ذكريان عزيزتان إنتفاضة الأهوار و إستشهاد قائدها خالد احمد زكي


فياض موزان
2020 / 6 / 17 - 19:26     

تمر هذه الأيام الذكرى الثانية والخمسين لإنتفاضة هورالغموكة في 28 أيار 1968 وذكرى إستشهاد الرفيق المناضل خالد أحمد زكي الحسيني قائد هذه الإنتفاضة المصادف اليوم الثالث من حزيران 1968, وفي هذه المناسبة لابد لنا أن نتحدث قليلاً عن الشهيد خالد زكي:عائلته, نشأته, نضوج وعيه , تطور فكره اليساري, منطلقاته الثورية, نضالاته المتعددة, وقيادته للإنتفاضة المسلحة في هورالغموكة وإستشهاده في معركتها.
يقول السيد باسل محمد عبدالكريم أن غازي أحمد زكي شقيق الشهيد خالد أحمد زكي قد ذكر له : " أن خالد هو حفيد الضابط العثماني محمد أمين الحسيني, وسليل عائلة دينية ملتزمة ومحافظة, تعود أصولها إلى السادة الأشراف الحسينيين في مدينة النجف الأشرف, و كان لها دورها أيام حكم العثمانيين للعراق, وقد أثرت الشخصية المدنية والمنفتحة على الحياة - للوالد أحمد زكي الحسيني- على سلوك العائلة وطبعتها بطابعها المدني. ونظرتها التقدمية للحياة" ليخرج من تحت عبائتها هذا المناضل الشجاع المتأثر بأفكار و روحية التجربة االثورية الكوبية ومدارس الكغاح المسلح في بلدان أمريكا اللاتينية, والهند الصينية, بعد أن زار فيتنام الشمالية وقاتل مع ثوار الفيتكونغ, كما زار كوبا بعد إنتصار الثورة فيها, وكان قريبا من رموزها الثورية التأريخية, كاسترو وجيفارا وهوشي منه, متشبعاً بتجاربهم, مقتديا بإيمانهم العميق بنجاح ثوراتهم ومتمثلا ببسالتهم وعنفوانهم.
ولد خالد أحمد زكي عام 1935, وتعرف على الشيوعية عندما كان طالباً في إعدادية الكوت عام 1952, وشاهد بعينيه مآسي الفلاحين في ريف العراق الجنوبي مطلع الخمسينات, وعن بداية وعيه السياسي يذكر غازي أيضاً : "أنه أثناء زياراتنا مع والدنا (مساح الري) لتلك المناطق لاحظ وتنبه شقيقي خالد إلى معاناتهم وواقعهم المرير, وما كانوا يعانوه من ظلم الإقطاع وقسوته, وإغتصابه السافر لحقوقهم, وفي عام 1955 سافر خالد إلى لندن على نفقة المرحوم والدنا لدراسة الهندسة".
إستشهد خالد في 4/ 6/1968 وعمره ثلاثة وثلاثون عاماً, ورغم أنها حياة قصيرة بالقياس الزمني, غير أنها مليئة ومفعمة بالوقائع والأحداث والإنعطافات الحادة لتلك الشخصية التي مرت كالشهاب في سماء العراق الملتهبة, وكان طموحه الثوري قد بدأ يتبلور بإتجاه خوض غمار تجربة لها سمات خاصة مستفيدة من دروس وتجارب حركات الكفاخ المسلح في العالم, في الوقت الذي كان أفقه يمتد بعيدا بإتجاه أهوار الجنوب العراقي ليشعل من هناك الشرارة الأولى للثورة المسلحة ضد النظام الدكتاتوري القائم.
يصفه رفيقه إسماعيل الجاسم الذي زامنه وزامله في مطلع السيتينات من القرن الماضي في بريطانيا وعمل معه في جمعية الطلبة العراقيين في بريطانيا, يقول عنه : "كان خالد شعلة متقدة من الحيوية والنشاط عندما كان مسؤول اللجنة الحزبية, و يقود جمعية الطلبة العراقيين في لندن, ومسؤولاً عن سكرتارية الشرق الأوسط لمنظمة رسل الدولية للسلام, ويتحدث عن شوقه العارم للعودة إلى العراق والنضال مع جماهير الشعب, وطلائعه المتقدمة وبين صفوف فقرائه وكادحيهم والإنتصار لهم والإستشهاد بينهم". وفي عام 1966 وقبيل مجيئه للعراق كان قد إلتقى عزيز الحاج في براغ وتحدث معه عن التذمر الحاصل بين صفوف الشيوعيين في بريطانيا ودول أوربا من السياسة اليمينية والإصلاحية للحزب آنذاك, وقد أكد عزيز الحاج تلك الحادثة في كتابه (حدث بين النهرين) .

