الشيوعيون البورجوازيون


فؤاد النمري
2020 / 6 / 14 - 20:48     

أقول للذين يستهجنون مثل هذا العنوان أن من تسبب بانهيار مشروع لينين الشيوعي هم “الشيوعيون البورجوازيون” وليس أي عدو آخر . الشيوعيون الذين يحجمون عن البحث عن أسباب انهيار الثورة الشيوعية هم شيوعيون بورجوازيون وإلا كيف يمكن لشيوعي يرهن كل حياته لقضية الشيوعية ثم فجأة تنهار الشيوعية وهو لا يعرف لماذا انهارت ولا يسعى لأن يعرف !! ألا يدل هذا على أن هذا "الشيوعي" لم يكن شيوعيا بل أفّاقاً منافقاً !؟ السفهاء من هؤلاء القوم يقولون أن ما كان في الاتحاد السوفياتي هو رأسمالية الدولة وليس الإشتراكية دون أن يتحرجوا من إحجامهم عن تحديد إشتراكيتهم البديلة، وبعضهم يعزو الانهيار إلى غياب الديموقراطية دون أن يتحرجوا من تجاهلهم لديموقراطيتهم المضمرة وهي ليست غير الدبموقرطية البورجوازية – ديموقراطية بورجوازية دون بورجوازية !! وبدعي آخرون أن السبب كان البيروقراطية وكأن البيروقراطية تلد طبقة اجتماعية معادية !! ولا تعدم بين هؤلاء الشيوعيين البورجوازيين من يقول أن الانهيارإنما كان بفعل المخابرات الأميركية .
طبعاً مثل هذا التشتت والضياع في تحليل انهيار الاتحاد السوفياتي وعزوف مختلف الأحزاب الشيوعية عن البحث الجاد في انهيار مشروعهم الاستراتيجي، الإنهيار ما كان ليكون لولا أنهم هم أنفسهم، الشيوعيون البورجوازيون، كانوا العلة الأولى والأخيرة لانهيار الثورة الشيوعية . ويصل بهم الفجور إلى رفض قراءة التاريخ، تاريخ الاتحاد السوفياتي في الخمسينيات حيث كانت الضربة القاصمة للنظام الإشتراكي هي قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي بإلغاء الخطة الخمسية الخامسة (1951 – 55) في سبتمبر 1953 التي كانت بموجب الأرقام الواردة فيها ستجعل من الإتحاد السوفياتي في العام 55 أغنى دولة في العالم وتؤكد الإنتصار النهائي للنظام الإشتراكي على صعيد العالم بموازاة ما تحقق في الإنتصار في الحرب . كان القرارانتهاكاً فضّاً للقانون العام حيث لا يجوز للجنة المركزية مجرد أن تعيد النظر في قرارات المؤتمر العام للحزب خلّيك عن إلغائها وكانت الخطة الخمسية الخامسة أهم قررارات المؤتمر العام التاسع عشر للحزب في أكتوبر 52 . حجة الإلغاء كما أعلنها القرار هي بناء القدرات العسكرية للإتحاد السوفياتي في مواجهة حلف الأطلسي علما بأن القدرات العسكرية لكل دول حلف الأطلسي لم تكن لتوازي 10% من قدرات الاتحاد السوفياتي كما ثبت ذلك في الحرب العالمية الثانية . وكان ستالين قد سخر من تشكيل حلف شمال الأطلسي في العام 49 قائلاً باستخفاف.. "لن نحاربكم لكننا سنهزمكم بالمنافسة السلمية" . أميركا الذرية وبريطانيا عجزتا عن هزيمة اليابان إلا بعد أن قام الجيش الأحمر بتحطيم كامل القوى العسكرية لليابان في منشوريا فيما بعد قنبلة ناغازاكي في 9 أغسطس 45 . وكتبت إحدى الصحف الأميركية مؤخراً تقول أن ترومان تذلل كثيراً لستالين في مؤتمر بوتسدام من أجل مساعدة أميركا في الحرب على اليابان .
في مواجهة قرار اللجنة المركزية بإلغاء الخطة الخمسية لأجل التسلح نعود إلى الخلاف الحاد بين ستالين وقيادة الجيش الأحمر في العام 1936 وإصرار ستالين على عدم زيادة اعتمادات الجيش لأن من شأن ذلك الحد من تطور الاشتراكية بموجب قاعدة ستالين الثابتة . ذلك ما حدا بالمارشال توخاتشوفسكي للقيام بانقلاب عسكري انتهى به إلى الإعدام وعشرات من رفاقه .

