قضية معقدة... تناول سطحي! (انتحار المناضلة سارة حجازي، بضع كلمات حول حقارة الفكر البرجوازي!)


توما حميد
2020 / 6 / 19 - 17:10     

لم اسمع من قبل عن سارة حجازي. يمكن ان يكون ذلك لقلة معلوماتي. ولكن علمت من وسائل الاعلام الرسمية ووسائل التواصل الاجتماعي بان مناضلة شابة مصرية بهذا الاسم أقدمت على الانتحار في منفاها (كندا) يوم الاحد المصادف 14 حزيران.
من المحزن ان يضطر انسان، أيا كان، على الانتحار. كل انتحار هو مأساة وعادة ما يؤثر على عدد كبير من الناس وأحيانا على مجتمع بكامله، وعادة ما يكون له آثار طويلة الأمد على الناس المحيطين بالشخص المنتحر. لابد ان موت سارة بالذات سوف يترك أثر على عدد كبير من الناس لان كل المعلومات المتوفرة تدل بانها كانت مناضلة وانسانة "غير عادية"، وحتى الرسالة القصيرة التي تركتها قبل الانتحار تدل انها كانت انسانة في قمة الرقي.
فبعد ان نفذت كل الخيارات امامها، ولم يبقى الا الانتحار بسبب الهمجية التي عوملت بها، تطلب السماح ليس من اخوتها واصدقائها فحسب، بل من العالم الذي تصفه بالقاسي ايضا. ما هز مشاعري وجعلني اكتب هذه الاسطر هي الكم الهائل من الآراء الحقيرة والمتخلفة والفظة التي ملئت وسائل التواصل الاجتماعي بحقها، ليس من التيار الديني فحسب، بل من قسم كبير من "العلمانيين" و"المتمدنين"!!.
على سبيل المثال تقول سيدة اكن لها الاحترام، ليس لها أي من المؤهلات التي تمكنها من ان تتحدث في موضوع معقد وشائك مثل الانتحار، ما يلي:
"الانتحار ليس شجاعة، الانتحار قمة الياس والفشل وعدم الثقه بما يناضل الانسان من اجله. لماذا يتحول الناس ابطال لا اعلم؟ انتحرت وتتحول الى بطله عجيب غريب؟!!!" وتضيف هذه السيدة في الرد على التعليقات على حكمها هذا "الانتحار مرفوض سواء ملحد او مثلي او شيوعي او اي انتماء اخر نحن بحاجه الى ان يبقى الواعين والابطال والمثقفين معنا من اجل التغيير، لا من اجل الاستسلام والانتحار" ، " كل ما مرت به لا يعطيها الحق بأنهاء حياتها ولا يعطينا الحق بالتشجيع على الانتحار، وبالذات انتحار النساء مرفوض تماما، لن نعطي فرصة الفرح لإعدائنا بانهم اوصلونا الى الانتحار، بقاءنا رغم كل ما يعرضوننا له انتصار كبير عليهم، لكن الاستسلام وتحت شعار الانتحار هزيمه لكل تاريخها النضالي". "لكن ادراج الانتحار ضمن صفات المرض لأنصاف المنتحر هذا استسلام أكبر"، "كلما تم تشجيع الانتحار كلما شاركنا بإقناع الناس به، علينا مواجهة كل الظروف وقسوتها". وقد أصرت على هذه الآراء رغم التعليقات التي نبهتها بانها على خطأ ومن اشخاص ذوي اختصاص.
بدءاً، انا اعتبر نفسي من بين اؤلئك الناس الذين ينشدون عالماً اكثر انسانية، وهذا لا يأتي الا بالتشمير عن السواعد ومقاومة هذا النظام الراسمالي المقلوب، لايأتي الا بالاصرار والارادة الموحدة والواعية لجموع البشر. وللانصاف، نرى هذا الامر ايضاً وان يكن هامشياً بين ثنايا المقتطفات والتصور الخاطيء.