عاد خالد إلى العرق وعمل مع "فريق الكادر" الذي كان يقوده ابرهيم علاوي (نجم) - الذي إنشق عن الحزب الشيوعي وأصدروا بيانا عن أزمة الحزب بإسم الكادر- قبل إنظمامهم إلى القيادة المركزية. بدأ حزب القيادة المركزية بتهيئة مستلزمات الكفاح المسلح والإعداد للإنتفاضة المسلحة في الأهوار مطلع عام 1968 " إنطلاقا من تجربة كاسترو في كوبا وتجربة تشي غيفارا بأفريقيا وبوليفيا في أمريكا اللاتينية ليكون منطلق هذه "البؤرة الثورية" من أهوار الناصرية بالتعاون مع جماعة أمين خيون التي لها وجود هناك وتلتحق بها مجموعة من أهوار العمارة, ولم يكن صائباً ما ذكره عزيز الحاج في كتابه (حدث بين النهرين) في سياق حديثه عن ما أسماها (حركة الغموكة) حين ذكر: "أن توقيت تنفيذ حركة الغموكة, لم يكن بأمر مركزي, بل بمبادرة من القاعدة الصغيرة في الغموكة ... وتبين أن المناضلين سئموا الإنتظار, وتوهموا أن القيادة تركتهم وشأنهم وتتعمد عدم تزويدهم بالمال والسلاح". والدليل على خطأ هذا الكلام وعدم دقته و صوابه, هو أن حزب القيادة بدأ في تهيئة مستلزمات الإنتفاضة من تحديد المكان وإعداد الرفاق المتطوعين للذهاب إلى هناك بقيادة الرفيق خالد زكي - مرشح اللجنة المركزية لحزب القيادة- وتهيئة ما يمكننا من السلاح, ومن الشواهد على ذلك: تسليمي قطعة سلاح إلى الشهيد خالد عندما كنت في قيادة الجهاز الصدامي المركزي للقيادة المركزية, و المساهمة الفعلية للرفيق حسين ياسين - مرشح اللجنة المركزية للقيادة المركزية - والرفاق أعضاء حزب القيادة, عقيل حبش و حسين الساعدي و عبدالله شهواز وعلي حسين أبويجي وجبار جبر في هذه الإنتفاضة كما سيتضح لاحقا في الحديث عن هذه الإنتفاضة , كل ذلك يدحض ما قاله عزيز الحاج بهذا الشأن. ربما كان قصده من ذلك هو التنصل من مسؤوليته كسكرتير للقيادة المركزية عن هذا العمل - أثناء إعتقاله - أمام حكومة البعثيين ولجان تحقيقهم.
لقد اتسمت تلك الفترة بإنتشارالأفكار الثورية لحركات الكفاح المسلح التي قامت في أمريكا اللاتينية, لتشمل مناطق أخرى من العالم , ومن ضمنها منطقتنا التي تأثرت بها, بالإضافة الى تأثير التداعيات التي حصلت فيها بسبب نكسة حرب 6 حزيران 1967م , وهزيمة الانظمة العربية وجيوشها النظامية, في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي , وبرزت حركات ومجموعات تؤمن بهذا الإسلوب الثوري في النضال من أجل تغيير الأنظمة الديكتاتورية والرجعية, ومنها مجموعات إنشقت عن الحزب الشيوعي العراقي وشكلت تنظيماتها الخاصة كالقيادة المركزية و"فريق الكادر" الذي كان يقوده إبراهيم علاوي, ومجموعة أمين الخيون "أبو جماهير" و "جماعة الكفاح المسلح" من قادتها سالم سبهان عبيد "أبو صلاح" كذلك خالد أحمد زكي "ظافر". والتحقت هذه المجموعات بالقيادة المركزية أواخر عام 1967, وبإثر ذلك قامت القيادة المركزية بتشكيل مجموعة قامت بالإنتفاضة المسلحة في هور الغموكة, قادها الشهيد خالد زكي, فقد كان فكر القيادة المركزية يلتقي في موضوع أساسي منه مع أفكار جيفارا, التي تقول: ليس ضروريا انتظار جميع العوامل و الشروط الموضوعية و الذاتية لشن الكفاح المسلح, و إنما البدء به حيثما كانت ظروفه جاهزة في هذا الموقع أو ذاك, و أن العمليات المسلحة الناجحة و المتلاحقة تسهم في إنضاج الظروف المطلوبة للثورة .