لكن كيف ولماذا تسللت البورجوازية الوضيعة إلى الحركة الشيوعية حتى شكلت الأغلبية الغالبة في الأحزاب الشيوعية وانتهت بالتالي إلى تقويض مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية ؟ ما يجدر ذكره في هذا السياق هو أن يوسف ستالين كان أول من حذر من هذا الخطر في كتابه " حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي وواجباته الملحة" وقال أن الانتلجنسيا والبورجوازية الوضيعة في قيادة الأحزاب الإشتراكية ليس لها مصلحة في نجاح الثورة الاشتراكية وهي لذلك سرعان ما تعقر الثورة حيث يتملكها الرعب دائماً من شبح الشيوعية وكان ذلك في العام 1901 حين كان ستالين في بداية العشرينات من عمره، وكأن ستالين يكتب ذلك في العام 1951 . وفي محادثة خاصة أكد لينين لرفيقة ستالين .. أن عشرات الألوف من طبقة البورجوازية الوضيعة سيسارعون إلى الإنضمام إلى حزبنا بعد أن نتولى السلطة لكننا بالطبع لن نرحب بهم . وفي العام 1922 طلب لينين من قيادة الحزب طرد مائة الف عضوا من الحزب لا بد أن يكونوا من البورجوازية الوضيعة نجحوا في التسلل إلى صفوف الحزب ؛ وبالفعل تشكلت لجنة لمراجعة أهلية مئات الألوف من أعضاء الحزب لكنها لم تستطع أن تطرد أكثر من 20 ألفا كان من بينهم للمفارقة زوجة ستالين التي لم تشأ أن تعلن علاقتها بستالين . كان لينين قد اشترط على الحزب الشيوعي في الأممية الشيوعية أن يطهر صفوفه بين الفينة والأخرى من عناصر البورجوازية الوضيعة في الحزب .

السبب الرئيسي لانثيال متثاقفي طبقة البورجوازية الوضيعة على تبني الماركسية والإنتساب بالتالي إلى الحزب الشيوعي هو حقيقة الماركسية التي قلّما إنتبها إليها أحد ؛ الماركسية هي بحق الحقيقة المطلقة التي استغرقت علوم الفلسفة منذ فجر التاريخ . على أولئك الذين يرفضون وجود الحقيقة المطلقة أن يعتبروا النفي المطلق للحقيقة المطلقة هو نفسه الحقيقة المطلقة المتمثلة بالديالكتيك، وحسب ماركس فإن نفي الحقيقة المطلقة هو نفسه الحقيقة المطلقة، فالثابت علمياً أن الشيء ليس هو نفسه في ذات اللحظة وما ذلك إلا بسبب الديالكتيك . لبناء الماركسية على أساس الحقيقة المطلقة وهي الديالكتيك قام البناء راسخا لا تهزه اعتى العواصف والرياح وفي داخب هذا البناء يمكن الاجابة على كل الأسئلة التي تطرحها الحياة ؛ ولذلك اجتذبت الماركسية متثاقفي البورجوازية الوضيعة الأفاقين لأجل استخدامها سلّماً ثابتاً وعالياً يرفع شخوصهم إلى مكانة اجتماعية مرموقة ؛ مثل ذلك كان الأفاق تروتسكي .
يقال عادة في الأدب الشيوعي أن الماركسية هي نظرية الطبقة العاملة وهذا ليس صحيحاً إلا بمقدار ما تأخذ بها الطبقة العاملة كيما تكون قادرة على محو الطبقات جميعها بما في ذلك طبقة العمال نفسها والإنتقال إلى المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات ؛ الماركسية هي أساساً النظرية العامة للتطور وقام ماركس بتفسيرها في قراءة التاريخ قراءة موضوعية لا تعتورها أية أهداف خاصة ؛ ولذلك عندما نقول أن الماركسية إنما هي القراءة الموضوعية للتاريخ فإنما نعني الاستدلال على النظرية العامة للتطور من خلال القراءة الموضوعية للتاريخ .

