لماذا لا نستنسخ الحداثة الأوروبية عندنا؟


فارس إيغو
2020 / 6 / 14 - 23:40     

يقول أحد الأصدقاء الأعزاء عاتباً على المثقفين المتنورين نقدهم للحداثة الغربية، وطارحاً علي هذه المفارقة التي عبّر عنها بطريقته:
لماذا لا نأخذ بالخلطة الجاهزة الأوروبية التي نجحت، والدليل على ذلك أننا اليوم مع الحروب الاهلية المندلعة بأكثر من مكان في العالم العربي، الكل متوجه ببصره نحو الغرب لكي يلتجأ اليه، ويستقر فيه بصورة دائمة؟ وعلى الرغم من الانتقادات العنيفة الموجهة من أغلب المثقفين العرب للحداثة والغرب، وحتى التي يمكن أن يوجهها هذا الإنسان الذي يرغب الالتحاق بأرض الغرب، للغرب وثقافته وحضارته الإباحية، فكيف نفهم هذه المفارقة الغريبة العجيبة؟
بالطبع هناك مسألتان علينا معالجتهما بشكل منفصل في هذا القول:
المسالة الأولى، هي استنساخ التجربة الغربية طالما أنها أثبتت نجاحها في الغرب، ولو نسبياً بالمقارنة مع ما يجري في باقي أنحاء العالم من اضطرابات وعنف يصل الى حد الحروب الاهلية في بعض المناطق، ودخول بعض الدول في العالم في حالة من الانهيار الكامل، مما يستدعي وضعها على قائمة الدول الفاشلة، وهي قائمة بدأ تستطيل، وتضم العديد من البلدان، بعد أن كانت منذ عقدين ونصف من الزمن، لا تشتمل إلا على دولة واحدة هي الصومال.
والمسألة الثانية، هذه المفارقة الغريبة بين النقد العنيف الموجه للغرب من جانب رجل الشارع في العالم العربي، والرغبة العارمة في أن تطأ قدمه أرض الغرب كلاجئ هو وعائلته، وليستقر به بصورة دائمة، دون أن تنمحي في مخيلته الأوهام السحرية المستحيلة في دولة الخلافة الإسلامية أو ولاية الفقيه العادل أو دولة الوطن العربي أو دولة العلم والإيمان.
سأبدأ في معالجة المسألة الأولى، وأترك المسألة الثانية الى مقالة أخرى.
اليوم، يجري الحديث في العالم عن حداثات، وهناك نقد للمركزية الأوروبية. وحتى في داخل أوربا نفسها، هناك تيار قوي يناهض الحداثة، هو تيار ما بعد الحداثة، ومنهم من يقول بأن الحداثة قد استنفذت أغراضها، مثل السوسيولوجي الفرنسي ميشيل مافيزولي صاحب كتاب ((زمن القبائل)) (1988)، وهو يسير على العكس تماماً من الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ومقولته الشهيرة: الحداثة مشروع لم يكتمل. وهو عبارة عن خطاب كان قد ألقاه هابرماس في 11 من أيلول عام 1980 في مدينة باولسكيرش بمناسبة تسلم جائزة أدورنو التي تمنحها مدرسة فرنكفورت.
ما بعد الحداثة بالنسبة لمافيزولي، هي العصر الذي يتلو عصر الحداثة، ويتصف بأن المخيال (الرموز، القيم التي تنظم وتشكل وتبنين الحياة الجمعية) تقطع مع العقلانية، مع النزعة الإنتاجية، ومع نزع سحر عن العالم، أي تقطع مع عبادة مفهوم التقدم والعيش المشترك القائم حصرياً على أساس العقد الاجتماعي بين المتعاقدين الاحرار والمستقلين. يلح مافيزولي كثيراً على إستعمال المصطلح "ما بعد الحداثة" بالمقارنة مع من يتحدث عن "حداثة ثانية" أو "حداثة فائقة" أو حتى "حداثة لم تنجز بعد أو غير مكتملة" عند شيخ الفلاسفة الألماني يورغن هابرماس. والواقع أن السمة الأساسية لما بعد الحداثة هي أنها تنفصل وتقطع مع الحداثة، وتخرج قيم جديدة، تحل تدريجياً محل القيم المشبعة للحداثة. إن الحديث عن الحداثة الثانية هو ببساطة إنكار هذا التغيير في الحقبة، هذه الطفرة التاريخية التي يركز عليها مافيزولي.
إذن، فنحن لسنا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أي في خضم الثورة الصناعية والمجتمعات الصناعية، لذلك على المثقف العربي أن يواكب ما يستجد في عصره.
هناك اليوم حديث عن حداثة يابانية. لقد بعثت اليابان الإمبراطورية البعثات الاستكشافية الى أوروبا ومصر، وكل البلدان التي سمعت أن فيها شيء ما جديد يحدث، هو النهضة الجديدة، وأخذت بالتجارب المختلفة، وصنعت نموذجها الحداثي الذي أذهل العالم، لأن اليابان حققت المعجزة الكبرى بأن وفقت بين الحداثة السياسية والاقتصادية مع الحفاظ على السمات الخاصة للثقافة اليابانية، وإقامة ديموقراطية تجمع بين الحرية والأمان الاجتماعي، وبين الحرية والأمن.