الإنتفاضة
و بدأت هذه الإنتفاضة بحركة مسلحة قوامها عدد محدود من الثوار, يقودهم الرفيق خالد أحمد زكي (ظافر) تكونت المجموعة من إثني عشر رفيقا:

1- خالد أحمد زكي ( جبار) قائد المجموعة / 2- عقيل حبش (أبو فلاح) 3- حسين ياسين ( أبوعلي). 4- كاظم منعثر (سوادي) . 5- محسن حواس (شلش) . 6- عبدالجبار علي جبر (هادي) . 7- عبدالأمير عبدالواحد يونس الركابي (لفته). 8- عبدالله شهواز زنكنه. 9- محمد حسين الساعدي. 10- حمود (صالح) . 11- عبود خلاطي . 12- علي حسين أبوجي .

تحركت هذه المجموعة المكلفة بمهاجمة مخفر الشرطة وإتخذت سبيل النهر الذي يؤدي الى المخفر , وعند الوصول الى مبنى المخفر تمت مهاجمته والسيطرة على أفراده وإغتنام الأسلحة التي بحوزته وقد إكتمل السلاح بيد المجموعة وتحركت للهدف الثاني وهو الربية بأمر من الرفيق خالد أحمد زكي قائد العملية وتمت السيطرة عليها ونزع أسلحة أفرادها بعد حجزهم في غرفة, وعادت المحموعة الى الهور وتوغلت به ليلا للإبتعاد عن منطقة الخطر بإتجاه هور الحمّار عبر الممر النهري وقد ظلت المجموعة الطريق الى القاعدة بسبب حصول زوبعة قوية إضطرتهم للتوغل في الهور والمبيت تلك الليلة في هورعوينه الذي لايبعد كثيرا عن هورالغموكة الذي انطلقت منه العملية وبينما هم في وسط النهر الفاصل بين هورالغموكة وهور الحمّار في منطقة (أبو علايج) تحديدا هاجمتهم قوة من الشرطة الآلية وحصلت معركة قصيرة تم الإنسحاب بعدها بإتجاه اليابسة في هورالغموكة والإختباء في نهر جاف واكتشفوا أن الشرطة قد طوقت المكان, وبعد إنصراف بعض الرفاق وبعض الفلاحين الذين كانوا متواجدين معهم في تلك المنطقة , وهم في موقعهم المحاصرين فيه قام أحد الفلاحين بإرشاد إحدى فرق الشرطة الى مكان الرفاق المتبقين من المجموعة وبعد أن تجمعت مجاميع أخرى من الشرطة ومع أفراد من أتباع إقطاعي تلك المنطقة, قاموا بفرض طوق على موقع المجموعة وحين كثرت أعداد الشرطة وأحكم طوق الحصار عليهم وتعززت قوتهم بزوارق بخارية وبطائرة هوليكوبتر طلبوا منهم - خلال مكبرات الصوت - الإستسلام من دون قيد أو شرط وأصبح من المستحيل على الثائرين الإنسحاب وعندذاك نشبت المعركة بين الطرفين , وقاوم الثوار الى آخر طلقة معهم وأبدوا شجاعة منقطعة النظير وبسالة ومقاومة كبيرتين فإلى جانب القوة ذات الأعداد الكبيرة والمدججة بالأسلحة المتنوعة والسلاح المتوسط وقد عززوا بقوات من الجيش وبطائرة هوليكوبتر أسقطها الثوار وقُتل قائدها النقيب الطيار بعد إسقاط طائرته وقتل أربعة شرطة وأصيب خمسة آخرون منهم بجروح لم تتمكن الشرطة من إقتحام الموضع الا بعد أن نفذت ذخيرة الرفاق, لكن الشرطة لم تتوقف عن إطلاق الرصاص وقد أستشهد كل من الرفاق خالد أحمد زكي (جبار) / محسن حواس (شلش) / منعثر سوادي ( كاظم), أما الجرحى فكانوا: عبد الجبار علي جبر (هادي) / عبد الأمير عبدالواحد يونس الركابي (لفتة) / محمد حسين الساعدي (جمعة)
