حزب العمال الشيوعى المصرى - ضد الأسلوب البورجوازى الصغير فى النقد


سعيد العليمى
2020 / 6 / 21 - 23:45     

من الصعب على أى منا أن ينسي أول مقال كتبه فى حياته الحزبية ، وهذا هو الحال بالنسبة لى مع مقال ”العضوية فى حزبنا ” الذى لخصته نيابة أمن الدولة بعنوان : العضوية فى التنظيم الشيوعى ، وقد ضمه ملف القضية رقم 501 سنة 1973 الرمل المقيدة برقم 65 لسنة 1974 امن الدولة العليا . لم يكن لدينا فى هذا الزمن الباكر سوى نشرة الصراع نكتب فيها ، وكانت تنسخ بخط اليد ( لم يكن جهاز الباندا وهو رونيو يعمل بالكحول موجودا بعد ) ، بما فى ذلك من مشقة وعناء ، ولم نكن قد استخدمنا اسماء اقلام ننشر تحتها مانكتب كما حدث لاحقا ، غير ان ذاكرة الرفاق من الكوادر العليا كانت تعى من كتب وماذا كتب . لقد كانت الوثيقة المذكورة واحدة من المضبوطات فى القضية التى كان المتهمون الأوائل فيها رفاقنا الراحلون إبراهيم فتحى وخليل كلفت وفتح الله محروس وحسين شاهين وسعيد ناطورة ولم يبق من هؤلاء على قيد الحياة سوى جمال عبد الفتاح وعلى كلفت طالت أعمارهما وأنا . ان العدد الثانى من نشرتنا الداخلية الصراع الصادر فى صيف 1972 قد تضمن أيضا مقال : ” ضد الأسلوب البورجوازى الصغير فى النقد ” بوصفه قسما من مقال العضوية ، والحال أنه كان مقالا مستقلا لكنه ألحق به . لم يعرف القرصان ” الثورى ” الذى سطا على موقعى فى الحوار المتمدن سارقا 29 موضوعا أن لكل نص تاريخ وسياق كامل ، وهو أمر لن يغطى الجهل فيه الإدعاء بالتحرر من ذكر الأسماء الحقيقية أو أسماء الأقلام . ,وقد كان مقال " ضد الأسلوب البورجوازى الصغير فى النقد " تطبيقا لمقال رفيقنا إبراهيم فتحى " حول الأسلوب البورجوازى الصغير فى الالعمل السياسي والتنظيمى " فى مجال آخر هو مجال النقد والنقد الذاتى . لقد عانى حزبنا الوليد من هذه الآفة التى تواصلت ومازالت تتواصل فى ظروف أخرى ، مع غياب نضالات الطبقات الثورية الكادحة وغلبة عناصر البورجوازية الصغيرة التى تدافع عن مشاغلها وكأنها قضايا الثورة الكبرى .
ضد الأسلوب البورجوازي الصغير في النقد
دور النقد والنقد الذاتي في التربية الحزبية
يبرز أسلوب النقد والنقد الذاتي كأحد الأسلحة الواجبه في التربية الحزبية ، وأداة لتطوير العمل الثوري ، كسلاح لا غنى عنه لتقدم العمل الحزبي بكافة جوانبه السياسية والتنظيمية والجماهيرية والدعائية ، لتجاوز الأخطاء وأشكال القصور المختلفة وتحصيل الخبرة الضرورية التي بدون استيعابها يستحيل أن يتقدم العمل الحزبي بخطى راسخة حقيقية نحو تحقيق طموحاته في إقامة المجتمع الاشتراكي .