ما لا مندوحة عن التوقف عنده بكل اعتبار هو أن الماركسية التي تحدد القانون العام لفلسفة الوجود، والحياة بكل تجلياتها هي أحد تهيؤاته، هي صعبة على الأفهام . عاركت الكثيرين من قادة الأحزاب الشيوعية وأدعياء الماركسية خلال عمري السياسي الممتد لأكثير من سبعين عاماً دون أن أجد بينهم من هو ذو اعتمادية ماركسية . ذلك هو حال رجال النخبة فما بالك برجال العامة !؟ أبناء الطبقة العاملة يروحون إلى الشغل قبل أن يروحوا إلى المدرسة من أجل تأمين الشروط الأولية للحياة . عانى عمال العالم من قصور في الوعي الماركسي بصورة مروّعة وقد تبدّى ذلك في كومونة باريس 1871، وحتى أن أعلاماً في الفكر الماركسي لم بسلموا من بعض أعراض القصور من مثل روزا لكسمبورغ وكارل لبكنخت وأنطونيو غرامشي، ومن قصور صارخ لدى الدكتور سمير أمين من مصر ومهدي عامل من لبنان . طبعاً انتقل مثل هذا القصور إلى الأحزاب الئشيوعية وقياداتها . حسبنا هنا أن نشير إلى اعتراف لينين لرفيقة ستالين في العام 22 أنه كان قد فكّر في أن يستقيل من الحزب لأن قيادته ليست ماركسية، وأن نستذكر استهجان ستالين للقصور الفكري لدى رفاقه في المكتب السياسي للحزب في العام 38 متسائلاً .. ما بكم لا تقرؤون ماركس !؟ - وهو ما دعاه لأن يأخذ إجازة لأيام لكي يكتب مؤلفة الشهير "المادية الديالكتيكية والمادية التاربخبة"، وأمر بتوزيعه على مختلف كوادر الحزب لدراسته بعمق .

مبكراً في العام 1871 عرف ماركس أن البروليتاريا حتى في أحد مراكز قواها في العالم، باريس، لم تكن في مستوى الوعي بذاتها وانتهت الكومونة إلى مأساة تاريخية قتل فيها عشرات آلاف العمال . لذلك حلّ ماركس الأممية الأولى في العام 73 ولم يمارس بعدئذ الفعل السياسي قبل رحيله في العام 1883 . ومثله فعل رفيق عمره إنجلز إلى أن كان في العام 1889 قد برز في العديد من الدول الأوروبية أحزاب اشتراكية ذات حضور فدعا إنجلز أحزابا اشتراكية وعمالية من عشرين بلداً منها الولايات المتحدة للإجتماع في باريس حيث تم تأسيس الأممية الثانية بقيادة إنجلز ثم تبيّن في العام 1912 أن تلك الأممية بقيادة "المرتد كاوتسكي" لا تضم إلا أحزاباً للبورجوازبة الوضيعة مما دعا البلاشفة بقيادة لينين إلى الخروج من تلك الأممية وإدانتها .
خيانة الأممية الثانية للطبقة العاملة وقد سمحت لأحزابها الإشتراك في الحرب الإمبريالية المتوقعة بحجة الدفاع عن الوطن علمت لينين درساً في غاية الأهمية . علمته أن البورجوازية الوضيعة تمتلك من القوى الفكرية والمعرفية ما يجعلها قادرة على اختراق أقوى حصون البروليتاريا منعة ؛ ولذلك كتب في كتابه "الضريبة العينية" في العام 21 يقول .. "يجب فضح قصور الشيوعيين الذين لم بدركوا أن البورجوازية الوضيعة هي العدو الرئيسي للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي" .
وكان لينين قد اشترط على كل حزب شيوعي أن يقوم بين الفينة والأخرى بتطهير صفوفه من عناصر البورحوازية الوضيعة التي تكون قد نجخت في التسلل إلى داخل صفوفه، وبغير ذلك يفقد الحزب روحه الشيوعية مع الزمن . الحزب الشيوعي السوفياتي لم يقم بتطهير صفوفه منذ العام 38 وحتى العام 53 بسبب الحرب وتداعياتها وعندما اقترح ستالين الاستغناء عن قيادة الحزب في مؤتمر الحزب التاسع عشر عام 52 لأنها لم تعد بالمسوى المطلوب لم يوافق الحزب على الإقتراح بل تم اغتيال ستالين لهذا السيبب . كما أن العدوان الهتلري الآثم عمل على خفض منسوب الروح الشيوعية في الحزب حيث تقدم الشيوعيون الصفوف في الدفاع عن الوطن وفقد الملايين منهم الحياة فدى الوطن .

الشيوعية البورجوازية ثبت أنها المرض العضال الذي لم تبرأ منه الحركة الشيوعية يوما وقد ساعدها العدوان الهتلري الآثم في الإنتصار على الشيوعية البروليتارية (البلشفية) . فمنذ ظهور خروشتشوف وعصابته على رأس السلطة في الاتحاد السوفياتي مركز الثورة الاشتراكية لم يبقَ شيوعي بروليتاري واحد . حاول ماوتسي تونغ في الصين وأنور خوجه في ألبانيا ونيقولاي تشاوتشسكو في رومانيا الثبات على خط الشيوعية البروليتارية لكنهم فشلوا لأن الثورة الاشتراكية لا بد أن تكون ثورة واحدة متماسكة أطرافها مع المركز . نجيل النظر اليوم في فلول الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم وفي كتابها وإعلامييها فلا نجد شيوعياً حقيقياً (يولشفياً) واحداً !!