يذكر الرفيق عقيل حبش وهو أحد المساهمين في هذه الإنتفاضة المسلحة في كتابه الموسوم (شهادة حية من لهيبب المعركة – دار الغد - 2017) يقول: "استمر العمل بالهور حوالي ثلاثة أشهر على شكل مجاميع , مجموعة توفر الطحين والرز, وأخرى تصيد السمك والطيور وتجمع بيوضها دون إستخدام السلاح, والتدرب على إستخدام السلاح, وكانت الحياة صعبة خصوصا للرفاق من أبناء المدينة , لم تكن لهم علاقة بجماهير هذه المنطقة, ونظرا لشحة السلاح المتوفر لدينا لذلك كانت واحدة من أهدافنا الملحة هي الحصول على السلاح, وبعد إبلاغنا بقرار الحزب للبدء بالعمل توجهنا من قاعدتنا في الهور ومع حلول المساء تحركنا بإتجاه الهدف حيث بدأنا بالمشاحيف ثم سيرا على الأقدام في اليابسة, وعندما أصبحنا أمام بناية مخفر الشرطة هاجمناه وقد غنمنا 30 بندقية مع عتادها وحملناها في المشاحيف وعدنا بها الى الهور ونحن نبتعد عن المخفر هبت عاصفة شديدة فأعاقت تقدم المشاحيف وأفشلت خط سيرها , إذ أصبحت المشاحيف الثلاثة تمشي سوية مما إضطرنا للوقوف والإنتظار, ومع بزوغ النهار لم نستطع السير وفي الليلة التالية إستمر الوضع على ما كان عليه إذ لم يستطع الرفيق حسين ياسين وأدلائنا الاهتداء للعلامات التي سبق وأن وضعناها في الطريق للاهتداء بها عند الإنسحاب, وفي الليلة التالية تمت معرفة العلامات فسرنا بالإتجاه الصحيح لكننا فوجئنا أننا أصبحنا في عنق الزجاجة وهناك حركة التفاف حولنا من قبل الشرطة حيث تم إطلاق الرصاص علينا, فأوعز حسين ياسين بالرد على النيران وهذا ما فعلناه الا أننا فقدنا السيطرة على المشاحيف فتركناها ونزلنا الى الضفة الثانية المقابلة للضفة التي يحتشد الشرطة فيها, وأستمر إطلاق النار بيننا . طلب خالد أحمد زكي و حسين ياسين من عبد الأمير الركابي الذهاب الى المشاحيف المتروكة وجلب بعض قطع السلاح لكن الركابي رفض الذهاب وتنفيذ الأمر وعندها أوعزالرفيقان الى عقيل حبش بتنفيذ المهمة على أن يترك بندقيته ليحمل أكبر عدد من قطع السلاح" . يضيف حبش : "أننى اتجهت يسارا قريبا من ضفة النهر وأثناء سيري إنهال علي الرصاص فعدت مسرعا بإتجاه رفاقي لكني لم أجدهم, ويبدو أنهم اعتقدوا أنني أعتقلت فبدأوا بالرمي ضد الشرطة مما اضطرني الى اللجوء لاحد البيوت القروية لمحاولة الإختفاء فيه ولم يحالفني الحظ في ذلك لأن الشرطة اتجهت نحوه مما إضطرني لمغادرة البيت ".

حصيلة المعركة من الشهداء والجرحى والمعتقلين والقتلى من العدو :

الشهداء : خالد أحمد زكي (جبار). / 2- محسن حواس (شلش). / 3- منعثر سوادي ( كاظم).
الجرحى : 1- عبد الجبار علي جبر (هادي). / 2- عبد الأمير عبدالواحد يونس الركابي (لفتة)./ 3- محمد حسين الساعدي (جمعة).
المعتقلون: 1- عبدالله شهواز زنكنة (أبو سعيد)./ 2- عبد الجبار علي جبر "بترت يده في المعركة". 3 – عقيل حبش./ 4- حسين محمد حسن " جندي هارب شارك بإنتفاضة حسن سريع" ./ 5- علي حسين أبويجي./ 6- فاض عباس.