وهذه الأداة شأنها شأن كل أداة وسلاح حزبي تلعب الخبرة دورا هاما في تحقيق أقصى فعالية لها، وأقصى نتائج طموحه لاستخدامها ، إذ لا يمكن التقدم إلى ممارسة عملية حقيقية في أي جانب من جوانب العمل دون التخلص من ممارسة أوأخرى رديئة، دون تصفية الحساب الكامل مع بقاياها السابقة ورسوخها في عقلية الرفاق، ومن الطبيعي أن يكون كل زميل أتيح له أن يطلع على التراث الماركسي اللينيني– بأي درجة مهما كانت قليلة من العمق والاتساع – أن يجد عشرات الإشارات المعروفة لهذه الأداة الحزبية ودلالتها الخطيرة في بناء الحزب وتسليحه بالخبرة الضرورية لتجاوز مشاكله وعقبات نموه في كل طور محدد من أطوار هذا النمو، جنبا إلى جنب بطبيعة الحال مع أسلوب المركزية الديمقراطية الذي يحقق أقصى تفاعل خلاق بين المستويات الحزبية المختلفة، وبين المسئوليات المحددة في كل مستوى بين رفاق المرتبة الواحدة، وبالأحرى بين الحزب ككل .
ولا يمكن أن تجد حدودا قاطعة تقف ممارسة هذه الأداة الحاسمة عند أحد جوانب العمل دون جانب آخر.. بل هي تشبه خطا يخترق الخريطة الحزبية ككل، ويلعب دورا لاحما بين كل جوانب العمل المختلفة. وإذا كانت قولة ستالين الشهيرة ”بعد الخط السياسي فإن الخط التنظيمي يحسم كل شيء“ فإن سلاح النقد يبرز كأداة من أدوات عملنا التنظيمي التي تضع بحزم حدودا وفواصل راسخة بين أسلوبين وطريقتين متمايزتين في أسلوب العمل وقيادته ، أعني الأسلوب البرجوازي الإداري التكنيكي ، والأسلوب الثوري الشيوعي الذي يؤمن بالعمل الجماعي والتكامل الخلاق مع استفادته الكاملة بالإنجازات العلمية في تقسيم العمل والتخصص العلمي، وتنوع الاختصاصات والخبرات، مع تلافي كل آثارها السلبية النابعة من خصائص المجتمع البرجوازي، كالروح الفردية ، اغتراب العمل، الإدارة البيروقراطية، إذكاء روح المنافسة البورجوازية الصغيرة، وأخلاق وقيم الاستغلال الرأسمالي بكل تشوهاتها وقمعها لصبوات الإنسان وحاجاته الروحية والمادية. ومن ثم فإن الحزب الثوري الذي يناضل من أجل قمع وقلب المجتمع البورجوازي، عليه أن يعرف كيف يفيد بجسارة من كل ما هو علمي وتقدمي من إنجازات هذا المجتمع، وأن يتجاوز بحزم كل سلبيات وتشوهات هذا المجتمع المنهارة.
إن الحزب الثوري – يمثل بمعنى من المعاني المجازية – نواة المجتمع الاشتراكي المقبل . يصنع قيما جديدة وأساليب جديدة وروحا خلاقة ملهمة وعظيمة، بدونها يستحيل عليه أن يحقق حلمه المنشود في خلق شروط أكثر إنسانية بما لا يقاس ، في خلق المجتمع الشيوعي الذي يحقق التفتح الإنساني الحقيقي بأوسع معنى .
وتكمن المشكلة الحقيقية دائما في الممارسة العملية الثورية بأوجهها المختلفة، والتي ينمو الحزب عبر معاناة حل مشاكلها التي لا تكف عن البروز، بالحزب الشيوعي الذي يولد كفكرة نبيلة ومبدأ راسخ في عقول حفنة من المؤسسين عليه أن يدمج المئات والآلاف من الأعضاء الطليعيين، وأن يصنع المستويات، وأن يطبع الجرائد والنشرات، وأن يقود المعارك المنظمة، وأن ينظم ويرشد الحركة العفوية حتى يصل بوعيه الثوري إلى الطبقة العاملة والطبقات الحليفة. ويشكل منهم جيشه الجرار الذي تصعب هزيمته، وقبل ذلك وأثناءه ، ولكي يتمكن من إنجاز هذه العملية ، وفي سياق معاناة قيادتها اليومية يخلق القادة ، والزعماء والكادر والأعضاء الطليعيين والأنصار المقربين ويحمل لهم أعلى خبرة ممكنة ، ويخلصهم من جوانب قصورهم التي ورثوها من أحشاء المجتمع البورجوازي – وراثة شرعية وطبيعية على ما بها من تشوهات – وفي هذه العملية يحتل سلاح النقد مكانا بارزا في سياق العمل النضالي، والفعل الثوري هو الجسر أو المعبر الوحيد لتغيير المناضل، ولا يمكن بالتالي الحديث عن سلاح النقد إلا كضرورة عملية – كسلاح لا يمكن استخدامه وتطويره إلا في سياق العمل . فالعمل الثوري لا يشتبك فقط مع الطبقات الرجعية ومؤسساتها القمعية وأسلحة دعايتها الرهيبة ، بل مع كل الخصائص الموروثة ، والتشوهات داخل رفاق السلاح أنفسهم ، رفاق الحزب وكوادره وأعضائه الذين يمثلون – كأمر مفترض – أعلى وعي في المجتمع .