ولكن ان ننتهز وفاة شخص لألقاء اللوم عليه/ها بغض النظر عن سبب الوفاة وظروفه هو امر غير انساني الى اقصى الحدود. لا افهم كيف يمكن لأنسان ان تكون مشكلته مع الشخص الذي يقدم على الانتحار وليس مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي يخلقها المجتمع للفرد المنتحر. ان قضية البشرية هو محاربة كل الظروف التي تجبر سارة وغيرها على الانتحار. مشكلتنا هي عدم وجود شخص او جهة تساعد شخص يمر بوضعية تجبره على الانتحار مثلما حدث مع سارة؟ اذ يسبق معظم حالات الانتحار علامات تحذير لفظي أو سلوكي من الشخص الذي يمر بوقت عصيب جدا قبل الانتحار. والانتحار بالذات يهز المشاعر الانسانية لأنه عادة ما يكون غير متوقع والانتحار يسبقه شعور ساحق بالضيق ومشاعر سلبية شديدة للغاية وانسداد كل الخيارات امام الشخص بحيث تصبح الحياة لا تطاق. في مواجهة انتحار انسان، يجب ان نشعر كلنا بالخزي بدلا من ننقد المنتحر.
إذا أطلق شخص له موقع في المجتمع راي مثل الآراء التي أوردتها، في بلد متحضر سوف يجبر على الاستقالة ويفقد وظيفته بدون شك. لان مثل هذا الكلام يدل على عدم حساسية منقطعة النظير تجاه مشاعر الاخرين وإنقاص من انسانيتهم. ينتحر ما يقارب 800000 شخص كل عام حول العالم. ولكل شخص ينجح في الانتحار، هناك عشرين محاولة انتحار فاشلة، أي ان 16 مليون انسان يحاول الانتحار سنويا. ويعاني 10.7% من سكان العالم، أي 792 مليون انسان، من امراض نفسية، والكثير منهم تراوده أفكار انتحارية على الاقل في مراحل معينة. ويصاب ما يقدر بنحو 17.3 مليون بالغ في الولايات المتحدة أي 7.1% بنوبة اكتئاب واحدة على الأقل في حياتهم، ومعدل القلق هو اعلى في المجتمع بمرات والكثير من هؤلاء تراودهم أفكار انتحارية في فترات معينة ايضا. ويقوم أكثر من 40 ألف امريكي بالانتحار سنويا. وكان الانتحار ثاني أكبر سبب للوفاة في الفئة العمرية 15-29 عامًا على مستوى العالم في 2016.
ان المنطق الذي يصف هؤلاء كلهم بقلة الشجاعة ويحملهم مسؤولية الانتحار يرتقي الى منطق النازيين الذي دعوا الى التخلص من المعوقين او يدعون الان الى التخلص من كبار السن. لحسن الحظ ان البشرية بدأت تتخطى هذا التفكير الذي عفا عليه الزمن. لذا تجد بان منظمة الصحة العالمية والسلطات الصحية في مجتمع مثل المجتمع الاسترالي مثلا تجعل من تقليل نسبة الانتحار أولوية رغم كل المشاكل التي تواجه جهودهم في ظل النظام الرأسمالي. ولنفترض صحة الادعاءات التي تقول بان الانسان الذي يفكر بالانتحار او الذي ينتحر هو شخص "غير شجاع"، "يائس" وضعيف الارادة، فهل من الشهامة والإنسانية وهل يعقل ان ننتقد الشرائح "الضعيفة" في المجتمع ونصدر احكام قاسية ضدهم؟ ان مدنية أي مجتمع تقاس بمدى اهتمامه بالشرائح "الضعيفة" فيه.
من الناحية السياسية، ان هذا النوع من الكلام هو كلام اقصى اليمين البرجوازي. حتى في الدول المتقدمة يطلق التيار اليميني- النيو ليبرالي الذي يتحدث كثيرا عن "المسؤولية الشخصية" والذي يفسر الفقر، التشرد، الامية وقلة التعلم، البطالة، الامراض النفسية والانتحار الخ على أساس كونها مسائل فردية متعلقة بشخصية ونفسية وارادة الفرد. كيف سيفسر نظام متعفن ظاهرة بهذه الضخامة؟ طبعا عن طريق القاء اللوم على الفرد!