قتلى العدو : نقيب طيار بعد إسقاط طائرته, وقتل أربعة شرطة, وإصابة خمسة بجروح.

:


من اليمين حسين محمد حسن الساعدي , عبدالله شهواز زنكنه, عبدالجبار علي الجبر, الشهيد مطشر حواس, عقيل حبش, علي حسين أبويجي في جناح الإعدام سنة 1969.
ولابد لي من أجل تعزيز صورة هذه الإنتفاضة الباسلة أن أشير إلى بعض مما ورد في الرسالتين اللتان أرسلهما مظفر النواب إلى الرفيق عقيل حبش أحد أبطال هذه العملية عبر فيها عن مشاعره تجاه هذه الإنتفاضة , وهو يناجي بهما عقيل ويظهر له ما أصابه من الوجع وشدة الألم جراء عدم تمكنه من المشاركة والمساهمة فيها أقتطف منهما بعض المقاطع :  " ومنذ الأيام الأولى اكتشفت فيك روح العمل وأحببتها, وفي السر صنتك في قلبي بين الناس وفرحت دائماً وسأظل أفرح إنك صديقي". "هل أوقظ فيك كل ذلك الذي يشكل جزءاً غالياً من حياتي وحياة القضية التي تضيء جوانب عيوني في أشد ساعات الليل؟! الساعات التي عشناها تعيش عالمها الصرف وتتصرف بي أحياناً... ولعلك تذكر أقصى أمنياتي كانت أكثر الأهوار وحشية وبعداً عن المدينة الملوثة وها أنت هناك, أحسدك لأنك هناك في العالم الذي بلل لساني بالأغاني الأذاء، عند الناس الذين تتقطر الأحزان في قلوبهم كل ليلة، وتولد الثورة في الظلمات التي تخبئهم منذ آلاف السنين، أنت في النقطة التي يصح أن تسمى البدء، جاء في العهد القديم (( في البدء كانت الكلمة وكان وجه الله يرف على الغمر ))، أنت هناك ياصديقي، وأنا يطفح في دمي حنين كآلاف النباتات السائبة على وجه الهور، يا أنت في مياه الميعاد، الموت في مياه الميعاد، هو بدء الخليقة، كان الانسان بين الناس الذين يحبهم وفي الأرض التي يحبها ويعتقد أنها هي ( المكان ) مسألة لا يمكن تسميتها الموت بأي حال".
.
"سالتزم بعمق وبوعي وسألح بكل الوسائل النظيفة أن أكون معكم . . . إن خمسة أشخاص بإمكانهم أن يوقظوا الشرارة الأولى على أن يكونوا هم تلك الشرارة التي ستضيع بعد ذلك في اللهب العظيم الذي تكرس نفسها لإيقـاظـه. . تلك النــواة هـي الـواجـب الأول باعتـقـادي. . الواجب الأساسي وكل ما عدا ذلك ليس إلا مسألة ثــانــويـة في الظرف الراهن وليس هناك نضالاً غير مهم في عملية الثورة ولكن بدون إدراك لأهميته والبدء بــه. تخبو كل الجوانب الأخرى . . بدون اللهب الأساسي الأول سوف لا ترى النضالات الأخرى طريقها بشكل صحيح في هذا الليل المظلم . . . المسألة الآن هي زخــة الرصاص الأولى. . . الأنتصار الأول سأعمل جهدي أن التـحق في أرض الميعاد. . .".
"وهنا في هذه الأرض التي تجمع الأحبة التقيت برجل آخر يحبه قلبي منذ زمن بعيد وخططنا وحلمنا وسمعت صوت الرصاص رغم الصمت الذي يفوح في الليل، وقلنا نفاجئك وكان شيئاً ( هناك ) لم يفهم بعد ولا أتوقع - كالعادة - أن تفهم الأشياء الحقيقية بسهولة وبدون ألم ، والححت أن أكون معكم، أنتم رجال البداية، إن البدء يقرر ارتباط الرجل الحقيقي ويجعلك تمتلك لحظة التأريخ، التأريخ الصامت العظيم.
ساورت قلبي أغنية (حسن الشموس)
لون توگف دول يسحگها شعب الهور چي ضيمه چبير وگلبه شايل سل
أطرَّن هورها وكلساع أگول تثور . . . .