ومن هنا فإن الخبرة الثورية التي تأخذ طريقها إلى الرسوخ والتراكم عبر نمو وتقدم النضال الحزبي ، تعطي لنا الكثير أيضا في مجال التربية الحزبية ، وفي مجال نقل المبادئ المرشدة من فردوس الأفكار والطموحات النبيلة إلى العالم الأرضي المليء بالمنغصات اللعينة. إذ ليست الممارسة الثورية ، ممارسة تحدث في معمل ثوري معقم ، نقية من كل جراثيم الآفات البورجوازية ، بل هي في اشتباك دائم مع هذه البورجوازية ، وتعمل في مناخ صنعته وشبعته بكل قيمها الخبيثة، من روح فردية، وذاتية، وتفتت روحي، وأنانية ليس لها حدود، لذلك لا يمكن أن نعجب من بعض الرفاق الذين يحملون بين جنباتهم الكثير من آثار هذا المجتمع الرديئة، بل ينبغي معالجتها بصبر وأناة ودأب بروليتاري حقيقي، وشعور عميق بالمسئولية ، مسئولية من يتصدون حقيقة لأشد وأشق عملية هدم وبناء يقوم بها المناضل الثوري . وتحتل هذه العملية الطويلة شأنها شأن كل جوانب الممارسة الثورية بالمعاناة والتعقيد، وبالإيجابيات العظيمة ، أو المحدودة ، بالأخطار الصغيرة أو الكبيرة ، وليس ثمة مشكلة في أن تكون هناك أخطاء ومظاهر سلبية عديدة لعملنا شرط الانتباه الجيد لها والعمل المسئول على تجاوزها وعلاجها.
ونبدأ من الفكرة البديهية القائلة بأن الحزب هو تجمع من البشر يحملون طموحا نبيلا وإرادة قوية على تغيير هذا المجتمع الآسن ، ومن ثم فإن المهام المنوطة والأهداف التكتيكية والاستراتيجية المطلوب الكفاح من أجلها سيقوم بها هؤلاء البشر أنفسهم والبشر الآخرين ممن سيتم جذبهم إلى ساحة النضال الشيوعي، ومهما تكلمنا عن تقسيم للعمل وتخصص وتوزيع لمهام وتكليفات متباينة فإن هذه الأشياء لن تقوم بتنفيذ نفسها، بل سيقوم بها رفاق محددين في تقسيم عمل وشروط محددة، ويملكون استعدادا ومواهب وقدرات محددة ، وبالتالي فإن نجاح أي مهمة مرهون بالمهام – إمكانيات مادية وفكرية تكفل لهم إنجازها.. وبالتالي فإن فشل مهمة ما في مسئولية ما إذا اقتربنا من قاموسنا الحزبي أكثر يحدده عناصر مختلفة، ولعل أخطر هذه العناصر هو البشر أنفسهم غير معزولين عن شروطهم بطبيعة الحال. فإذا كلف زميل ما بمسئولية معينة – كفلت لها كل الشروط المادية المتاحة وبذل فيها كل ما في وسعه.. ثم لم يحقق تقدما ملموسا في حيز زمني واقعي يكون من الواجب البحث عن أسباب هذا الفشل المحددة، فإذا كان يرتهن بمواهب الزميل ذاته واستعداده وخبرته وجب البحث عن من هو أكفأ لتحقيق المهمة المحددة، وإلا فالبحث عن كافة الجوانب الأخرى للزملاء المنوط بهم أقسام مساعدة أساسية في إنجاز المسئولية – مسئوليات أخرى متلاحمة تساعد على الإنجاز – عقبات فنية ، وفي كل الحالات لا ينبغي أبدا الإسراع في إطلاق الأحكام القاطعة ، وتقديم النقد السهل أو التهكم اللاذع ، إذ أن إجراء مقارنات ضارة بين موهبة هذا الرفيق أو ذاك ، يكون تعسفا بشروط واقعية ، ولا تقدم مساعدة أبدا على استيعاب هذا الرفيق لخبرة فشله المحدد، وتمنحه القدرة على تمثل وسبر غور جوانب قصوره المعينة. والنقد ليس قيمة في حد ذاته ، بل وسيلة فعالة ، جسر للعبور إلى وضع أرقى وأكثر تقدما ، وكثيرا ما يؤدي النقد البورجوازي الصغير إلى تأثيرات ضارة بل فادحة الضرر.