وعن حداثة قادمة من الصين، بدأت تطمح لأن تنافس الولايات المتحدة الامريكية على زعامة العالم. وبالرغم من غياب شرط أساسي من شروط الحداثة السياسية، أي التعددية السياسية والحريات العامة، فإن الصين كنخب سياسية حاكمة وكنخب اجتماعية لن تتجاوز طويلاً مسألة الديموقراطية مع تحقق نمو الطبقة المتوسطة في الصين وتوسعها لتصبح هي الطبقة الأكبر والقائدة للمجتمع، وكذلك مع التطور التكنولوجي السريع الذي أذهل العالم الغربي، قبل العالم الغير الغربي.
وكوريا الجنوبية، التي ضربت المثل بديموقراطيتها، من حيث التوازن بين الحرية الفردية والمسؤولية المواطنية والإدارة الحكيمة والسريعة والمنظمة لجائحة الكورونا، وبرزت كنموذج جديد، لا لدول العالم الغير الغربي، بل أيضاً لدول الغرب نفسها.
إن الحداثة ليست قوانين يمكن جلبها بسهولة لكي تنطبق على كل المجتمعات في العالم، هي سيرورة طويلة، وتحقق سلسلة من الشروط الموضوعية لكي تبدأ عربتها بالسير قدماً الى الأمام. والمعاينة الموضوعية الرصينة للمجتمعات العربية تؤدي بنا الى أن الإصلاح السياسي والديني هي الخطوات الضرورية للتحرك الى الأمام ضمن الممكن المتاح لنا في هذه الفترة العصيبة من حياة مجتمعاتنا، ورأينا أن المستقبل الذي ينتظر الدول والمجتمعات العربية التي ستستمر في عنادها في رفض الإصلاح التدريجي لمجتمعاتها، سوف تغرق فيما غرقت فيه الدول العربية الأخرى من أوضاع كارثية ستصيب الجميع، وحتى هؤلاء الممسكين بالسلطة والبقرات السمينة المحيطة بهم والتي تستفيد من الفساد ونهب الثروات العامة. في النهاية التجربة المريرة علمت ـ الذي لا يريد أن يتعلم إلا بالتجربة المريرة ـ أن الكل سيكون خاسراً. لذلك من المصلحة العمومية المستعجلة أن يعي الفرد العربي مهما كان مستوى تعليمه، بأنه لا مخرج من هذا الوضع الكارثي إلا بالإصلاح السياسي الذي يعني قبول التعددية في الطروحات والأفكار السياسية، وبناء الدولة ومؤسساتها على أساس مبدأين اثنين: احترام وخدمة المواطن وضمان الحريات العامة والفردية. أما الإصلاح الديني فيتطلب أولاً وأخيراً القبول بما هو واقع لا مجال لتغييره، وهو التعددية الدينية والمذهبية، وحرية التدين ودرجته أو حتى اللاتدين؛ وثانياً إبعاد السلطة الدينية عن القرارات السياسية، مع السير نحو علمانية متوازنة (وأفضل هذا المصطلح على العلمانية الرخوة أو المنفتحة)، والتي تعني الاعتراف بثقافة الشعب الدينية والعمل بموجب ذلك، دون المس بالأساس الذي تنهض عليه الدولة الوطنية الديموقراطية، أي الوطنية والمواطنة الكاملة.
الحداثة هي معالم تفرض نفسها علينا ـ كما هي حال الثورة التكنولوجية ومنتجاتها المتدفقة علينا بصورة كاسحة. ومن السخف الكبير أن نرفض معالم الحداثة باسم الحفاظ على الهوية من الضياع، فالمحافظون والسلفيون لن يقبلون أبداً بالجديد، هم سيقبلونه عندما يصبح قديماً. إذن، فلنتركهم لشأنهم إذا تركوننا لشأننا. والأجدى أن نقبل معالم الحداثة وعوالمها وبسرعة مع ترشيدها ما أمكن ذلك، لكن بالطرق الديموقراطية، عن طريق النقاش العمومي المفتوح، الذي يستجلي كل الآراء، ويصل في النهاية الى الخلاصات التي تقدم الى المقررين، وهي هيئات منتخبة بصورة شفافة لتأخذ القرار النهائي في المواضيع المثارة للنقاش، وهكذا دواليك تسير الديموقراطية قدماً عن طريق منصات النقاش والحوار وفسح المجال لنقيض الأطروحة من أن تعبر عن مضامينها بشكل كبير قبل الوصول الى الحصيلة أو الشميلة أو التوليفة.
وفي المحصلة، لن تكون الحداثة العربية نسخة من الحداثة الغربية، ولا من الصينية، ولا من الكورية أو اليابانية، وهي لن تكون مختلفة تماماً عن كل هذه التجارب، لكن ستحتفظ ببصمتها الخاصة، وستضيف الى مفهوم الحداثة أضافات نوعية يمكن أن تكون محط النظر والدراسة من الحداثات الأخرى، ومنها الحداثة الأوروبية، التي على أرضها وفي شرطها الثقافي والسياسي والاقتصادي برزت الحداثة في تجربتها التاريخية الأولى في القرن السادس عشر.