أگولن مايصح گبرك ولا حطو عليه ناطور
أگولن عله ساعة ويلهج الشاجور . . .
الدروس المستوحاة من تجربة حركات الكفاح المسلح في العالم وأسباب فشل الإنتفاضة المسلحة لهور الغموكة:
إن الأحزاب والحركات الثورية اليسارية في العالم والتي انتهجت طريق الكفاح المسلح ربما أصابتها الغفلة ولم تدرك أن أية تجربة كفاحية جديدة قد نجحت في تغيير نظام حكم معين في أي مكان - كما حصل في كوبا- ستكون فخا لمن يريد تقليدها بذاتها, لأن الحكومات الدكتاتورية وقوى الاستعمار العالمي التي لها مصلحة مشتركة في القضاء عليها, تمتلك قدرات و امكانيات هائلة, لا يمكن مقارنتها بما تمتلكه منها حركات كهذه، كما أن هذه القوى تكون قد درست كل العوامل والظروف المحيطة بها, و طبيعة المنطقة التي تقوم على أرضها الثورة, وأحوال الناس الذين يعيشون عليها, و أخذ الدروس و العبر منها, ومن ثم تشخيص نقاط الضعف ومكامن القوة فيها, و وضع الخطط و الحلول المناسبة لإفشالها، ليتم الاجهازعليها وهي لم تزل في مهدها.
هذا ما لمسناه في الثورات التي قادها جيفارا بعدما ترك كوبا ناقلا معه تجربتها الثورية المسلحة , ليحاول تطبيقها في أماكن أخرى, ابتدأها من الكونغو كينشاسا في أفريقيا عام 1965م و انتهت فاشلة قبيل نهاية عام 1966م, فانتقل إلى بوليفيا في أمريكا اللاتينية ليؤسس بتاريخ 7/11/1966م جيش حرب عصابات مع بعض رفاقه الكوبيين بقوة بلغ عددها نحو خمسين شخصا تحت اسم "جيش التحريرالوطني لبوليفيا", في منطقة (بنانكاهوازو) وهي غابات جافة جبلية نائية و معزولة, لم يتعاون أهلها معهم واعتبروهم غرباء عنهم, فتم القضاء عليهم بتاريخ 7/10/1967م.
وقد قامت إنتفاضة هورالغموكة على تجربة الكفاح المسلح وحرب العصابات لتعيد استنساخ تلك التجارب وتطبقها في العراق, فقد بدأت هذه الإنتفاضة بحركة مسسلحة قوامها عدد من الثوارلا يتجاوز عددهم عن إثني عشر مقاتلا, يقودهم الثائر خالد أحمد زكي (ظافر) الغريب عن المنطقة التي إختارها وهي الأهوار في جنوب العراق , كما فعل جيفارا في كوبا و الكونغو وبوليفيا وهو الأرجنتيني, وبدراسة منقوصة عن أحوال أهلها الفلاحين وظروفهم, والعمل على توطيد العلاقة بهم, وإختيارالعناصرالريفية من تلك المنطقة والتي تعرف ظروفها وحياة أهلها وطبيعنهم وأمزجتهم, وكان أغلبية المساهمين الأثني عشر هم من خارج المنطقة ومن سكان المدن . فضلا عن طبيعتها الجغرافية التي هي عبارة عن جزر مائية معزولة يستطيع العدو محاصرتها ومهاجمتها والقضاء على من فيها بسهولة. وهذا ما حصل فعلا.

رغم صغر حجم الحركة ومحدوديتها, بيد أنها مثلت صفحة مجيدة من النضال الثوري العراقي , التي أدت إلى إستمرار تصاعد النضالات و التحركات الثورية في الأهواروفي المدن بعد الحدث, وأن صداها وإنتشار فكرها الثوري كانا كبيرين ومؤثرين, وقد تركا أثراً كبيرا على أداء الحركات السياسية في العراق على مختلف إنتماءاتها وتوجهاتها الفكرية, أدت بالنتيجة وبعد أيام قلائل إلى قيام حركة إنقلابية أطاحت بالنظام الدكتاتوري القائم لتؤسس على أنقاضه نظاما دكتاتوريا آخر في تموز/1968, فاقه قسوة وشناعة .
مجداً لشهداء الأهوار, ولجميع شهداء الحركة الوطنية في العراق.