والمشكلة الحقيقية ليست في إدراك مدى أهمية سلاح النقد. فكيف يستخدم هذا السلاح استخداما رشيدا ؟ بروح المسئولية النابعة من الرغبة العميقة في التقدم بهذا الرفيق أو ذاك ، والحرص عليه كل الحرص، وإذا ما قدم النقد بصورة جديدة ومسئولة فغالبا ما يؤتي بثمار عظيمة لن يقتصر أثرها على الرفيق المحدد فقط ، بل ستنعكس آثاره إيجابا على الرفاق ككل .
وبطبيعة الحال فإن أسلوب النقد وتقديمه يخضع لدرجة الوعي التى يحظى بها الرفيق الذي يقوم بهذه المهمة. إذ لا ينبغي فحسب أن يكون بارعا في استنتاج النتائج القاطعة والأسباب العامة لتدهور المسئول المحدد، بل أن يفهم شروط المسئولية. وشروط وخصائص المسئول المحدد موضع النقد.. فكلمة ” ذاتي – ضيق الأفق – جامد التفكير“ كلمات كثيرا ما ترددت في قاموسنا دون أن تفيد أحدا في الواقع، فالإنسان الأكثر ذاتية يكون أحوج لرعاية تربوية من نوع خاص، فربما يكون بارعا في استعداء الآخرين عليه لغطرسته واستفزازهم بالنجاح "المجيد" مشيحا للأنظار عن كل ظروف فشله ، ماعدا نقد نفسه، ومع ندرة هذا المثال المتطرف ، إلا أنه يعلمنا درسا مفيدا، فنقد هذا الرفيق كثيرا ما يكون عملية شاقة جدا، وأفضل شيء دائما – إضافة الجهد الرفاقي الجماعي – هو أن يتولاه أحد الرفاق القريبين منه ، يكون قد نال صداقته الأعمق وثقته ، كما لا يجب مراكمة الأخطاء له وتفجيرها مرة واحدة ، بل ينبغي نقده في كل واقعه وخطأ محدد أولا بأول ، إذ أن تراكم الأخطاء وطول السكوت عليها كثيرا ما يكون عملية غاية في المشقة حال التصدي لها، بينما مواجهتها أولا بأول يجعلها أسهل بما لا يقاس ، كما أن الرفيق الأقرب له سيكون دائما الأقدر على اختيار اللحظة المناسبة لهذه العملية ، وفهم الشروط النفسية التي يخضع لها إذ لا يعقل أن تكون لحظة النقد بالذات لحظة، يكون الرفيق فيها يعاني من محنة شخصية فاجعة على سبيل المثال. لذلك فإن تفهم الشروط العامة والخاصة يكون ضروريا للقيام بهذا النقد، بل قد يعدل كثيرا من الطريقة التي ينبغي بها أن يقدم له هذا النقد، إذ أن التذكير بالجوانب الإيجابية يكون ذا وزن حاسم في نقد الجوانب السلبية ، وإلا فإن سهولة النقد السريع قد تجعل الرفيق أكثر مناورة وتدفعه لعداء شخصى، فمرتكزه أن الآخرين لا يذكرون سوى سلبياته فحسب، ويطمسون كل ما هو إيجابي في عمله، وربما حمل مرارات أليمة تضع سورا يصعب عبوره، وجدارا يصعب اختراقه. وتعلمنا الخبرة أنه لو وجدت أن زميلا بادر زميلا آخر بنقده ، وكانت بينهما أية تراكمات أو مشاحنات شخصية، فأيا ما كانت الجماعة السياسية للزميل الأول، فإن الثاني لن يسمح له أبدا، بل على الأغلب سوف يؤتى ذلك بنتائج عكسية ضارة – تقطع الطريق على الآخرين للقيام من جديد بنفس الجهد السابق، وتصعبه إلى حد بعيد، وقد تجد مستوى لأحد اللجان القيادية يدأب على السخرية الشديدة من أخطاء بعض الرفاق، أو يعقد مقارنات بينهم، أو اهتم بإبراز تفوق ما لدى زميل بشكل خاص ليس عن محاباة خاصة ، ولكن عن إعجاب حقيقي بمكان هذا الرفيق وكفاءته ، إلا أنه دون أن يقصد أو يدري، يصنع