ان اهم دليل على كون مسالة الانتحار هي مسالة النظام والمجتمع هي حقيقية ان 79٪ من حالات الانتحار العالمية حسب منظمة الصحة العالمية، تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. بالإضافة إلى ذلك، فإن مواجهة النزاع أو الكارثة أو العنف أو سوء المعاملة أو الفقدان والشعور بالعزلة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسلوك الانتحاري. كما ترتفع معدلات الانتحار بين الفئات الضعيفة التي تعاني من التمييز مثل اللاجئين والمهاجرين، السكان الأصليين؛ الأشخاص من المثليات والمثليين، مزدوجي الميل الجنسي، مغايري الهوية الجنسانية، حاملي صفات الجنسين والسجناء. إن الشباب من المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية هم أكثر عرضة لخطر التصرف بناءاً على أفكار انتحارية من غيرهم نتيجة للتمييز الهائل الذي يتعرضون له حتى في الدول المتقدمة. من المهم أن نفهم أن الحياة الجنسية أو الهوية الجنسية للشباب ليست هي التي تؤدي إلى الانتحار. إن تجارب التمييز والتحيز والعزلة ورفض الأسرة لهم بسبب نشاطهم الجنسي هي التي تزيد من خطر الانتحار. وقد ثبت أن قبول الأسرة والمجتمع يحمي من الاكتئاب، والسلوك الانتحاري، وتعاطي الكحول والمواد المخدرة، وتعزيز احترام الذات والصحة العامة. الأهم من كل هذا ان معدل الانتحار مثل الامراض الاجتماعية الأخرى يزداد مع صعوبة الاوضاع الاقتصادية وتفكك الأواصر الإنسانية والمجتمعية والعائلية. كل هذه المعلومات تدل ان الانتحار هو بشكل عام مسالة مجتمعية أكثر مما هي فردية.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يجب الاشارة الى امكانية منع حالات الانتحار من خلال التدخلات المناسبة في الوقت المناسب والقائمة على الأدلة، وغالبا ما تكون منخفضة التكلفة. غالباً ما تكون مخاطر الانتحار المتزايدة قصيرة المدى ومحددة الحالة، ويمكن منع الانتحار بالوصول إلى الدعم في الوقت المناسب، ويمكن ان يعود الشخص الى نمط المعيشة الطبيعي. ولكن رغم هذا أدرجت دول قليلة فقط الوقاية من الانتحار ضمن أولوياتها الصحية، ولدى 38 دولة فقط استراتيجية وطنية للوقاية من الانتحار.
من الناحية الطبية، ليس لهكذا تقييمات اي اساس علمي. الانتحار هو مسالة اجتماعية وصحية معقدة وخطيرة جدا، ويتطلب ابداء الرأي فيها دراية واسعة بعلم النفس وعلم الاجتماع. لا يمكن للمختصين الذين يقضون عشرات السنين في هذا المجال من ابداء رأي حول "شجاعة" و"جبن" و"نرجسية" الاشخاص الذي يقدمون على الانتحار، لسبب بسيط لان هذه الظاهرة هي معقدة وشائكة جدا والانسان هو بحد ذاته كائناً معقداً. اذ تجد الكثير من الذين فشلوا في الانتحار أكثر الناس تفاؤلا وقائدا في المجتمع في اعوام لاحقة، وان الكثير ممن يقدمون على الانتحار ويفشلون، يؤدون حياة ناجحة وقد يكونوا اناس بارزين، اي لا يعانوا من أي "ضعف في الإرادة". من جهة اخرى، ان قدرة الشخص على مقاومة الضغوطات والظروف الصعبة تختلف من وقت الى اخر. كما ان معظم المهارات التي تساعد الانسان على التعامل مع المصاعب والضغوطات هي مهارات يمكن كسبها، ولكن للإنسان بشكل عام حد من التحمل، إذا تخطاه، سوف ينهار، وقد يقدم على الانتحار.
تدل الدراسات ان الحديث عن الانتحار لا يشجع الاخرين على الانتحار، بل العكس يقلل خطره. انتحار شخص لا يشجع الناس على الانتحار. الانتحار هو ليس تجربة بسيطة مثل تعاطي الماريوانا مثلا لكي يقدم عليه الانسان ببساطة بمجرد ان شخص أقدم على الانتحار او لان هناك نقاش حول الانتحار. في الغالب، يلجا الانسان الى الانتحار فقط عندما تنقطع كل السبل امامه، ويصبح الألم لا يطاق. هناك حالات نادرة لانتحار اكثر من شخص او انتحار جماعي او ما يشبه تقليد الاخرين في الانتحار، ولكن هذه الحالات، ورغم ندرتها، الا انها تنبع اما عن قناعات ايدولوجية وفكرية او ان المنتحرين يشاركون نفس الظروف القاسية . عدا ذلك فان انتحار انسان ما لا يشجع الاخرين على الانتحار.
