نهر شعره ينهض على كتف فتنة الكتابة، عند الأديب عبد الستار نورعلي – الحلقة السادسة– من فعل التحرّر الكتابي و- المشروع المعرفيّ الحداثيّ -في بؤرة ضوء


فاطمة الفلاحي
2020 / 6 / 23 - 17:24     

فتنة الكتابة تقتحم أحيانًا ماتيسر من (التناصّ) بغية الوصول إلى نصّ يقبع فينا، كم مرة اكتشفتَ روحك متلبسةً بتهمة كتابة التناصّ ؟ ومَن كانت تناصّك الروحي في ساحة الشغف والجنون الآثم فلا مجال لفنائها؟

الشاعر والمترجم عبد الستار نور علي يحدثنا،قائلًا:

ــ بدءً ليس التناصّ تهمةً يتنصل منها الشاعر، بل هو غنىً مضاف إلى غنى النصّ، حين يأتي متعالقاً مع نصٍّ آخر، أدبياً أم دينياً أم تاريخياً أم منْ منابع أخرى، تجذّر في روح الشاعر منحوتاً معلّقاً في ذائقته وذاكرته الحافظة، فاستقرّ في وعيه وفي لاوعيه، لدرجة التوحّد، بحيث يخرج ممتزجاً بالنصّ بعفويةٍ تعبيرية وتلقائية لحظة ولادة النصّ، وبوح الشاعر عن تجربته الحسيّة، يجد متنفسه للإنطلاق عند العلاقة بين ما يخلقه الشاعر من نصٍّ وبين النصّ المخزون، بوعيٍّ مسبق من الشاعر أو بلا وعيٍّ تلقائيّ. هنا يكون الغنى والتعالق الولادي الطبيعي. أما حين يكون مُقحَماً متكلفاً (مُصطنَعاً) فلا يكون عندها غنىً بل صناعةً ميكانيكية جامدة مع سبق الأصرار والتخطيط.

ربما كان التناصّ عند القدامي يوضع في خانة (السرقات الأدبية). لكنه اليوم مصطلح نقدي أدبيّ، وباب من أبواب فن النقد، قال فيه النقاد غرباً وشرقاً الكثير، ليصبح مادةً للدراسات الأكاديمية والنقدية العامة.

تدرين جيداً أنّ النصّ الأدبي لا يأتي من فراغ. إنه صياغة لغويةٌ ذات علاقات وأبعاد ودلالات نحوياً وتعبيرياً ومعنىً مقصوداً إيصاله الى المتلقي، سامعاً كان أم قارئاً. فليس الشاعر إلاهاً لغوياً ليخلق لغته الخاصة ـ بمفهوم الألفاظ والتعابير والصور ـ بعيداً عن لغته الأم وتراثها اللفظي (النطقي) اليومي والكتابي والتعبيري نثراً وشعراً (التراث الأدبي)، إضافةً الى التراث الديني (الكتب المقدسة وأحاديث الأنبياء والرسل والأولياء)، ثم أقوال الحكماء والأمثال والقصص والروايات والشعر، وغيرها من مناحي الحياة الإنسانية الأخرى. إذ ترى الناقدة الفرنسية (جوليا كريستيفا) "أنّ النصّ الأدبي لا يولد من الصفر، بل له سوابق ينبع منها وينطلق ليتشكّل، فهو جزءٌ من نصٍّ عام". مثله مثل الماديات التي تُبنى على ماديات سبقتها وتتطوّر منها، ليُصنعَ من مجموع ما سبقها شكلٌ جديد مضاف، بتقنية وذوق وجمالية وصياغة وهدف الصانع الجديد ومهارته وحذقه. فلا شيء يأتي من فراغ.

الشاعر ـ مبدعاً في الأمة ـ يمرُّ عبر هذه السلسلة المترابطة والمتنامية في مسبحة الكلام خِرزاً فنيةً، ترفد ذائقته ووعيه ولاوعيه، لتجد مستقراً لها في مخزن ذاكرة اللاوعي مع مرور الزمن، شبيهاً بـ(الفلاش USB) ـ المخزن الإضافي للنصوص التي نحفظها في الكومبيوتر كي لا تضيع ـ هذه النصوص المخزونة تجد لها متنفساً ومنفذاً عندما تعثر على فرصة سانحة مواتية ـ تجربة دربٍ أو حدثٍ أو حسٍّ أو مضمون تتلاقى تشابهياً (تعالقياً) ـ فتنسلّ من بين أصابع الشاعر ـ وعياً أم لاوعياً ـ لتستقرّ بين خلايا قصيدةٍ ملائمة المعنى والحسّ والصورة والتجربة، فتزيّنها بوشيٍّ منْ جمالها وتجانسها وزخرفتها لتضفي حلاوةً وحسناً وحرارةً وبعداً فنيّاً جميلاً، وإغناءً معنوياً (مضموناً) ثقافياً. فالتناصّ إشارة لثقافة الشاعر وسعتها وثرائها، واستثمارٌ لها لإثراء نصه والارتقاء به وإحداث الأثر المبتغى منه.