جوا رديئا من روح التنافس والأحقاد الشخصية ، قد يعرض الزميل المتفوق ذاته إلى متاعب حقيقية مع رفاق نفس المستوى، ويضع العراقيل أمام تلاحم المستوى كله ببعض، ويعتاد الرفاق على أن أحدا سواه ليس من حقه توجيه النقد إليهم ، فالمسئول هو دائما الأولى بالتأكيد.. ورغم كل حماس وكفاءة هذا المسئول، إلا أنه يكون قد وضع دون أن يدري – عراقيل تفتت المستوى الذي يقوده وخلق جوا من المشاحنات التافهة التي لا تنتهي ، وساعد أكثر على إبراز أردأ الجوانب حتى في الزملاء المتقدمين الذين كثيرا ما يسرعون إلى التشبه بالمسئول، ويأخذون منه نغمة التهكم على الآخرين والاستخفاف بهم وبإنكارهم دون أدنى شعور بالمسئولية أو الرغبة في تقديم المساعدة لهم على تجاوز أخطائهم المحددة . كثيرا من الزملاء الذين قرأوا لينين، قد اقتنعوا وافتتنوا أشد الافتتان بأسلوبه الجدالي وحدته اللفظية الشديدة، وتهكمه اللاذع على أفكار الخصوم السياسيين، وبالطبع لم يعملوا ذهنهم بصورة كافية في فهم منطقه ومنهجه وخصائص طريقته الأشد عمقا من مجرد استعمال بضعة ألفاظ حادة، فكلما وجدوا رفيقا لهم يسقط في خطأ ما أو يعمل بطريقة ربما تفتقد إلى الخبرة، تجدهم ينطلقون كالبوق بسيل من الحدة وتوصيف ذلك بأعنف الألفاظ ، والتي لا تخلو من التهكم غير اللائق بطبيعة الحال ، وهؤلاء مقلدين سطحيين ورديئين للينين بطبيعة الحال، فباسم الحزم الواجب والشدة والتمسك بالمبدئية، يشنون هجومهم العاصف متذرعين بضرورة النقد والتمسك بالتقاليد اللينينية، دون أن يدركوا مغزى طريقة لينين في التعامل أولا مع خصوم سياسيين يطرحون أفكارا خطيرة وذات وزن هائل في التأثير على مستقبل الثورة كلها، ومستقبل الطبقة العاملة في قضايا من أخطر القضايا التي مرت بها، وثانيا، ضد خصوم لم يتورعوا عن استخدام كل سبيل منحط لحصار لينين وحزبه منذ وجد في بداية القرن الحالي، واتهامه بغية القضاء على أفكاره – بكل الاتهامات الرهيبة، ثم إن هؤلاء الخصوم لم يكونوا خصوما قليلي الشأن، يتبنون أفكارا صغيرة خاطئة، بل زعماء نظريين وسياسيين وفلاسفة وقادة أحزاب تحدد مصير الثورة ( كاوتسكي- بليخانوف– تروتسكي) أي لم يكونوا رفاقا ضعيفين للينين أو للثورة – في فترات كثيرة – بل أعداء لها ولمنطقها، ولم يمتنعوا في ذلك السبيل عن استخدام كل وسيلة ممكنة منها تشويه النظرية الماركسية ذاتها، والأهم من ذلك والأشد خطورة أن لينين لم يقف أبدا عند حد التهكم أو البراعات اللفظية ، بل كتب كتبا وكراريسا ومقالات ضافية ، يساجل فيها أفكار خصومه ومنهجهم كاملا بكل عناية ومسئولية من يتصدى لقيادة ثورة مهددة ولم يكن هدفه مجرد إقناع هؤلاء الزعماء بالارتداد عن منطقهم الخاطئ والضار، بل الدعاية الواسعة لمنطق البلاشفة الثوري، وإقناع كافة الجماهير به وكذا الطلائع الثورية، وكانت تلك الحرارة والغضب الشديد اللاهب في بعض كتاباته أمرا ضروريا.. إذ لم تكن أفكار لينين عميقة وراسخة كما هو الحال الآن.. بل كان يضع ويرسخ الخبرة الثورية الماركسية اللينينية نفسها.. كان يؤسس هو وحزبه علم الثورة اللينيني .