من ناحية أخرى، في الحياة العملية، عندما اسأل شخص تراوده افكار الانتحار، ما الذي منعك من الانتحار لحد الان؟ ان احد أكثر الإجابات التي اتلقاها هي: "ليس لدي الشجاعة الكافية لكي انتحر"، إضافة الى عوامل أخرى مثل تأثير الانتحار على الاخرين. لا اريد ان اعمم، ولكن بنظري ان قلة الشجاعة هي ليست سبب الانتحار. اما ليس للانتحار أي ربط بالشجاعة او ان الانتحار يحتاج الى درجة من الشجاعة. بعض القادة في المجتمع الذين يتمتعون بإرادة قوية ينتحرون، (هتلر انتحر). من جهة أخرى، النظر الى الانتحار على أساس كونه حق من عدمه يحتاج الى عقل مشوه. ليس في انتحار انسان حقوق. هناك اشخاص يقومون بالانتحار بعد تشخيصهم بمرض يحد من قدرتهم على العناية بأنفسهم، من اجل ان لا يكونوا عالة على الاخرين، فالانتحار ليس فيه نرجسية مثل ما يصوره البعض.
مثل أي صفة إنسانية اخرى، ان قدرة الانسان على مقاومة المصاعب لها أسباب جينية، ولكن تؤكد الدراسات بان الغالبية العظمى من الذي يقدمون على الانتحار قد تعرضوا الى تجارب مريرة خاصة في الطفولة. والكثير من عوامل الخطورة مثل الكآبة والمخدرات والافراط في تناول الكحول هي مسائل معقدة تشترك الجينات والبيئة في خلقها بحيث تكون في معظمها خارج إرادة الشخص. تكون بعض عمليات الانتحار على شكل فعل متهور في وقت الازمة وخاصة عند الذكور وتزداد هذه الظاهرة عند الأشخاص الذين يصابون بتلف في الدماغ وهم في رحم امهاتهم لاسباب مثل كثرة تناول الكحول من قبل الام، وهو امر خارج سيطرة الشخص نفسه.
من الواضح ان سارة مرت بحياة عصيبة جدا نتيجة لميولها الشخصية وهويتها الجندرية ونضالها وآرائها السياسية بشهادة الذين يعرفونها، ومن ضمنهم حزب العيش والحرية (قيد التأسيس)، والذي كانت سارة عضوة مؤسسة فيه. اذ يصفها هذا الحزب في رسالة نعيه "مدافعة عن حقوق قضايا الميم". ويقول " أن سارة قادت عدة حملات من أجل مناهضة التحريض ضد مجموعات الميم في مصر، كما شاركت في عدة حملات تضامنية مع سجناء الرأي خاصة من الكتاب والفنانين الذين تعرضوا للقمع بسبب آرائهم". وأضاف : "كانت سارة مؤمنة بحق الجميع في العيش بكرامة وحرية دون استغلال طبقي أو تمييز مبني على النوع أو الهوية الجنسية. وكانت تعبر عن آرائها بشجاعة نادرة لم نستطع دائما مواكبتها. فقد كانت أكثرنا جسارة وإخلاصا في الدفاع عن القضايا التي تؤمن بها مهما بلغت حساسيتها، مثل قضايا التنوع الجنسي والجندري، وكنا خلفها بخطوات عديدة."
كما يتطرق البيان الى الاضطهاد الذي تعرضت له حيث يشير الا انها سجنت في مصر أكثر من ثلاثة أشهر في 2017 من قبل قوات الامن المصرية وهي التجربة التي وصفتها سارة بانها اكثر تجارب حياتها قسوة. وهناك ما يشير الى انها تعرضت الى تعذيب وتجاوزات جنسية. وبعد كل المضايقات، قررت الهجرة إلى كندا، وقد شكل السفر الم كبير لها بسبب الغربة والفراق، وتوفت أمها وهي غير قادرة على توديعها. دعونا نذكر بعض عوامل الخطورة للانتحار المعروفة التي تعرضت لها سارة. يكفي كل واحد منها ان يؤدي بالشخص الى الانتحار:
التعرض للإساءة أو التخويف (الجسدي أو العاطفي أو الجنسي)
خسارة كبيرة منها خسارة علاقات مهمة (خسارة علاقاتها الاجتماعية والحياة التي ارادت عيشها في مصر)
ضغوط الحياة الرئيسية (مشاكل قانونية مع السلطات)
وفاة أحد أفراد الأسرة (وفاة والدتها)
التعرض المستمر لسلوك البلطجة مثل البلطجة الإلكترونية
النبذ والاحتقار من قبل الاخرين
السؤال هنا هو ماذا يعطي أي انسان الحق في إطلاق كلام واحكام بذيئة بحق انسانة لا تعرفها عن قرب وهي مرت بهذه التجربة؟ كتقليدنا في الشيوعية العمالية، ندين بشدة هذه الآراء والاحكام والمواقف غير المسؤولة وننبذها.