يقول الأستاذ الدكتور (نوزاد شكر مصطف)، من جامعة صلاح الدين/ أربيل كلية اللغات/ قسم اللغة العريبة، في بحثه الأكاديمي الموسوم بـ(التناصّ في شعر عبد الستار نورعلي):
"أخذ التناصّ في شعره أشكالاً متعددة، ومرجعيات متنوعة ارتكنت إليه نصوصه. يُعدّ عبد الستار نورعلي أحد شعراء الحداثة المغتربين عن الوطن، نستشفّ من شعره أصالة ثقافته، وغوصه في التراث العربي والاسلامي والأخذ منهما، ومن يتصفح دواوينه الشعرية وما نشره على صفحات الدوريات والأنترنيت يجد ومضات دينية ووطنية وتراثية تضيء جوانب كثيرة من شعره، استثمرها لإثراء نصّه الشعري على صعيد البلاغة ودلالة الحدث، لذلك يشكل التناصّ ملمحاً أسلوبياَ بارزاً في شعره وقد الشعرية، منها الدينية والأدبية وغيرها."

أظنُّ أنّ الأستاذ الدكتور (نوزاد شكر مصطفى) أجابَ ـ ضمنياً ـ في دراسته عمّا استفهمتِ عنه في سؤالك:
"ومَن كانت تناصّك الروحي في ساحة الشغف والجنون الآثم؟".
أقول أنه بالتأكيد ما هو مخزونٌ في حافظة الوعي واللاوعي عندي ـ حالي كغيري ـ خلال مسيرة عمرٍ يمتدُّ عميقاً في غور السنين، منذ أنْ بدأ الوعي يحبو: القرآن الكريم، الحديث النبوي الشريف، الكتب المقدسة الأخرى، أقوال وحِكَم لرجال التاريخ العظماء، الشعر العربيّ القديم والحديث، الشعر في العالم لكبار شعرائه التاريخيين والثوريين، والثوار الكبار وما قالوه في مسيرتهم الثورية.

وهنا أورد أمثلةً من التناصّ في قصائدي ـ لبيان آثار النصوص في ماضيها وحاضرها المعلّقة على جدران الذاكرة ـ كما أرّخها أستاذنا الفاضل الدكتور مصطفى ـ في بحثه الأكاديمي القيّم والشامل، وتعالقها بنصوصي:

"ومن التناص القرأني قوله في قصيدة ( كاترينا):
هذه القريةُ غرقتْ في الدجى
أغلقتْ بابها
لملمتْ وجهها في غياب الخجل
ثم نادتْ دون أنْ تذرف دمعةً
إنَّهُ ثمنُ المارقينَ الجناة
أطيعوا أولي الأمر منكم !
نم نامتْ على هدهدة الليل
في سكون الكلام

يمتصّ هذاالمقطع الآية القرآنية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...] النساء 59 "

هذا في التناص مع القرآن الكريم. وفي التناص مع الحديث النبوي الشريف يذكر الدكتور مصطفى:

" كما وردت للشاعر أبيات شعرية فيها تناص مع الأحاديث النبوية الشريفة في مواضع عدّة، ومن ذلك قوله في قصيدة ( الانهيار ):
جثةُ تهبطُ من علياءِ، تابوتها
جثةٌ لم تعاشرْ كفناً
لم تصاحبِ الفئة الباغية
تُدفنُ تحت بلاط الأمم المشرئبةِ الراقية
ثمةَ وجهٌ، طفلٌ، رقصةٌ، غانية.

لقد ظهر التناص واضحاً لاسيما في استعمال عبارة ( الفئة الباغية) مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق سيدنا عمّار ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعو الى الجنة ويدعونه الى النّار). لقد افاد الشاعر من هذه القصة لإدراكه قيمتها الدلالية ولتوضيح فكرته وتأييدها. يظهر الشاعر من خلال هذا التناص سخريته من الحكام الذين يقتلون الناس لأتفه الأسباب، فكم من بريء قتل دون سبب إلا لموقف رفض لقرار ظالم أو من موقف جبان متخاذل، فإذا كانت مصاحبة الأشرار والباغين تستحق العقوبة والجزاء فهذه شريعة لابأس بها، أما أن يقتل المواطن بلا سبب فهذه جريمة لا تغتفر، إنها ديدن الطغاة في كل مكان لاسيما عند الحكام العرب، ويؤكد الشاعر هذه الفكرة في قصيدته ( الويل ) التي يقول فيها:

الويلُ إنْ كانَ الذي تقولُهُ
ليس كما يريدُهُ الاخوانْ،
الويلُ إنْ أفلتَ من عِقالهِ الثعبانْ
لاتِنتوي
فإنّما الأعمال بالنياتْ
وأنت تنوي الشرّ بالسلطانْ
وركبهِ الزاحفِ نحو النورِ
والسرورِ
والأمانْ،
فالويلُ لكْ...!
لقد ورد التناص في هذا النص مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم( إنّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنّما لكل امرىء ما نوى...) "

ويورد الدكتور مصطفى تناصاً مع الإنجيل:

" كما ورد التناص مع نص في الانجيل في قصيدته ( الأحجار):
فوقَ الصدرِ الضامِر حجرٌ
ما أثقلهُ!
ما أوهنَهُ!
تصغي ...
مَنْ كانَ بلا إثمٍ
فليرمِ الأحجارْ!

إنه تناصّ مع قول سيدنا عيسى عليه السلام عندما قال: ( من كان بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر ) لقد جعل نصب عينيه نصاً مركزياً مقدساً مُستمداً من الكتاب المقدس ليستمد منه ويجعله مرجعيته الفكرية."

كما أورد الدكتور مصطفى أمثلة على "التناص الأدبي " وهو التناص مع نصوص أدبية لأدباء آخرين (التضمين)، شعراً أو نثراً:
" وقد ورد هذا النوع من التناص في شعره بشكل لافت للنظر، ومنه ما تناص به مع قول امريء القيس في قصيدة (أغاني الأغاني)، إذ يقول:
زنبقاتُ الكلامِ تسقطُ في الكلامِ
اليومَ خمرٌ،
وغداً في رفيف النوارسِ أمرٌ
مَنْ يقرأ هذا النصّ يقفز الى ذهنه قول امريء القيس (اليوم خمر وغداً أمر) في دعوة الى الأخذ بثأر أبيه"

ويواصل الدكتور مصطفى في هذا الباب قائلاً:
"ويبدو التناص الأدبي مع قول الشاعر سعدي يوسف، إذ يضمن الشاعر عبدالستار نورعلي ثلاثة أشطر من قصيدة ( السبب) لسعدي يوسف من قصيدته (رسالة الى الأخضر بن يوسف)، في قوله:
يا الأخضرُ، أنتَ تعانقُ قريتكَ بعيداً،
من دون صيارفةٍ
وجلاوزةٍ
وأزقة بغدادَ، وباب الشيخِ.
يا الأخضرُ،
ما كنتَ نديمَ صيارفةٍ
وجلاوزةٍ
بل همسةَ نخلِ ضفافِ الشطِّ
وقلوبٍ أرَّقها الطوفانْ.
يا الأخضرُ،
(( لم ترحلْ خوفاً...
فبلادكَ يفتحُ فيها الأعمى عينيهِ
ويموتُ الشعراء ))

وبعد قراءة قصيدة سعدي يوسف تبين لي أنّ هموم الشاعرين متشابهة الى حد بعيد، إذ يجمعهما وحدة الفكر والتصور، والغربة، وحبّ الوطن الذي تركوه من دون إرادتهم، وطن الخيرات والنعم، إلا أنّ المثقفين من أمثال الشاعرين لا يفيدون من هذه الخيرات،"

سيدتي،
هذه الخزانة المُثقلَة بالرفوف المضيئة لزوايا الروح والشعور والحسّ والعقل، هي الثروة التي خرجتُ بها في مسيرتي الطويلة العريضة، وهي التي تمدّني بالدم الذي ينبض في القلب، لمقاومة الأيام بما تحملها منْ أثقالٍ وأغلال وأنواء وعواصف وقصائف، فتتغذّى بها نصوصي حين تتعالق مع نصوص ما مرَّ ومَنْ مرّوا من الذين ذكرتُ، وتتمازج مع أرواحها وأرواحهم وكنوزها وكنوزهم، الحسية والعقلية واللغوية والأسلوبية التي تولدت من حياتهم وأفكارهم وقلوبهم، فانطلقت في صفحاتهم وعلى ألسنتهم وجمرات أناملهم. أظنّ أنه محيطٌ لا قرارَ له، ولن يجفَّ ما دامت الحياة على الأرض، وما دمنا ننهل من ينابيعها الصافية المتدفقة.

عبد الستار نورعلي
الثلاثاء 23 حزيران 2020