وقد يرى البعض أن هذا غير مقنع بما فيه الكفاية ، ويجدون لينين أحيانا ما يستخدم أيضا لهجة قاسية مع رفاقه الأقربين أعضاء لجنته المركزية.. فقط عليهم أن يتعمقوا في فهم أفكار هؤلاء الرفاق وتنظيراتهم في قضايا الثورة.. وسيجدون مبررا راسخا إزاء خطورة القضايا التي كان يقف لينين بكل هذا الغضب والحمية إزاءها، وخاصة وأن حزب لينين لم ينشأ حول أفكار لينينة جاهزة ولم ينصهر قادته في بوتقة الخبرة اللينينية للوهلة الأولى ، بل نشأ من فرق وأجنحة وتيارات، ظل لها أثرها ومشاكلها وتبايناتها وتكتلاتها داخل البلاشفة أنفسهم لزمن طويل، حتى أن بعض هذه الآثار جرى حسمها في فترة ستالين بأعنف وأقسى الأشكال التي لم تكن حتمية بحال.
فهل يعتقد البعض أن التخلي عن هذه الطريقة الهجومية العاصفة على أخطاء بعض الرفاق والتي غالبا لم يجهدوا أنفسهم كفاية في فهم دوافعها وأعمق أسبابها.. يعنى أنهم ( ابتعدوا عن الحزم اللينيني والروح الحزبية أو جنحوا نحو طريقة دبلوماسية برجوازية ضارة ! ) إن أولئك الذين يفكرون على هذا النحو يسيئون جدا فهم ومغزى عملية النقد والنقد الذاتي.. بل قد نجد بينهم أشد الرفاق ”ذاتية“ وبعدا عن جوهر اللينينية ، ومن يندفع في تلك الطريقة في النقد بهدف إثبات ذاته هو ” بورجوازى صغير ” لا غير.إن على الرفاق فقط أن يفكروا في لماذا نوجه النقد ؟ أي ماهو الهدف المحدد منه ، وما هو نوع الخطأ الذي يتعرضون له بالنقد ، وخصائص ونوع الرفيق المحدد الذي ننتقد سلوكياته أو أفكاره ، وعند ذلك وبهدف المساعدة الحقيقية سيبذلون جهدا أكبر بالتأكيد من مجرد التشدق الببغائي والتقليد الرديء، والتتلمذ البليد على يد لينين الذي سيسيئون له ولمنهجه أشد الإساءة .
ولمزيد من التوضيح ، فإن أي نقد لا يستهدف أبدا مجرد التعرض لمظاهر عرضية خاطئة هنا أوهناك ، بل يبحث عن الأسس والجذور الحقيقية الكامنة وراء هذه الظواهر المحددة في عملية مترابطة مع كل الشروط الأخرى العامة ” الحزبية “ ” والخاصة “ بالزميل المحدد موضع النقد ، ثم عبر ذاك بالتأكيد – سيجد الطريقة الأنسب لتقديم هذا النقد الذي لا يقف عند حد أخطاء ، ومظاهر لسلوك زميل ما بل اجتناء الخبرة الأعمق المفيدة لحزبنا ككل.. وكم يكون أمرا مبدئيا وعميقا أن يصل الرفاق – ولو بمشقة أكثر – بهذا الزميل نفسه إلى تقديم النقد الذاتي الضروري وطرح تلك الخبرة الثورية أمام الجميع .
