologie, p 270
12- غالباً ما يتم تفسير كلا النوعين من العلاقات الاجتماعية على أنها نتاج تحقيق مساعي الفرد الذهنية: الدوافع الغريزية Triebwille والدوافع العقلانية المشروطة Zweckwille. هذا التفسير الذي قدمه فوندت، يخلط معنى المفهوم الذي استخدمه تونيز من أجله. أولاً، يتم فصل الارادة والتفكير تماماً (بالنسبة لتونيز المعالجة العقلانية للارادة، انظر ما قيل أعلاه). ثانياً، سيتم مُعالجة الارادة على انها تكوين نفسي صرف ويتم التخلص من المعنى الاجتماعي-السياسي للمفهوم (راجع، ارادة الشعب، ارادة الناخبين) والتي ربما تلعب دوراً رئيسياً في نظام تونيز.

ترجمة الفصل الثامن من كتاب:
A History of Classical Sociology, a Group of Soviet Sociologists, Edited by Prof I. S. Kon, Translated By H. Campbell Creigton, Published 1979K Translated 1989, Progress Publisher