ويتوهم بعض الرفاق أن الحزب الثوري خالٍ ومنزه من التعقيدات والمشاكل ، ولكون خبرتهم بالرفاق محدودة جدا، وبالحياة أيضا في أغلب الأحوال ، فإنهم قد يندهشون أو يذهلون من بعض المظاهر اللاأخلاقية ، أو التي تتنافى مع المثل الشيوعية ، والأخلاق البروليتارية ” المثلى“ عند هذا الرفيق أو ذاك ، وكثيرا ما يكون رد فعلهم الذي تحكمه قلة الخبرة والنضج سيئا جدا وعنيفا وشديد الضرر بالطبع، إذ يرون هذا الزميل ” أناني – ذاتي – يحابي نفسه“ .. هذه الصفات الأخلاقية الحادة ، وربما ينفرون من سلوكه إلى درجة تمنعهم من مقابلته أو رفض أي حوار معه ، ويتوهمون أن روح الشر قد تجسدت فيه ، بل ويعملون ذهنهم للبحث وراء كل شئ عن دافع رديء بل وحتى إزاء الأعمال الإيجابية التي يقوم بها !! إنهم في الواقع يصبحون معادين له – ولايمثل هذا انتقاد ثوريين حقيقيين ، وبالمثل تأسرهم الجوانب الأخلاقية في زملاء آخرين، ويصبح الحزب في نظرهم شيوعيين حقيقيين وآخرين زائفين ينبغي على الحزب أن يجد الوسيلة للتخلص منهم قبل أن تستشري عدوى أمراضهم إلى الجميع . وتكون بالطبع المصيبة أفدح إذا لم تقف هذه الرؤية عند أولئك الأفراد النادرين، بل قد يقع في أسارها آخرون يتحمسون لوجهة النظر هذه مما يخلق جوا مرضيا وعدائيا تجاه هذا الرفيق أو ذاك بشكل يجعل معالجة أخطائه غالبا مسألة شديدة الصعوبة، فضلا عن أن هذه الطريقة ” الأخلاقية التطهرية“ المثالية تدفع بأولئك الزملاء المنتقدين على هذا النحو إلى مزيد من التماسك على الأخطاء، والتورط في الدفاع عنها كرد فعل مقابل إيذاء شعورهم بالاستعداء والازدراء من الآخرين ، بينما لو تمت المواجهة الثورية المسئولة لهذه الأخطاء في حينها بروح المساعدة الرفاقية سيكون الأثر إيجابيا بطبيعة الحال، إن على أمثال هؤلاء "النقاد الرومانسيين" أن يفهموا شيئا واحدا، وهو أن المجتمع البورجوازي لا تفرخ معاملة شيوعيين أقحاح متطهرين من كل أدرانه، بل إن العمل الشيوعي وحده ، والروح الرفاقية في التربية المتبادلة هي السبيل الوحيد إلى وجود أمثال هؤلاء الشيوعيين. وعلى سبيل المثال، قد يقرأ البعض مقالا جيدا لرفيق، وإذا بهم بدلا من الإشادة الواجبة بالجهد الإيجابي المقدم – يعملون على البحث والتنقيب عن كل جانب مهما كان ضئيلا وغير ذي أهمية، يقلل من هذا الجهد، وبالطبع يقول بعضهم المفروض إخراج المقال في "أفضل صورة".. حسنا ولكن إذا كان النقد يفهم على أنه نقد الجوانب الجزئية – غير الموهوبة – فقط ، دون وعي وإدراك ما هو إيجابي وأساسي.. فهو ليس نقدا، وباسم "الكمال المطلق" بل وبرغمه سيكون "مماحكة تافهة" لاتؤدي إلا إلى العرقلة. وإذا ما واصل هؤلاء الرفاق "النقاد" السير بنقدهم ” ضيق الأفق“ ! من منظور التطابق مع مفهوم مثالي لا يوجد حتى في كل الأدمغة بذات الشكل فإنه يؤدي في الواقع إلى عرقلة إسهامات مفيدة في العمل الحزبي . وهناك أيضا بعض النقاد الأردياء ، يملكون مهارة استثنائية ، فهم لا يصارحون الرفيق بنقدهم التربوي ، بل يؤثرون اغتيابه من وراء ظهره ، ويفيضون بالثرثرة بهذه الانتقادات مع كل الرفاق ، ما عدا الرفيق المنتقد بطبيعة الحال ، بل ويضعون في "مفكرتهم" الخاصة كل الأخطاء الصغيرة بجانب الكبيرة، ويحشون جعبتهم، قافزين على الفواصل بين إساءة الفهم – وأحيانا سوء النية – والأخطاء الحقيقية. ولكون الرفيق لا ينتقد مباشرة على الإطلاق بشكل مبدئي.. بينما تتم محاكمته على حلقات دون دفاع منه، أو توضيح منه أو نقاش معه، ويفاجأ ذات صباح – وغالبا ما يصله ذلك في النهاية – بمناخ رديء قد عبئ كفاية في مواجهته ، وأصبح عليه أن يدافع غالبا عن أشياء لا يعلمها أولا يذكرها أوعن شئ محتمل ليس غير، وبالأحرى تصبح هذه الخصال الرديئة سببا في تدهور العلاقات بين بعض الرفاق – بحيث يصعب جدا التفاعل الرفاقي، بينما في الواقع لم تقدم للرفيق ولا للحزب أية خبرة من أي نوع تفيد في تطوير فاعليته وكفاحيته ، وهو في الحقيقة جوهر وهدف كل نقد .
ولذا فإن ما سلف لا يقدم نقدا حقيقيا ، وبالأحرى لا يتجاوز كونه ثرثرات فارغة ، وإسقاطات شخصية، تتولد أحيانا – لا دائما – عن مشاحنات خاصة ، ومن ثم لا معنى لها .
وفي مناخ كهذا، فباسم "الحزم الواجب" كثيرا ما يقع بعض الرفاق في نزعة إدارية شكلية تسيء استخدام سلاح النقد بعيدا عن جوهره . وذلك دون أن ينتبهوا إلى حقيقة بديهية وأساسية ، وهي أن الرفاق الذين يرتضون لذواتهم الاختيار الحر الواعي والتضحية بأي طموح فردي بورجوازي ، ويضعون جماع ذواتهم في خدمة قضية الثورة، إنما يفعلون ذلك بهدف الوصول إلى أرقى وضع وشرط إنساني يتحقق من خلال المجتمع الاشتراكي . وإنهم ما لم يشعروا بأنهم جزء من هذا " الكل الحزبي" وبدرجات عظيمة بالتعاون وبالثقة وبالتفاعل الخلاق ، بين الرفاق أنفسهم، فإن ثقتهم يمكن أن تهتز بها المستقبل الواعد – هذا الاهتزاز الذي يرتدي أشكالا مختلفة من الانسحاب والإحباط والارتداد . والتفاعل الرفاقي المبدئي لا يمكن أن يكون التواطؤ مع الأخطاء وتفادي النقد ، فلن يكون هذا سوى نزعة ليبرالية مدمرة. فما نتطلبه هو النقد المسئول البنائي المرادف لتطوير كفاحية الحزب، وهو النقد الذى يضع الرفاق أمام جوانب القوة فيهم في مواجهة عناصر القصور التي ينبغي الخلاص منها. إن الرفيق الذي يتم احتضان إيجابياته ، سوف ينصت لأي نقد، بقلب وعقل ووجدان حقيقي، وسيرغب في تسهيل كل مساعدة رفاقية تقدم إليه، بل وسيسعى جادا للحصول على هذا النقد من رفاقه الغيورين على مساعدته حقا، وعلى تطويره ، وعلى دفع عملهم وحزبهم خطوات كبرى للأمام .